أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - سارة عباس - في السودان، الثورة في مرمى النيران















المزيد.....


في السودان، الثورة في مرمى النيران


سارة عباس

الحوار المتمدن-العدد: 7598 - 2023 / 5 / 1 - 00:40
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
    


مقابلة مع سارة عباس نُشرت في موقع المؤسسة المعفشة لاسم روزا لوكسمبورغ بتاريخ ٢٤ نيسان/أبريل ٢٠٢٣

يوم ١٥ نيسان/أبريل، تصاعد الصراع بين قائد الجيش السوداني عبد الفتاح البرهان ونائبه محمد حمدان “حميدتي” دقلو، قائد ما يسمى قوات الدعم السريع، في مجلس الحكم السوداني، ما عرقل تطبيق خطة دولية للانتقال إلى ديمقراطية مدنية. منذ ذلك الحين، انتشرت الاشتباكات عبر مساحات واسعة من البلاد. بعد أربع سنوات على إطاحة حركة جماهيرية بالرئيس الاستبدادي الإسلامي عمر البشير وبعد ١٨ شهراً على الانقلاب العسكري، يبدو أن البلاد على حافة حرب أهلية.

سارة عباس، مقيمة ببرلين ومختصة بالعلوم السياسية مناضلة في حركة انتفاضة السودان بألمانيا. تعبر في هذه المقابلة عن رأيها [وليس رأي المؤسسة التي عفشت اسم روزا لوكسمبورغ. عندما تعود الرفيقة روزا من موتها ستطبق في هذه المؤسسة إجراءات شيوعية الحرب- الملاحظة من المترجم، بطبيعة الحال].

ما هو الوضع على الأرض في الخرطوم اليوم؟ هل أنتِ على تواصل مع الناس هناك؟

نعم لقد كنت على اتصال بالعائلة وأصدقائي ورفاقي منذ اندلاع الاشتباكات منذ أسبوعين ولكن في بعض المناطق كانت الكهرباء مقطوعة منذ وقتها.

الوضع بالغ السوء. وقد تضررت الخرطوم فعلياً، ولكن تحصل اشتباكات مميتة في أقسام أخرى من البلاد، خاصة الجنينة والفاشر ونيالا في دارفور بالغرب، والأبيض بكردفان ومروي في الشمال. وقعت خسائر كبيرة في الخرطوم وكذلك في دارفور ومناطق أخرى- قتل ٥١٢ وجرح الآلاف حتى يوم ٢٨ نيسان/أبريل. في حين عدد القتلى والجرحى من الجنود سواء من العسكريين أو من قوات الدعم السريع غير معروف.

تسببت الاشتباكات الكثير من الأضرار لأنها حصلت في مناطق مُدنية مليئة بالسكان. واستعملت فيها الرشاشات والدبابات والقذائف المضادة للدروع وحتى الطائرات الحربية والصواريخ المضادة للطائرات من الطرفين المتحاربين. تضرر الكثير من البنية التحتية، من بينها المطارات. كما تضررت المستشفيات ومحطات الطاقة وسواها.

وانقطعت الإمدادات الطبية من أغلب المستشفيات، والتي كانت قليلة أصلاً، وبما أن العديد منها قد استهدف بشكل مباشر أو أجبرت على إقفال أبوابها وإخلاء المرضى بطريقة عشوائية. انقطعت الكهرباء في الكثير من الأحياء، لكن الأهم من ذلك هو إمدادات المياه والغذاء، التي كانت ناقصة أو قليلة على نحو خطير في الكثير من المناطق التي حصلت فيها الاشتباكات.

في البداية، نصح الناس من جانب لجان المقاومة المحلية ومنظمات المجتمع المدني على الاختباء في المنازل أو في أي مكان قريب منهم. إلا أن الناس أخلوا بعض المناطق لأن الإقامة باتت غير آمنة- فقد أجبر والدي وثلاثة من عائلات عماتي في الخرطوم، على سبيل المثال، على مغادرة منازلهم مع عائلاتهم في أقسام أخرى من المدينة. لا تعرف العديد من العائلات مكان وجود أفراد منها لأنه عندما اندلعت المعارك لم يصل إلى منزله مطلقاً.

توقفت بعض شبكات الهاتف الخلوي عن العمل، وبات الانترنت محصوراً بعدد من مقدمي هذه الخدمة. كما وردت تقارير تفيد عن دخول جنود، وخاصة من جنود قوات الدعم السريع، إلى المنازل وعفشتها.

في الأيام الماضية، وبعد أن توضح أن الوضع متدهور، هرب الكثيرون إلى مناطق أخرى أو إلى الشمال نحو مصر. أغلقت التشاد حدودها باكرا، فعلق الآلاف من الدرافوريين. في اليومين الماضيين، أجلت أغلب الدول الغربية موظفي سفاراتها، إن لم يكن كل مواطنيها. كما فعلت بعض الدول الأخرى الأمر عينه.

تصور وسائل الإعلام الدولية أن الصراع بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع. من هم هؤلاء ومن يمثلون في المجتمع السوداني؟

هما الطرفان الأساسيان في النزاع، لكن مع فارق بسيط غائب عن أغلب التغطية الإعلامية. تقف أقسام من الجيش السوداني وراء هذا العنف والتي تعرف في السودان باسم “لجنة أمن البشير”- كبار الجنرالات الذين كانوا جزءاً من نظام عمر البشير الديكتاتوري واستولوا على السلطة عندما أطاح به التمرد الشعبي في نيسان/أبريل عام ٢٠١٩.

يقود هذه المجموعة عبد الفتاج البرهان، الذي يهيمن على الجيش وامبراطوريته الاقتصادية الواسعة. هي نفسها من تقاسمت مجلس السيادة مع المدنيين خلال فترة تقاسم السلطة بين آب/أغسطس ٢٠١٩ وتشرين الأول/أكتوبر ٢٠٢١، حتى نفذ الجنرالات وعدوهم الحالي، انقلاباً أنهى هذا التقاسم. شن الجيش مذاك حملة ترهيبية لترسيخ سلطته.

ويقف خلف اللجنة الأمنية العسكرية فلول حركة البشير الإسلامية التي تدير ما نسميه “كتائب الظل”. وهي هيئات غير رسمية، إنما تعمل سراً وبأمرة أفراد معينين. يريد النظام السابق إعادة تأسيس نفسه عن طريق الأساليب المضادة للثورة، وأفضل طريقة للقيام بذلك هو ما كانوا يفعلونه منذ بدء الثورة: إثارة الصراع وتسخين التوترات العرقية.

قوات الدعم السريع هي ميليشيا، أو حتى ميليشيات، بقيادة محمد حمدان دقلو، المعروف باسم “حميدتي”. أسسها البشير من بقايا الميليشيات “العربية التي جندت المجتمعات الرعوية في دارفور، والمعروفة باسم الجنجويد. الأخيرة كان أداة أساسية للنظام في ارتكاب الإبادة الجماعية بدارفور.

تزايد الشكوك حيال جيشه، فجعل البشير من قوات الدعم السريع بشكل شكلي جزءاً من الجيش ومنحها قاعدة في الخرطوم عام ٢٠١٧. من هذه النقطة وصاعداً، باتت قوات الدعم السريع ليس سوى مجموعة شبه عسكرية لمكافحة الاحتجاجات في العاصمة والمدن الأخرى خارج “مناطق الحرب”. تزايد عدد أعضاء الميليشيا بشكل كبير وتنوعت وسيطرت على مناجم الذهب المربحة واكتسبت رعاية القوى الإقليمية مثل السعودية والإمارات وكذلك روسيا. وقد قاتل أعضاؤها كذلك في ليبيا دعماً لحفتر ويلعبون دور حرس الحدود في غربي وشمال غربي البلاد- تطبيقاً لأجندة [الحد] من الهجرة [التي فرضها] الاتحاد الأوروبي.

بما أن الطرفين ينحدران من الجيش، أين يكمن الانقسام؟

عندما أطيح بالبشير في نيسان/أبريل ٢٠١٩ وتولت لجنته الأمنية مقاليد السلطة، انضم إليها دقلو، قائد قوات الدعم السريع، كنائب له. عززت الوثيقة الدستورية، المدعومة من الغرب في آب/أغسطس ٢٠١٩ والتي أوردت اتفاق تقاسم السلطة، قوات الدعم السريع عبر تشريع المجموعة الميليشياوية لتصبح قوة موازية للجيش.

ولطالما كان العديد من العسكريين غير مرتاحين للقوة المتنامية لقوات الدعم السريع، لكن المنافسة لا تتعلق فقط بالمكانة أو السلطة السياسية- إنما تتعلق بالاقتصاد أيضاً. يمتلك كل من الجيش وقوات الدعم السريع جزءاً كبيراً من الاقتصاد: المستشفيات والعقارات والأراضي ومناجم الذهب شركات البناء وحتى قطاعات صناعية بأكملها. لقد تعاون الطرفان، وإن على نحو غير مريح وإنما بشكل فعال ولسنوات طويلة. وتقاسما قالب الحلوى فيما بينهما وبين المقربين من البشير. الآن مع تناقص حجم القالب بسبب الانهيار الكبير للاقتصاد السوداني تحت الحكم العسكري، ومع تزايد الضغط للسيطرة المدنية على الدولة، يسعى كل طرف إلى القضاء على الآخر، مع وقوع الشعب السودان بين المطرقة والسندان.


فشل البرهان ودقلو في ترسيخ سلطتهما أو تشكيل حكومة منذ انقلابهما عام ٢٠٢١. وصلت الأزمة الاقتصادية إلى مستويات كبيرة، وباتت خزينة الدولة فارغة. وعلى الرغم من الاعتقالات والقمع، لم تتراجع الحركة الثورية بقيادة لجان المقاومة والنقابات وسواها من الهيئات المدنية الأخرى. وهي مستمرة في التنظم وجعلت الأمر مستحيلاً على جماعة البرهان ودقلو إعادة السودان “إلى ما كان عليه الحال”.

إذاً، ما الذي أدى إلى هذا التصعيد المفاجئ؟

منذ أشهر، أجبرت قوات الدعم السريع والجيش على الدخول في محادثات مع القوى المدنية من أجل الحرية والتغيير، التي وقعا معها اتفاق تقاسم السلطة عام ٢٠١٩. وقد نظمت إدارة الشؤون السياسية بالأمم المتحدة برئاسة ممثل الأمم المتحدة في السودان، فولكر بيرتيز. وهو مدعوم من عدة أطراف، من بينها “الترويكا” المكونة من الولايات المتحدة والنروج والمملكة المتحدة، الذين هم من اللاعبين في المشهد السياسي السوداني منذ ما سمي بـ”اتفاقية السلام الشامل” عام ٢٠٠٥، والتي أدت في نهاية المطاف إلى استقلال جنوب السودان.

تجري المحادثات خلف أبواب مغلقة مع نخبة من الفاعلين السياسيين، من المدنيين والعسكر. يحصل التواصل مع الشعب السوداني خارج هذه الدوائر من خلال إعادة تدوير الحجج المتعلقة باتفاق تقاسم السلطة الفاشل عام ٢٠١٩ ومحاولة تسويق فكرة أن الجيش والميليشيات سيتخليان عن السلطة بكل رضى. رفضت لجان المقاومة- القوة الثورية القيادية في البلاد- في معظمها رفضاً شاملاً ليس للصفقة فقط إنما رفضت كذلك أي تفاوض.

ومع التسويف في تحديد الموعد النهائي لتوقيع الصفقة في الأشهر الأخيرة، سجلت مؤشرات مختلفة على الانقسامات بين الجيش وقوات الدعم السريع بما خص الترتيبات الأمنية. وتمحورت حول مسألة دمج قوات الدعم السريع في الجيش والإطار الزمني لتحقيق ذلك.

كنت في الخرطوم بوقت سابق من هذا الشهر، ولاحظت فعلياً تزايداً في عسكرة المدينة. انتشرت آليات الدعم السريع بكثافة في مناطق معينة، ما دفع بالجيش إلى تعزيز حضوره. وبحسب مصادر المجتمع المدني في الخرطوم، هذا ما يحصل منذ توقيع اتفاق الإطار في كانون الثاني/يناير. وصل الوضع إلى ذروته يوم ١٥ نيسان/أبريل- تدعي قوات الدعم السريع أن الجيش قد هاجمها بالقرب من مطار مروي في شمال البلاد ومناطق أخرى ضمن حملة منسقة مسبقاً. بعد ذلك بوقت قصير، أعلن الجيش أن قوات الدعم السريع هي عدوة للدولة.

يدعي بعض المعلقين الغربيين أن هجوم قوات الدعم السريع كان بتحريض من الكرملين، أو على الأقل مدعوماً منه، هل هذه الادعاءات صحيحة؟

لم تثبت على الأقل حتى الآن، أعتقد أنه من السابق لأوانه وربما يكون مبالغاً القول إن روسيا هي من حرضت على ذلك. رغم ذلك، للعديد من القوى مصالح في السودان، من بينها روسيا. قوات الدعم السريع قريبة من الكرملين- كانت روسيا مستفيدة من تهريب الذهب من السودان عبر قوات الدعم السريع لبعض الوقت، والتي استعملتها روسيا لتكوين احتياطيات في حربها مع أوكرانيا بهدف التعويض من أثر العقوبات. في الواقع، زار دقلو بوتين في موسكو خلال الأسبوع الذي اندلعت فيه الحرب بين روسيا وأوكرانيا.


وروسيا مهتمة كذلك بإقامة قاعدة على ساحل البحر الأحمر وتتنافس مع قوى أخرى، لكنها لم تنجح حتى اليوم. تنشط مجموعة فاغنر كذلك في المنطقة، خاصة عند الحدود بين السودان وجمهورية أفريقيا الوسطى. ويعتقد أن مجموعة فاغنر والدولة الروسية لهما دور حاسم في تكنولوجيا المراقبة العائدة لقوات الدعم السريع ووسائل إعلامها، وخاصة قدرتها على البروباغندا، لكن الجيش لديه كذلك رعاته ووسائل البروباغندا الخاصة به.

ماذا عن بقية الدول؟ هل تنحاز إلى طرف ما في الصراع الحالي؟

الجيش السوداني مقرب من “أخيه الأكبر” أي الجيش المصري. لطالما نظرت مصر إلى السودان على أنها حديقتها الخلفية مع المصالح الاقتصادية والاستراتيجية الهامة. نظام السيسي ليس مختلفاً. وللسعودية والإمارات دوراً بارزاً كذلك: فالبرهان ودقلو يناوران منذ فترة طويلة لصالح هذين البلدين، ويعملان كقوى معادية للثورة منذ بداية الثورة في كانون الأول/ديسمبر ٢٠١٨. كما أن تركيا والاحتلال الإسرائيلي يلعبان دوراً بشكل أو بآخر.

كما أقام الاتحاد الأوروبي علاقات تجارية مع البشير بما خص الهجرة وما زال يستثمر بشكل كبير في موضوع “الاستقرار” و”إدارة الحدود”، حيث يعتبر السودان مصدّراً أساسياً ودولة عبور للمهاجرين. بعد انقلاب تشرين الأول/أكتوبر عام ٢٠٢١، خاطب دقلو الاتحاد الأوروبي علانية قائلاً إن من مصلحته التعاون مع الحكومة الجديدة. طوال العام الماضي، نشرت بروباغندا قوات الدعم السريع فيديوهات عديدة بلغات أوروبية مصورة نفسها على أنها جهة إنسانية فاعلة على الحدود.

الصراع في ليبيا، الذي لعب فيه الناتو دوراً، وسياسات الاتحاد الأوروبي المرتبطة بالحدود، و”الحرب على الإرهاب” بقيادة الولايات المتحدة في منطقة الساحل، أثرت كذلك على السودان عن طريق المرتزقة، حيث لعبت قوات الدعم السريع دوراً في الحالتين، واستفادت في تداول السلاح.

كيف رد المجتمع المدني على العنف؟ ماذا عن دور لجان الأحياء والقوى اليسارية التي قادت انتفاضة ٢٠١٩؟

أولاً، أعتقد أنه من المهم ملاحظة أن الانتفاضة في السودان مستمرة منذ كانون الأول/ديسمبر عام ٢٠١٨. على الرغم من أن الحركة تتقدم وتتراجع، لكنها لم تتوقف أبداً. فقبل الإجابة عن سؤالك، لا بد من وضعه في سياقه.

يعتبر المشروع الثوري في السودان من أهم الحركات التغييرية في العالم اليوم- هو ليس فقط ضد الاستبداد، إنما كذلك ضد الكولونيالية في صلبه. وذلك لأن السودان محكوم منذ الاستقلال من جانب النخب من منطقة حوض النيل، والمهيمنين على مناطق أخرى، والمؤيدين للهرمية الوطنية على أساس المنطقة والطبقة والجندر والعرق.


أدى انقلاب تشرين الأول/أكتوبر عام ٢٠٢١ إلى تجذير الحركة، وساعدها على رسم رؤية تتجاوز سياسة الاحتجاجات، كما يظهر من الميثاق الثوري لسلطة الشعب، والذي كانت نتيجة عمل مكثف في المجتمعات المحلية. كل هذا العمل- سنوات بناء القوة التنظيمية، وحياة شبابنا المسروقة دفاعاً عن الثورة- تهددها الحرب الحالية.

منذ اندلاع أعمال العنف، تعمل لجان المقاومة وسواها من المنظمات في أحيائها للمساعدة في تنظيم المساعدة المتبادلة. في اليوم الأول للاشتباكات، أصدرت هيئات التنسيق التابعة للجان المقاومة في الخرطوم بياناً واضحاً:

“نحث كل القوى الوطنية المدنية والسياسية على دعم وحدة السودان وشعبنا وأرضنا. نطالبهم بدق جرس الإنذار والعمل على خلق أكبر جبهة للسلام ولحماية الثورة السودانية من الانهيار. أيها المواطنون والثوار الشرفاء، حتى تمر هذه المرحلة الصعبة، نطلب منكم عدم الإنصياع لخطابات التحريض والتحريض المضاد التي بدأت تنتشر فعليا بين الأطراف المتحاربة. يرجى الحفاظ على سلامة أحيائكم ومدنكم، وعدم الانخراط في أي دعوة للعنف أو لحمل السلاح”.

هناك معركة أيديولوجية، وليس مجرد معركة مادية تجري بين طرفين: قوات الدعم السريع أو الجيش، إنما هي بين الدولة العسكرية بكافة أشكالها والثورة، والتي كان مطلبها منذ البداية دولة مدنية ديمقراطية بالكامل بقيادة الشعب. الحرب ليست مجرد صراع على السلطة، إنما هي محاولة لإعادة انتاج الديكتاتورية عبر تقديم الجيش على أنه المنقذ.

لطالما دعت اللجان إلى استراتيجية مزدوجة بما خص عسكرة البلاد- من ناحية حل قوات الدعم السريع والميليشيات الأخرى- ومن ناحية ثانية الإصلاح الشامل للجيش عن طريق إخضاعه للسيطرة المدنية وإزالة عملاء البشير الإسلاميين منه، وإعادة هيكلته على أسس مهنية بدلاً من عرقية، والحد من هيمنته على الاقتصاد.

واحدة من أكبر المشاكل التي يواجهها الناس في الخرطوم هي حملات البروباغاندا التي يطلقها الطرفان، ما جعل معرفة ما يحصل أمراً صعباً ويسمح في انتشار الشائعات. تعمل لجان المقاومة ونقابات الأطباء والهيئات المدنية الأخرى على مواجهة ذلك من خلال توفير المعلومات من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، خاصة لمنع الأشخاص الذين يحاولون الهروب عبر طرق غير آمنة.

كما أنتجت مجموعات من الفنانين والشباب في لجان المقاومة والهيئات المدنية الأخرى أعمالاً فنية ومقاطع فيديو وقصائد وشعارات على الجدران للتعبير عن وجود “خط ثالث”، ليس إلى جانب قوات الدعم السريع أو الجيش، إنما من أجل الثورة والاستمرار في بناء البنى الثورية الشعبية القاعدية التي يمكن أن تتغلب على سيطرة الجيش على السلطة.

كما تنسق مجموعات مختلفة، خاصة لجان المقاومة، مع نقابة الأطباء السودانيين لإقامة “غرف طبية” محلية لإسعاف الجرحى غير القادرين على الوصول إلى المستشفيات والمساعدة على إرشاد الناس. تؤمن هذه الهيئات إلى جانب المواطنين العاديين الغذاء والدواء للمحتاجين إليها. ولأن ثمة خطورة كبيرة في التنقل في أقسام كبيرة من المدينة، يجري الكثير من التنسيق عبر نشر الطلبات على وسائل التواصل الاجتماعي ومشاركة المكان وطريقة الاتصال بالشخص المعني. لكن الوصول إلى الانترنت بات مهدداً بالفعل.

تدل هذه الجهود على العمق التنظيمي واتساع نطاق الحركة الثورية في السودان وعلى الثقافة السودانية القائمة على تبادل المساعدة، لكنها ليست كافية، ثمة حاجة ماسة لوقف إطلاق النار، وفضلاً عن المساعدات الطبية والإنسانية، إضافة إلى طرق آمنة داخل وخارج المدن.

هل تخشين من وقوع السودان في حرب أهلية، أم أن الإنقلاب يمكن أن يشعل ثورة ثانية؟

يجب أن نعلم أن البلاد غارقة في حرب أهلية منذ عقود، لكن في مناطق بعيدة عن العاصمة. إن نسيان ذلك يعني محو الدارفوريين وسواهم الذين عانوا طويلاً والذين يدخلون هذه المرحلة الجديدة من العنف في وضع هش للغاية.

لكن ما يمكن قوله حتى الآن هو حصول اشتداد للنزاع- على نطاق واسع وعميق بشكل لم نشهد مثيلاً له من قبل. الطرفان الأساسيان مسلحان جيداً إلى جانب العديد من القوات. لم تقصف الخرطوم أو تعش حرباً مباشرة من قبل. ونظراً لحجم البنية التحتية الموجودة في السودان، من بينها تلك الصحية، فإن الأمر مقلق جداً.

لذا، بالتأكيد هناك خطر كبير من الانزلاق إلى الهاوية. لن يكون ذلك مدمراً على السكان فقط، إنما على المشروع الثوري برمته كذلك. من شأن ذلك أن يسبب بتأثير مضاعف على الدول المجاورة، التي يهرب الناس إليها. بعض اللاجئين في السودان موجودون فيها بحثاً عن الأمان هرباً من الحروب من تيغراي[شمالي إثيوبيا] وسوريا ومناطق أخرى- وهم يواجهون الآن التهجير من جديد. يوجد فعلياً في السودان أعلى نسبة مهجرين في العالم. ماذا يحصل لو تحول النزاع إلى حرب شاملة؟

ماذا تقولين لليساريين في أوروبا الذين يودون المساعدة؟ ماذا نستطيع فعله؟

تتمثل الإجراءات الأكثر إلحاحاً حالياً هو في تأمين طرق آمنة للمدنيين والقوافل الطبية والمنظمات الإنسانية- من أجل وقف فوري لإطلاق النار واتخاذ إجراءات توقف تدفق الأسلحة أو أي دعم مادي آخر للطرفين. لقد اكتشفنا الأسبوع الماضي وجود عقد بيع برامج مراقبة من الحكومة اليونانية إلى الجيش السوداني!

على الاتحاد الأوروبي ضمان فوراً أن جميع الدول الأعضاء والحلفاء لا يؤججون الحرب. يجب أن تشمل الجهود الضغط على أعضاء المجموعة المسماة- يا للمفارقة- “أصدقاء السودان”- وهي مجموعة دول دعت إليها ألمانيا في خضم ثورة عام ٢٠١٩ وتضم الإمارات والسعودية ومصر- للبقاء بعيداً عن الصراع والضغط على الجيش السوداني وقوات الدعم السريع لوقف الحرب.

من الضروري اتحاد اليسار عالمياً لإنهاء النزاع في السودان ودعم الثورة بحسبما تطالب به الحركة. يجب على كل الحكومات والهيئات ذات النفوذ المطالبة بوقف فوري لإطلاق النار على مستوى الدولة، ووصول غير مقيد للمنظمات الإنسانية، المحلية أو الدولية، وكذلك حرية تنقل المدنيين. يجب أن يدعو اليسار إلى احترام حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني. يجب أن يواجه اليسار الخطاب الذي يقول إن الجيش “يشكل أهون الشرين”- إنما بدلاً من ذلك أن يساهم في إيصال أصوات الشعب السوداني، الذي طالب بوضوح طيلة ٤ سنوات حتى اليوم: “لا لقوات الدعم السريع والجيش، نعم لدولة ديمقراطية مدنية”.


برأيي، تأخرت جداً العقوبات المفروضة ضد قيادة الانقلاب ٢٠٢١، سواء من قوات الدعم السريع أو الجيش. هناك حاجة لفرض منع سفرهم لمنعهم من الفرار من المساءلة أو الانسحاب لإعادة تنظيم أنفسهم. يجب وقف تدفق الأسلحة والمال إلى الطرفين بحزم- وهذا يعني ممارسة الضغط على حلفاء الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في المنطقة لوقف تدخلهم في البلد. يجب دعم المجتمع المدني في السودان لجمع الأدلة على الجرائم التي ارتكبها الطرفان في الأيام الماضية. كما ينبغي رفض كل الصفقات التي تزيد من سيطرة الجيش على السلطة أو تمنح حصانة لقادته أو لقوات لدعم السريع.

من جديد، يجب تركيز الجهود على وقف النزاع والجانب الإنساني. أعتقد أن ذلك يجب أن يمثل أولوية فورية، إلى جانب إزالة العوائق من أمام حركة المهجرين. فقط بعد توقف القتال والتدمير يمكن البدء في معالجة مسألة الحكم والعملية الانتقالية.



#سارة_عباس (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- في السودان، الثورة في مرمى النيران


المزيد.....




- فيديو صادم التقط في شوارع نيويورك.. شاهد تعرض نساء للكم والص ...
- حرب غزة: أكثر من 34 ألف قتيل فلسطيني و77 ألف جريح ومسؤول في ...
- سموتريتش يرد على المقترح المصري: استسلام كامل لإسرائيل
- مُحاكمة -مليئة بالتساؤلات-، وخيارات متاحة بشأن حصانة ترامب ف ...
- والدا رهينة إسرائيلي-أمريكي يناشدان للتوصل لصفقة إطلاق سراح ...
- بكين تستدعي السفيرة الألمانية لديها بسبب اتهامات للصين بالتج ...
- صور: -غريندايزر- يلتقي بعشاقه في باريس
- خوفا من -السلوك الإدماني-.. تيك توك تعلق ميزة المكافآت في تط ...
- لبيد: إسرائيل ليس لديها ما يكفي من الجنود وعلى نتنياهو الاست ...
- اختبار صعب للإعلام.. محاكمات ستنطلق ضد إسرائيل في كل مكان با ...


المزيد.....

- كراسات التحالف الشعبي الاشتراكي (11) التعليم بين مطرقة التسل ... / حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
- ثورات منسية.. الصورة الأخرى لتاريخ السودان / سيد صديق
- تساؤلات حول فلسفة العلم و دوره في ثورة الوعي - السودان أنموذ ... / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- المثقف العضوي و الثورة / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- الناصرية فى الثورة المضادة / عادل العمري
- العوامل المباشرة لهزيمة مصر في 1967 / عادل العمري
- المراكز التجارية، الثقافة الاستهلاكية وإعادة صياغة الفضاء ال ... / منى أباظة
- لماذا لم تسقط بعد؟ مراجعة لدروس الثورة السودانية / مزن النّيل
- عن أصول الوضع الراهن وآفاق الحراك الثوري في مصر / مجموعة النداء بالتغيير
- قرار رفع أسعار الكهرباء في مصر ( 2 ) ابحث عن الديون وشروط ال ... / إلهامي الميرغني


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - سارة عباس - في السودان، الثورة في مرمى النيران