أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نوال السعداوي - الدوسيه الضائع .. قصة قصيرة















المزيد.....

الدوسيه الضائع .. قصة قصيرة


نوال السعداوي
(Nawal El Saadawi)


الحوار المتمدن-العدد: 7729 - 2023 / 9 / 9 - 22:15
المحور: الادب والفن
    


---------------------------------
دقت الساعة التاسعة صباحاً ، حينما كان الدكتور خالد سليم في الممر الطويل الضيق المظلم ، الذي يقود إلى حجرة الأرشيف ، وبين شفتيه سيجارة لم يشعلها بعد ، وفى نظراته كآبة حبيسة لم تجد طريقاً إلى الانطلاق..
وأخرج من جيبه الكبريت وأشعل السيجارة ، ثم القى بعود الكبريت على الأرض الأسفلت، وهو يلعن هذا الممر المظلم الكئيب ، الذي قاده الله الحظ السيئ.. منذ ثلاثة شهور ، يأتي صباح كل يوم، ويتحسس بقدميه درجات السلم المتهدمة ، حتى يصل الى الممر الضيق الطويل كأنه سرداب في بطن الأرض، ويرى " الدولاب " المعدني الذي يرتكن على الحائط اليمين، والنضد الخشبي الذى ُوضع الى اليسار، ثم الباب المغلق إلى اليسار أيضا، ولا يعرف لماذا هو مغلق ، وإلى أى سرداب يقود..
وأخيرا يأتي الباب المفتوح عن اليمين ، وعليه لوحة نحاسية صغيرة كُتب عليها
" الأرشيف ".
وتنهد الدكتور خالد وهو يدخل من الباب الصغير ، إلى حجرة مظلمة رطبة، يبتلع نصف مساحتها تقریبا ، دولاب خشبي كبير له ، أرفف كثيرة تخفى عدد لا يحصى من الدوسيهات، ويشغل النصف الآخر مكتب خشبي كبير، أسود اللون، ينوء تحت أكوام من الدوسيهات. ومن خلف هذه الأكوام ، يظهر رأس محفوظ افندى ، موظف بنظارته السميكة البيضاء وشعره الأبيض. يرتكن على جسد نحيل يغرق في بدلة واسعة قديمة كأنها ُصنعت له منذ عشرين أو ثلاثين عاما ، حينما كان شاباً ممتلئ الجسد لم تنحل وبره السنون بعد.
وكان محفوظ افندى كعادته يكتب شيئاً ، حينما دخل الدكتور خالد.. انقصت ثلاثة شهور بأكملها ، والدكتور خالد يأتي الى هذه الحجرة صباح كل يوم ، ولا يرى محفوظ أفندى ، الا هو جالس يكتب ونظارته البيضاء السميكة ، تتدلى على أرنبة أنفه فيخيل إليك في تلك اللحظة ، أنه لا يرى شيئاً إلا أنفه . لكنه حينما يرفع رأسه ويبريش بعينيه في القضاء ، ثم يقول بصوته الرفيع : " أهلا دكتور خالد اتفضل " ، تعرف في هذا الوقت أنه قد يرى شيئاً آخر.
وجلس الدكتور خالد كما تعود أن يجلس على الكرسي الخشبي الوحيد في الحجرة، باستثناء كرسى محفوظ أفندى بالطبع إذ له ثلاثة أرجل فقط تركه محفوظ افندى جانبا لمن تسوقه المقادير لينزل ضيفا عليه.
وأسند الدكتور خالد الكرسى إلى الحائط ، وجلس عليه بمهارة اكتسبها بعد خبرة ثلاثة أشهر، وقال الدكتور خالد جملته التقليدية : " صباح الخير يا محفوظ افندى، خير ان شاء الله ، يا ترى لقيت الدوسيه ؟." وتململ محفوظ افندى فى كرسيه ، وهو يفرك يديه وقال بصوته الرفيع : " أبداً والله يا دكتور خالد .. أنا مش عارف الدوسيه ده راح فين ، كل يوم أفرز الدوسيهات ، اللى سيادتك شايفها دى ، اللي فى الدولاب الكبير ده، الدوسيه بتاعك مش باين أبداً، حاجة غريبة ، زى ما يكون خده ، بسم الله الرحمن الرحيم أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وأخرج محفوظ أفندى مسبحة صفراء من أحد أدراج مكتبه، وأخذ يبسمل على كل حبة من حباتها ، ويصلى على النبي ، ثم انتهى منها بعد دقائق وأعادها في خشوع الى الدرج ، والتفت الى الدكتور خالد وقال: " أنا رأيى يا بيه تيجى هنا بكره يمكن ربنا يكون سهل واعترعلى الدوسيه ده هنا " .
وقال الدكتور خالد ، وهو ينفث دخان سيجارته في أسى :
" ولا بكره ولا بعده، خلاص ما فيش فايدة " .
واهتزت نظارة محفوظ افندى ، وهو ينفعل قائلا: " لا يابيه ما تقولش كده ، مافيش حاجة بعيدة على ربنا أبدا.. ربنا قادر على كل شئ ، مين يعرف بكره تيجى تلاقى الدوسيه ظهر فجأة كده على وش الدوسيهات. والإنسان لازم ما يفقدش الأمل فى ربنا بسرعة كده يا دكتور".
وقال الدكتورخالد وهو ينفخ : " بسرعة ؟! يا شيخ حرام عليك ، مش مكفيك ثلاثة أشهر باجى هنا كل يوم.. ثم ان ربنا ماله يا أخى ؟ " . وكأنما أطلق الدكتور مقذوفاً نارياً فى وجه محفوظ افندى ، أو فجر في جسده قنبلة يدوية ، فانتفض محفوظ افندى على كرسيه ، وارتج جسده النحيل داخل البدلة الواسعة وقال : " أستغفر الله العظيم ، أستغفر الله العظيم.."
ثم التفت الى الدكتور خالد وقال فى عتاب ولوم شديدين: " ربنا ماله ؟ بقى ده کلام تقوله يا دكتور" ؟
وانفجر الدكتور خالد غاضباً:
" هو أنا قلت حاجة على ربنا يا أخينا ؟.. أنا ما كفرتش ولله الحمد ، وان كانت المصيبة دى تكفر اللى عمر ما كفر".
وقال محفوظ أفندى فى بلادة : " مصيبة ايه كفى الله الشر ؟ ".
وشد الدكتور خالد شعر رأسه ، وصاح قائلا: " بقى أنت لسه مش عارف مصيبة ايه ؟. مصيبتي ! مصيبة الدوسيه. الدوسيه اللي لابس طاقية الاخفاء ، مصيبة البعثة اللي حتروح مِني !" آ
وبربش محفوظ ببقايا عينيه ، المتأكلين من وراء الزجاج السميك وقال : " بعثة ايه يا دكتور؟ " . ويرد الدكتور خالد: " بعثة أمريكا عشان آخد الدكتوراه ".
واندهش محفوظ افندى ، واتسعت المسافة الرفيعة الضيقة بين جفنيه ، وقال: " تاخذ الدكتوراه ؟! ... هو أنت لسه ما خدتهاش ؟ .. أمال اسمك الدكتور خالد ليه ؟ ".
وهز الدكتور خالد يديه فى زهق وقال: " لا ده موضوع شرحه يطول، المهم ان ضياع الدوسية حيضيع علىَ البعثة ".
وقال محفوظ افندي في غباء : " ليه يابيه ؟ ".
ووقف الدكتور خالد وقد نفد صبره وقال: " أوف! ربنا يطِولك ياروح! " .
تلفت حواليه في حيرة ، وقال يخاطب نفسه : " وبعدين! الدوسيه ضاع! مش معقول ! والبعثة! آخ ياني! ".
ونظر إلى محفوظ افندى ، يحاول أن يفتش في جزء منه عن قبس من الأمل ، في العثور على الدوسيه. لكنه وجده وقد انكفأ على الشئ الذي يكتبه دائماً ، ونظارته السميكة متدلية على أذنه ، وكأنه نسى وجوده تماماً..
وخطرت للدكتور خالد فكرة وهو واقف هكذا ، فانتعشت روحه بعض الشىء، وخلع سترته ووضعها على الكرسى الخشبي ، وشمر عن ساعديه ، وبدأ يفرز بنفسه الدوسيهات واحداً واحداً ، ومحفوظ أفندى غالب عن العالم في الشئ الذى يكتبه.
وانقضت ساعات ، والدكتور منهمك فى البحث ، حتى تصيب منه العرق وشعر بألم فى أصابع يديه . لكنه كان متحمساً ، يعمل بأمل جديد أنقذه من الشعور الكئيب باليأس.. وانتهى من الدوسيهات التي فوق المكتب ، فانتقل الى الدوسيهات المتراصة فى الدولاب ، وأعمل فيها البحث والتفتيش.
ولم يجد شيئاً .. وعاد متعباً يائساً ولبس سترته وجلس على الكرسى بعد أن أسنده إلى الحائط ونظر فى أسى إلى محفوظ أفندى وقال :وحاجة تطير العقل الدوسيه بتاعى مش هنا ! "
وتهلل وجه محفوظ افندى وقال: " عشان تعرف إني ما كدبش أبداً، وأنا عارف شغلى كويس خالص ، وحافظ الارشيف ده ورقة ورقة، ده أنا بقى لى خمسة وثلاثين سنة فى الشغلة دى يا دكتور.." . وأطرق الدكتور خالد في حيرة وأسى، ونظر محفوظ أفندى الى النافذة ثم صاح : " ياه ! ده الشمس راحت من فوق الحيطة اللى جنبنا.
ونظر الدكتور في ساعته ثم قال : " اثنين ونص.." .
وشد محفوظ أفندى نفسه من فوق الكرسي بصعوبة ، وقال وهو يتأوه : " آه يا كعبى الشمال.. شوف يا دكتور أنا اديت الحكومة نص ساعة زيادة من وقتى .. لكن معلهش أنا مش بادقق ، ربنا قال أعمل الخير وارميه البحر.. اه يا كعبى الشمال ، الروماتيزم یا دکتور تاعبنى خالص، أعمل له ايه بس ؟ ".
ونظر الدكتور إلى كعب محفوط أفندى ، فى حركة آلية يفعلها أي طيب حينما يتأوه إلى جانبه مريض ، ويشكو من جزء في جسمه.. ورأی الدكتور شيئا على الأرض ، ولم يصدق عينيه أول الأمر.. فأغمض عينيه وفتحهما ، ثم أعاد النظر مرة ومرتين وثلاثاً .. ولم يشعر إلا وهو يقفز من فوق كرسيه كالمجنون ، وصاح في وجه محفوظ أفندى قائلا : " ايه ده ؟ ".
ونظر اليه محفوظ أفندى فى تعجب ، وقال في بلادة : " كعبى" . وقال الدكتور:" ايه اللي تحت كعبك ده ؟ " .
وقال محفوظ أفندى وهو يأخذ مسبحته من الدرج ، ويغلق أدراج مكتبه :
" ولا حاجة.. دول شوية دوسيهات ، حطيتهم تحت كعبى يحوشوا عنى رطوبة البلاط " .
وأخرج الدكتور الدوسيهات من تحت المكتب ، وفرزها بسرعة ، ثم تهلل وجهه فجأة ، وهو يمسك بأحد الدوسيهات ، وصاح :" آهه ! الدوسيه بتاعى يا راجل يا مجنون، بقى تدوخني ثلاث شهور ، والدوسيه بتاعى تحت رجليك ! مستقبلى كله تحت رجليك ! أما معتوه صحيح! ".
وبربش محفوظ أفندی من تحت نظارته السميكة ، وقال فى برود: " اسکت یا دکتور ، اسکت ده ربنا".
وقال الدكتور في دهشة : " إيه ؟ ربنا قالك تحط الدوسيهات تحت رجليك.. "
وحرك محفوظ أفندى حبات مسبحته في خشوع ، وقال: " لا يا دكتور، ده ربنا زى ما قلت لك ، قادرعلى كل شئ، مش قلت لك إن ربنا يمكن يظهره كده فجأة ، على وش الدوسيهات .. يا سلام ياما أنت كريم يارب " .
-----------------------------------------------------
من المجموعة القصصية : حنان قليل 1958
-----------------------------------------------------



#نوال_السعداوي (هاشتاغ)       Nawal_El_Saadawi#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الكوافير سوسو قصة قصيرة
- الأنف .. قصة قصيرة
- من أجل منْ ؟ قصة قصيرة
- الشئ الصعب .. قصة قصيرة
- المقال.... قصة قصيرة
- الفراعغ .. قصة قصيرة
- قصة من حياة طبيبة
- ومات الحب .. قصة قصيرة
- العطش .. قصة قصيرة
- الرجل ذو الأزرار قصة قصيرة
- الكذب ... قصة قصيرة
- حينما أكون تافهة ..... قصة قصيرة
- مجرد صورة .... قصة قصيرة
- ليست عذراء ... قصة قصيرة
- نُظر ويُحفظ .. قصة قصيرة
- الطريق
- كرامة .. قصة قصيرة
- حنان قليل .. قصة قصيرة
- يقولون عنى فاسدة ...... قصيدتان
- الأغنية الدائرية


المزيد.....




- مصر.. وفاة المخرج والسيناريست القدير عصام الشماع
- الإِلهُ الأخلاقيّ وقداسة الحياة.. دراسة مقارنة بين القرآن ال ...
- بنظامي 3- 5 سنوات .. جدول امتحانات الدبلومات الفنية 2024 الد ...
- مبعوث روسي: مجلس السيادة هو الممثل الشرعي للشعب السوداني
- إيران تحظر بث أشهر مسلسل رمضاني مصري
- -قناع بلون السماء-.. سؤال الهويّات والوجود في رواية الأسير ا ...
- وفاة الفنانة السورية القديرة خديجة العبد ونجلها الفنان قيس ا ...
- مطالبات متزايدة بانقاذ مغني الراب الإيراني توماج صالحي من ال ...
- -قناع بلون السماء- للأسير الفلسطيني باسم خندقجي تفوز بالجائز ...
- اشتُهر بدوره في -أبو الطيب المتنبي-.. رحيل الفنان العراقي عا ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نوال السعداوي - الدوسيه الضائع .. قصة قصيرة