عن استغلال الطبقة المسيطرة لمظالم النساء

مريد علندي

الحوار المتمدن-العدد: 7897 - 2024 / 2 / 24 - 10:43
المحور: ملف 8 اذار / مارس يوم المراة العالمي 2024 - أوضاع المرأة في الحروب والصراعات وكيفية حمايتها، والتحديات التي تواجهها
    

يتبدَّى الطّابع الفاشي للإمبرياليَّة وقت الأزمة، فتكشف الماكينة الدعائيَّة والإعلاميَّة عن رجعيَّة محضة وسُرعان ما تُميط اللثام عن بطريركية كامنة كفتًى مُشاكس يُكذّب أمَّه أمام جمعٍ غفير. كيف تبدأ حرب طروادة؟ إنَّها تبدأ في هيلين الطروادية. تقولُ الأسطورة أن هيلين كانت عقيلة مينيلاوس الإسبارطي، فحَدثَ أن خطفها إلكسندر بن بريام إلى طروادة، ووقتذاك حقد اليونانيون على أهل طروادة وحاصروهم وكتبوا إلياذتهم. استخدم رجال السُّلطة وأصحاب المصالح الطبقية النساءَ دائمًا كأداوات دعائيّة للتثوير والتجييش ضد أعدائهم. وفقًا لسفر التكوين 34 ظهرت بوادر الحقد بين الكنعانيين وبين الإسرائيليّين لأوّل مرة بسبب أن "شكيم بن حمور" (رئيس الحويين) اغتصب دينة بنت يعقوب. آنذاك أصرّ "شكيم بن حمور" أن يتزوّج بدينة، فاشترط شمعون ولاوي (أخاها) أن يختتن كُل الحويين في المدينة. أقنع شكيم جميع من في المدينة أن يختتنوا، ولكن في اليوم الثالث، بينما هم يتوجّعون من الختان، مكر لاوي وشمعون بهم، فأغاروا عليهم وفتكوا بهم. مع أنَّ ذلك لم يُكتب بصريح العبارة بيد أن هذه القصَّة وظيفيَّة وكُتبت لتأصيل حقد الإسرائيليّين على الكنعانيّين، فالتوراة لا تذكُر شيئًا إضافيًّا عن دينة سوى هذه القصَّة، بل إنّ دينا لم تفتح فاها لكلمة واحدة في كُل التوراة. كانت "دينة" مُجرّد وسيلة استولدتها المُخيلة اليهودية حتّى تُفرّغ حقدها على الكنعانيين من خلالها. أمثال هذه القصص عديدة. يروي التراث الإسلامي أن غزوة بني قَينقاع، أول معركة بين المسلمين واليهود، تسبّب بها يهوديٌّ راود امرأة مسلمة في السوق وحاول أن يعرّيها أمام الجميع، ولا يُقدّم التراث الإسلامي لا اسم المسلمة ولا اسم اليهوديّ. اعتقد الرومان أنّ السبب المباشر للإطاحة بالحُكم الملكي كان أنّ الأمير "سكستوس تراكوينيوس" اغتصب امرأة نبيلة "لُوكريتيا" (انتبهوا أنّ طبقة المرأة كانت مهمة، وهي من الطبقة الحاكمة في الجمهورية الرومانية). هذه القصة أيضًا لا مصداق عليها، وغالب الظن أن "لوكريتيا" لم تكن موجودة أيضا، تمامًا مثل دينة. لماذا استخدمت الطبقة المُسيطرة روايات الاغتصاب؟ تاريخيًّا، لم يكن الActus reus (الفعل المُجرِم) في الاعتداء الجنسيّ هو الاعتداء على المرأة، إذ هذا الاعتداء كان جائزًا في إطار الزواج أو مع السبايا والسراري، ووفقًا للمذاهب الأربعة، لا يحقّ للرجل فقط الاعتداء على زوجته بل أيضًا يحقّ له الاعتداء على المُطلّقة الرجعيَّة بهدف إرجاعها (ويستدلون بذلك فيما وُرد في البقرة:228). الفعل المُجرم كان السرقة، السرقة من وليها، كان أباها أو زوجها. ولهذا السّبب، كان الحل بالنسبة للكثير من المجتمعات هو زواج المعتدي والضَّحية حتى يستخدمها الأوَّل كيفما يشاء، وهذا بالضبط ما حدث في قصة دينة بنت يعقوب. ولهذا السبب أيضًا ارتبط فعل الاغتصاب مع السرقة في العربيَّة والإنجليزيَّة، وكثيرًا ما نجد بلبلة بين الاغتصاب والخطيفة. مثلا توما الأكويني، مرجعية كاثوليكية مُبجلة، يُسمّي العلاقة دون استئمار الولي اغتصابًا ويساويها مع الاعتداء الجنسي على المرأة (الخُلاصة اللُّاهوتيَّة، مجلد2، مسألة 154). ولهذا السبب أيضًا، تتضمّخ الضحيَّة بالعار ويتمّ التعاطي مع شخصها كما التعاطي مع بغي، فتتكتم تلك النساء عن مظالمهن. إذًا عندما تُعبر الطبقة المسيطرة اليوم عن الاغتصاب فهي تتحدَّث بالغالب عن السرقة. عبّرت إندريا دوركين عن ذلك أحسن تعبير في سياق العنصريَّة ضد السود: "كان العنف الغوغائي ضد السُّود باضطرادٍ وانتشارٍ....عندما توقّف البيض الجنوبيُّون عن استعباد الأسود، اختلقوا ذريعةً لعنصريّتهم: "الرّجل الأسود -بحكم طبيعة عرقه- يغتصبُ النّساء البيض". يقولُ دوغلاس: "إنّها تُهمةٌ مُستحدثة، لم يسبق أن قيلت، إنّها تُهمة لم يُسمع عنها في عصر العبوديَّة، أو في أيّ وقتٍ مضى في تاريخنا". تحرير العبيد قلّل من رجوليَّة الرّجال البيض. العبيد السابقون هم من يذكّرونهم بهذه الرّجولة المسلوبة، القُوَّة المسلوبة. ذهبت تلك القوّة، ثمَّة من أخذها. أُذِلُّوا في خسارتهم الحربَ وخسارتهم عبيدَهم... اختلق البيض المُغتصبَ الأسودَ لينعكس بذلك ما خسره البيض: حقُّهم في الاغتصاب المُنظَّم لنساءٍ من دون عرقهم. اختلق البيض المغتصب الأسود ليُبرّروا اضطهادهم وقتلهم الرّجل الأسود".

يذكرنا هذا أيضا بالبروباغندا الرأسمالية التي استخدمت النساء أيضًا في حربها ضد الشُّيوعيَّة، فكانت تقول أن الاشتراكيَّة تعني أن يُشارك الأزواج زوجاتهن (تُهمة وُجّهت إلى القرامطة أيضًا)، فكان ردّ فريدريك إنجلس وكارل ماركس حادًّا (في البيان الشيوعي): "فالبرجوازي يرى في امرأته مجرَّد أداة إنتاج. عندما يسمع أن أدوات الإنتاج يجب أن تُستغل من الجميع، لا يسعه إلاّ أن يعتقد بأنّ قدَر الإشتراكية سيصيب النساء أيضا. ولا يدور في خلده أنّ الأمر يتعلق، بالّذات، بإلغاء وضع النساء كمجرّد أدوات إنتاج".

في الحرب السورية كانت اتّهامات الاغتصاب الموجّهة ضد الجيش السوري وحزب الله "ع الطالعة وع النازلة". مع أنّ التحقيق الميداني لم يكن سهلًا والبراهين والدلائل كانت غائبة أو لم تكن كافية ولم يتم تقديمها، استسهلت وسائل الإعلام المُعارضة (العربيّة والأجنبية على حد سواء) اتّهام الجيش العربي السوري بالاغتصاب المُنظم واتّهمت السلطات السورية بأنها تتكتّم ولا تُريد مُلاحقة المتورطين. كانت الجمهوريَّة السوريَّة مُنهكة وهي لم تعتد على هذا الصنف من الحروب الإعلامية القبيحة، فضلًا أنّها لم تكُن متفرّغة لتفنيد الأكاذيب في وقت بات التكفيريون المدعومون من دول الناتو والخليج ينخرون بها وبنسيجها الاجتماعي. ثُم لو هناك أفراد من الجيش السوري اعتدوا جنسيًّا على أحداهن، فلما سيتم شيطنة جيش دولة بأكمله؟ الأميريكيُّون اغتصبوا أيضًا في العراق والطفلة عبير الجنابي لا تغيب عن بالنا. قد حُوّلت الكوسوفو إلى ماخورة ترتادُها قوات حفظ السلام لاغتصاب نساء فقيرات من شرق أوروبا، وتقارير منظمة العفو الدولي كلّها تتحدّث عن ازدياد نسبة التجارة في النساء عقب التدخّل الدولي في الكوسوفو. أين هم أصحاب الضمائر الإنسانية من كل هذا؟ إنهم معذورون اليوم، فهم يحتفلون بقرار مجلس النواب الأمريكي بعدم التطبيع مع الجمهوريّة السوريّة. بعد أشهر قليلة من بدء المُظاهرات في آذار 2011، عُزلت الجمهورية السورية عن مُحيطها وباتت فريسة إعلامية سهلة، وهذا على خلاف "حزب الله" بعد تدخّله في الحرب. لم تتبن وسائل الإعلام الرسمية (من BBC وفرانس 24 إلى الجزيرة والعربية) ولا تقارير الأمم المتحدة أيًّا من روايات الاغتصاب الموجهة ضد حزب الله التي انتشرت بين صحف وقنوات المُعارضة الصفراء والطائفية، لأنها كان ستُجابه بحدَّة من قبل حزب الله ومن قبل اللبنانيين عامَّة كونها ستُشكك في قضائهم وستُسائل أحزابهم حتى الداعمة للثورة. القنوات اللبنانية، من برامجها السياسيّة إلى برامجها الترفيهية، معروفة بخبرتها وبجرأتها ولذاقة تعبيرها ولم تكن لتتوانى عن ضرب عرض الحائط بالافتراءات الهاوية. الافتراءات المتناقلة لا تتعدّى عن كونها مادة للاستهلاك في مواقع التواصل الاجتماعي لأناس غير معروفين ومجهولين وجاهلين في تاريخ سورية والحرب السورية خاصَّة.

في 2017، اتّهمت "صحيفة" إيلاف زورًا قيّادين (طبعًا مجهولين) في حزب الله بجريمة اغتصاب امرأة حلبية ناشرةً تسجيلًا صوتيًّا تروي به ما حصل. لم تُقدّم الصحيفة أي دليل أو أي برهان يعضد هذا الادعاء. الغريب أنَّ المرأة "الحلبية" تتحدّث بلهجة شاميّة دمشقيّة طليقة ولا تتفوّه بكلمةٍ حلبيَّةٍ واحدة ولا يستشعر المرء لكنة حلبية في كل كلامها المُسجّل قريب الدقيقتين. الرواية كتبها رجل شرقيّ ذكوري مريض، حيث يقول: "وينتقون من النساء الجميلات، ويأخذونهن". عندما تقرأون جملة مفادها أن اغتصاب المرأة منوط بجمالها، اعلموا أن الكاتب هو ذكر، وفي الغالب ابن شارع أيضًا. تروي سينتيا زرازير، نائبة في مجلس النُّواب اللُّبنانيّ عن دائرة بيروت الأولى، أنَّها تعرّضت إلى تحرُّشٍ ومُضايقات في البرلمان. فتقولُ صحيفة "القدس العربيُّ" القَطريَّة نقلًا عن "أوساط واكبت العمل المجلسيّ": "لماذا لم تتعرّض نائبات أجمل من سينتيا للتلطيش والتنمّر...". لا ندري كيف توصّلت هذه "الأوساط" إلى تلك العلاقة الّتي، على كلّ حال، تُبرهن على حماقةٍ ذكوريًّة شوارعيَّة فائقة، من المُخجل حتَّى الرّد عليها. الغريب أنّه لم تُحدّد الصَّحيفة أيّة أوساطٍ تلك، لأنَّه -بكل بساطة- ليس من وسطٍ قد قال شيئًا من هذا القبيل إلّا تلك الصَّحيفة أو أولاد الشارع، وهُما صنوان. وإن وُجدت تلك "الأوساط"، فلما تنقل صحيفة، تخال نفسها من كُبريات الصُّحف العربيّة، رأيًا سوقيًّا وسخيفًا كهذا لا يتردّد إلّا في المواخير؟ يُذكّرنا هذا بمُحاورة BBC البريطانيَّة وCNN الأمريكيّة لأبي صقر الّذي استأصل كبد وقضم قلب أحد جنود الجيش السُّوريّ؛ أعلينا حقًّا أن نعلم ماذا اختلج في صدر الرجل حتّى قرّر نهش كبد آدمي؟ أم أنّ الغاية هي تلميع صورة المعارضة وتوجيه الرأي العام نحو سرديَّة "جرائم النّظام"؟ يدّعي أبو صقر أنه رأى فيديو في هاتف العسكري وهو يغتصب امرأة وابنتها، فكيف غابت عنه أن يُسلّم الفيديو لجهات معنيّة، مثل القنوات التي أهطعت في مقابلته والتي تعدّ كلام المُعارض السوري أقدس من الذكر المحفوظ. والأمر عينه ينطبق على المذكور آنفًا. إن سينتيا زرازير، رغم انتمائها لحركة 17 تشرين، تبقى ليست على مقاس اليمين، إذ هي ترفض الاصطفاف الطائفي علانيةً، فرفضت دعوة البطريرك بشارة الرَّاعي للنُّواب المسيحيّين للصلاة في بكركي، ولم تنزل عند رغبة 14 آذار في انتخاب ميشال معوّض رئيسًا – والأهم من كلّ ذلك، قد سحبت البساط من تحت مُرشّح القوّات اللُّبنانيّة في الانتخابات النّيابيَّة، وهذا في الغالب سبب حقد اليمين عليها وسبب الهجوم الشرس من الجميع عليها.

المعارضة بالتحديد اعتادت على توظيف النساء في الحرب الإعلامية حتّى بين فلولهم. في عفرين المُحتلّة منذ آذار 2018 تحكُم المافيات المدعومة تُركيًّا وتتقاسم فيما بينها مناطق النفوذ، وهم مشهورون بمعاداتهم النساء. اتّهمت "إسراء خليل" في فيديو أنّ "أبا عمشة" (قائد فصيل العمشات) اعتدى عليها جنسيًّا وهدّدها في غياب زوجها، ولم يعرف أحد مصير تلك المرأة وقضيتها. أيضا ظهرت "ريم الأحمد" مُدّعية أن بعد إرسال زوجها للقتال في ليبيا، اعتدى عليها "أبو عمشة" عدّة مرّات. ولكن بعد فترة وجيزة، ظهرت مُجدّدًا وعلامات الكدم والضرب على وجهها لتُنفي ما قالته سابقًا، متّهمة زوجها بتحريضها على الكذب، والأخير يظهر في فيديو يعتذر على تحريضه وكذبه. بُعيد ذلك، يعود زوج تلك المرأة بفيديو جديد يقول أنّه أُجبر على الفيديو الأول ويُكرّر اتّهام "أبي عمشة"! هكذا الحال في الشمال السوري المُحتلّ، مافيات تُوظّف النساء كوسيلة ابتزاز وتصفية حسابات شخصية.

إذًا استسهال توظيف مآسي النساء في البروباغندا الحربية علامة على احتقار النساء وتشييئهن وترسيخ دورهن كمُلكية خاصَّة تابعة للرجل. انتبهوا إلى الإسفاف الذي يتناول به الإعلام الرجعي الأصفر قضية الاغتصاب، إنها فقط قصص للتشنيع على عدوّهم ولاستثارة الغيرة عند الرجال، ولا ترى في أمارات وجوه الراوين شيئًا من التعاطُف مع النساء وقضاياهن، وفي الغالب يكونون أناسًا لديهم مواقف رجعيّة من المرأة والمعارضة الإسلامية، في حالة الحرب السورية، معروفة بتعهيرها لأجساد النساء. كما أكدت أندريا دوركين، اختلاق قصص الاغتصاب للتشنيع على أُمّة كاملةٍ أو طرفٍ كامل هو التعبير البُدائي عن الهزيمة وعن خسارة شيءٍ ما، فالاغتصاب في عُرفهم لا يعني الاعتداء على المرأة بل يعني الاعتداء عليهم أي استخدام النساء دون استئمارهم، وتختصر إجابة لاوي وشمعون موقف الرجعيّين من الاعتداء الجنسي: "فقالا له: أنظير زانية يُعامل أُختنا؟". ينطبقُ على أولئك المفترين الذكوريين والرجعيين الوصف القرآني: "إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هيّنًا".

#مريد_علندي (هاشتاغ)      

---

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين	حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات