محمد المصري
الحوار المتمدن-العدد: 1734 - 2006 / 11 / 14 - 09:09
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
رُويَّ أنَّ عَبْد الرَّحْمَن بن عَوْف – رضيّ اللهُ عَنْه – قَدْ جَاء إلى عَلِي – رَضْي اللهُ عَنْه – وعرض عليه خلافه المُسْلِمِين بَعْدَ وَفَاة الْفَارُوق عَلَى أنْ يَلْتَزِم بِكِتَابِ اللهِ وسَنّه نَبِيُّه وَسِيرَة الشَّيْخَين ولا يُحِيد عَنْهُم أَبَدَاً ، فَأبَي أبَا الْحَسَن قَائِلاً لَه : "الْلَهُمَ لَا .. وَلَكِنَّي أجْتَهِد فِي ذَلِك رَأيي مَا اسْتَطَعت" ..
إنَّ السُّؤال فِي عِنْوَانِ هَذَا الْمَوْضُوع قَدْ تَبْدُو الإجَابَة عَلَيْه – ظَاهِرِيّّاً – بَسِيطَة وَلَكِن بِالْنَظَرِ إلى سِيَاق التَّارِيخ الإنْسَاني كُلَّه وَمَا اعْتَرَاهُ مِنْ تَوَتُّر قَائِم – إلى اليوم – بَيْن الدَّين مِنْ نَاحِيّة والْعَقْل ونِتَاجُه الْحَضَارِي الْعِلْمِ مِنْ نَاحِيّة أُخْرَى يَجْعَل السُّؤَال مَنْطِقِيَّاً وإِجَابَتُه لَيْسَت سَهْلَة كَمَا قَدْ تَبْدُو لِلْوَهْلَةِ الْأولَى : هَلْ هُنَاكَ تَنَاقُض بَيْن الدَّين .. والْعَقْل والْعِلْم ؟؟
مُنْذُ بَدْأ الْخَلِيقة هُنَاكَ صِرَاعَاً مُمْتَدَّاً بَيْن الإنْسَان وَنَفْسُه يَدُور حَوْل مِعْرِفَة الْحَقِيقَة كَقِيمَة مُطْلَقَة ، صِرَاعَاً يَبْدَأ مِنْ الْعَقْلِ الْعَامِل النَّاقِد الْمُفَكَّر دَائِمَاً في طَبِيعةِ الْأمُور ..بِدَايةً مِنْ أبْسَطِ الأشْيَاء وأصْغَرَهَا وَيَنْتَهِي – أوْ لَا يَنْتَهِي حَتَّى – عِنْدَ التَّفْكِير فِي فَلْسَفَةِ الْكَوْنِ كُلَّهُ والْقَانُون الْقَائِم عَلَيْه ، وَمِنَ الْبِدَايَة – أيْ بِدَايَة – يَنْشَدُ الإنْسَان تَوْحِيد الْمَعْرِفَة الإنْسَانِيَّة وتَوْحِيد الْحَقِيقَة وجَعْلَهَا مُطْلَقَة ، وَهُنَا يَنْقَسِم النَّاس لِفَرِيقَيْن .. إمَّا يَزْعُم أنَّهُ مَالِك للحقيقة المطلقة كلمة وما سوى هذه الحقيقة باطل ، وإمَّا بَاحِث عَنْهَا وَيَعْلَمُ أنَّهُ لَنْ يَصِلُ إلَيْهَا كَامِلَة وأنَّهَا دَائِمَاً وأبَدَاً مُنْذُ الْبِدَايَة وَحَتَّى النَّهَايَة نِسْبِيّة .. خَاضِعَة لأمُورٍ كَثِيرَة ..
ولأن الأوْل قَدْ تَوَقَف عَنْ الْبَحْثِ فَيَلْزَمَهُ سَنَدَاً يَرْتَكِز عَلَيْه مُؤَكِدَاً مِنْ خِلَالِهِ عَلَى حَقِيقَتُه الْمُطْلَقَة .. وَدَائِمَاً كَانَ الدَّينُ هُوَ هَذَا الْمُرْتَكَز عَلَيْه لِيُوضَعِ الدَّين أمَام الْعَقْلِ .. والفِكْر الدَّيني وعِلْم العَقِيدَة – البَشَرِي – هُوَ نَفْسُه الدَّين – الإلهي - .. وَيُوضع الْمُطْلَق الَّذِي هُوَ الدَّين – أيْ دِين – أمَام النَّسْبِي – الَّذِي هُوَ الْفِكْر الْبَشَرِي الْمَحْدُود – أيْ فِكْر بَشَرِي - ..
الْفِكْرَة نَفْسَهَا تَتَكَرَّر دَائِمَاً مَهْمَا تَغَيَّر الأفْرَاد وَمَهْمَا تَغَيَّر الدَّين – مِحْوَر الارْتِكَاز - ، فَصَاحِب الْفِكْر الدَّينِي يَظُن أنَّهُ الدَّين وبِالتَّالِي فَهُوَ الْمُطْلَق الكَامِل ومَا سِوَاه خَارِج عَنْ الْمُطْلَق .. كَافِر بالتَّالِي ..
فَفِي عَام 411 ق.م تقريباً قَدَّم الفَيْلَسُوف بُرُوتَاغُورَاس كِتَابَهُ "الحَقِيقَة" مُوصِلَاً في النَّهَايَة أنَّ الإنْسَان هُوَ مِقْيَاس الأشْيَاء والْحَقِيقَة نِسْبِيَّة بِنَسْبِيَّتُه ، هَذَا الْقَوْل وَضَعَهُ فِي مُوَاجَهَة مَعَ أصْحَاب الْفِكْر الدَّيني فِي أَثِينَا ، لِيُحْكَم عَلَيْهِ بِالْإعْدَام مُتَّهَمَاً بالْإلْحَاد – إنْكَار آلهة أثينا - ، وَلَعَلَّهُ قَدْ أصْبَحَ أوَّل مَنْ اتُّهِمَ بِالْكُفْرِ فِي التَّارِيخ ..
وبَعْدَها بعده أعوام قليلة يُتَّهم سُقراط بإنكار آلهة أثينا وإفساد شبابها بالدعوة لآلهة جُدُد والأمْر عِنْدَ سُقْرَاط – أيْ تَكْفِيرُه – يدخل الطرف الثاني في فكرة امْتِلَاك الْحَقِيقَة الْمُطْلَقَة وَهُوَ السَّيَاسَة ، فَالسَّبَب الْأَسَاسِي فِي تَكْفِير سُقْرَاط هُوَ مُحَاوَرَتُه لِسَاسَةِ أَثِينَا – الَّذِينَ كَانُوا يَدَّعُون وَقْتَها بِأنَّ مَا يَعْلَمُونَه وَيَقُولُونَه هُوَ إلْهَام إلَهِي – وَبَيَان تَهَافُت وَضَعْف فِكْرَهُم ، لِذَلك فإنَّ إعْدَامه بِالسُّمِ قَدْ حَمَلَ الْبُعْدَيْن : الْفِكْر الْبَشَري والْفَلْسَفَة الْعَقْلِيَّة وَوَضْعِهِمَا أمَام الدَّين .. وَدَوْر السَّياسَة فِي تَرْسِيخ الْفِكْر الْمُطْلَق وَتَكْفِير وَنَفْيْ مَا عَدَاه ..
وفي القرن الثاني عَشْر ومَعَ تَغَيُّر الْعَدِيد مِنَ الْأمُور فِكْرِيَّاً وَعَقَائِدَيَّاً ظَلَت فِكْرَة الْمُطْلَق فِي مُوَاجَهَةِ النَّسْبِي وتَكْفِير أيْ خُرُوج عَنْ الْإجْمَاع قَائِمَة ..
فَألَّفَ الإمَام أَبَا حَامِد الْغَزَالِي كِتَابَهُ الشَّهِير "تَهَافُت الْفَلَاسِفَة" كَفَّر فِيه فَلَاسِفَة وَعُلَمَاء عِظَام مِنْ أهْلِ الإسْلَام مِثْلَ "ابْن سِينَا والْفَارَابِي" قَائِلاً نَصَّيَّاً فِي خَاتِمَه كِتَابُه :
خاتمة الكتاب هل هم كافرون ؟
فإن قال قائل: قد فصلتم مذاهب هؤلاء أفتقطعون القول بكفرهم ووجوب القتل لمن يعتقد اعتقادهم ؟
قلنا: تكفيرهم لا بد منه (1)
وَهَكَذَا كَانَ الحُكْم بِتَكْفِير كُلّ مَنْ يُعْمِلِ العَقْلِ في النََّصِ الدَّيني – حَتَّى لَوْ كَانَ مِنْ أهْلِ الإسْلام مِثْل ابْن سِينَا والْفَارَابِي - وَكُلّ مَنْ يَحْذُو هَذَا الْحَذْو !!
وفي القرن الأخير حفل المشهد الديني والثقافي الفكري بالعديد من حوادث التكفير سواء للمفكر الديني ( مثل الشيخ علي عبد الرازق .. نصر حامد أبو زيد .. وليس انتهاءً بحسن حنفي ) أو المفكر الحر ( مثل طه حسين .. نجيب محفوظ .. وليس انتهاءً باغتيال فرج فودة ) ..
هذا الصدام المصطنع بين الدين من ناحية والعقل والعلم ( سواء البدائي القديم أو العلم الحديث ) من ناحية أخرى مَرَادَهُ وأسَاسُه وَاحِد وَهُوَ ظَنْ الْبَعْضِ بَأنَّهُم مُخْتَصُّون بِالْحَقِيقَة وَحْدَهُم وأنَّ فِكْرَهُم الدَّينِي ( الْبَشَرِي ) هُوَ الْمُطْلَق الْوَحِيد ، فَلَا يَضَعُوا فِكْر الْآخَر أمَام فِكْرَهُم بَلْ أمَام الدَّين نَفْسُه ..
يَقُول بروتاغوراس أن الإنسان هو مقياس الأشياء ، ودعا مارتن لوثر إلى تحرير العقل والفحص الحر للإنجيل وإعمال العقل في النص الديني دون معونة من أي مؤسسة دينية تحصر فهم الدين في أطر محددة ، ويقول طه حسين أن "العقل يجب ألا يؤمن بأي فكرة إلا إذا استساغها" (2) ..
كُلُّ هَذِهِ الأفْكَار وَغَيْرِهَا تَنْدَرِج تَحْتَ الْمَنْهَجِ التَّأوِيلِي الَّذِي أرْسَى دَعَائِمَهُ ابْن رُشْد فِي كِتَابَهِ الْقَيَّم الْعَظِيم "فَصْلُ الْمَقَالِ فِيمَا بَيْن الشَّرِيعَة والْحِكْمَة مِنَ اتَّصَالِ" حَيْثُ دَعَا إلى إيتَاء الْحُرَّيَّة لِلْمُفَكْر في تَأْوِيل النَّص الدَّيني بِمَا يَتَوََاءَم مَعَ الْعَقْلِ ، "فإن أدى النظر البرهاني إلى نحو ما من المعرفة بموجود ما فلا يخلو ذلك الموجود أن يكون قد سكت عنه في الشرع أو نطق ، فإن كان مما سكت عنه فلا تعارض وهو بمنزلة ما سكت عنه من الأحكام فاستنبطها الفقيه بالقياس الشرعي وإن كانت الشريعة نطقت به فلا يخلو ظاهر النطق أن يكون موافقاً أو مخالفاً . فإن كان موافقاً فلا قول هناك ، وإن كان مخالفاً طلب هنا تأويله" (3) ، "ومن شأن التأويل أن يخرق الإجماع .. إذ لا يتصور فيهِ إجماع ولهذا يُمْتُنِع تَكْفِير المُؤول"(4)
وَمِنَ الْمُضْحِكَات الْمُبْكِيَات فِي تَارِيخِنَا الْعَرَبِي أنَّ ابْن رُشْد – الَّذي دَعَا إلى حُرَّيَّة تَأْوِيل الشَّرِيعة حَسَب الْبُرْهَان دُونَ تَكْفِير .. وَنَقَد الإمَام الْغَزَالِي لِتَكْفِيره ابْن سِينَا والْفَارَابِي فِي "تَهَافُت الْفَلَاسِفَة" – قد حُكِمَ وكفِرَ وحُرِِقَت كُتُبُه ونُفِيَّ إلى قَرْيَة أليسانة ، في تَمَازُج وَاضِح – مَرَّة أُخْرى ولَيْسَت أَخِيرَة فِي تَارِيخِ الإنْسَانِيَّة – بَيْن السَّيَاسَة والظَّنِ بامْتِلَاكِ الْحَقِيقَة الْكَامِلَة ..
إنَّ الدَّين – أيْ دِين .. سَوَاءَ الإسْلَام أوْ الْمَسِيحيَّة أوْ الْيَهُودِيَّة أوْ حَتَّى الدَّيَانَاتِ غَيْر السَّمَاوِيَّة عَلَى اخْتِلَاف شَاكِلَتِهَا – طَبِيعَتُه دِيكْتَاتُورِيَّة ، وَيَجِب – أَقُول يَجِب – أنْ تَكُون دِيكْتَاتُورِيَّة وَهَذَا لأنَّ الإنْسَان لَنْ يَتْبَع أيْ فِكْر يُؤمن أنَّهُ صَادِر عَنْ إلهه إلَّا إذَا وَجَد فِيه الْحَقيِِِقَة الْمُطْلَقَة ولَيْسَ النَّسْبِيَّة ، وَهَذِه الْحَقِيقَة يَجِب ألَّا تُؤمِن بالديمقراطية لأنها ببساطة مطلقة وكاملة ، ولَكِن فَرْق جَذْرِي بَيْنَ الدَّين – كَنِتَاج إلَهِي كَامِل – وَبَيْن فِهْم الدَّين واسْتِيعَابُه – كَنِتَاج بَشَرِي – والْأَخِير – مَهْمَا ارْتَقَى – هُوَ نِسْبِي .. كَنِسْبِيَّة الْحَقِيقَة والْإنْسَان ..
وبكل ما سبق يمكننا ببساطة أن نفهم موقف الإمام علي الذي ذكرته في البداية حينما عرض عليه عبد الرحمن بن عوف – رضي الله عنه –خِلَافه المُسْلِمِين عَلَى أنْ يَلْتَزِم بِكِتَابِ اللهِ وسَنّه نَبِيُّه وَسِيرَة الشَّيْخَين ولا يُحِيد عَنْهُم أَبَدَاً ، فَأبَي وَرَدَّ بِقَوْلِهِ الْعَظِيم : "الْلَهُمَ لَا .. وَلَكِنَّي أجْتَهِد فِي ذَلِك رَأيي مَا اسْتَطَعت" ..فَهُوَ – أَبَا الْحَسَن رَضْيّ اللهُ عَنْه – يَرَى أنَّ الْفِكْر الدَّينِي نِسْبِي خَاضِع لْأمُورٍ كَثِيرَة وَلَا يُمْكِن إقْرَانُهَا بِجُذُورٍ إلَهِيَّة أوْ الْجَزْم بِأنَّ هَذَا الْفِكْر هُوَ الدَّين الْمُطْلَق ..
وَبِكُلَّ مَا سَبَق أيْضَاً نَجِد أنَّهُ لَا تَنَاقُض بَيْن الْعَقْل والدَّين – حَتَّى مَعَ التَّوَتُّر النَاشِئ بَيْنَهُمَا عَلَى امْتِدَادِ التَّارِيخ - ، فَالْعَقْل هُوَ أسَاسُ الإبْدَاع .. والإبْدَاع هُوَ أسَاسُ الْمُسْتَقْبَل .. والْمُسْتَقْبَل هُوَ أسَاسُ الزَّمَنِ ، والدََّين أسَاسَهُ هُوَ صُنْع الزَّمَنِ وإرْسَاءُه بِمَبَادِئ حَضَارِيَّة وإنْسَانِيَّة قَائِمَة عَلَى الْخَيْرِ والْعَدْلِ ، فَالْعَقْل – والْعِلْمِ كَنِتَاج حَضَارِي لَهُ – هُوَ أسَاس الدَّين والتَّنَاقُض الْمُصْطَنَع بَيْنَهُمَا بَشَرِي خَالِص سَبَبُه وَضْع الْقَدَاسَة عَلَى الْفِكْرِ الْبَشَرِي وَدُخُول عَوَامِل أُخْرَى مِثْل السَّيَاسَة تُؤَدَّي إلَى هَذَا الصَّرَاع ، والْحَقُ .. أنَّهُ لَا يُوجَد بَيْنَهُمَا صِرَاعٌ ولَا تَنَاقُض .. بَلْ تَوَافُق كَامِل ..
الْهَوَامِشْ :
(1) تَهَافُت الْفَلَاسِفَة .. أبَا حَامِد الْغَزَالِي .. صـ 307
(2) في نَقْدِ الشَعْرِ الْجَاهِلِي .. طَهَ حُسَيْن .. صـ 72
(3) فَصْلُ الْمَقَالِ فِيمَا بَيْنَ الشَّرِيعَةِ والْحَكْمَةِ مِنَ اتَّصَالِ .. ابْن رُشْد .. صـ 34
(4) فَصْلُ الْمَقَالِ فِيمَا بَيْنَ الشَّرِيعَةِ والْحَكْمَةِ مِنَ اتَّصَالِ .. ابْن رُشْد .. صـ
#محمد_المصري (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟