أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود شقير - مدن فاتنة وهواء طائش/ أيام متعاقبة















المزيد.....

مدن فاتنة وهواء طائش/ أيام متعاقبة


محمود شقير

الحوار المتمدن-العدد: 7739 - 2023 / 9 / 19 - 18:48
المحور: الادب والفن
    


أيام متعاقبة

1

لم يتوقف انهمار المطر طوال اليوم، مطر مدرار يهطل في عز الصيف!
فكرت في الذهاب إلى مركز المدينة بعد الظهر، غير أن المطر حال دون ذلك.
يقصف الرعد بشدة، وتهطل أمطار غزيرة. (في كارولينا الشمالية ثمة إعصار قوي). قالت إحدى نشرات الأخبار إن انفجاراً وقع في تل أبيب. قرأت بعض القصص القصيرة باللغة الانجليزية، ثم كتبت قصة قصيرة جداً.
جرحت إبهام يدي وأنا أقطع بالسكين حبة بندورة. شعرت بالملل من تحضير الطعام وجلي الصحون، لكنني شعرت بارتياح لأنني أحافظ على نظافة المطبخ. نزلت إلى السوبرماركت، اشتريت خبزاً وماء، وبطاقات من ورق مقوى لتدوين الملاحظات، ولكتابة القصص القصيرة جداً. اتصلت هاتفياً بابن أختي باسل المقيم في مدينة هيوستن. لم يكن في البيت، تركت له رقم هاتفي كي يتصل بي. هاتفت صديقي القديم محمد السلحوت، المقيم أيضاً في هيوستن منذ سنوات طويلة، تبادلنا حديثاً خاطفاً حول ذكرياتنا المشتركة، دعاني إلى زيارة هيوستن، قبلت الدعوة وشكرته على ذلك.

2

وصلت كاتبة من كوريا الجنوبية، وهي امرأة نحيلة دائمة الحركة مثل فراشة.
إنها في الثامنة والعشرين من عمرها، تبادلنا حديثاً عابراً ثم افترقنا.
ذهبتُ إلى اجتماع الساعة الواحدة والنصف الذي انعقد في الطابق الذي نقيم فيه. لم يدم الاجتماع سوى بضع دقائق، (هكذا هي اجتماعاتنا: بضع دقائق ثم ينتهي كل شيء، وهكذا هي أغلب اللقاءات كذلك!) تمّ تذكيرنا بالندوات التي سوف نشارك فيها في الأسابيع القادمة.
عدت من الاجتماع إلى غرفتي. وضعت أوراقي فيها ثم خرجت، تمشيت في الشارع المحاذي للسكن الجامعي خمس عشرة دقيقة. ما زالت الأرض المكسوة بالعشب الأخضر، مرنخة بمياه الأمطار التي هطلت يوم أمس وهذا الصباح بغزارة.
أعددت لنفسي طعام الغداء: قطعاً من اللحم المشوي فوق نار الفرن. احترق اللحم في المقلى، وانتشر دخان كثيف في المطبخ وغرفة النوم، ما أدى إلى انطلاق صفير حاد من جهاز إنذار ضد الحريق مثبت في سقف الغرفة. لم يتوقف الصفير إلا بعد أن فتحت النافذة وسمحت للدخان بالتسرب إلى الخارج. شعرت بالخجل لهذا الإزعاج الذي سببته لمن سمعوا جهاز الإنذار، وهم كثيرون كما أعتقد.
غادرت الغرفة بعد الغداء. وجدت الكاتب الفيتنامي "هاي" ينتظر الحافلة أمام السكن الجامعي. هاي ينتظر ويتلفت في كل اتجاه، وثمة مجموعة من الفتيات يجلسن على درجات المبنى، بالبنطلونات القصيرة أكثر مما ينبغي، يجلسن للتدخين وللثرثرة والضحك. جاءت الحافلة ومضينا معاً، أنا وهاي، إلى مبنى كلية الفلسفة التابع لجامعة أيوا، لحضور ورشة الترجمة المقرر انعقادها في الساعة الثالثة والنصف. (هاي في الثلاثين من العمر، من سايغون، يكتب القصة القصيرة بأسلوب متميز. ستأتي أخته التي تعمل في نيويورك لزيارته بعد أسابيع، وستأتي صديقته الفيتنامية لزيارته أيضاً)
وجدت الكاتبة الكورية "كانغ هان" هناك، وثمة عدد من الكتاب الضيوف والكاتبات وبعض الطلاب والطالبات. لم يستغرق اللقاء سوى بضع دقائق، حيث تم التعارف بيننا، ثم انتهى كل شيء. اقترحتُ على كانغ أن تذهب معي إلى مكتبة بريري لايتس لشراء بعض الكتب. ذهبنا مشياً على الأقدام، غير أننا سرنا في الاتجاه الخاطئ، سألنا بعض المواطنين الأمريكان عن المكتبة، أرشدونا إلى الطريق الصحيح. كان ذلك سبباً للتندر على جهلنا بالمكان. اشتريت بعض الكتب من بينها رواية "هوية" لميلان كونديرا. جلسنا في المقهى التابع للمكتبة. كانغ قليلة الكلام ولها ابتسامة خافتة ترتسم على وجهها باعتدال. غادرنا المقهى واتجهنا إلى موقف الحافلة، صعدنا إليها وعدنا إلى السكن الجامعي، وكان الوقت مساء.
في المساء التالي، سنذهب إلى حفل استقبال يقيمه في بيته، البروفيسور ستيف أونغار، المشرف الأول على برنامج الكتابة الدولي، وهو أمريكي من أصول تشيكية، له بيت فخم في ضواحي المدينة، محاط بأشجار وبأرض شاسعة خضراء. سيجيء عدد كبير من المدعوين والمدعوات. تجيء أولغا الشقراء، تشرب ما طاب لها من البيرة، تضحك بدلال وتستعين بما تعرفه من مفردات قليلة من اللغة الانجليزية، للتعبير عما تشعر به من انبساط. تجيء طالبة سورية اسمها لانا موسى، تقيم في أيوا وتواصل دراساتها العليا في جامعتها. لانا لا تعرف سوى القليل من مفردات لغتها الأم، وهي تضحك ببراءة لأقل سبب. اقترحت عليها الأستاذة المشرفة على ورشة الترجمة أن تعمل معي في مجال ترجمة قصصي إلى اللغة الانجليزية، وافقت لانا ووافقت أنا بطبيعة الحال، مع أنني بقيت متشككاً في مدى قدرتها على القيام بهذه المهمة.
سنعود من بيت البروفيسور حوالي الساعة الحادية عشرة ليلاً. سأشعر بشيء من هدوء البال، ولا أسمع شيئاً من أخبار الوطن إلا ما تجود به محطات التلفزة الأمريكية، وهو قليل جداً. سأقرأ بضع صفحات في رواية كونديرا ثم أنام.

3

طقس رائق تماماً، لا مطر ولا غيوم في السماء، واليوم هو الأحد.
بقيت في غرفتي حتى الخامسة بعد الظهر. أكملت قراءة "هوية" لميلان كونديرا. إنها رواية جيدة، فيها تصوير بارع لانغلاق الإنسان الغربي المعاصر على نفسه، ووقوعه في التباس الهوية، وعدم فهم الآخرين من حوله، بسبب إفراطه في ممارسة فرديته.
ذهبت إلى مركز المدينة. كان الطقس حاراً، والناس يتمتعون بيوم العطلة الأسبوعية وينتشرون في المتنزه الذي يمتد أمام السكن الجامعي، ويخترقه نهر أيوا الذي يضفي على المكان رونقاً.
دخلت مكتبة بريري لايتس. اشتريت كتابين، واحداً لأكتافيو باث عن الحب والجنس، والآخر لميلان كونديرا عن فن الرواية. غادرت المكتبة وتمشيت في شوارع المدينة. المحلات التجارية والمقاهي مغلقة ما عدا القليل منها. تعرفت صدفة إلى بعض العرب والفلسطينيين في الشارع، تحادثنا بعض الوقت، تبادلنا العناوين وأرقام الهواتف، ثم افترقنا.
بحثت في مكتبة الجامعة عن كتاب "صدام الحضارات" لصموئيل هانتنغتون ولم أجده، لأن أحد المشتركين في المكتبة استعاره. (سأشتريه مترجماً إلى العربية بعد ذلك بسنة من مكتبة مدبولي في القاهرة)
الساعة تقترب من الثامنة والنصف مساء. مشيت على رصيف الشارع متجهاً نحو السكن الجامعي، ثمة أعداد من الطالبات والطلاب يتجمعون أمام إحدى بنايات الجامعة، يتمازحون ويدخنون السجائر، وهم محاطون بهالة من الهدوء والدعة. غبطتهم على ما هم فيه، وواصلت السير. لم يكن ثمة أحد يسير على الرصيف. بدا الرصيف موحشاً، توجست قليلاً، خوفاً من مفاجأة غير محسوبة، على رغم ما يؤكده الكثيرون هنا من أن هذه المدينة آمنة، لا توجد فيها عمليات سلب أو نهب.
بقيت ساهراً حتى الساعة الثانية بعد منتصف الليل. ولم يكن مزاجي صافياً.

4

ماري نازاريث التي تنحدر من أصول هندية، امرأة في الخمسين من عمرها أو أكثر قليلاً، نحيفة ولها عينان فيهما سواد لافت للانتباه، وهي مخلصة في أداء عملها، حينما أراها أتذكر امرأة تشبهها من نساء عشيرتي، فأشعر بارتياح وأنا أتحدث معها.
في الصباح، ذهبنا صحبة ماري إلى محل لبيع الملابس القديمة. لم يعجبني شيء هناك. آيتي الأوغندية، ابنة الثمانية والعشرين عاماً، المتدفقة حيوية، اشترت معطفاً بدولارين. هاي الفيتنامي، المرح الساخر، اشترى رواية لنورمان ميلر بخمسة وعشرين سنتاً، (عثر عليها صدفة بين عدد ضخم من كتب المغامرات التافهة). البورمي مينت، الذي يتكاثف شعره الأشيب فوق جبينه، اشترى معطفاً ربيعياً بستة عشر دولاراً، وبدا مغتبطاً به.
في المساء، انزاح عن كاهلي حمل ثقيل. كان عليّ أن أشارك في ندوة حول "الأدب والهوية" في إحدى قاعات الجامعة، بالاشتراك مع بياتريس الألمانية، آيتي الأوغندية، وكانغ هان الكورية. قدمنا المداخلات أمام حشد غير كبير من الطلاب والطالبات. (كان ثمة عدد من الطلبة الفلسطينيين الدارسين في أيوا، وقد سررت لحضورهم) بعد الندوة، ذهبت صحبة كانغ وآيتي إلى مركز المدينة. شاهدنا فرقة من هنود جنوب أمريكا تعزف ألحانها في الساحة العامة. وجدنا الكاتبة التركية أرنديز التي تصغرني بعامين، تجلس على مقعد للاستماع إلى الفرقة. (تعمل طبيبة في مستشفى بمدينة استانبول، مطلقة ولها ابنة شابة. لديها نزعة نسوية، تكتب القصة القصيرة والرواية) جلسنا وتابعنا أنغام الفرقة، ثم تفرقنا كلٌّ في اتجاه: أرنديز عادت إلى السكن الجامعي، آيتي وكانغ ذهبتا للتمشي في شوارع المدينة، وأنا اتجهت إلى مكتبة بريري لايتس. اشتريت ثلاثة كتب، كتابين لإكتافيو باث ورواية لكاتب أمريكي هندي اسمه أليكس شيرمان. صعدتُ إلى المقهى في الطابق الأول، ثمة بنات جامعيات يجلسن في المقهى، يقرأن كتباً ومجلات، ثمة موائد يجلس إليها طلاب وصديقاتهم، يثرثرن معهم بخفوت وانسجام، شربت شاياً وأكلت قطعة من الكعك. كتبت قصة قصيرة جداً وأنا جالس هناك.
في تمام الثامنة، انعقدت ندوة في المكتبة لمناقشة كتاب حول البيئة لكاتب من أيوا، لم أفهم شيئاً مما قاله الكاتب لأنني كنت مرهقاً. جاءت آيتي وكانغ. جلستا في الصفوف الخلفية إلى أن انتهت الندوة، ثم عدنا جميعاً إلى السكن.

5

أعددت بعض الرسائل لإرسالها إلى الوطن.
أودعت الرسائل في مكتب البريد، ثم اتجهت أنا وكانغ وآيتي إلى معرض للفن التشكيلي في مركز المدينة. شاهدنا لوحات فنية ومنحوتات من خشب وحجر. المنحوتات الخشبية فيها طرافة: أجساد رجال عراة يحدقون بنظرات بلهاء في ما حولهم، وثمة منحوتات صغيرة لشخص واحد ولكن بتعبيرات مختلفة لوجهه. هناك منحوتة خشبية لشخص ميت داخل تابوت، له شكل الصليب، غير أن أطرافه تبدو مفصولة عن جسده. في المعرض أعمال لرسامة غرافيك: جسد امرأة أو جسد رجل في تشكيلات وأوضاع مختلفة، ذات إيحاءات عميقة.
بعد المعرض، ذهبنا إلى سوبرماركت لشراء ساعات منبهة. اشتريت ساعة بأربعة دولارات. رجعنا إلى السكن الجامعي ونحن نشعر أننا عدنا تلاميذ صغاراً يؤوبون إلى بيوتهم بعد انتهاء اليوم المدرسي. (كانغ أكدت لي ذلك غير مرة، قالت، يتلبسها إحساس بأنها عادت طفلة صغيرة تذهب كل يوم إلى المدرسة!)
لم ترن الساعة في الصباح، (سأعيدها إلى البائعة وأشتري ساعة أخرى أفضل منها) لكنني نهضت في الثامنة والربع.
ذهبت للتسوق مع عدد من الزملاء والزميلات. ذهبنا في سيارة فورد. نتحدث الانجليزية بلكنات متباينة، ذكّرتني ببرنامج تلفزيوني كوميدي شاهدته في زمن مضى، اسمه "مدرسة اللغات". ييغآل الإسرائيلي كان معنا، تبادلنا أحاديث سريعة وتعليقات عابرة على شيء هنا وآخر هناك. (ييغآل يتحدث الانجليزية بلكنة خاصة وجدت لها مثيلاً لدى سائق سيارة يهودي في حي مانهاتن بمدينة نيويورك. ييغآل معارض للاحتلال، سأقرأ له فيما بعد مقالات سياسية جيدة مترجمة إلى العربية، منشورة في بعض الصحف الفلسطينية) اشتريت فواكه وخضروات ولحوماً، وزجاجة عصير.
عادت بنا سيارة الفورد إلى السكن الجامعي. تناولت بعض الفاكهة. غسلت قميصي وتركته يجف على كرسي. (لم أستخدم الغسالة الأوتوماتيكية الموجودة في مكان خاص لاستخدام الجميع، لم أفكر باستخدامها ولم أسأل نفسي عن سبب ذلك!) هاتفت فندق الحجر الأسود في شيكاغو لعلني أعثر على غرفة شاغرة فيه، أخبرتني موظفة الفندق بعدم وجود غرف شاغرة.
قبل أن أتناول طعام الغداء، قرأت مدة ساعة في كتاب للمخرج السويدي إنغمار بيرغمان. هاتفتني البروفيسورة جين، ذات الشعر المصبوغ بالأزرق، المشرفة على ورشة الترجمة، (حينما تُعرّف نفسها، تقول إنها جين ذات الشعر الأزرق)، هي شاعرة شابة، حينما تنهض للتحرك نحو مكان ما، تمضي إليه راكضة كما لو أنها لم تخلق للمشي. أخبرتني جين أن ثمة طالبة في الجامعة، تعرف العربية وكذلك العبرية، على استعداد للمشاركة معي في ورشة الترجمة، لترجمة بعض قصصي من العربية إلى الانجليزية.
تهيأت للذهاب إلى ورشة الترجمة. وجدت ورقة تمّ قذفها من تحت الباب. إنها قصيدة كتبتها كانغ باللغة الكورية، ثم ترجمتها إلى اللغة الإنجليزية لكي أتمكن من قراءتها. (عرفت فيما بعد أنها جاءت ودقت على باب غرفتي ولم أسمعها، قذفت القصيدة من تحت الباب، ثم ذهبت إلى ورشة الترجمة)
ركبت الحافلة ووصلت الجامعة في الوقت المحدد: الثانية والنصف بعد الظهر. التقيت الطالبة التي تعرف العربية والعبرية، اسمها إليزابيث، لها صوت ناعم خافت إلى حد ما، يغلف الخجل كلامها وحركاتها، ويمكن اكتشاف ذلك من اللحظة الأولى. اكتشفتُ كذلك (ما دمت معنياً بالاكتشافات إلى هذا الحد) أنها لا تعرف سوى القليل جداً من اللغة العربية، على رغم أنها تلقت دروساً فيها مدة عام، غير أنها، لقلة الاستعمال، أوشكت على نسيانها.
ذهبت بعد انتهاء وقت الورشة إلى مكتبة بريري لايتس، للقاء لانا موسى. جاءت في الوقت المحدد، جلسنا نتبادل الحديث بعض الوقت، ثم اقترحتْ أن نذهب إلى مقهى جافا هاوس. هناك وجدنا الكاتبة التركية أرنديز، والكاتب المولدافي فاسيلي ومعه الطالبة التي ستترجم له بعض كتاباته. وكذلك، الكاتبة الألمانية بياتريس (عمرها 21 سنة، نحيفة طويلة القامة، ذات جمال أخّاذ وجرأة لا تحتاج إلى اكتشاف!). المقهى كبير وفيه عدد غير قليل من الزبائن، هم في الغالب من المثقفين والطلاب. ثمة امرأة ستلفت انتباهي لكثرة ترددها على هذا المقهى، في الثلاثينيات من عمرها، تتأبط دوماً كتباً وأوراقاً. سأعرف أن لديها رغبة في أن تصبح كاتبة، غير أنها لا تفلح في كتابة شيء مقنع. مع ذلك فهي لا تمل ولا تكل، ولا يصيبها اليأس بأي حال!
شربنا شاياً، وظلت لانا موسى مصرة على مساعدتي في الترجمة. لم أقل لها إن فتاة أخرى ستضطلع بالدور نفسه، كي لا تنكسف. خمّنت أنها لن تستطيع القيام بالمهمة الموكولة إليها، وستقلع عنها بعد وقت. غادرنا المقهى، أوصلتني لانا في سيارتها إلى السكن الجامعي، أوقفت السيارة في مكان ممنوع، صعدت معي إلى الغرفة لاستلام بعض نصوصي القصصية التي رغبتْ في إلقاء نظرة أولى عليها، تأملتْ محتويات الغرفة ببراءة، اقترحتُ عليها أن أغلي لها كأساً من الميرمية، قالت إن وقتها لا يسمح بذلك، بدت قلقة على سيارتها، قدمتُ لها صحناً من الفاكهة، تناولت تفاحة، ثم غادرتني وهي تؤكد على تدبير آلة كاتبة لي للكتابة عليها. (لم أكن أتعاطى مع الكمبيوتر حتى ذلك الوقت!)
لم أطق البقاء في الغرفة. غادرت السكن الجامعي من جديد لحضور ندوة في مكتبة بريري لايتس. وجدت الكاتب الفيتنامي هاي والكاتب البورمي مينت، يتأهبان للذهاب إلى المكان نفسه، ذهبنا معاً سيراً على الأقدام.

6

لم أشارك في الرحلة المقررة إلى البحيرة، لأنه كان يتعين عليّ أن أصحو مبكراً، فلم أفعل. كانت لانا موسى قد وجهت ليلة أمس دعوة لي على الهاتف لتناول طعام الغداء في بيتها، ثم ألغت الدعوة في الصباح بسبب انشغال طارئ لديها! (سأكتشف لاحقاً أن هذا طبع ثابت يلازمها، توجه الدعوات ولا تلتزم بالتنفيذ، وهي لا تفعل ذلك عن قصد. طبيعتها المتسرعة وبراءتها الزائدة تمليان عليها مثل هذا السلوك. وعدت بأن تعرفني إلى والديها حينما يأتيان لزيارتها، ولم تنفذ وعدها!) وجدت ورقة تحت باب غرفتي. إنها من كانغ، فيها ترجمة إلى اللغة الكورية لواحدة من قصصي القصيرة جداً عنوانها "رحلة". قرعت باب غرفتها في الثانية عشرة ظهراً، وجدتها ما زالت هناك، اتفقت معها على الذهاب إلى معرض الفنون في الساعة الثانية.
المعرض لا يبعد كثيراً من السكن الجامعي، والطقس صيفي حار. في المعرض لوحات فنية لرسامين أمريكان ولرسامين من بلدان أخرى، فيه تماثيل من إفريقيا وأمريكا اللاتينية. أعجبتني لوحات رسام وشاعر أمريكي هو: والدين كين، فيها تجريد محبب، رسمها في الأربعينيات والخمسينيات من القرن العشرين، ثم يبدو أنه انتحر، إذ لم يعثر أحد على جثته.
غادرنا المبنى الكبير. كنا متعبين من كثرة التجوال في صالات المعرض. استلقيت على الحشائش الخضراء في الفسحة المحاذية للنهر طلباً لشيء من الراحة، اكتفت كانغ بالجلوس إلى جواري، كانت هادئة ينمّ كلامها عن طيبة مفرطة. ثرثرنا بما فيه الكفاية، ثم انطلقنا إلى مكتبة بريري لايتس. تركتُ كانغ تبحث عن كتاب للرحلات الداخلية في مدن أمريكا، وذهبتُ إلى محطة الحافلات. حجزتُ مقعداً للسفر إلى شيكاغو في الساعة الحادية عشرة من صباح الأحد، ثم عدت إلى المكتبة. وجدت كانغ ما زالت تبحث عن كتب، توقفت عن البحث وصعدت معي إلى المقهى التابع للمكتبة، شربنا شاياً ثم ذهبنا مسرعين إلى قاعة السينما التابعة للجامعة.
شاهدنا فيلماً يتحدث عن طفل يتصرف باعتباره بنتاً، ما أثار أعصاب أمه وأبيه. أخيراً، تركاه يتصرف على النحو الذي يريده. الفيلم ظريف وفيه مواقف مضحكة، وهو مثير للأسى، لأن المصير الإنساني هش مربك!
الحافلات لا تعمل هذا اليوم في اتجاه السكن الجامعي بسبب العطلة. تهنا في الطريق، ثم اهتدينا إليها بعد استفسارات. الشوارع هنا متشابهة، وكذلك البيوت.
ودعت كانغ عند باب غرفتها، غير أنها طلبت مني الورقة التي ترجمتْ فيها قصتي، كي تعمل عليها أثناء غيابي. جاءت معي إلى غرفتي، قرأت لي القصة باللغة الكورية. شعرتُ بأن إيقاع الكلمات سلس، وبدت كما لو أنها تقرأ شعراً. أخذت الورقة وغادرتْ غرفتي بعد دقائق.
تمددت على السرير أتابع برنامجاً يبثه التلفاز عن التعذيب في بلدان العالم الثالث، غفوت أثناء ذلك. نهضت من غفوتي في حوالي الواحدة بعد منتصف الليل. هيأت حقيبتي للسفر، ثم حاولت النوم من جديد.
يتبع...



#محمود_شقير (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مدن فاتنة وهواء طائش/ أيوا البحث عن إيقاع ما
- مدن فاتنة وهواء طائش/ يوم الورود في أمستردام
- مدن فاتنة وهواء طائش/ أيام هادئة في مولدي
- مدن فاتنة وهواء طائش/ رام الله التي هناك
- قالت لنا القدس/ شهادة: أنا والمدينة18
- قالت لنا القدس/ شهادة: أنا والمدينة17
- قالت لنا القدس/ شهادة16
- قالت لنا القدس/ عن القدس وبرلين15
- قالت لنا القدس/ عن بيت السكاكيني14
- قالت لنا القدس/ عن الفنان عادل الترتير
- قالت لنا القدس/ عن الفنان المسرحي فرنسوا أبو سالم12
- قالت لنا القدس/ عن المدينة والثقافة والتراتب الاجتماعي11
- قالت لنا القدس/ عن شارع صلاح الدين10
- قالت لنا القدس/ عن الحياة الثقافية في المدينة9
- قالت لنا القدس/ شارع الزهراء8
- قالت لنا القدس/ عن العمران وضواحي المدينة الآن7
- قالت لنا القدس/ عن مقاهي المدينة6
- قالت لنا القدس/ عن القدس ونزعة الترييف5
- قالت لنا القدس/ عن الشبابيك4
- قالت لنا القدس/ عن نساء القدس3


المزيد.....




- أفلام كرتون طول اليوم مش هتقدر تغمض عنيك..  تردد قناة توم وج ...
- بدور القاسمي توقع اتفاقية لدعم المرأة في قطاع النشر وريادة ا ...
- الممثل الفرنسي دوبارديو رهن التحقيق في مقر الشرطة القضائية ب ...
- تابع مسلسل صلاح الدين الايوبي الحلقة 22 .. الحلقة الثانية وا ...
- بمشاركة 515 دار نشر.. انطلاق معرض الدوحة الدولي للكتاب في 9 ...
- دموع -بقيع مصر- ومدينة الموتى التاريخية.. ماذا بقى من قرافة ...
- اختيار اللبنانية نادين لبكي ضمن لجنة تحكيم مهرجان كان السينم ...
- -المتحدون- لزندايا يحقق 15 مليون دولار في الأيام الأولى لعرض ...
- الآن.. رفع جدول امتحانات الثانوية الأزهرية 2024 الشعبتين الأ ...
- الإعلان الثاني.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 158 على قناة الفجر ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود شقير - مدن فاتنة وهواء طائش/ أيام متعاقبة