شاكر النابلسي
الحوار المتمدن-العدد: 1754 - 2006 / 12 / 4 - 11:39
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
-1-
من سوء حظي، أنني تعرفت منذ زمن قريب على ابراهيم البليهي. لم ألتقِ هذا المفكر السعودي المستنير والمنير، ولكني قرأت جزءاً كبيراً مما كتب واستمعت إلى بعض مما قاله. وأنا أجزم أن كثيراً من القراء العرب خارج المملكة، لم يعرفوه حتى الآن، ولم يقرأوه كذلك. بل إنني أجزم ايضاً أن كثيراً من المثقفين العرب لا يعرفون من هو ابراهيم البليهي، وماذا كتب، وماذا قال. وكان على البليهي لكي يعرفه العالم العربي حق المعرفة، ويقرأه حق القراءة، ويشتهر، أن يرحل إلى مصر، كما رحل معظم مثقفي ومفكري العالم العربي والإسلامي من قبل ومن بعد، وكما رحل مطربو وممثلو العالم العربي إلى مصر طلباً للشهرة، والصيت المدوي.
ليس مستغرباً على منطقة نجد، أن تكون أرضاً خصبة تنبت المفكرين التنويريين في الماضي والحاضر. فقد سبق البليهي تنويريون مشهورون خرجوا من نجد، وما زال صداهم يتردد في العالم العربي، وما زالت آثارهم الفكرية والأدبية تتصدر قائمة الأعمال الثقافية التنويرية العربية. كعبد الله القصيمي وتركي الحمد وعبد الله الغذامي وغيرهم. ولن يكون البليهي آخر هؤلاء التنويريين الذين أنبتتهم نجد الخصبة بالعطاء الفكري والثقافي.
-2-
ابراهيم البليهي، ظاهرة فكرية تنويرية شديدة الأهمية. بل هو يظهر بيننا في هذا الزمان، وكأنه بأفكاره سابق لعصره. ونحن إذ نقرأه الآن، ننسى أننا نقرأ مفكراً يعيش بيننا في هذا العصر الذي اشتد فيه الظلام، وارتفعت فيه أصوات الصدى، وضاقت الصدور بالرأي الآخر، وتاه العقل في متاهات التكفير والنفير. ونحن نقرأ البليهي الآن، نحسب أننا نقرأ مفكراً عاش بعد مائة سنة أو أكثر من الآن، وأنه رأي ما لم رأينا، وسمع ما لم سمعنا، وقرأ ما لم قرأنا. وأن هذا المفكر لم يكن ابن حاضرنا، ولكنه كان ابن مستقبلنا. ولذلك، فلو ترشّح البليهي لانتخابات مجلس الشورى السعودي الآن، لسقط عدة مرات في هذه الانتخابات، ولما استطاع أن يصبح عضواً في هذا المجلس، كما هو الآن. وذلك هو َمكرُ الديمقراطيات في العالم الثالث خاصة.
من المحتمل والمؤمّل، أن يترك لنا البليهي المفكر النشيط والمتوقد، عدداً كبيراً من الكتب التنويرية المهمة، والتي ستكون علامة فارقة في الفكر العربي التنويري في المملكة العربية السعودية. رغم أن ما كتبه البليهي حتى الآن، يسد نقصاً كبيراً في الفكر العربي التنويري في المملكة. فكتبه: "بنية التخلف"، و "النبع الذي لا ينضب"، و "سيد قطب وتراثه الفكري والنقدي"، و "وأد مقومات الابداع"، وبحوثه في "القيادة والانقياد"، و"العقل البشري"، و "عبقرية الاهتمام"، و "العلم ومهارة الأداء"، و "الكلال المهني"، كلها تعتبر علامة فارقة ومميزة في التفكير العربي التنويري المعاصر.
-3-
ينادي البليهي في كتابه "وأد مقومات الابداع "، بالهُدى والرشد. والهُدى والرشد في مفهوم البليهي، ومن خلال هذا الكتاب، يتلخص في تنمية التفكير العلمي، وتشجيع التحليل بدلاً من التلقين، والابداع بدلاً من الاتباع، والدراية بدلاً من الرواية، والحوار بدلاً من الإلزام بحد السيف، كما هو سائد هذه الأيام، من قبل الارهابيين ضد التنويريين، واحترام الرأي الآخر. ويدعونا البليهي في هذا الكتاب، أن نكون في معترك الحياة العصرية، وأن لا ننعزل عن باقي شعوب هذا الكون، وننكفئ على أنفسنا، ونتحوصل، وننكمش على أنفسنا، وعلى ثقافتنا. فالثقافات لا تنمو ولا تبدع إلا بالتلاقح مع ثقافات الآخرين. والانعزال عن ثقافات العالم، يؤدي إلى الجمود والتحجر، وبالتالي إلى التخلف. وأننا ننجح في العيش بسلام مع الآخرين، حين نترك للآخرين قيمهم، أو نأخذ منها ما هو مفيد لنا، ونترك لهم ما لا يناسبنا، ونطلب منهم أن لا يتدخلوا في شؤونا ويتركونا لقيمنا وحدنا، ونحن وحدنا الذين سنكتشف مستقبلاً ما نأخذه من قيمنا، وما يجب علينا أن نترك.
ومن الجوانب المهمة في هذه الكتاب، التأكيد على لغة الحوار بين الثقافات والحضارات على أساس من الاحترام المتبادل والندية. فالاحترام المتبادل هو الوسيلة المهمة لاقامة علاقات عميقة، ورسم المستقبل الإنساني المشترك بين والشعوب وإرساء قواعد التفاهم العميق. وينبهنا البليهي إلى ضرورة ادراك أهمية المستجدات الكونية الجديدة كالعولمة، والتي من شأنها أن تؤدي الى اقامة روابط بين الأمم، أعمق وأمتن وأكبر مما كانت عليه الماضي.
-4-
يعي ويدرك ابراهيم البليهي في كتابه هذا، بأن للعولمة جانبين: جانب سلبي، وجانب ايجابي. ومثلها في هذا مثل أي مُعطى انساني آخر. فليست كل المُعطيات الإنسانية إيجابية، وليست كلها سلبية. وعلاج سلبية العولمة يكون بفرض الاحترام المتبادل بين الثقافات، والتمسك بخصوصيات كل ثقافة، وعدم التنازل عن هذه الخصوصيات. فبقدر ما نتمسّك بخصوصية ثقافتنا، ندعُ العالم يحترمنا، ويكتشف فينا الأصالة. وهذا لا يعني تجميد ثقافتنا وعدم تجديدها، بما يناسب وروح العصر الذي نعيشه مع الآخرين.
ويؤكد البليهي من خلال كتابه هذا، على أن مقومات الابداع لا تتأتى إلا بحرية الابداع، وإذا أرادت أمة أن تئد الابداع، فما عليها إلا أن تُلزم مبدعيها إلزاماً قسرياً، ولا تدع لهم حرية الالتزام.
وحرية الالتزام هي ما يؤكد عليه البليهي في عدة مناسبات، ومنها محاضرته التي ألقاها في ابو ظبي عن محنة العقل العربي، تحت عنوان "بنية التخلف في العقل العربي". وفيها يعترف البليهي بشجاعة المفكر التنويري، بأن العقل العربي الحالي أكثر من متخلف. ويرى أن مفاتيح التقدم تتركز في التعامل مع العقل المنفتح، الذي له فاعلية وقابلية التشكيل بأشكال متنوعة، تستوعب المتغيرات، بعيداً عن السائد الذي تعودنا عليه . فلا يوجد كمال مطلق، أو معرفة مطلقة، بل الأمور تكون نسبية دائماً.
-5-
وحين يُحلّل البليهي واقعنا، يرى أننا لا نستحق وصف التخلف فقط، لأن جهلنا مركَّب، ووضعنا سيئ للغاية. والطامة الكبرى، أننا لم ولن نعترف بهذا الوضع. وما زلنا نُكابر. وأننا لم نبدأ بعد. وفيما الآخرون يمشون بسرعة الضوء، فنحن نتقهقر.
ويتحدث البليهي عن ثقافتنا، فيقول بجرأة، أن ثقافتنا هي ثقافة الأموات وليست ثقافة الاحياء، الذين يستحقون منا الاحترام والتشجيع لانهم يضيفون الجديد، ويساهمون في التغيير والتطور والتجدد خدمة للانسانية، بخلاف الأموات الذين انقطعوا عن الحياة، وأضحوا غير قادرين على العطاء والتفاني.
ويتحدث البليهي عن الحاضر العربي المرير بصراحة وشجاعة المفكر التنويري، فيقول:
إن العرب والمسلمين يعيشون في وضع مُزري، وبالغ السوء. وهم خارج التاريخ. بل هم يعرقلون حركة التاريخ. اننا مازلنا نعيش بعقل ما قبل التاريخ. ويؤكد بأن للعالم مفاتيحه، ويجب أن نُحسن استخدامها. ويلتفت البليهي كمفكر تنويري إلى ضرورة إعمال النقد في حياتنا العامة؛ أي في الثقافة، والأخلاق، والفكر، والسياسة، والاجتماع، معتبراً أن الغرب تقدم عندما تخلّص من تقديس المرجعيات، وعندما أعمل الفكر الفلسفي المبني على النقد في كل شؤون حياته. وهو الوقود الذي يُحرّك العقل الأوروبي. فكلما مال هذا العقل الى الركود، جاء العقل النقدي يُحرّكه. وهو ما يؤكده البليهي من جديد في بحثه (المسلَّمات الثقافية تُعطّل عقل الفرد والمجتمع)، حيث يعتبر أن واحدة من محن العقل العربي الكبيرة هي المسلَّمات الثقافية تُعطّل عقل الفرد والمجتمع.
فلكل ثقافة مسلَّمات سابقة للعلم ومحدِّدة لآثاره. وهي في الغالب ليست قائمة على معرفة مُمحّصة اختبرها الوعي الفردي والجماعي، واقتنع بها ثم مارسها حتى صارت سلوكاً تلقائياً لا شعورياً، وإنما هي مسلَّمات عفوية يتوارثها المجتمع عن أسلافه جيلاً بعد جيل، ويتشرَّبها الأفراد بشكل تلقائي. فهي لا تمرُّ بالوعي ولا يغربلها العقل، وإنما هي انسياب تلقائي من اللاوعي الجمعي إلى اللاوعي الفردي. وقوامها التقليد، والمحاكاة، والوجدان، والتلقين، والحس المشترك. ويمتصها اللاوعي الفردي مباشرة من المجتمع. ويؤكد البليهي، أن المسلَّمات قيود ثقيلة، تكبِّل العقل، وتشلَّ التفكير، وتستبقي الفرد والمجتمع في إطار التقليد والاجترار. فلا بُدَّ من القفز واختراق المتعارف عليه، وإخضاع المُسلَّمات للمحاكمة والتدقيق، وعدم العودة إلى الوثوق النهائي، مهما كانت النتائج. وحتى ما يجري التوصل إليه بالبحث العلمي والاستقصاء الدقيق، ينبغي أن يظل موضوعاً للنقد والمراجعة والتصحيح.
-6-
إذن، نحن أمام مفكر صريح وجريء. وهو بالتالي مفكر تنويري ليبرالي. أي أننا أمام مادة علمية فكرية وطنية، تعلم ما بنا، وماذا نريد، وما هي طرق الخلاص مما نحن فيه. وأقل ما يجب أن نقوم به، هو أن ندرّس جيداً ما يقوله البليهي في مدارسنا. لأن ما يقوله هو فكر المستقبل، وهو طريق المستقبل. ومن المؤكد أن الطلبة في المدارس والمعاهد والجامعات سوف يجدون في فكر البليهي ضالتهم، وما يبحثون عنه، وينير لهم طريقهم، ويصدَّ عنهم نداءات طيور الظلام، التي تغريهم بتفجير الحياة فيهم والقضاء عليها، بدلاً من تفجير طاقات هذه الحياة.
السلام عليكم
#شاكر_النابلسي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟