|
شكل النظام الدولي الجديد
آصف ملحم
باحث وكاتب
(Assef Molhem)
الحوار المتمدن-العدد: 7692 - 2023 / 8 / 3 - 04:47
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
يتّفق معظم الباحثين على أنّ النظام الدولي، أو بشكل أوضح الجملة السياسية التي تشمل العالم كله، هو إطار فوضوي غير هرمي تتوزع ضمنه جمل (دول)، وهذه الجمل هي وحدات متشابهة وظيفياً. تتبادل الوحدات التأثير فيما بينها استناداً إلى قانون التآثرات interactions، أي التأثير والتأثير المتبادل أو مبدأ الفعل وردّ الفعل أو الحاجة والاستجابة، وفي الحقيقة لا توجد آلية أخرى لتشكّل العلاقات الدولية. وهكذا، تنشأ حالة من التنافس بين الدول، نتيجةً للاختلاف في الدوافع والتصورات والأهداف والتطلعات والموارد والإمكانات، وقد يتطوّر هذا التنافس ليصلَ حدَّ الصراع، أي المواجهة المباشرة والالتحام، أو في أسوأ الحالات الحرب. تقوم الدولة على مجموعتين من الأسس: المجموعة الأولى - أسس معنويّة: يمكن ترتيبها حسب تزايد سرعة تأثيرها وتناقص شدة التأثير كما يلي: 1- فلسفيّة: في هذا المستوى تتم صياغة نظرة الإنسان إلى الحياة والوجود والكون وإلى القيم العليا للجنس البشري، فهذه القيم تشكّلت عبر عصور مديدة من التطور والخبرة الإنسانية. 2- تاريخيّة: في هذا المستوى يمكن رؤية المُتَّجه العام لتطور الإنسان، فإرث الشعوب يحدّد منحى تطورها اللاحق، فالنّظر إلى الوقائع التاريخيّة يساهم في تحديد وعي الإنسان. 3- وقائعيّة: ترتبط بفهم حوادث الواقع، وهنا يبرز دور التعليم والإعلام في نشر المعارف والعلوم والثقافة والفنون والأديان، وبالتالي تكوين الشخص والمجتمع. المجموعة الثانية – أسس ماديّة يمكن ترتيبها أيضاً حسب تزايد سرعة تأثيرها وتناقص شدة التأثير كما يلي: 1- اقتصاديّة: ترتبط بإدارة حركة الأموال والبضائع، أي بمجمل العلاقات الاقتصادية بين الأفراد والدول. 2- صحيّة-جينيّة: وترتبط بالصحة الجسديّة للإنسان، وأثر المخدرات والكحول والتبغ وطرق الهندسة الجينية كأدوات في التأثير على صحة الأجيال القادمة ووعيها ورؤيتها للحياة. 3- عسكريّة: عناصر القوة في هذا المستوى كثيرة، أهمها: الجيوش، الشرطة وقوى الأمن الداخلي، التشكيلات العسكريّة، المجموعات الإرهابيّة والعصابات المسلّحة. بناءً على ذلك، تشكّل هذه الأسس الستة اتّجاهات للتأثير بين الأطراف الداخلة في حالات التنافس والصراع. فالاتجاهات الخمسة الأولى هي من أساليب الحرب الباردة، أما الأخير فهو من أساليب الحروب الساخنة. الآن يدور صراع في العالم، سيُفرز لاحقاً نظاماً عالمياً، لا يستطيع أحد أن يتكهّن بطبيعته أو أن يعطي توصيفاً دقيقاً له، ولكن يمكن أن نرسم الملامح العامة لهذا الصراع بناءً على المعطيات والمؤشرات المتوفرة بين أيدينا. أعتقد أنّ الاستئناس بما قاله رئيس جهاز الاستخبارات البريطانية سيساعدنا كثيراً في فهم ماهيّة الصراع، إذ كتب (مور) بعد يوم واحد من قيام العملية العسكرية الخاصة في حسابه على تويتر: مع الدمار والمأساة المتصاعدة بألم في أوكرانيا، علينا أن نتذكر القيم والحريات التي حصلنا عليها بشق الأنفس، والتي تميزنا عن بوتين، وهي ليست سوى حقوق الـ LGBT+. وهكذا، نحن أمام تيّارين أو نزعتين أو جبهتين أو معسكرين: الأول-تمثّله الليبراليات الغربية، سنسميه اصطلاحاً (الغرب). الثاني-تقوده بعض الدول الكبرى، كروسيا والصين والهند وإيران والعالم العربي وغيرها من الدول الآسيوية والأفريقية واللاتينية، سنسمّيه اصطلاحاً (الشرق). يكمن الخلاف بين هذين التّيارين في طريقة نظرتهما للفرد والمجتمع والعلاقة بينهما. إذ أن (الفردانية) تصبغ الليبراليات الغربية؛ فالفرد هو نقطة البداية في تحليل جميع الظواهر المجتمعية. ومارغريت تاتشر نفسها عبّرت عن ذلك أفضل تعبير عندما قالت: (لا وجود لهذا الشيء الذي نسميه المجتمع). تدعي الليبراليات الغربية بأن البشرية انتقلت من (مملكة الضرورة) إلى (مملكة الحرية)، وبالتالي فالمُتَّجه الوحيد للتاريخ هو الحركة نحو شكل من أشكال (التناغم أو الانسجام أو التوافق المتين غير المشروط). أما التيار الثاني فهو يدعو إلى تعزيز مؤسسات المجتمع والقيم المجتمعية التي تشكلت خلال (الطور الفطري الطبيعي) لتطور البشرية، أي في تلك الحقبة التي لم يكن لمنتجات التكنولوجيا تأثير على العلاقات بين أفراد البشرية؛ فالعلاقات الاجتماعية التي تبلورت في تلك الحقبة كانت متناغمة مع الطبيعة، بحركتها البطيئة والمتوازنة. وفي هذا السياق لا بد من الإشارة إلى نقطة في غاية الأهمية، وهي متوسط عمر الجيل ومتوسط عمر التكنولوجيا المسيطرة في المجتمع. فالانتقال من جيل إلى جيل يتطلب حوالي 20-25 سنة (من ولادة الأم إلى ولادة الطفل)، وهذه المدة ثابتة في تاريخ البشرية. أما الوقت اللازم للتحول من تكنولوجيا إلى أخرى فكان كبيراً جداً في العصور القديمة ويصل إلى أكثر من ألف سنة. بدأت هذه المدة بالتقلص شيئاً فشيئاً، وفي الفترة ما بين 1917 -1941 تساوت هاتان المدتان. أي تساوت سرعتا تحديث المعلومات في المستويين الجيني (البيولوجي) والاجتماعي (الثقافي). وفي عصرنا الحالي أصبح متوسط زمن تحديث المعلومات في الوسط الثقافي أقلَّ بكثير من متوسط عمر الجيل (حوالي 3-6 سنوات)؛ أي أن الحالة الثقافية والمعرفية تتغير عدة مرات ضمن الجيل الواحد؛ أي أن إيقاع الحركة في الوسط المعرفي أعلى بكثير مقارنة مع الوسط البيولوجي. وهذا يعني سباكة وإعادة تشكيل الإنسان، الذي هو جوهر الحياة وجوهر المجتمع وجوهر التطور، وتحويله إلى كائن آخر، إلى شكل من أشكال الروبوتات الاجتماعية، والقضاء على أسس الحياة الاجتماعية التي نمت وتطورت وترسخت خلال قرون من التآثر الاجتماعي بين أفراد البشرية! لذلك نلاحظ أن النمط الغربي للحرية أصبح شكلاً من أشكال الإسراف، تجاوز الحاجة الإنسانية لها كطاقة نفسية-روحية تمكّن الإنسان من تحقيق ذاته وطموحاته؛ ففي الآونة الأخيرة ظهرت أنماط غريبة من الحريات، مثل: حرية التعبير عن المشاعر، حرية تحسين المزاج، حرية ممارسة الجنس بعد الموت، انتشار مجتمعات الميم والحريات الجندرية، المطالبة بحق الإجهاض حتى عند اقتراب الولادة ... الخ. لذلك لم يكن كلام الرئيس بوتين عبثاً عندما قال، في مقابلته مع صحيفة الفايننشال تايمز، عام 2019 على هامش قمة العشرين في مدينة أوساكا اليابانية: (برأيي، لقد انتهت صلاحية الفكرة الليبرالية، فبعض عناصرها غير واقعية، وهذا يعترف به العديد من شركائنا الغربيين). على المستوى الاقتصادي، فإن الليبراليات الغربية تعتمد ما يمكن أن نسميه (الاقتصاد المعولم) وهو شكل من أشكال (الاستعمار المالي الجديد)، فعن طريق شركاتها العملاقة العابرة للقوميات أو متعددة الجنسيات تحاول دمج الدول الأخرى ضمن تياراتها الصناعية والمالية. فالكثير من الدول تمتلك موارد وثروات هامة، لكنها لا تقوم باستثمارها، لذلك تتحوّل إلى دول تابعة ومقاولة، أو بشكل أوضح إلى دمىً، بيد أصحاب رؤوس الأموال في الدول الغربية. لذلك نلاحظ دائماً أن الولايات المتحدة تسعى إلى تقسيم الدول الأخرى إلى دول أصغر، فكلما كانت الدولة أصغر كلما سهل التحكم بها. بناءً على ذلك، فنحن أمام نزعتين مختلفتين: -نزعة استعمارية استعبادية استغلالية لباقي أفراد البشرية، ممثلوها مستعدون لاستثمار كل شيء لبلوغ مصالحهم السياسية. فالليبرالية الغربية مع أكثر الحركات الفكرية تطرفاً، كالصهيونية والنازية والفاشية والإرهاب لبلوغ أهدافها السياسية. -نزعة إنسانية أخوية، تدعو إلى التكامل والتكافل والتعاون والاندماج بين أفراد البشرية كلها. لذلك فإن التنافس العالمي سيكون بين هاتين الكتلتين وستتجلى هذه المنافسة على جميع المستويات، وقد تلجأ الليبراليات الغربية إلى إشعال الحروب بهدف السيطرة على موارد الشرق، وعلامات تسخين الصراع بين المعسكرين بدأت تظهر في أكثر من مكان في العالم. = = = = = زورونا في موقع مركز جي إس إم للأبحاث و الدرسات - موسكو https://www.jsmcenter.org
#آصف_ملحم (هاشتاغ)
Assef_Molhem#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
القمة الروسية-الأفريقية ودورها في حل مشاكل القارة السمراء
-
ثالوث النفاق: أدونيس، القباني، الماغوط!
-
السيناريوهات المحتملة لحدوث حوادث نووية في محطة زاباروجيا ال
...
-
روسيا والغرب... أعطتهم نزيراً وحصدت وفيراً
-
ما الذي حدث في إيزوم الأوكرانية؟
-
أهمية المنتدى الإقتصادي الشرقي في تطوير الشرق الأقصى
-
النزاع في كاراباخ ... إلى الواجهة من جديد!*
-
أسلحة أذربيجانية في أوكرانيا ... لمصلحة من إشعال إقليم كاراب
...
-
الحزمة السابعة من العقوبات الغربية ضد روسيا
-
قول على قول ديكارت: أنا أفكّر، إذاً أنا موجود!
-
التدخّلات الغربية في الانتخابات الصربية
-
(روسيا الحرة) ... منظمة مشبوهة التمويل و الأهداف!
-
قول على قول العقاد: ... وإذْ يسألونكَ عن الحبّ قل: هو اندفاع
...
-
حول التناقضات البنيويّة في إيديولوجيا حزب الله!
-
العالم إلى أين، بعد الحرب الروسية-الأوكرانية؟!
-
قول على قول جبران خليل جبران: إن أحلام الذين ينامون على الري
...
-
منتدى سان بطرسبورغ ودعوى عزل روسيا!
-
ماهيّة المقاومة الأوكرانية!
-
طرائق غيبلس الدعائية وأحداث أوكرانيا
-
الانتخابات الصربية ... التوقعات والآمال!
المزيد.....
-
السعودية.. ضبط ممارسين صحيين نشروا فيديوهات -غير لائقة- مع ا
...
-
-حزب الله-: أوقعنا قتلى وجرحى عبر استهداف جرافة عسكرية ومنزل
...
-
قتلى ومصابون في قصف -إسرائيلي- لـ -مبنى سكني- في ريف دمشق بس
...
-
رئيس الأركان السعودي في زيارة -نادرة- لإيران، وإسرائيل تتحدث
...
-
ترامب يستبعد إرسال قوات أمريكية إلى منطقة عازلة بين روسيا وأ
...
-
بينهم 13 طفلاً.. غارة إسرائيلية تقتل 33 شخصاً من عائلة واحدة
...
-
من ميشغان إلى أريزونا.. ترامب اكتسح جميع الولايات المتأرجحة
...
-
لماذا يتأخر تنصيب الرئيس الأمريكي عدة أسابيع بعد الانتخابات؟
...
-
قمة كوب 29 - حقائق مفزعة عن التغير المناخي ودعوات لتحرك عاجل
...
-
قتلى وجرحى في -غارة إسرائيلية- على منطقة السيدة زينب السورية
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|