أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - البوبكري نورالدين - بنية مفهوم اللاهوت السياسي (the political) عند كارل شميت















المزيد.....


بنية مفهوم اللاهوت السياسي (the political) عند كارل شميت


البوبكري نورالدين

الحوار المتمدن-العدد: 7637 - 2023 / 6 / 9 - 22:14
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


 تقديم:
لقد شكل فكر كارل شميت السياسي لحظة مهمة في تاريخ الفلسفة السياسية الغربية، حتى أنه يعد كمنعطف محوري في إعادة قراءة مجموعة من المفاهيم والمقدمات التي تنبني عليها نظرية الدولة، فالرجل جعلنا نعيد صياغة مفهوم السياسي والسياسة نفسها والدولة ومفاهيم أخرى داخل الفلسفة السياسية، كانت بمثابة بديهيات متفق عليها. فقد كان شميت أول من استعمل تعبير "اللاهوت السياسي" واستمر ذلك إلى أنه خصصه عنوانا للفصل الثالث، من الجزء الأول من الكتاب في فيصرح بذلك أن " مفاهيم النظرية الحديثة للدولة كلها ذات الدلالة هي مفاهيم لاهوتية معلمنة". ما يفهم من هذا القول إن النظرية السياسية الحديثة لها نفس طريقة الخطاب التي يستعملها اللاهوت في خطابه حول الله.

1. حول كتاب اللاهوت السياسي لكارل شميت:
صدر هذا الكتاب في جزئين: الأول سنة 1922، والثاني سنة 1970، يعتبر شميت من بين الأباء المؤسسين لبعض المفاهيم السياسية كالسيادة وحالة الاستثناء واللاهوت السياسي فهو إذن أول من استعمل تعبير "اللاهوت السياسي" كما أشرنا، والذي اشتقه من تأكيده على " أن جل مفاهيم النظرية الحديثة للدولة تحمل دلالة لاهوتية لكنها مُعلمَنة"، فالنظرية السياسية للدولة إذن تخاطب بالطريقة نفسها التي يخاطب فيها اللاهوت الله.
لذا يبدأ بتعريف سيادة الدولة ويعرض ناقداً آراء عدد كبير من المفكرين السابقين أو المعاصرين له في مسألة السيادة. كما يتطرق إلى مفهوم السيادة ومفاعيلها في دستور ألمانيا الأول، في سنة 1871 بعد توحيدها، ودستورها الثاني سنة 1919 والمعروف بدستور جمهورية فايمار. ثم يحاول أن يثبت العلاقة الوثيقة بين علم اللاهوت وعلم التشريح، ويفند في الجزء الثاني من الكتاب مقولة "إنهاء اللاهوت السياسي" التي أوردها إيريك بيترسون.

2. في مفهوم السيادة:
يخصص شميت الجزء الأول من الكتاب للحديث عن مفاهيم مركزية في اللاهوت السياسي دون أن يقوم بانتقاد الفلاسفة القائلين بنهاية هذا لمفهوم أو وصفه بالأسطورة، ويبتدأ أولا بمفهوم السيادة.
يرى شميت أن " الحاكم السيادي هو الذي يقرر في الحالات الاستثنائية " . يبدوا في الوهلة الأولى أنه تعريف حدي متعلق بالمجال الأقصى، فهو تعريف مرتبط بقضية خاصة بكارل شميت ولم يأت مساوقا للروتين، سيحاول شميت فيما بعد أن يوضح أنه تعريف عام لمفهوم عام كذلك يدخل ضمن نظرية الدولة الحديثة.
إن البعض حسب شميت، يفترض أن القرار بمعناه القانوني يكون منبعه الأساس هو مضمون القاعدة القانونية. لكن في نظر شميت أن بعض حالات النزاع تفترض علينا تغليب المصلحة العامة، أو بالأحرى مصلحة الدولة على مصلحة الأفراد، وبذلك يجب تحديد من يقرر في هذه الحالة، وعيله، فإذا كانت حالة الاستثناء بمثابة قرار يرتبط بالمفهوم العام لنظرية الدولة أساسًا، فإن اتخاذ هذا القرار ليس مهمة الشعب ولا مهمة البرلمان، وإنما هو مهمة الحاكم السيادي.
إن ما يجعل موضوع السيادة – حسب شميت – يؤخذ في الحسبان هو الاستثناء، وعندما يتحدث عن السيادة فهو لا يعني مسألة السيادة مسألة يتم تفعيلها في أجزاء معينة من الدولة بل مجال تفعيلها يكون هو الدولة بأكملها، فنجده يشير إلى أن وجود الدولة هو بمثابة دليل صريح لا شك فيه على تفوقها على صلاحيات العرف القانوني، يظهر لنا هنا كيف يتحرر قرار الحاكم من القيود القانونية التي كان من المفترض أن تعترض قرارته الخاصة في هذا الصدد، فأصبح يتمتع بكامل الصلاحيات في اتخاذ القرار، بل أكثر من ذلك فكارل شميت يضع الحاكم السيادي فوق سلطة القاعدة العامة للقانون حينما يقول: "إن الدولة تعلق القانون في الحالات الاستثنائية على أساس حقها في المحافظة على الذات، كما يقال، ويحل عندها العنصران المكونان مفهوم «النظام التشريعي» ويصبحان مفهومين مستقلين، وبالتالي، شاهدين على استقلالهما المفاهيمي"
وبهذا الطرح الذي قدمه شميت كون الاستثناء يعلق القاعدة القانونية، تكون حالة الاستثناء حالة عابرة تتخذها الدولة قرارًا حاسمًا، إنها حالة خارجة عن القانون، لذلك فإن السلطة التي تتمتع بها الدولة التي تعلو على الكل تخول لها أن تعلق حالة الاستثناء حفاظًا على ذاتها، ويمكننا أن نلاحظ جليا في هذا الموقف تأثير توماس هوبس الذي يضع جميع الصلاحيات في يد الدولة، فكارل شميت يرى أنه على عكس الأوضاع العادية تتراجع اللحظة المستقلة للقرار إلى الحد الأدنى إذ تدمر وتقوض القاعدة في الاستثناء، ومع ذلك يبقى التشريع قادرًا على الوصول إلى الحالة الاستثنائية؛ لأن العنصرين، القاعدة والقرار، باقيان ضمن إطار العمل التشريعي، هذا يجعنا نتساءل: أين يكمن جوهر هذه السيادة التي يقدمه شميت للدولة؟
يشير شميت أن السيادة كمفهوم تشريعي هو الأكثر تأثرا بالمصالح الآنية للدولة، فهذا المفهوم حسب شميت بدأ مع بودان الذي كان مستمدا من التفكك النهائي لأوروبا إلى دول قومية خلال القرن السادس عشر. وتطر المفهوم حتى صار موازيا لمفهوم الدولة فصارت "السيادة هي أعلى سلطة أصيلة مستقلة قانونيا" .
فوفق كارل شميت أن الحاكم السيادي هو من يقرر في حالة الاستثناء، وله سلطات خارج النظام القانوني الساري في الوضع الطبيعي، انطلاقا من مبدأ أن الضرورة ليس لها قانون، أي حينما تفرض ظروف حالة الطوارئ أو أحداث عرضية تهدد سلامة وتماسك المجتمع، فلا يبقى للقانون ذريعة في ظل وجود الحاكم، الذي ترجع له السلطة السيادية من أجل الحفاظ على أمن الدولة واستقراراها. إن الأهم وفق تصور كارل شميت هو أن تظل الدولة قائمة بغض النظر عن انحسار النظام القانوني أو عدمه. وثمة أسباب شتى يمكن للحاكم السيادي أن يلجأ لتعليق العمل بالقانون، كظرفية الكوارث الطبيعية، أو في حالة نشوب الحرب الأهلية، أو باختصار في الحالة التي لا يكون النظام القانوني القائم القدرة على تقنينيه أو التحكم فيه.
أن معالجة قضية السيادة خلال السنوات قبلهن خلصت على طرح مهم ؛ مفاده "الفصل بين علم الاجتماع وعلم التشريع القانوني، ما يؤدي إلى الحصول على أمر سوسيولوجي تماما وتشريعي تماما"
يشير شميت في أخر الكتاب إلى أن الأمور عندما تسير تبعا للقانون على نحو صارم، "فالاستثناءات تصير ممقوتة و الطفرات مشبوهة والمعجزات أعمالا تخريبية تقريبا" .
نجد كذلك بعد شميت المفكر الإيطالي جورجيو أغامبن يشير إلى فكرة قريبة جدا من فكرة شميت في نظرية لسيادة التي نحن بصددها، ففكرته هذه تبحث عن العلاقة بين السلطة السيادية وحالة الاستثناء والحالة الحياتية التي يسميها أغامبين "الحياة العزلاء"، تلك الحالة التي تفرضها السلطة، مبيحة لنفسها التصرف بل التخلص من حياة البشر من دون أن يعني ذلك ارتكابا لأية جريمة أو حتى تقديما لأي قربان.

3. تعريف الدولة:
نجد أن شميت يستعين في هذا الشأن -تحديد مفهوم الدولة – بما قدمه هوكو كرابي Hugo Krabbe في كتابه فكرة الدولة الحديثة Die moderne Staats-Idee، حيت يؤكد أن الدولة هي مظهر من مظاهر القوة، لكن هناك شرط وحيد وضروري خاص بهذه القوة، وهو أن تكون هذه القوة ظاهرة في القانون وألا يكون لها أي تأثير إلا في إصدار قواعد القانون، إن الدولة حسب شميت لا تظهر لا في الاقتصادي ولا في الثقافي بل تبقى مهمتها الوحيدة حسب شميت هي صناعة القانون وهذا يعني وضع القيمة القانونية للمصالح...
إن هذه الصيغة ستكون مخالفة للنظرية التعاونية التي تعادي الدولة التسلطية ففكرة النظرية الأولى تقوم على أن إرادة الدولة أو الحاكم ليست هي المصدر النهائي لسلطة القانون بل يكون جهاز الشعب اذي يستدعى للعبير عن الوعي القانوني، وهذا الوعي يكون قد نشأ من حيوات الناس، وهذا يقودنا إلى استحضار الحياة المجتمعية الإنسانية في صياغة القانون وعند الاحتكام له، فهناك إذن علاقة متساوية ومتبادلة. وفي هذا الصدد يضيف شميت أن الدولة ملزمة بإرضاء الوعي القانوني للشعب حيث يقول: «لكن لا يمكن المرء تصور الواحد دون الآخر، ولا يمكن إيجاد واحد قبل الأخر أو من خلال الآخر. وفي حالة التغيرات الدستورية الثورية، هناك خرق قانوني، خرق في الاستمرارية القانونية... على هذا النحو، يمكن إصلاحه، ويمكن الحصول في وقت لاحق على مبرر قانوني من خلال نوع من الإجراءات القانونية التي من شأنها إرضاء الوعي القانوني للشعب" .

4. الرومانسية السياسية ومسألة اتخاذ القرار:
نجد أن كتاب شميت المعنون ب "الرومانسية السياسية" يسهب كثيرا في مسألة القرار التي سيطورها لاحقا في كتابه اللاهوت السياسي، حيث كانت الرومانسية هي بمثابة الخير المشترك للمثقفين، فالرومانسيين هم لاهوتي الدولة.
يعد الرومانسيون بدين جديد، كما يقول شميت، إنهم يعدون بإنجيل جديد، بشكل جديد للعبقرية. غير أن لا واحدة من تمظهراتهم في الواقع اليومي لم تكن، تقريبا، من كفاءة منتدى خارجي. لقد أراد آدم موللر استعادة مشروع الثورة الفرنسية الذي أصيب بالفشل، والدفع به إلى حدوده القصوى. لقد أراد أن يعطي مضمونا جديدا لكلمات دين وفلسفة وطبيعة وفن .
فهل يمكن الإمساك بالواقع أو إدراكه بصورة مباشرة إلا بالتحليل وإصدار الحكم le jugement؟ يمكن صياغة هذا السؤال بطريقة أكثر دقة فنقول: هل يمكن يوجد هناك واقع دون اتخاذ قرار؟
إن الرومانسية لا تعطي أي اهتمام لمسألة القرار، فهم يعدون من اللبيراليين الذي ينتقدهم شميت في أكثر من محطة كونهم أناس غير جديرين بالتنظير السياسي الذي يقود الدولة نحو الوحدة.

5. مفهوم السياسة عند كارل شميت:
يقول كارل شميت صاحب النظرة الثاقبة "إن السياسة هي قبل كل شيء القدرة على استكشاف العدو"، وهي ترتكز في نظر شميت على التفريق الصارم بين الصديق والعدو. تنحصر إذن مهمة السياسي حسب كارل شميت في القدرة على هذا، يعني أنه لا يمكن فهم السياسية إلا على أساس الصراع بين القوميات المختلفة وهو صراع قد يصل إلى مرحلة الحرب أولا. ومن المعروف أن الحرب تمثل التحدي الأخطر في مجال السياسة لأنها مسألة حياة أو موت، وهذا ما تنساه أو تتناساه الليبرالية، ولهذا السبب ينتقدها شميت، فالليبرالية هي في نظره حرية الإنسان في أن يحيا حياة رديئة. الليبرالية تظل في نظره إيديولوجية المساومة وتمييع المواقف والمحافظة على السلام بأي ثمن.
يشير شميت أيضا أنه "لكي تحقق الأمة وجودها بالذات، فإنه يتعين عليها أن تحدد عدوها، وهنا تمثل الدولة الشكل الأكثر اكتمالاً للسياسي، ذلك أنها الكيان الوحيد القادر على تحديد العدو العمومي للأمة وتسميته". وهو الشيء نفسه الذي يطرحه الفيلسوف الإيطالي ((أمبرتو إيكو)) في دراسة له بعنوان: ((اختراع العدو )) حيث يقول :" إن وجود العدو مهم ليس لتحديد هويتنا فحسب؛ وإنما -أيضاً- ليوفر لنا عائقاً نقيس إزاءه قيمنا، ونثبت -أثناء محاولتنا تخطيه- قيمتنا. أما في حالة عدم وجود عدو، فمن الواجب اختراعه".
تمثل السياسة في نظر شميت "قدر الإنسان" لأنه حيوان خطر بطبيعته. وهو يبلورها في نظرية السيادة التي يعَرفها على أنها "القدرة على الحسم في الحالة الاستثنائية التي يمر بها أحد الشعوب"، ويضيف بأن القائد السياسي لا تُعرف أهميته وقدرته الحقيقية إلا في حالة الخطر الأعظم، أي الحالة الاستثنائية التي تستدعي اتخاذ قرار خطير كقرار الحرب مثلا. ووفقاً لذلك يجب على القائد أن يتمتع بصفات لاهوتية، ومن هنا نتج مصطلح السياسي أو السياسة كعلم مقدس، لأن القرارات الناتجة عنها تحسم مصير البشر والمجتمع. إن السياسة يجب أن تفهم في نظر شميت على أساس أنها كفاح. هذه الكلمة أو الاستعارة التي يجب أن توقف عندها، ذلك إنها سيطرت أيضا على مجمل كتابات فيلسوف ألماني آخر ينتمي إلى نفس المرحلة، وربما ينتمي إلى نفس الإيديولوجية النازية وهو مارتن هايدغر. إن الصديق والعدو هما دائما في كفاح مستمر ضد بعضهما البعض. إن الكفاح هنا استعارة مضرجة بالدم، ذلك إنها لا تعني شيئا آخر سوى القتل الفيزيقي للعدو. إن من يعتقد أن السياسة لنفسها وبدون كفاح فهو غير صائب فهي إذن متعذرة على أن تكون كذلك إن الكفاح هو الدم الذي يجري في شريان السياسة وهو المظهر الذي يضفي عليها الشرعية وبدون كفاح فهي ليست ممكنة.

6. اللاهوت السياسي:
في هذا الفصل يحاول شميت أن يضع تعبيرا صريحا لما سما باللاهوت السياسي وهو عنوان هذا الفصل، يقر شميت "أن كل مفاهيم النظرية الحديثة للدولة ذات الدلالة هي مفاهيم لاهوتية معلمنة" . فيجد شميت على سبيل المثال لا الحصر أن حالة الله القادر على كل شيء هو فقط المشرع المطلق الذي لا نقاش ولا جدال في تشريعاته، يمكن مماثلتها في الاعتبار السوسيولوجي لمفاهيمها، فنجد أن شخص الملك ذي السيادة هو كذلك يتمتع بنفس الصفات التي تخول له كي يصير مشرعا مطلقا، وتصبح بذلك قراراته التشريعية غير قابلة للنقاش.
وينتقد شميت كذلك الطرح الذي قدمته عقلانية عصر التنوير الذي يرفض بشكل مطلق مسألة الاستثناء، وعلى العكس من هذا، فإننا نجد أن بعض الكتاب المزعومين على تيار المحافظين والمضادين للثورة الذين يؤمنون بوجود الله، يدعمون هذا الطرح الأيديولوجي الذي يستعين هو بدوره من استعارات مشابهة من اللاهوت الإيماني.
يتساءل شميت بخصوص هذه التشبيهات المنهجية التي يقيمها اللاهوت، إلى أي مدى هذا الربط ملائما سوسيولوجيا المفاهيم التشريعية؟

يحاول كارل شميت أن يكشف مسار المفاهيم المؤسسة ل " نظرية " الدولة، من خلال إبراز العلاقة بين اللاهوتي والسياسي، وقد جعل من هذا الكشف العلائقي بين السياسي واللاهوتي، سمة لإبراز التداخل القائم بين المفاهيم، ومن خلال ذلك وجه نقدا عارما لعدم معقولية البحث L’enquête السوسيولوجي في الواقع السياسي، وعليه ضعفها في إرساء معالم تتماشى والوجود الإنساني، لذا كان سبل تحقق تلك النظر السياسية الإنسية يقوم بالأساس على ضرورة رفع المضامين الدينية عن المعطى السياسي، وعلمنة المفاهيم ((Sécularisation des concepts )) التي تعود لجدور دينية، وهكذا قد أراد شميت أن يبرز ذلك التداخل بين السياسي واللاهوتي المركوز بالأساس في تلك المفاهيم السياسية المؤسسة" لنظرية الدولة".
يوازي كارل شميت فكرة الدولة بمذهب الربوبية Déisme؛ الذي قد ظهرت في الآونة المتأخرة . إذ أن لهذه الأخيرة صلة وثيقة بنظرية الدولة الحديثة، فقد تحدث هيجل كذلك عن هذا المذهب ( الربوبية ) الذي أينع بأكثر إجلاء في الفترة المعاصرة، والذي ينم عن معنى فكري يؤمن بوجود المطلق، لكن هذا المطلق قائم على وعي إنساني مدرك، فبالرغم من تجلي هذا المذهب لفكرة الوجود الإلهي إلا أنه ينحاز إلى فكرة إنسانية خالية من الضرورة الدينية ، إذ يرفض أصحاب هذا التوجه الإنساني القول بتدخل الإله في الوجود الإنساني.
وعليه فلا مبرر لوجود معجزات أو وحي، إذ قد انتصرت فكرة الدولة الدستورية الحديثة جنبا إلى جنب مع مذهب الربوبية .
يستحضر شميت ذلك التماثل الذي قد أقامه سابقا ليبنز Leibniz؛ بين علم التشريع و اللاهوت، وذلك من زاوية النظر في الواجهة المنهجية، إذ فصل بين هذين التوجهين، نظرا لوجود منطق يختلف من واحد لآخر وعليه كان عدم التقابل بينهما أمر واضح ومعقول، هذا التمفصل المزدوج هو ما سيظهر أكثرا سنة 1920 مع كلسن الذي شدد على العلاقة المنهجية بينهما، خصوصا في عمله الأخير عن مفهوم الدولة السوسيولوجي والتشريعي ، لكن شميت يرى أن هناك عدم تجانس داخلي في ذلك.
إن سبيل البحث في مجال علم الاجتماع قد اعتبر أن مجال السياسة يختص بمقومات موضوعية تجعل منه يتحرى من واجهة الذاتية الصدفية- الصدفة-، إلى واجهة الموضوعية العلمية، وما إن يتم فحصه أكثر حتى يتبين التدخل القوي الذي تفرضه الدولة؛ التي تدخل في كل الأشياء، وتتماها مع مخرجات القيم السياسية والاقتصادية والأخلاقية أحيانا. وهكذا تُستحضر الدولة بمثابة " الإله " الذي ينحدر بسيادته المطلقة على الوجود الكلي، هذا إذن هو جوهر التداخل بين اللاهوتي والسياسي.
فقد يصعب التخلص من عبء الجوهر المفكر؛ الذي هو الدولة، في مجال البحث في شتى المجالات، لكون أن الباحثين تشربوا فكرة الدولة وصارت بيئتهم المحلية، التي يدافعون عنها بقصد أو بلا قصد، في هذا المنحى يستحضر شميت فكرة الدولة في الإمبراطورية الرومانية، حتى يتأتى لنا فهم هذا التحيز الإيديولوجي، -والذي يسميه هيجل ضمن تصنيفاته للديانات بدين الغائية؛ فتقوم الديانة الغائية والتي تميز الرومانيين عن غيرهم، على الأخذ من الديانات والأساطير التي سبقتها ( اليوناينة والشرقية )، وهكذا فإنها تحمل طابع خاص، هو الطابع السياسي " البرغماتي " النفعي، الذي يأخد فيه الإيمان بالدولة كعنصر فعال للعبادة، فتصبح الغاية هي الدولة ، لذا قد تجد لدى الرومان تعدد الآلهة وذلك بتعدد المنفعات؛ فالنار تعبد كونها تحمل غاية نفعية للفرد إذ يستخدمها لطهي الخبز والتدفء بها، وهكذا فإن كل ما هو مفيد ونافع فهو مقدس، فليس من الغريب أن تعبد الدولة، كونها تمثل القوة الجوهرية للإمبراطورية الرومانية-.
وهكذا أصبحت الدولة كشيء يُسير منطق النظر من وراء الستار، و يجعل مخرجات البحث تتماثل وفكرة الدولة، هذا ما قد توجه إليه كل من لاباند Laband وجلنكJellink ، إذ سميت هذه الترسانة النقدية ب (( السيطرة الحصرية للدولة )) ، فتشير هذه الأخيرة إلى أن مفهوم السيادة في نظرية الدولة هذه يجعل من الدولة شخصا مجردا إن جاز التعبير وفريدا من نوعه. وعليه فإن على السوسيولوجيا، وبالتحديد سوسيولوجيا المفاهيم القانونية أن تعيد النظر في جوهر تعاملها مع المفاهيم، حتى تكون مقارباتها تتسم بموضوعية معقولة بعيدة عن أي وازع إيديولوجي دسم؛ عن طريق التشديد على تلك العلاقة بين المفاهيم اللاهوتية والسياسية حتى لا يختلطان، وهكذا قد تضمن السوسيولوجيا المفاهيم التشريعية من السقوط في التقليد اللاهوتي، ومن أجل ذلك كان الأمر يذهب إلى ربط هذا الأخير بمجال علم الاجتماع الذي قد يعطى تفسيرا للسبب الدافع للسلوك البشري، علما بأن هذا النوع قد يبرز لنا ( شخصيتين، روحيتين ) التي تكون مقوما لمفهوم السيادة؛ هذين الروحين هم اللاهوتي والسياسي أو الماورائي. يستحضر شميت ذلك العمل الذي قام به روسو سابقا حول الاقتصاد السياسي، والذي يتمثل فيه تسيس المفاهيم اللاهوتية بشكل لافت، فقد تبين أن الملك يتماهى مع الله في جوهر واحد، "وله في الدولة موقع مشابه تماما لذلك الذي ينسب إلى الله في العالم الديكارتي" .

7. أسطورة الإنهاء اللاهوتي والنقد الموجه لكارل شميت:
يجد كارل شميت نفسه أمام تحد جديد هو تفنيد أفكار بعض المفكرين الذين يجدون أن مقولة اللاهوت السياسي هي مقولة فارغة من المعنى على غرار الميتافيزيقا عند الفلاسفة الوضعيين، ففي زعمهم أن اللاهوت وعلوم ما وراء الطبيعة انتهت علميا منذ فترة طويلة، وهم يستخدمون العبارة بوصفها صدمة وإهانة فحسب للتعبير عن نفيهم القاطع والكلي.
 نجد أن شميت يركز على نموذج إريك بيترسون الذي يصرح حرفيا " لقد حاولنا هنا أن نبرهن وبمثل ملموس الاستحالة اللاهوتية للاهوت السياسي". إنها كلمة ختامية لأطروحة الإنهاء اللاهوتي العظيم.
نشأت هذه الأزمة بالعودة إلى تعاليم القديس أغسطين الموروثة من القرون الوسطى المسيحية وحركة الإصلاح الديني. فتعاليم أغسطين قدمت تمايز بين مدينة الله والمدينة الدنيوية أي ما بين الدين والسياسة، الدنيا والآخرة، كما أن اللوثرية والفصل الليبرالي الحديث كان لهما دور في دعم أطروحة الإنهاء- اللاهوت السياسي –.
يشير بيترسون أن اللاهوت هو استمرار الكلمة المتجسدة، وهو ممكن فحسب في الوقت الذي يمتد بين صعود المسيح وعودته. وكل ما عدا ذلك وخيال هو أدب وصحافة لاهوتية.
يقول بيترسون:" من خلال العقيدة فحسب يمكن فصل علم اللاهوت عن أكثر العلوم التباسًا، وهي ما يسمى بالعلوم الإنسانية ، وتحريره من تاريخ الحضارات ، تاريخ الأدب ، تاريخ الفنون ، فلسفة الحياة ، وإلى ما هنالك "
 نقد هابرماس لكارل شميت: فوهرر من هذا الزمان:
جورجن هابرماس انتقد كارل شميت في عدة من كتبه ومقالاته، ولكن أحد أمثلة الأكثر شهرة يمكن العثور عليه في كتابه "نظرية الفعل التواصلي" (Theorie des kommunikativen Handelns) الذي نُشر في عام .1981
في هذا الكتاب، ينتقد هابرماس شميت بسبب نظريته السياسية للسيادة وتصوره للسلطة في الدولة.. يعارض هابرماس هذا التصور الاستبدادي للسياسة ويدافع عن فكرة الديمقراطية التواصلية، حيث يستند اتخاذ القرارات السياسية إلى التواصل الرشيد والاتفاق المتبادل. ينتقد اتجاه شميت لتركيز السلطة في يد فرد واحد أو مجموعة صغيرة، ويؤكد أن الديمقراطية تتطلب بدلاً من ذلك مشاركة نشطة ومتساوية لجميع المواطنين.
ففي نقده لمفهوم " السياسي " الذي طرحه كارل شميت يشير الفيلسوف وعالم الاجتماع الالماني يورغن هابرماس يشير : إلى أن شميت يؤلف مفهوما عن ديمقراطية الجماهير التسلطية يعتمد الهوية الوطنية اللاسياسية، وهو مصمم ليناسب مجموعة متجانسة من السكان يقودها قائد كاريزميّ".
ويضيف هابرماس:"ويُفترض بهذا الفوهرر أن يعبّئ الأمة ضد الشر المتطرف ويرصّ صفوف أعضائها الأفراد من خلال تعريضهم لمصير التضحية والموت".

وبهذا يكون هذا انتقاد قوي لشميت فحتى مفهوم السياسي عنده هو مفهوم كهنوتي فاشي ويعود إلى الماضي، لكن هذا التصور الذي قدمه، لا بد أن يخدمنا بوصفه تحذيرا موجها لكل أولئك الذين يريدون إحياء اللاهوت السياسي.
 تطرقت حنة ارندت أيضا الى كارل شميت واعتبرته أحد المروجين للعنف والفكر التوتاليتاري (النازية) في كتابيها ((أصول التوتاليتارية)) و ((أيخمان في القدس)).
 جوزيف دومستير: يرى دومستير بأن البابا هو السلطة العليا والمطلقة، لأنه معصوم من الله وليس له أطفال ولا له ملكية شخصية مادية وليس له زوجات. كل المنطلقات هنا هي أخلاقية لا مادية، وهو رافض لأفكار التنوير خصوصا روسو، بل هو يعد من الرومانسيين الذي يقولون بان العقلانية شيء مدمر، لكنه يقدم أسباب عقلانية لاختيار البابا كرجل سيادي.

---------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------
المصادر والمراجع المعتمدة:

1- شميت كارل، اللاهوت السياسي، ترجمة؛ رانية الساحلي ـ ياسير الصاروط (بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات2018)
2- آندريه دوريموس ( André Doremus) اللاهوت السياسي عند كارل شميت، ترجمة: أحمد الصادقي، مؤمنون بلا حدود.
3- . Umberto Eco. Construire l’ennemi. Grasset



#البوبكري_نورالدين (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- النوابت حسب قول الفارابي السياسي:
- سبينوزا :نُظم المعرفة أو من أين تأتي معارفنا ؟
- فعل الكتابة كتحرر من القيود الموروثة
- في الله أو ماهو الإله الذي آمن به إنشتاين عبر فلسفة سبينوزا؟ ...
- فكرة الأخلاق في كتاب الايتيقا للفيلسوف الهولندي باروخ سبينوز ...


المزيد.....




- وزير دفاع أمريكا يوجه - تحذيرا- لإيران بعد الهجوم على إسرائي ...
- الجيش الإسرائيلي ينشر لقطات لعملية إزالة حطام صاروخ إيراني - ...
- -لا أستطيع التنفس-.. كاميرا شرطية تظهر وفاة أمريكي خلال اعتق ...
- أنقرة تؤكد تأجيل زيارة أردوغان إلى الولايات المتحدة
- شرطة برلين تزيل بالقوة مخيم اعتصام مؤيد للفلسطينيين قرب البر ...
- قيادي حوثي ردا على واشنطن: فلتوجه أمريكا سفنها وسفن إسرائيل ...
- وكالة أمن بحري: تضرر سفينة بعد تعرضها لهجومين قبالة سواحل ال ...
- أوروبا.. مشهدًا للتصعيد النووي؟
- الحوثيون يعلنون استهداف سفينة بريطانية في البحر الأحمر وإسقا ...
- آلهة الحرب


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - البوبكري نورالدين - بنية مفهوم اللاهوت السياسي (the political) عند كارل شميت