أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عباس مدحت البياتي - عصير الرمان















المزيد.....


عصير الرمان


عباس مدحت البياتي

الحوار المتمدن-العدد: 7698 - 2023 / 8 / 9 - 09:56
المحور: الادب والفن
    


لأول مرة في حياتي أدخل مدينة (ج) الصينية، أو بالأحرى أدخل مدينة غريبة الأطوار بناسها وطبيعتها وقواعدها وقوانينها، حيث تختلف كليا عن مواصفات المدن الأخرى المعروفة بزحامها وشموخ بناياتها وتطور حِرفها وتنوع منتجاتها... لا أعرف السر في ذلك الاختلاف، لكن من النظرة الأولى يبدو لي عدم اهتمام الدولة والشركات بها، من الواضح إهمال الجانب العمراني فيها، حيث تتصف المدينة بقلة الأسواق، وغرابة الوجوه وضعف الاهتمام.
على الرغم من أني كنت قد دخلتها بالشكل الخطأ، بشكل عبثي غير متقصد؛ ذلك بعد أن أنحرف فكري عن أصل اتجاهه، فسلكت مسلكا مغايرا لما كنت أبغي، لتشعب الطرق وتداخلاتها من جهة، وتشابه الأسماء وجهلي باللغة الصينية من جهة أخرى، فاختلطت عليَّ تشابه الأحرف وأسماء المدن، فتهت بين مدينة (ج) التي دخلتها ومدينة (ح) التي كنت أقصدها.
للتشابه الدقيق برسم الأحرف؛ انحرفت عجلة التكسي بي مع انحراف مسار فكري، أودت بي في دروب معرجة نحو عمق المتاهة، فلم أشعر بذاتي إلا وأنا في وسط مدينة نائية، عبثية، غريبة الأطوار، منعزلة، شبه ميتة.. فقادني الفضول لأكتشف حيثياتها قبل أن أعود أدراجي حيث ابغي.
حين دخلتها لمست غرابة لونها الرمادي، اختلاف أجناس ناسها. ربما لنأيها وبعدها وانزوائها؛ حتى أني توقعتها لا تنتمي للحوض الصيني بشيء، تلك المشبعة بالفتنة وغرابة العمران وتنوع الألوان وتطور التكنولوجيا وزحمة الأسواق.
وجدت أبنيتها عادية جدا، بسيطة جدا، قديمة جدا، خربة، لا تشبه نمط أبنية الصين الشاهقة والمعروفة. أسواقها تخلو من الزخم البشري وتنوع البضاعة، فلم أرى فيها ما يسرني ولا ذلك الموج الهادر المتدفق من البشر الذي يروج كتسونامي رائج في الشوارع. ولا هجست بجاذبية اسواقها كتلك العامرة المكتظة بالمنتجات المنوعة. لم المح ناطحات سحب ولا أبراج ضخمة، ولا غرابة المأكولات ولا تنوع المطاعم ولا فنادق فيها كما هي الصورة المعروفة عن الصين...ولا شيء مبهج فيها من أمور الحياة.
إذا لابد وراء ذلك من سبب أعطاها صفة الإهمال تلك، كأنها قد تخلت عنها الدولة والصينيون والتجار، كأنها نحى عنها الشرفاء فوقعت أسيرة الظرف والنأي والتهاون والتفريط.
أشعر بأن عدد نفوس المدينة أقل بكثير من نفوس أية قرية قابعة بجوارها، لقلة الناس المتجولون في الشوارع والعاملون بمرافق المدينة. ما شاهدته بأم عينيَّ؛ لن يزيد عدد المتجولين في الأسواق عن بضع أفراد من البشر، كأنَّ المدينة على ما هيَّ مهجورة، منبوذة، إلا من بعض المارقين والمستفيدين الذين تقطعت بهم السبل، فباتوا ظالعين في طرقها وأزقتها كالحمقى والمشردين.
كما أني لمست ملامح الوجوه لا تنتمي لتلك الوجوه الشاحبة ذوات العيون الصغيرة والأجفان المسحوبة، والتي تفترش وجوههم أنوف فنطاسيه وأفمام عريضة. وكأن الوجوهٌ مركبةٌ من خليط متداخل من أجناسِ والألوان إلا ما ندر، أشعر بها مدينة لا تمت بصلة للعرق للصيني البتة.
وقد أوعزت ذلك إلى أنها دولة كبيرة مترامية الأطراف، فيها شعوب وأقليات وأجناس مختلفة، فاختلط عليَّ الأصل والصورة، فالدولة يقطنها أكثر من مليار وربع من البشر.
خلال تجوالي في شارع قديم شبه خال من البشر يتمركز وسط المدينة؛ راقت نفسي أن أشرب كأسا من عصير رمانٍ معروضٍ في قوارير شفافة في صدر كافتيريا ج، والتي تدل عليها قطعتها المشعة بضوء الفلورانس، وددتُ أن أروي ظمئي بقدحٍ من ذاك العصير القرمزي المبهج للنفس، لجاذبيته ورونقه وزهو لونه وطريقة عرضه. كان معروضا في قوارير زجاجية نظيفة، لماعة، مصفوفة على رف جانبي، موضوعة على مسار الطريق العام الذي كنت أتجول فيه، بحثا عن فندق في وسط المدينة يأويني.
للسعة الحر في ذلك اليوم من شهر حزيران، وصفاء لونه القرمزي الناصع، ودقة تكوينه وطريقة تصنيعه بمكينة إلكترونية حديثة؛ لم استطع أقاوم ظمئي، حيث أني لم أشهد شبيها له، فرغبت أن أروي نفسي كأس منه، وبشيء من الاشتهاء ودناءة النفس.
طلبت من البائع قدح عصير، فطلب مني أن أدفع قيمته عبر مكينة حسابة النقود الآلية الموضوعة أمامي.. حينها وجدت سعر قدح العصير معروض بأربعة ماوات، فأعطيت البائع ورقة نقدية بقيمة خمسة ماوات، لكنه أبا أن يتقبلها مني، معزيا ذلك إلى أن الآلة لا تتقبل أن تأخذ أكثر من قيمة العصير، وليس مسموح للبائع أو( الكاشير) صرف الأوراق النقدية مخالفة للقواعد، حفاظا على سمعة المحل من الابتزاز والتحايل والسرقة.
ولتسهيل للأمر؛ عرض عليَّ ورقة إعانة مطبوعة بمكينة جانبية خصصت لهذا الغرض، طالبا مني أن أدفع قيمة العصير في البنك الخردة، مصدقا تلك الورقة في البناية التي تلي الكافتيريا، وذلك على حسب ما أشار إلي الكاشير. ثم أعيدها له كي يكون في مأمن من التلاعب، وكي يستطيع مساعدتي وتقديم قدح من العصير لي، مقابل ختم تصديق البنك.
بتلك الطريقة يمكنني أن أستلذ بشراب ذلك العصير الطبيعي الذي تاقت له نفسي لمنظره الزاهي الجذاب، المثلج.
أخذت الورقة منه، ولشدة رغبتي بالعصير ولسعة حر؛ زدت همة في البحث عن بنك الخردة، لأطفئ شرر ظمأي ولظى الحر المشوب في ثنايا الجسد بطعم ذلك العصير المنكه.
مضيت أبحث عن البنك في تلك الطريق الخالية من البشر إلا ما ندر، لا اعرف حقيقة اتجاهي، صرت أسأل ذاتي المأسورة؛ ترى أين ذهب شعب المليار نسمة؟ ألا يوجد من يرشدني لغايتي؟
خلال سيري صادفت طفلا محمر الوجه، يبدو عليه تلميذ مدرسة وهو يحمل حقيبة على ظهره؛ سالته قائلا:.......
- بالله إلا تدلني أين يقع بنك الخردة، لقد أحترت في العثور عليه، أود تصديق هذه الورقة.
في البداية تحمس لمساعدتي، وعندما قرأ الورقة أرشدني إلى رجل أسمراني اللون كان يمشي خلفي.
اتجهت إلى ذلك الرجل الثلاثيني، ران لمساعدتي، سايرني ذلك الرجل وكأنه ود اكتشاف مخزون جيبي من النقود، حتى أظلَّني وأوصلني لمكان يبتعد بحدود مائتي متر عن أصل المكان الأول، اجتزنا خلالها زقاق قديم وواد عريض، تمر به جادة قديمة، متكسرة البلاط.
عندما عجز عن معرفة ما أملك؛ تركني في تلك البقعة دون أن يبين لي موقع البنك، تركني أتلفت يمينا وشمالا بلا إرشاد، في الوقت الذي به عجز عن لوي ذراعي واستلاب ما في جيبي. كأنه التمس شدة حذري وخوفي منه.
بعد معاناة وجيزة صادفت رجلا أربعينينا يرتدي نظارات سوداء وسترة صيفية أنيقة بذات اللون لتوائم لون نظارته، كان شبه كفيف البصر، مستندا في مشيه على ذراع شاب عشريني يرافقه.
لكياسته ووقاره الدال عليه منظره؛ تيقنت من استقامته ونبل اخلاقه، تلك ما دلت عليه هيئته التي تختلف عن الذوات الذين التقيتهم قبل لقائي به. من مظهره اللائق وشعر رأسه المجعد وساعة يده الباهظة، هجست به رجل متمكن، مغتن.
اتجهت إليه طارقا بابه، سألته أرشداي طريق بنك الخردة.. يبدو ذلك الشاب الذي كان معه أبنه، لتشابه الملامح بينهما..
. وبمجرد أن سالته فاجئني بسؤال غريب:....
- هل معك حقيبة؟
- كما تراني لا أحمل حقائب، مجرد أريد ختم هذه الورقة، لأشرب عصير الرمان... ترى أين يقع بنك الخردة؟ لقد تعبت من البحث عنه.
- ماذا تقول؟؟.... البنك وقع!...هل وقع البنك فعلا؟ متى وقع.. متى حصل ذلك؟
- يا أخي ما بك تؤول الكلام، لقد سألت أين يقع البنك، لم أقل بأنَّ البنك قد وقع. والحقيقة أنا لا أعرف سر هذه الورقة، كل من يراها يتوقعها ورقة نقدية بمليون يوان، وهي بقيمة أربعة ماوات فقط.
- كم قلت ؟.... مليون؟؟؟؟ لا لا لا مستحيل، لقد شممت رائحة المليون، أأنت تحمل في جيبك مليون يوان؟ أين هي؟
- لا إله إلا الله، ما بك، جننت؟ عن أي مليون تتكلم؟ خذ الورقة وأقرأها لتفهم.
أخذ الشاب يقرأ الورقة، ثم أحاطاني من ابطيَّ.. حينها شعرت بنية الغدر في وجوههما، وبعد وشوشة دارت بينهما بلغة لم افهمها لازماني بحجة إرشادي، ومن ثم فضلا أن ينتظرا قليلا قرب منعطف في جهة الوادي المهجور. كانت الشمس قد أزفت ترتعش في انحدارها نحو دارة الغروب، قبل أن ينث الغسق رماده في الأفق، وذلك بعد أن تجاوزت خط الزوال الأخير قبل هنيهة زمنية.
حين سمعني الرجل أقول كلمة مليون، شك بمسعاي، وكردة فعل سريعة منه سألني: كم قلت؟ مليون؟ أأنت تحمل في جيبك مليون يوان؟.....
فسر كلامي بأني لا بد أن أكون من الميسورين، وخاصة لباسي ووجهي يدلان على أني ميسور الحال. طالما أنا غريب؛ فلابد أن أحمل في جيبي ما يعينني على السفر والمشاوير. لذا توقع بأني أمتلك هذا المبلغ طالما تفوهت بكلمة مليون، لأن الفقراء لا تطفح على ألسنتهم هذه الكلمة بتاتا، وأن طفحت ستطفح كبارقة رقمٍ في تصريف عدد، وليس كقيمة ما.
إذا أنا غني في نظر هذا الأعمى، ثم أنا غريب. لذا بذاتي كنت قد صنعت لهم فرصة استغلالي وسرقتي، الفرصة سانحة أمامهم، ولابد من اقتناص أنصاف الفرص، لأن الفرص لن تكرر ذاتها...... لابد من استغلال الظرف بكل ما فيه من شبك، طالما لا شيء يدل على أني إنسان عادي في نظر هؤلاء المجرمين.
ففي اللحظة التي كانا بها يبحثان عن الفرصة، كنت قد صنعتها لهم بتفوهي وعبثي الساذج، الغير مقصود. كأني حين كنت أسأل عن البنك، كنت أكشف لهم عن هويتي ومخزون جيبي. كنت أبين لهم طبيعتي وغربتي ليلتصقوا بي كالتصاق العلك بالحذاء.. لأن أهل البلدة لا يحتاجون إلى السؤال، فهم يعرفون أين تقع البنوك ويدركون كل شيء عن المدينة، لا ينحدرون لنزق الإرشاد.
بانزلاقي وضعت نفسي في صرة الشك ككنز مبهم، في بقعة خالية، يسهل بها الغدر وقنص السذج كيفما يشاؤون. حيث تنفيذ صفقة السرقة لا تحتاج إلى خبرة، وخاصة في بلدة مثل هذه البلدة النائية، لا تحتاج إلى إتقان ودراية، ولا إلى تخطيط وتمعن ونحن نقترب من ظلف المساء، والتي تشي إلى سهولة إتمام الصفقة بيسر تحت جنح الظلام.
في الحقيقة الفرصة متاحة أمامهم، بل بلمعانها باتت تستهويهم، وقد تكون فريدة من نوعها ولا تعوض في هذه المدينة. وأني كنت قد بلغت عن ذاتي، لأكون الهدف الذي يبحثون عنه دون عناء، ودون أن اقصد ذلك..
في حقيقة الأمر كنت أحمل في جيب سري مبلغ محترم من المال، كأنَّ حدسهم الشفيف كان في محله.. لذا طلب من الشاب ملازمتي، وهو الذي يظهر عليه من ذوات الخبرة في قطع الطرق وجز الجيوب، وقد بان لي محترفا في شخصيته.
حينها اكتشفت بأنهم من جماعة قطاعي الطرق ولصلصة الجيوب، من أصحاب السوابق المحترفين، لتزمتهم، واهتمامهم الكبير بشأني..
كان الشاب جلدا، قاسي الملامح، ناشف الوجه، حاد النظرات، صفاته تنم عن طابع غدر تطبع به. فيما ذات النظّارات السوداء كان خشنا، قويا، ذات شارب هتلري، يحمل تحت أبطه حقيبة صغيرة سوداء كتلك التي تستخدم كحافظات أوراق، فيما كان الشاب يعلق على كتفه الأيمن غرارة من الخيش، كحقيبة النساء يحمل فيها ادوات عملهم.
قال لي الشاب؛ الذي يبدو يحمل في يده مطواة صغيرة، مشيرا بيده إليَّ بصيغة الأمر.
- أجلس، أجلس هنا ولا تتحرك....
جلست ببقعة في منتصف الطريق، مستندا على جدار طيني من طوب اللبن يرتفع بعلو متر. جدار قديم، أثّرت على هيكله التعرية، الأمطار المسيلة أوشلت نضارة واجهته بزخارف كثيرة كمجموعة من الثقوب المعرة، كثلم عقارب وثعابين.
جلست وجلس ذات النظارات على يميني، فيما أمتد الشاب بيننا على ظهره، واضعا راسه في حجري، مركبا ساقيه فوق بعضهما البعض، ساحبا قدميه لطرف عجيزه بطوية زاوية قائمة. كان يرتدي قميصا شفافا بلون خضرة الحشائش وبنطلون جينز أزرق.
أخرج الشاب من حقيبته قلما جافا أبيض اللون، غريب الشكل، حيث تمكن من توريث راسه المدبب بقدحة زناده، أرتفع منه دخان أبيض، فيما كان طرفه الثاني يحتوي على نابض لين ( زمبلك)، أشبه بمحاية قلم الرصاص، بلون النيكل. قال لي بصيغة الأمر:....
- خذ دخن....
خوفا منهما وضعت رأس النابض على لساني، وإذ بي أشعر به كأنه قد أفرز سائلا غريبا في فمي، كزيت الخروع، أو مخدر آلام الأسنان.. بمجرد أن لامس لساني أنتشر قيح ذلك الزيت في فمي، هجست إلى جانب لسعته فيه برودة منعشة، عطر فمي برائحة قريبة من رائحة النعناع المنعش، كما شعرت بأن نفسي قد خارت واستهامت، فيما تراخى الجسد على وقع ذلك الطعم. هجست بحالة انتعاش انسابت في الذهن والجسد لبرهة.
شعور غريب راغت به النفس، لم أجربه من قبل.. حينها عرفت بأنَّها سيجارة الكترونية تحتوي على نوع من المخدرات، ود أن يوهمني بها ويذهب عقلي كي أقع فريسة سهلة بين أيديهم، كي لا أستطيع أن أنفذ بجلدي من قبضتهم.
لذا تجنبت أن أضع السيجارة في فمي بحجة قرفي منها؛ لألا أفقد ذهني ووعيي وتوازني، ربما أفقد كياني.
كنت أشبه بالمسطول وأنا قابع بين أياديهم، لا أعرف طريقا للخلاص والهرب، كنت منهمك في التفكير، أترقب الفرصة المتاحة لأنسلت من قبضتهم، أبحث عن الزلة بين طيات الزمن، أعيش حالة تجاذبات وشد نفسي، أقاوم بها القدر، متأملا أن أسحب نفسي من قيدهم وأهرب بذاتي، أو أخلق الفرصة لذاتي من واقع الظرف لأتمكن من الهرب.
بت أفكر في استغلال لحظة الغفلة، لأغرز رأس ذلك القلم في عين الشاب، عسى أن أفقئ عينه بضربة سريعة أفقده صوابه ووعيه، ثم أهرب دون أن يستطيع أن يلحق بي.
لكني شعرت بعضلات يديَّ خائرة القوى، لا تقدر على المجازفة، كأني مكبل بحبل لا أستطيع أن أجرد ذاتي منه، نتيجة الارتباك والهلع والخوف الكابد على صدري، فإذا ما فشلت في سعيي حتما سألاقي بئسٍ شديدٍ منهما.
فيما كان ذات النظارات ينظر إلي بعينيه الزائغتين كعيني مصاصي الدماء، بشاربه المحدد كشارب هتلر يزف الرعب إلى قلبي.
كنت أهجس في نظراته الجاحدة المركزة نية غدر.. أهجس به يود تجريدي من ملابسي، كان يراوغ في احتجازي، محاولا اكتشاف ما أخبئ في داخلي لأدفع لهما دية حريتي، والتي ربما لن أراها مرة أخرى.
في خضم تلك الحالة احتضرت إرادتي، هجست بنهايتي قد أزفت، أصبحتْ وشيكة على يد هؤلاء. أصابني شعور بالكسل والهلع، وأني لن أسلم على روحي من هؤلاء إذا ما جردت من ما أملك، لأنهم سوف لن يتركوا لجريمتهم أثر يتبع خُطاهم..... بإطلاق سراحي حتما سيعرضون أنفسهم للمسائلة والعدالة، حتما ستقبض عليهم الشرطة، ستلاحقهم المحاكم والعقوبات، لذا سيكون قرار التخلص مني ومن جثتي هو أسلم القرارات بالنسبة لهم، لينقذوا أنفسهم من براثن التهمة التي ستكيل بهم.
وأنا في تلك المخمصة من سخط العذاب والخوف والتشتت الفكري؛ ارتجيت رحمة الله أن تحضر لتحل خيوط العقدة التي التفت على رقبتي، تأملت أن يبزغ طارئ في الأفق يعينني، يستجيرني، لأتمسك بغرة عصفه، عسى أن أنقذ ذاتي من قبضة المجرمين.
وأنا في تلك الدوامة من التشتت الذهني؛ هجست بالقدر قد أستجاب لإرهاصاتي، فلم تمضي سوى دقائق على خطفهم واحتجازهم لي، حتى فاجأتنا عاصفة ترابية على حين غفلة، اُختلقت من ذلك السكون فوضى عارمة، عجة اخترقت صفوفنا، فتلت ضفيرة عصفها فوق رؤوسنا. لشدة وقعها وسلطانها، أرتقت غبرتها عنان السماء.
في تلك اللحظة كانت قد مرت شاحنة حمل من أمامنا، متجهة للجهة التي كنت قد قدمتُ منها..
مع انتفاض العاصفة أنتفض الشاب بعد أن رشقته حفنة من ذرات التراب ملِئت فاهه وأنفهه وعينيه. صار يشرع في معالجة أمره من لتعة العصف، بعد أن رغت الغبرة في فمه وعينيه، صار يسعل، يبصق، يفرك جفنيه براحة يديه، لقد أنشغل بمعالجة أمره. فيما ذات النظارات السوداء كانت قد سقطت نظاراته أرضا نتيجة المفاجأة الغير متوقعة، وبذلك دون أن يدري دعس عليها وحطم زجاجها، صار يدور في مكانه أشبه بالناعور، لا يستدل إلى منفذ، ولا يعينه منجد، ولا ماسك بناصية أمره.
حينها استغليت الفرصة التي صنعتها الرحمة لي، لأمسك بشاخص ممتد خلف تلك الشاحنة.. وبوثبة القط ارتقيت على حافتها، منقذا نفسي من براثن الأيدي الأثيمة، مدركا الجهة التي آوت إليها العجلة، وهي ذات الجهة التي كنت قد انحدرت منها آنفا.
من خلال تجربتي علمت بأن لا أثق بأحد وأن أمسك لساني في طرقي، وأن أترك عادة النقر على العلب الفارغة، يجب أن أكف التفوه عن أي معلومة تخصني.
ومن تجربتي تعلمت بأن البقعة وأن كانت صينية المنشأ؛ إلا أنها تحوي على الكثير من العقارب والثعابين، نتيجة خلطة الأجناس فيها، والتي كلا منها لها ثقافتها ومآربها الخاصة بها، بعيدا عن أعين السلطة.
رجعت لجهتي الأولى، بعد فترة تسكع ساعتين من المجازفة والمغامرة، لم أدرك خلالها بنك الخردة. حينها كانت الشمس لازالت متمسكة بذوائب النهار، تزحف ببطء نجو مرأبها.
حين وصلت إلى جهة الكافتيريا، دخلت فيها، ودت أن أرجع الورقة للكاشير الذي سلمها لي، حيث أحسست بأنه الوحيد الذي كان طيبا القلب معي، وإذ بي أفاجأ بأن الشخص الذي يجلس خلف الحسابة هو ذات الشخص الأسمر الذي أظلني وقادني إلى الجهة الثانية!..
حينها دون أن أسأله؛ خرجت من المكان مرعوبا، علمت بأن المجموعة عباره عن عصابة تدور حولي، متفقة مع بعضها، خبيرة في حقن إبر التخدير لفرائسها. فلم أعد أثق بمن يحيط بي، حينها وودت أن أرجع إلى المرأب وأعود من حيث أتيت.
وأنا في طريقي أشرت لعجلة تكس مارة بقربي في ذلك الشارع الذي أمشي به، وإذ بي أتعرف على صاحب التكسي، أنه هو ذات الشخص الكاشير الذي سلمني ورقة الأربعة ماوات..... توقف يمينا وبات ينظر إليَّ وأنا أرتعب منه..
تركته ماضيا أهف بخطوات قدمي نحو المرأب مشيا على الأقدام، لأني بظني حسبته هو المدير المدبر والمخطط لتلك العملية، والتي تمكنت من أن أنجي ذاتي منها بقدرة إلهية.
خلال سيري صادفني رجل عجوز سبعيني، أشيب الراس، في لبسه وهندامه الأنيق يبدوا لي مختلفا عما لاقيت من بشر، شعرت به أنه أكثرهم هيبة واحتراما ووقارا، فقلت في ذاتي دعني أسأله عساه أن يساعدني ويحميني، عساه يرشدني وينقذني من كماشة اللصوص الدائرة حولي. علما أن عجلة التكسي كانت تسير خلفي ببطء شديد، ما أن أتوقف تتوقف، ما أن أسير تتحرك وهكذا دوليك..
لذا قررت أن أستنجد بالرجل العجوز...فقلت له:...
- بالله يا عم أشعر بأن عصابة ما تلاحقني، وأنا غريب هنا، أود أن أخرج من هذه البلدة، هل لك أن تساعدني وترشدني إلى طريق المرأب؟
أجابني بكياسة وهدوء منقطع النظير قائلا:...
- أشرح لي ما هي مشكلتك وماذا جرى معك كي يمكنني مساعدتك؟
شرحت له بالتفصيل الممل ما جرى معي، من ورقة العصير ولغاية لقائي به...حينها قال لي:..
- يا أبني أنت دخلت في المدينة الغلط...أولا لا يوجد بنك في هذه المدينة! العمل كله كان مقصودا ضدك، العصير الذي رأيته؛ لم يكن عصيرا حقيقيا، أنه شراب مخدر. يجب أن تعلم بأنه لا يوجد شريف في هذه المدينة، هذه المدينة هي منفى للمجرمين والقتلة واللصوص والنصابين، لذلك تراها مهملة من قبل الدولة لا أحد يهتم بها، لكنها تعمل بشكل منظم ومنتظم، وبتخطيط عال.. طالما قد وصلت عندي فلا تبتأس ولا تخف، أنت وصلت لبر الأمان، فانا هنا المسؤول الأول عن هذه المدينة، أو بمثابة الرئيس المنتخب من قبلهم. لن يمسك أحدا بسوء طالما أنت معي....لكن مسألة خروجك من هنا مرهون بين يديك؟
- كيف يا عم؟ ألم تقل أنت الرئيس، هل ممكن أن توضح لي أكثر...
- نعم يا أبني، هناك قواعد مبنية عليها هذه المدينة لا أستطيع مخالفتها، وهي؛.... عليك أن تدفع نصف ما في جيبك حتى تسلم على روحك، ولو كان ماوا واحدا. هذه هي القاعدة التي نتعامل بها مع الغرباء. ونحن بهذه المبالغ ندير شؤون المدينة ومساعدة العاطلين والمرضى والعاجزين عن العمل.
لأن الدولة منعت عنا المساعدة، وقد آوتنا إلى هنا لتتخلص منا ومن جرائمنا. فان لم يكن هناك نظاما حازما يدير شؤون الناس؛ سوف تحدث فوضى، الأخ سيأكل لحم أخيه...
نحن نعمل كجماعة وليس كأفراد.... الذي أعطاك الورقة عرفك على العصابة بانك غريب، وأراد أن يشهرك بين المجرمين.. والذي أظلك؛ ود أن ينقلك لجهة التنفيذ، لجهة الجز والقتل والسلب.. وصاحب النظارات السوداء والشاب الذي معه، هما متخصصان في التخدير والقتل.. وهنا صدمتك شخصية صاحب التكسي، والحقيقة هو ضابط أمن المدينة.... صدقني لن تستطيع أن تخرج من هنا دون هذا الشرط، ربما يقتلونك ويسلبون كل ما في جيبك، ومن ثم يرمون جثتك على المزابل تنهشك الكلاب، حيث لا قانون يمنعهم من ذلك.
- ماذا تقول! أنه منفى لصوص ومجرمين؟ وهل أأنت منهم؟
- أنا كبرت على القتل والأجرام، أصبحت بلا قوة، لن أستطيع أن أعين نفسي، لذا انتخبت من قبلهم رئيسا للبلدة أدير شؤونها، فأنا الرئيس الفعلي للبلدة والقادر على إدارة أمنها، ولن ينفذ عمل فيها إلا بعلمي، هؤلاء لو سرقوك لأودعوا نصف المبلغ في خزينتي.
- طيب يا عم أنا موافق، والمبلغ الذي معي هو الفي يوان ومائة وسبعون ماو. هذا كل ما أملك.
- إذا حصتنا هي الف يوان وخمسة وثمانون ماو تدفعها الآن لي، وصاحب التكسي لازال واقف ينتظر أمري، كي ينقلك خارج البلدة.
لأنقذ نفسي من الكماشة التي طوقتني، اضطررت أن أدفع لهذا الرجل نصف ما أملك، حينها أستدعى صاحب التكسي أو بائع العصير الذي سلمني ورقة الأربعة ماوات، أو ضابط الامن كما أدعى الرئيس، طلبا منه أن يخرجني خارج دائرة الشك.
ثم التفت إلي قائلا لي بالحرف الواحد:...
- عليك أن تتعلم الدرس. غير مسموح لك مداولة ما جرى بيننا حفاظا على سلامتك، أو تسأله عن أي شيء صادفك في البلدة....تفضل مع السلامة.
هكذا سلبني نصف ما أملك وذهب في طريقه دون أن يبذل أي جهد.
ركبت مع ضابط الأمن أو الكاشير (بائع العصير) الذي قاد التكسي، ماضيا بي في متاهة من الطرق الوعرة، مارا بأمكنة مخيفة مليئة بالأحراش والالتواءات، وفجأة توقف قرب واد سحيق، شاهرا مسدسا بوجهي، قائلا لي:...
- أخرج ما تبقى في جيبك، ذاك هو من نصيبي، وإلا أأخذه منك بالقوة.
- ولكن الرئيس أتفق معي على النصف فقط!
- عن أي رئيس تتكلم؟ لا يوجد رئيس في بلد الوحوش، كل يعمل لمصلحته، ولكن دون تجني واعتداء فيما بيننا، هذا الذي أدعى بأنه الرئيس هو أكبر مخادع وأستاذا كبيرا في النصب والاحتيال، تمكن في لحظة ودون جهد من أن يسلبك نصف ما تملك.... أنت الذي اختصرت المسافة بينك وبينه وعرفت نفسك عليه. نحن نتبع الفرص، أو نصنع الفرص بالجرم والشعوذة والتخطيط.
فعلا أنه قال لا يوجد شريف في هذه المدينة، كنت أحسب الكاشير شريفا، طيبا، غير أنه خيب ظني، توقعت صاحب النظارات شريفا بان لي مجرما، حسبت العجوز شريفا فظهر مخادعا، ثعلبا، ماكرا، رغم اعترافه لي بذلك. ولكن ما العمل؟
- وكيف أضمن نفسي من أن لا تغدر بي وتسلمني لآخر؟
- أنت معي في سيارتي، بيدي فرصة قتلك أو إنقاذ حياتك، والدليل أنظر في الورقة التي أعطيتك إياها، أنها مكتوب فيها أسمي، فأي شخص يفلح في سلبك فأنه سيضمن حقي بنصف ما يسلبك.
هكذا بين لي نظام العمل بين المجرمين أخذا مني ما تبقى دون رحمة، ثم أوصلني خارج حدود المدينة. حينها قلت له؛ بالله سؤال أخير شغل بالي:....
- يا ترى؛ ذلك الذي في القوارير كان عصيرا أم مخدرا؟
- أنه عصير طازج وليس كما أخبرك الرئيس، ولكن الكافتيريا ليس مكانا للجريمة. الآن أذهب لتلك القرية أنت في أمان.
حينها رجعت أمشي في طريق العودة صفر اليدين، منهكا، مفلسا، جائعا، عطشا، حزينا، وبقي طعم ذلك العصير يدور في فلك لساني.



#عباس_مدحت_البياتي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- سراط القلوب


المزيد.....




- بعد أنباء -إصابته بالسرطان-.. مدير أعمال الفنان محمد عبده يك ...
- شارك بـ-تيتانيك- و-سيد الخواتم-.. رحيل الممثل البريطاني برنا ...
- برنامج -عن السينما- يعود إلى منصة الجزيرة 360
- مسلسل المتوحش الحلقه 32 مترجمة بجودة عالية قصة عشق
- -الكتابة البصرية في الفن المعاصر-كتاب جديد للمغربي شرف الدين ...
- معرض الرباط للنشر والكتاب ينطلق الخميس و-يونيسكو-ضيف شرف 
- 865 ألف جنيه في 24 ساعة.. فيلم شقو يحقق أعلى إيرادات بطولة ع ...
- -شفرة الموحدين- سر صمود بنايات تاريخية في وجه زلزال الحوز
- من هو الشاعر والأمير السعودي بدر بن عبد المحسن؟
- الحلقة 23 من مسلسل صلاح الدين الايوبي الحلقة الثالثة والعشرو ...


المزيد.....

- أبسن: الحداثة .. الجماليات .. الشخصيات النسائية / رضا الظاهر
- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عباس مدحت البياتي - عصير الرمان