أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - عبد المجيد راشد - ثورة 23 يوليو و النهضة الثانية لمصر فى العصر الحديث















المزيد.....


ثورة 23 يوليو و النهضة الثانية لمصر فى العصر الحديث


عبد المجيد راشد

الحوار المتمدن-العدد: 1732 - 2006 / 11 / 12 - 09:37
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


قامت ثورة 23 يوليو في مصر العربية عام 1952 في وقت كان العالم فيه قد دخل عصرا جديدا عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945، وكان الوطن العربي فيه قد بدأ مرحلة جديدة شهدت تدفق موجة التحرير فيه وفي أجزاء واسعة من قارتي آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، كما شهدت حدوث نكبة فلسطين عام 1948، وكانت مصر العربية فيه تعيش جيشانا ينذر بتفجر ضخم وحملا يبشر بولادة جديدة.

فعالم ما بعد الحرب العالمية الثانية كان خارجا من حرب ضروس انطوت على مآس وفواجع لم يعرف التاريخ لها مثيلا من قبل، وانطوت في تضاعيفها على ثورة ضخمة هي عند البعض أكبر ثورة عرفها الإنسان منذ فجر تاريخه في اتساعها.

وتصدرت في هذا العالم المعاصر دولتان أعظم هما الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي، بعد أن أنهكت الحرب بريطانيا وفرنسا وبقية دول أوروبا الاستعمارية، وبرزت هاتان الدولتان كقوى جديدة، وأصبح من الملامح الواضحة للصورة الدولية حالة التوتر والخوف المعروفة باسم الحرب الباردة القائمة بين الدولتين الأعظم في ظل مجمع للدول العالمية الكبرى تمثله الأمم المتحدة[1]

أما عن صورة مصر الاقتصادية والاجتماعية عشية ثورة 23 يوليو والتركة المثقلة التي تسلمتها القيادة الثورية ليلة استيلاءها على السلطة، فيمكن في ايجاز شديد أن ترسم الملامح الأساسية لتلك الصورة على النحو التالي:-

1- السيطرة الاستعمارية:

فلم تكن السيطرة الاستعمارية احتلالا عسكريا فحسب، بل أن الثمانين ألف جندي بريطاني كانوا في الواقع يحرسون عملية استغلال اقتصادي بشع يتولاها الاستعمار العالمي.

فكان النظام المصرفي بأكمله، ابتداء من البنك المركزي "البنك الأهلي" حتى اصغر بنوك الرهونات، تحت سيطرة راس المال الأجنبي، وكذلك كل نشاط التأمين في مصر، ومعنى ذلك أن المال - عصب الحياة الاقتصادية- لم تكن تحكم حركته قرارات مصرية، ومعناه أيضا أن مدخرات المصريين التي كانت تتجمع لدى البنوك وشركات التأمين كانت تحت تصرف الأجانب، يحولونها إلى الخارج أو يوجهونها لتمويل نشاط الأجانب المتمصرين في مصر، ولم يكن يحظى بقروض البنوك من المصريين إلا الإقطاعيين وكبار الرأسماليين المرتبطين بالمصالح الأجنبية، حتى يستطيع الاستعمار من اخذ نصيبه مما استولى عليه أعوانه من عرق الفلاح والعامل المصري، وهكذا كان طريق التنمية مسدودا أمام الرأسمالية الوطنية التي كانت تعانى الأمرين في الاقتراض من البنوك الأجنبية، بل أمام الدولة ذاتها التي لم تكن تملك - حتى لو أرادت- الموارد الكافية لتمويل أي برنامج إنمائي.

كذلك كانت التجارة الخارجية حكرا على الأجانب وقلة من المصريين تدور في فلكهم، فأهم الصادرات وهو القطن (حوالي 85% من الإجمالي) بيد بيوت التصدير الأجنبية التي كانت تسيطر في نفس الوقت على المحالج والمكابس، والواردات تمر حتما بالتوكيلات المحلية للشركات الأجنبية، ووكالات الاستيراد "والقومسيونجية" وكانت التجارة الخارجية تمثل في ذلك الوقت حوالي 50% من الدخل القومي، ومعنى ذلك أن نصف الدخل القومي لا تؤثر فيه يد وطنية ولا سياسة وطنية.

وكانت مصادر الطاقة - وهي أساس التصنيع وتطوير الزراعة- بيد الأجانب، فاستخراج البترول احتكار لشركة شل واستيراد البترول ومنتجاته وتوزيعها بيد شركات البترول العالمية أو فروعها المحلية، ومحطات الكهرباء الحرارية الهامة بيد شركات فرنسية أو بلجيكية.

وكان للمصالح الاستعمارية الوزن الأكبر في قطاع النقل فقناة السويس دولة داخل الدولة وشركات النقل البحري والنقل النهري يسيطر عليها الأجانب، والنقل العام بالقاهرة تحكمه شركة بلجيكية والنقل الجوى يساهم فيه البريطانيون.

وكان الجزء الأكبر من الصناعة - رغم نموها المحدود- بيد الأجانب أو ساهم فيه الأجانب المتمصرون، حتى صناعة النسيج المصرية التي أقامها بنك مصر، دخلت مرحلة التعاون مع راس المال الأجنبي.

وكان للأجانب والمتمصرين النصيب الأساسي في التجارة الداخلية فتجارة الداخل في القطن يشارك فيها الأجانب وخاضعة لتوجيهات بيوت التصدير الأجنبية والبنوك الأجنبية التي تمولها وتجارة الجملة - حتى في منتجات الصناعة المصرية- يسيطر عليها أجانب ومتمصرون، والمحلات التجارية الكبرى كلها محلات أجنبية، ورغم اعتماد الاستعمار في استغلال الفلاحين أساسا على طبقة كبار الملاك والإقطاعيين، فقد دخل بعض الأجانب في مجال الزراعة، ففي سنة 1950، كان من بين الستين شخصا الذين يملكون أكثر من ألفي فدان ويسيطرون على 5% من إجمالي المساحة الزراعية 18 أجنبيا.

2- الإقطاع:

عمل الاستعمار البريطاني منذ احتلاله البلاد عام 1882 على تأكيد مركز كبار الملاك والإقطاعيين وزيادة عددهم، فأقر لهم القانون بحق الملكية الفردية على أراضى مغتصبة ولم يكن لهم عليها إلا حق الانتفاع , ووزع عليهم أملاك قادة الثورة العرابية، وباع لهم بأبخس الأثمان أملاك الخديوي إسماعيل "الدائرة السنية"، ومكن لهم من الاستيلاء على أراضى الحكومة بدعوى استصلاحها، وجعلهم العمود الفقري للسلطة السياسية والأجهزة الإدارية، ذلك أنهم كانوا، كطبقة، أداة الاستعمار في إرهاب الفلاح واستغلاله.

أما عن صورة الإقطاع عشية ثورة 23 يوليو، فقد كان عدد من يملكون أكثر من 50 فدانا يزيد قليلا عن 11.800 فرد، وكانوا يملكون 38% من المساحة المنزرعة، بمتوسط يقارب 200 فدان للفرد الواحد، فإذا أخذنا في الاعتبار ملكية العائلة لما هو معروف من أهميتها في الأوضاع الإقطاعية، وصلت أرقام الملكية إلى حدود خيالية، وكان كبار الملاك الإقطاعيين يسيطرون على الحياة السياسية، فالدستور كان يشترط لعضوية مجلس الشيوخ ملكية أرض لا تقل ضريبتها السنوية عن 150 جنيها.

3- الرأسمالية الكبيرة:

لقد حاولت الرأسمالية الوطنية غداة ثورة 1919 أن تبنى صناعة مصرية وأن تدعم التجارة المصرية وتوجد نشاطا مصرفيا مصريا, ورفعت شعار تفضيل المنتجات المصرية في الاستهلاك وتشجيعها، ولكن الاستعمار - مستعينا بالحكومة- حارب هذه الجهود، وفي الوقت ذاته وارب الاستعمار الباب لعدد من كبار الأثرياء ليشتغلوا بالأنشطة غير الإنتاجية، أو بتلك المرتبطة بعملية الاستغلال الاستعماري لموارد البلاد، تجارة الداخل في القطن، المقاولات، عقود التوريد لقوات الحلفاء، وأمام تصاعد حركة التحرر الوطني في الأربعينات لجأت بعض الشركات الأجنبية إلى استخدام بعض الواجهات المصرية، فاحتل عدد من "الباشاوات" مقاعد مجلس الإدارة، بل واقتنى بعضهم شيئا من أسهم تلك الشركات، وكذلك تحولت فروع بعض الشركات الأجنبية إلى شركات مساهمة مصرية، وسرعان ما رفعت شعار حماية الصناعة المصرية لتفرض الجمارك العالية التي تمكنها من البيع بأسعار مرتفعة، كما دخلت فيما بينها في اتفاقات احتكارية لتحول دون أي انخفاض في الأسعار، وهكذا كانت الرأسمالية المصرية في مجموعها على درجة من النمو ضعيفة إلى حد بعيد، كما كان في داخلها انقسام واضح بين الرأسمالية الوطنية ضحية القهر والاستغلال والرأسمالية الكبيرة التي تدين بالولاء للمستعمر.

وبالطبع كانت نتيجة كل هذا هي التخلف الاقتصادي والاجتماعي والمعبر عنه بثالوث "الفقر والجهل والمرض" وكانت مصر بحق مجتمع النصف في المائة. [2]

وقد شقت الثورة طريقها إلى التنمية من خلال منهج تجريبي متصاعد لم يأخذ باستراتيجية الكتلة الاشتراكية بقيادة الاتحاد السوفيتي والمعروفة باستراتيجية بناء الصناعات الأساسية ولا باستراتيجية المعسكر الرأسمالي المعروفة باستراتيجية بناء الصناعات من أجل التصدير عبر منظومة الشركات عابرة القوميات.

في البداية كان المطروح هو تنمية الإنتاج بصفة عامة وكان الإصلاح الزراعي هو الخطوة الجوهرية نحو هذه التنمية، ثم طرحت الثورة مسالة التصنيع كضرورة اقتصادية واجتماعية داعية الرأسمالية المصرية بل والأجنبية أيضا للإقدام على إقامة المشروعات الصناعية، وقام المجلس الدائم لتنمية الإنتاج بدور المروج للمشروعات الصناعية، كانت الدولة لا تزال تلتزم الحذر وتكتفي بالتوجيه، وابتداء من عام 1955 أقدمت الدولة على التدخل بالتمصير، وفيما بعد هزيمة العدوان الثلاثي، شقت الثورة طريق التنمية الاقتصادية المستقلة لبناء اقتصاد وطني حديث يقوم على الصناعة ويكسر طوق التبعية المحكم للرأسمالية العالمية حول مصر فأقامت المؤسسة الاقتصادية ووضعت برنامج السنوات الخمس للصناعة.

وللحق فقد كان هذا البرنامج أهم إجراء اتخذته الثورة من اجل التصنيع حتى ذلك الوقت، و الذى بدأ في عام 1957 وانتهي في عام 1960، وبلغت استثماراته حوالي 330 مليون جنيه، و تضمن البرنامج الكثير من الصناعات الكيماوية وصناعات مواد البناء وتبعته الصناعات المعدنية والهندسية، وساهمت في تمويله دول اشتراكية ودول رأسمالية وكان تقدير المسئولين عند إعداد البرنامج أن يقوم القطاع الخاص بالدور الأساسي فيه، لكن متابعة التنفيذ كشفت عن عزوف القطاع الخاص عن المشاركة، مما أدى إلى عدم تنفيذ الاستثمارات كاملة، وقد بلغت 141 مليون جنيه حتى يونيو / حزيران 1960.

وفي أواخر عام 1959 تقرر إعداد برنامج التصنيع الثاني ليغطى فترة السنوات الخمس التالية وقدرت نفقاته الاستثمارية بحوالي 350 مليون جنيه، وتم إدماج بعض المشروعات المتبقية من البرنامج الأول فيه، ثم رؤى أن يتجه تطوير الاقتصاد طبقا لمبدأ التخطيط، وعندئذ ادمج البرنامج الثاني في الخطة الخمسية الأولى.

والواقع أن المنهج التجريبي المتصاعد لم يكن ليتصاعد دوما لولا أن هناك منذ البداية هدف واضحا هو بناء اقتصاد وطني قوى أو تحقيق الاستقلال الاقتصادي وفي نفس الوقت الانحياز إلى غالبية طبقات الشعب، ومع ذلك، وابتداء من بداية الستينيات اتضحت الأمور من خلال التجربة الحية وأنجزت الثورة ثلاث خطوات حاسمة على طريق التنمية:-

‌أ- أولاها وضع خطة مضاعفة الدخل الوطني في عشر سنوات والبدء، من ثم، في نصفها الأول وهو معروف باسم الخطة الخمسية الأولى وكان معنى ذلك التسليم بمبدأ التخطيط للتنمية.

‌ب- وثانيتها الإقدام على التأميمات الكبرى ابتداء بتأميم البنك الأهلي وبنك مصر في فبراير / شباط 1960 ثم تأميمات يوليو / تموز 1961 وما بعدها، وكان معنى ذلك التسليم بأن القطاع العام هو القاعدة الأساسية للتنمية.

‌ج- وثالثتها وضع ميثاق العمل الوطني وشق طريق التحولات الاقتصادية والاجتماعية بهدف الوصول إلى الاشتراكية، وكان معنى ذلك أن التنمية عملية ثورية ترمى ليس فقط لتحقيق الاستقلال الاقتصادي وإنما ترمى أيضا لتغيير المجتمع وإعادة بنائه لصالح مجموع قواه العاملة.

وبالتالي، فانه إذا كانت التنمية قد بدأت بلا نظرية ولا مذهب، واتخذت طريق التجربة، فانه نظرا لإصالة الثورة وعمق انتمائها الوطني فإنها قد انتهت إلى تبنى منهج علمي واضح وصاغت بذلك ميثاق العمل الوطني على أساس الاشتراكية العلمية.

كانت مسيرة التصنيع، باعتبارها جوهر عملية التنمية، معركة من أخطر معارك التحرر والتقدم الاجتماعي في البلاد، كانت معركة طبقية ضارية، تقف إلى جانبها طبقات معينة، وتعارضها وتقاومها طبقات معينة أخرى.

فمنذ البداية كان موقف الدوائر الاستعمارية واضحا فهي ترى أن مصر بلدا زراعيا ويجب أن تبقى بلدا زراعيا، في عام 1953، أعلن البنك الأهلي وكان يتحدث باسم راس المال الأجنبي الغالب في مصر "بدلا من الدعوة إلى التصنيع لإيجاد عمل للفائض من الأيدي العاملة الزراعية يجدر بنا أن نتناول المسألة من جانبها الآخر، بمعنى انه يجب البدء بتنمية الزراعة" وفي عام 1955 عاد يقول: هناك بضعة دروس أهمها أن التصنيع عملية طويلة ومعقدة يحتاج إتمامها إلى أجيال طويلة.. وعندما وضعت الثورة برنامج السنوات الخمس الأولى للصناعة في عام 1957، علق البنك الأهلي على البرنامج قائلا: أن خطة السنوات الخمس لا تعدو أن تكون بغير موارد، ولم يتغير موقف البنك ولا موقف رأس المال الأجنبي، حتى قامت الثورة بتمصير المشروعات الأجنبية عقب العدوان الثلاثي، ثم تبعتها بتأميم البنك الأهلي نفسه في عام 1960، ثم توالت التأميمات لرأس المال الأجنبي.

أما الرأسمالية المصرية فإنها لم تستجب أبدا لكل ما عرضته عليها الثورة من مشروعات للتنمية الاقتصادية، ففي البداية التزمت الحذر وذلك على الرغم مما أغدقته الدولة عليها من إمتيازات لم تحلم بها من قبل، بل واختارت الدولة أن تتصدى للميادين التي تتطلب استثمارات ضخمة وتتعرض لمخاطر كبيرة ولا تدر ربحا عاجلا مثل الحديد والصلب والسماد والأسمنت، وفيما بين عامي 1954 و1958 قدمت الدولة 74% من رأس المال المستثمر في شركات المساهمة في الصناعة الثقيلة وظل مجلس تنمية الإنتاج عاكفا على دراسة المشروعات وتقديمها صالحة للتنفيذ للرأسمالية المصرية، بل وظل يساعد على تكوين شركات خاصة مثل شركة الكابلات الكهربائية وشركة إطارات السيارات ومع ذلك ظلت الرأسمالية متحصنة داخل خندقها المنيع التقليدي في الصناعات الخفيفة المألوفة وفي المباني السكنية.

ومن ناحية أخرى فقد تولت الثورة وبخاصة خلال الخطة الخمسية الأولى، إرساء قاعدة عريضة من الصناعات الاستهلاكية والإنتاجية، وحصل قطاع الصناعة على أكثر من ربع استثمارات الخطة أي حوالي 27% منها بالإضافة إلى 6.5% منها لمشروع السد العالي وحوالي 7% لمشروعات الكهرباء وعلى الرغم مما هو معروف من أن الخطة الخمسية الأول قد عنيت باشباع احتياجات الاستهلاك النهائى وهو ما عرف باستراتيجية الإحلال محل الواردات، إلا أنها أرست أيضا قاعدة الصناعات الإنتاجية مثل صناعة آلات الورش والتوسع في صناعة الحديد والصلب وصناعة المطروقات والدرفلة وصناعة إنتاج الرصاص والزنك والألمونيوم الكهربائي وصناعة الآلات الزراعية وصناعة المحولات وصناعة أبراج الصلب والأبراج الخرسانية للشبكات الكهربائية وصناعة المراجل البخارية وصناعة معدات الطرق واستصلاح الأراضي وصناعة المعدات الرئيسية للتعدين وصناعة مواد البناء. [3]

وفي هذا السياق يكفي أن نتابع هنا حركة بعض المتغيرات الأساسية للاقتصاد المصري، ونبدأ بمعدل النمو في الناتج المحلى الإجمالي، فتدل الدراسات على أن معدل النمو السنوي كان حوالي 1% في ألفترة من عام 1913 إلى عام 1928 وحوالي 5% من عام 1929 إلى عام 1939 ، ومع حلول عام 1950 كانت آثار فترة الحرب قد تم تجاوزها، ولذا ارتفع المعدل السنوي الإجمالي إلى 2.5% في الفترة من 1939 - 1950.

ومع بدء برنامج الدولة للتصنيع، قفز معدل النمو السنوي في المتوسط إلى حوالي 5% (1956 - 1957 - 1970 / 1971) هذه المعدلات تعنى انه منذ بدء القرن العشرين وحتى منتصف الخمسينات لم تحدث أي زيادة ملموسة في متوسط دخل الفرد (المعدل السنوي 1,. في المائة) بينما زاد دخل الفرد في الفترة الناصرية بحوالي 2% سنويا.

وتمثلت الدورة في معدل النمو في الناتج المحلى الإجمالي في سنوات الخطة الخمسية للأعوام (1960 / 1961 - 1964 / 1965) حيث وصل معدل النمو في الناتج المحلى الإجمالي إلى 6.9% سنويا - في المتوسط - وظلت هذه المعدلات، رغم اختلاف النسب، من أعلى ما تحقق على مستوى العالم خلال ألفترة نفسها طبقا لتقارير البنك الدولي.

وهذا التغيير الإيجابي الملموس في اتجاه النمو بعد عام 1956 / 1957، كان يتضمن تغيّرا موازيا في معدلات الاستثمار، إذ ارتفعت نسبة الاستثمار في الدخل القومي الإجمالي من 9.1% عام 1946 إلى حوالي 14% (1957 - 1958)وقد زادت الاستثمارات بدرجة ملحوظة أثناء سنين الخطة الخمسية الأولى إلى (15.4% - 16.2% - 17.8% - 20%) على التوالي وكان في آخر سنوات الخطة (1964 / 1965) 17.8%.

ووسط هذه الدفعة الاستثمارية، أصبحت الصناعة هي القطاع القائد في الاقتصاد المصري، ورغم ذلك، فلم يحدث أن أهملت الزراعة لحساب الصناعة وفي الخطة الخمسية على سبيل المثال، كان نصيب الصناعة مساويا تقريبا لنصيب الزراعة في مجمل الاستثمار المستهدف، ففي الفترة من 1939 إلى 1949، زاد الإنتاج الزراعي بمعدل سنوي لا يتجاوز 1% وفي الفترة التالية كان المعدل السنوي 1.8% وفي الفترة من 1955 إلى 1960، كان المعدل السنوي 3.5% وفي أثناء الخطة الخمسية كان 3.1% والمستهدف 5.1%. [4]

ان المعجزة في التجربة الناصرية أنها أنجزت تحولا ثوريا في النسق الاقتصادي - الاجتماعي مع تسارع "وليس مجرد استمرار" النمو الاقتصادي، ونذكر على سبيل المثال أن الإصلاح الزراعي المصري في عام 1952 كان "معجزة" بهذا المعيار، حيث لم يترتب على التغيير الكبير في شكل الملكية تدهور في الإنتاج، بل زاد الإنتاج الزراعي على عكس ما حدث في البلدان النامية الأخرى التي طبقت إجراءات أقل اتساعا، وإذا كانت الخطة الخمسية الأولى قد تمكنت من تحقيق معدلات مرتفعة في الاستثمار والإنتاج، فهذه كفاءة نادرة في احتواء الصراعات الاجتماعية الناشئة عن العملية الجراحية الخطيرة، وهي شهادة بنجاح فريد في التصدي لمهام إنشاء أوضاع مؤسسية جديدة وإدارتها، بحيث تستكمل المشروعات تحت الإنشاء في مواعيدها المحددة، وتنطلق في الوقت نفسه حملة واسعة من إنشاءات جديدة وبحيث تواصل المشروعات القائمة تحسين إنتاجيتها، ومعجزة الناصرية أنها نجحت في تحقيق قدر كاف من الاستقرار فور تقريرها للتأميمات الواسعة، ونتج عن ذلك معجزة معدلات النمو. [5]

في هذا السياق، فمن المهم والضروري الإشارة إلى أن المدخل الصحيح لفهم ودراسة التجربة الناصرية لا يكون باعتبارها زمنا مضى وانقضى، ولا باعتبارها مجموعة سياسات وإنجازات وليست مجرد بطولة في التاريخ، أو تجربة عداء حازم للاستعمار أو سعيا للوحدة العربية، أو حتى أنها أهم تجربة في تاريخنا المعاصر قامت بالتنمية المستقلة متعددة الأبعاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، إنها كل ذلك وغيره، إن أردنا وصف ما جرى، لكنها تنطوي على قيم "باقية" وممتدة، تتجاوز الوقائع وتكشف فيها المعنى والمغزى. [6]

وكان طبيعيا أن تمر ثورة يوليو بمرحلة من التجربة والخطأ قبل أن تتوصل لصياغة المعالم الأساسية للنظرية الثورية، ذلك أن ثورة يوليو قد رفضت منذ البداية كلا النموذجين الفكريين السائدين في العالم عند تفجرهما، وهما الرأسمالية والشيوعية، وأصرت على شق طريق متميز وجديد، و"الحاجة" إلى طريق جديد لا تصدر عن رغبة في التجديد لذاته ولا تصدر بدافع الكرامة الوطنية، وإنما لأن الثورة العربية تواجه ظروفا جديدة ولابد لها في مواجهة هذه الظروف أن تجد الحلول الملائمة لها، ومن ثم فان التجربة الثورية لا تستطيع أن تنقل ما توصل إليه غيرها. [7]

ويؤكد جمال عبد الناصر في الميثاق الوطني أن ثورة 23 يوليو بدأت من غير نظرية كاملة للتغير الثوري، إذ لم تكن تمتلك إلا المبادئ الستة المشهورة، غير أن مسيرة الثورة على هدى هذه المبادئ وبتطويرها من خلال التجربة والخطأ توصلت إلى صياغة الميثاق الوطني الذي بلور المعالم الأساسية لنظرية متكاملة كما يؤكد عبد الناصر في محاوراته خلال مباحثات الوحدة الثلاثية وكما يعبر عن ذلك في ضرورة التزام التنظيم السياسي بالميثاق كدليل في العمل باعتباره حصيلة التجربة وأصل ونتيجة لإرادة شعبية حرة، فنظرية الثورة لم تبدأ معها وإنما كانت إحدى ثمار تجربتها كما يقول جمال عبد الناصر "هكذا وصلنا إلى عقائدنا كنتيجة طبيعية لتجاربنا ووضعنا قوانين حركتنا انعكاسا صادقا لواقع امرنا، ولقد كان أعظم الملامح في تجربتنا ألفكرية والروحية اننا لم ننهمك في النظريات بحثا عن حياتنا وإنما انهمكنا في حياتنا ذاتها بحثا عن النظريات". [8]

وأخيرا، فان القراءة العلمية الرصينة لتجربة 23 يوليو، لا ينبغي أن تقف عند حدود العامل الاقتصادي فقط، خاصة في ظروف بلدان العالم النامي، الخارجة من آتون حقب استعمارية استنزفت ثرواتها لقرون طويلة، وشوهت طبقاتها الاجتماعية بالقهر والاستغلال والتفرقة الطبقية والاستلاب الحضاري، ولكن، وهذا هو الدرس الأهم لتجربة يوليو، ينبغي قراءتها وفق رؤية متعددة الأبعاد "سياسية، تاريخية، جغرافية، اقتصادية، ثقافية، اجتماعية، دولية، اقليمية".

cdbacd

الهوامش

* هذه الدراسة جزء من رسالة الماجستير للباحث والتي ستصدر في كتاب عن مكتبة مدبولي بالقاهرة تحت عنوان "الكارثة والوهم / سياسة الاصلاح الاقتصادى - نظام العولمة".

[1] د. احمد صدقى الدجانى: الإطار التاريخى لثورة 23 يوليو ,, منشور في ثورة 23 يوليو - قضايا الحاضر وتحديات المستقبل ,, دار المستقبل العربي ,, القاهرة ,, ﻁ1 ,, 1987 ,, ﺼ 37، 38

[2] اعتمدنا في هذه الصورة كليا على ا.د اسماعيل صبرى عبد الله: ثورة يوليو والتنمية المستقلة ,, منشور في ثورة 23 يوليو - قضايا الحاضر وتحديات المستقبل ,, دار المستقبل العربي ,, القاهرة ,, ﻁ1 ,, 1987 ,, ﺼ 213: ﺼ 216

[3] د. فؤاد مرسى: ثورة يوليو والتنمية المستقلة ,, منشور في ثورة 23 يوليو - قضايا الحاضر وتحديات المستقبل ,, دار المستقبل العربي ,, القاهرة ,, ﻁ1 ,, 1987 ,, ﺼ 272، 273، 274

[4] عادل حسين: نحو فكر عربي جديد ,, دار المستقبل العربي ,, القاهرة ,, القاهرة ,, ﻁ1 ,, 1985 ,, ﺼ 162، 163

[5] عادل حسين: مرجع سابق ,, ﺼ166

[6] د. عبد الحليم قنديل: الناصرية والإسلام ,, القاهرة ,, مركز إعلام الوطن العربي "صاعد" ,, ﻁ1 ,, 1991 ,, ﺼ 11

[7] حمدين صباحي: الناصرية نظرية الثورة العربية , القاهرة, مركز إعلام الوطن العربي "صاعد" ,, ﻁ1 ,, 1992 ,, ﺼ 13

[8] حمدين صباحي: المرجع السابق ,, ﺼ 12

[email protected]



#عبد_المجيد_راشد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- خلفاء محمد على - الجزء الثانى-
- خلفاء محمد على - الجزء الأول -
- تجربة محمد على فى بناء الاقتصاد المصرى
- .. العولمة : تاريخ المصطلح و مفهومه
- النهب المنظم لمصر - نموذج الخصخصة -
- علاقة سياسة الاصلاح الاقتصادى بنظام العولمة ..
- كارثة البطالة هدية مبارك و نظامه لشعب مصر
- وقائع إغتيال الجنيه المصرى
- سيناريو دولة الإخوان المسلمين ..
- الحركة الممكنة .. الحركة المستحيلة
- آليات نظام العولمة ..
- فخ التبعية - مصر و صندوق النقد الدولى- .. دراسة


المزيد.....




- ولاية أمريكية تسمح للمعلمين بحمل الأسلحة
- الملك السعودي يغادر المستشفى
- بعد فتح تحقيق ضد زوجته.. رئيس وزراء إسبانيا يفكر في تقديم اس ...
- بعد هدف يامين جمال الملغى في مرمى الريال.. برشلونة يلجأ إلى ...
- النظر إلى وجهك أثناء مكالمات الفيديو يؤدي إلى الإرهاق العقلي ...
- غالانت: قتلنا نصف قادة حزب الله والنصف الآخر مختبئ
- بايدن يوقع قانون مساعدات كبيرة لأوكرانيا والمساعدات تبدأ بال ...
- موقع أمريكي ينشر تقريرا عن اجتماع لكبار المسؤولين الإسرائيلي ...
- واشنطن.. التربح على حساب أمن العالم
- السفارة الروسية لدى سويسرا: موسكو لن تفاوض برن بشأن أصول روس ...


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - عبد المجيد راشد - ثورة 23 يوليو و النهضة الثانية لمصر فى العصر الحديث