أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - عبد الله ميرغني محمد أحمد - تساؤلات حول فلسفة العلم و دوره في ثورة الوعي - السودان أنموذجا















المزيد.....



تساؤلات حول فلسفة العلم و دوره في ثورة الوعي - السودان أنموذجا


عبد الله ميرغني محمد أحمد

الحوار المتمدن-العدد: 7577 - 2023 / 4 / 10 - 22:26
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
    


تـــقدمة
مـن أهـِّم صـور التناقـض التـي يعيشـها المجتمـع العربـي عامـة والســوداني بصــورة خاصــة تتمثــل فــي زيــادة عــدد المؤسســات الِعلميــة ومراكــز البحــوث واستجلاب آخــر مــا تنتــج تكنلوجيــا العصــر، زيــادة عــدد الخريجيــن، تضخــم مظاهــر التمــدن لكــن بالرغــم مــن كل ذلــك؛ نلاحظ أن دور الِعلــم فــي الحيــاة مــا زال محصــورًا فــي أبراجــه العاليــة فقــط، لذلــك تراجــع دور العقــل والِعلـم فـي مواجهـة تحديـات العصـر، ويلخـص د. إبراهيـم بـدران ذلـك فـي سؤال محـوري ((أيـن يذهـب الِعلم فـي العقـل العربي؟ أو بالأحرى فــي العقــل الســوداني؟ ويواصــل د. بــدران ليؤكــد أن الِعلــم لا يستطيع أن يكتســب ديناميتــه وقّوتــه الدافعة المحركة الجدليــة في التقدم إلا إذا تغلغــل فــي التركيبة الاجتماعية وتفاعــل معهـا لتكـون قـادرة علـى التجـاوب والإبداع وبهـذا المفهـوم يخـرج الِعلـم عـن كونـه معلومـة أو خبـر أو نشـاط نخبـوي محـدد ويتحـَّول إلــي ظاهــرة أو مؤسســة أو مدرســة لهــا بعدهــا الاجتماعي ولهــا وظيفتها التاريخية))(1) ويسـتطرد فـي نفـس السـياق ((ولقـد أَّدى عـدم إدراك الطبيعـة التاريخيـة لنظـام الِعلـم إلـى أن تحـول الِعلـم إلــى مجــّرد مــادة إخباريــة فــي العقليــة العربية/الســودانية قائمــة بذاتهــا بــال زمــان وبــال مــكان وبعيــدًا عــن الخلفيــة الاجتماعية الاقتصادية السياســية الســائدة.)) (1) ويتمثــل ذلــك فــي الصــورة غيـر السـوية فـي أن نتعامـل مـع علـوم القـرن الواحـد والعشـرين بمنطـق القـرون الوسـطى!

ومــن الملاحظ أن المفاهيــم الِعلميــة فــي العقليــة الســودانية مزعزعــة وقلقــة، وقــد عبر د. زكــي نجيــب محمــود عــن ذلــك بقولــه: ((لمــا كانــت جذورنــا الثقافيــة العميقــة نابتــة مــن وراء الواقــع المــادي والإدراك عندهــا ال يكــون بالحــواس، بــل يكــون بالإلهام، فلقـد نشـأت فـي نفوسـنا كراهيـة لكل مـا هـو مـادي ينــدرج فــي نطــاق الحــواس وكان حتمــًا علينــا أن يجيــئ إيماننا بالعلــم الطبيعي الــذي هــو محــور أبــرز ســمات العصــر إيمانــًا تســاوره الشــكوك ومــن هنــا انشــطرت حياتنــا بازدواجيــة أخــرى فمـن الوجهـة النظرية نتشـكك فـي العلـوم وقدراتهـا ومـن الوجهـة العمليــة نقبــل بــكل نفــس راضيــة علــى مــا تنتجــه تلــك العلــوم مـن ثمـرات)) (2) وبـذا تعيـش العقليـة العربيـة حالـة انفصـام تجـاه العلوم الطبيعية! فـي نفـس الصدد يشـير دكتـور حيـدر إبراهيـم علـي ((بـأن التعليـم فـي الوطـن العربـي تعـّرض لكثيـر مـن لأنقـد مـن العديـد مـن الجهـات المختلفـة أيديولوجياـ، أي مـن التقدمييـن والســلفيين علــى حــد ســواء، الــكل يريــد أن يوظفــه لمــا يخــدم مآربــه السياســية. وفــي كل الأحوال لــم يعــد يــؤِّدي التعليــم دورًا فـي التنميـة والتقـدم وبنـاء الشـخصية القوميـة، فقـد ورث أسـوأ مــا فــي النظام التعليمــي الاستعماري والتقليــدي وأضــاف إليهــا قيمــًا ســلبية أخــرى مثــل المنافســة المطلقــة والتلقيــن وعلاقــات الخضــوع والقهــر، بــل قــد أصبــح التعليــم تجــارة واســتثمارًا بالمعنــى الإنتاجي فــي كثيــر مــن الأحيان )).(3) ويحِّلــل دكتــور صــلاح قنصــوه العلاقــة بيــن الِعلــم والفلســفة مـن منظـور كِّلـي إلـى ((العالقـة بيـن الِعلـم والفلسـفة مـن خلال تطـُّور الفكر الفلسفي عبر العصور أكدت أن المشكلة الفلسفية الكبرى لم تعـد هـي وجـود الإنسان الشـخصي بـل هـي مشـكلة عَّبـرت الفلسـفة الوجوديـة عـن ذلـك وجـود الإنسانية بأثرهـا وقـد بأنهــا مشــكلة إنســان القــرن العشــرين مشــكلة إمكانيــة تجســيد الحريـة فـي (الأنا) وعلاقـة ذلـك ( بالأخر.) ولكـن جميعنـا يتفـق إن كُلّ مـا هـو إنسـاني ليـس مطلقـًا، بـل يرتبـط بالواقـع وبالتاريـخ ويعمـل علـى إعـادة صياغـة حيـاة هـذا الإنسان. وأيضـًا هنالـك عالقـة عضويـة بيـن الِعلـم والفلسـفة فالأول دون فلسـفة تجـارب عشـوائية والفلسـفة دون علـم تجريـد عقيـم)) (4)

مقارنـة بمصـادر المعرفـة الثالثـة: الحسـية، الفلسـفية والِعلمية، تمتـاز الأخيرة بسـمات عديـدة منهـا التراكميـة، التنظيـم، البحـث عــن الأسباب، الشــمولية واليقيــن، والدقــة والتجريــد(5) ويصــف دكتـور كمـال دشـلي القانـون الِعلمـي بأنـه ((يتميـز بقـدر وصفـه لمــا يقــع فــي الوجــود الخارجــي، مــن تلازم زمانــي ومكانــي، لحـوادث معينـة تتعاقـب أو تتعـارض معـًا، إن الفـرض يتحـَّول إلـى علمــي، إذا ثبــت علــى مــِّر الزمــن وأصبــح قانون مــن الصعــب نقضــه أو تغييــره.)) (5) أمــا المنهــج الِعلمــي كمــا وصفــه أرســطو يقــوم علــى أساســين، الهيــكل المنطقــي «المســلمات والنتائج» والإجرائيات «المشــاهدة، الاستنباط، المســلمات.» )) (5)

والتساؤلات التـي تفـرض نفسـها خلال هـذه الورقـة، ليسـت وليـدة اللحظـة بالطبـع، فقـد ُوجـدت مـع الإنسان العاقـل الـذي أراد أن يتحسـس الوجـود ويدركـه؛ وعندهـا بـدأ التناقـض ومـن ثـم الصــراع لينتصــر الإنسان أخيــرًا، ويصنــع الحضارة الإنسانية، وفـي المقابـل يصنـع المـوت باسـم الإنسانية أيضـًا. ال يوجـد أحـد يســتطيع أن يجــزم أنــه يملــك إجابــات مطلقــة للتساؤلات التــي أريـد طرحهـا لكنهـا محاولـه للتفكيـر بصـوت مرتفـع ليولـد ذلـك (العقـل الجماعي/ أو الجمعي) الـذي صـار بمثابـة صخـرة سـيزفي جديـدة يحملهـا إنسـان هـذا القـرن القلـق. والتساؤلات هـي:

1:لماذا فلسفة الِعلم؟
2: ما هي الصلة بين الِعلم والإنسان؟
3: هل هنالك ثمة تقاطع بين الِعلم والثقافة؟
4: ما هي العالقة بين الِعلم والدين؟
5: جدلية الوعي والثورة - كيف؟
6: ثنائيات العقل الجمعي السوداني إلى أين؟
أولا لماذا فلسفة العلم؟
((ظاهــرة الِعلــم أخطــر ظواهــر الحضــارة الإنسانية، وأكثرهــا تمثيلا لحضور الإنسان -الموجــود العاقــل- فــي هــذا الكــون. ولئــن كان الِعلــم الحديــث يمثــل مرحلــة شــديدة التمُّيــز والتوهــج مــن مراحــل تطــُّور الِعلــم والعقــل والحضــارة إجمالا، فـإن القـرن العشـرين أتـى فـي إثرهـا ليضاعـف مـردودات الِعلـم وحصائلـه بمعدلات متصاعـدة غيـر مسـبوقة، وبـات الِعلـم العامل الفاعـل الحاسـم فـي تشـكيل العقـل والواقـع علـى السـواء، ومـن ثـم باتـت فلسـفة الِعلـم بدورهـا أهـم فـروع الفلسـفة فـي القـرن العشـرين، والمعبـرة عـن روحـه العامـة وطبيعـة أمـد العقلـي فيـه، وحواراتـه العميقـة التـي يتلاقى فيهـا الـرأي والـرأي الآخر )) (6) ـ

من الناحية التاريخيــة لــم يكــن هنالــك تمييــز بيــن الفلســفة والِعلـم علـى مـدى 22 قرنـًا - مـن القـرن السـادس قبـل الميلاد وحتــى القــرن الســابع عشــر الميلادي - حيــث قامــت الفلســفة بالمهمتيــن معــًا، ســواء كانــت متعلقــة بمــا هــو كائــن أو مــا ينبغــي أن يكــون. ومــع تراكــم المعرفــة واتســاعها وظهــور مناهــج جديـدة للبحـث عـن الحقائـق بعيـدًا عـن التأمـل العقلـي المجـرد بـدأت العلـوم التطبيقيـة تنفصـل الواحـدة تلـو الأخرى مـن عبـاءة الفلسـفة. والتسـاؤل الـذي فيـرض نفسـه الآن: مـاذا تبقـى للفلسـفة بعـد انفصــال الِعلـم عنهــا؟

يجيــب أليكــس روزنبيــرج Rosenberg Alexander ((الفلســفة تقــوم بــدور الإجابة عــن التساؤلات الكليــة التــي عجــز الِعلــم عـن الإجابة عنهـا - علـى سـبيل المثـال مـا هـو العقـل؟ مـا هـو الجمـال؟ مـا هـو الزمـان؟ ومـن هـذا المنطلـق يمكـن القـول بـأن العالقـة بيـن الِعلـم وفلسـفة الِعلـم أشـبه مـا تكـون بعالقـة لأناقـد بالمبـدع. وتقـوم فلسـفة الِعلـم بتقييـم وإيضـاح مـدى اقترابـه مـن الصــورة المثلــى للإبداع. ويشــمل نشــاط فيلســوف الِعلــم شــرح مقومــات الِعلــم وتحليــل مفاهيمــه الأساسية، كمفهــوم المــكان والزمـان والمـادة والحركـة، والنظرية، والقانـون، والتفسـير. وهنالـك العديـد مـن العلمـاء يـرون أن ليـس هنالـك حاجـة لفلسـفة الِعلـم كمــا يــرى البعــض أن المبــدع ليــس فــي حاجــة للناقــد)) (7) وبهـذا التداخـل نسـتطيع أن نجـزم أن ال فـكاك للِعلـم مـن الفلسـفة بعــد خروجــه مــن دائــرة اهتمامهــا المباشــر، والواقــع أن بعــض المشكلات الفلسـفية تقتفـي أثـر التغيـرات فـي العلـوم الطبيعيـة، وعلـى سـبيل المثـال تصـُّور الفلاسفة للعقـل وموقعـه فـي الطبيعـة وتصُّورهــم لحريــة الإرادة فــي مواجهــة الحتميــة. لكل ذلــك تأثــر تأثرًا عميقــًا بالتطورات العلمية عبــر العصور .

فــي المقابــل انتقــد كارل بوبــر Popper Karl (1902 – 1994) وهــو مـن أشـهر فالسـفة الِعلـم فـي القـرن العشـرين - انتقـد كل مـن المنهــج الاستنباطي الــذي بــدا مــع الفيلســوف أرســطو Aristotle (384-322 B.C) فــي كونــه يعتمــد علــى مقدمــة كبــرى تليهــا مقِّدمـة صغـرى ثـم النتائـج نسـبة لعمومتيها. وأيضـًا انتقـد المنهج الاستقرائي الــذي تبّنــاه الفيلســوف الإنجليزي Bacon Francis (1561-1621) رائــد الثــورة الِعلميــة الحديثــة وذلــك خوفــًا مــن الانزلاق فــي عالــم الميتافيزيقيا. اعتمــد Popper علــى معاييــر علميـة صارمـة تقـوم علـى الملاحظة- الفرضيـة- التجربـة- النتائـج - النظرية فــي تطويــر منطــق البحــث الِعلمــي. ويمكــن تلخيــص فلســفة الِعلــم التــي تبّناهــا كارل بوبــر Popper Karl فــي النقــاط التاليــة: (8)
أولا: الملاحظة الحسـية فقـط - مثـال علـى ذلـك حركة الشـمس الظاهريـة - قـد ال تكـون صادقة.
ثانيـًا: أسـاس النظرية الِعلميـة (فـي فلسـفة الِعلـم) هـو قابليـة الدحـض والتفنيـد والتكذيـب.
ثالثـًا: الِعلـم ال يعتـرف بحقائـق مطلقـة وهـو فـي حالـة تطـور مسـتمر عبـر التاريـخ.

وعليـه الفـرق بيـن الِعلـم والِعلـم الزائـف Pseudo- and Science Science هـو القابليـة للتكذيـب. فرضيـات الدجـل لا تكـذب لأنها لا تخضــع لمنهــج علمــي بعينــه فــي حيــن قوانيــن نيوتــن Newton للحركــة قابلــة للتجربــة والدحــض والتكذيــب. دور الِعلــم ليــس البحـث فـي ماهيـة الأشياء(هـذا دور الفلسـفة( كمـا أن المعرفـة موضوعيـة مسـتقلة عـن الإنسان أي أن العقـل الإنساني يكتشـف المعرفـة )خـارج نطاقـه(

.نخلــص إلــى أن هنالــك ثمــة عالقــة موضوعيــة بيــن «الــذات العارفــة» أي رجــل الِعلــم والموضــوع بصــدد البحــث، وفلســفة الِعلــم تعيدنــا مــن جديــد للتمييــز بيــن مــا يمكــن إخضاعــه للتجربــة وفقــًا للمنهــج الِعلمــي وفرضيــات الدجــل، التــي ســادت فـي الفضـاء السـوداني -حتـى فـي الوسـط الِعلمـي- مؤخـرًا. ((إن مشــكلة التمييز (بيــن الِعلــم واللاعلم ) إذن أساســية فــي فلســفة الِعلــم، أو علــى حــد تعبيــر بوبــر هــي المشــكلة الأساسية التــي تتفـرع عنهـا كل المشـاكل الأخرى فـي فلسـفة الِعلـم. وعلـى هـذا تتفـق جميـع الأطراف المعنيـة علـى ضـرورة تمييـز الِعلـم، وعلـى ضـرورة الإجابة علـى التسـاؤل: مـا هـو الِعلـم؟ فكيف يمكـن مثـل هــذا التمييــز؟)) (9)

أمـا بصـدد تاريخيـة الِعلـم وضـرورة أن يواكـب الزمـان والمـكان فـي تطـوره، فقـد عَّبـر عـن ذلـك د. إبراهيـم بـدران ((لأن الِعلـم فــي أحــد جوانبــه هــو تعبيــر العقــل البشــري عــن العالقــات الموضوعيــة التــي تحكــم مكونــات الوجــود، فــإن هــذا التعبيــر يصبــح بالضــرورة جــزءًا مــن تاريــخ الجنــس البشــري مؤثــرًا ومتأثـرًا بوسـائله ومفاهيمـه، وأفـكاره، وفلسـفته ومعتقداتـه. وبالتالـي متغّيـرًا، بمفهـوم جدلـي، مـن متغِّيـرات التاريـخ. وهـذا يعنـي أن التحليـل الِعلمـي للِعلـم يجـب أن يكـون تحليـلا تاريخيـًا. ومـن هنـا فـإن سـحب المفاهيـم العامـة والثابتـة فـي الزمـان والمـكان علـى الِعلــم كظاهــرة إنســانية يصبــح ُمدعــاة لتجميــد مفاهيــم الِعلــم، ســواء تجميــدًا مكانيــًا لتقتصــر علــى مجموعــة مــن لأنــاس أو مجتمــع ُمعّيــن، أم تجميــدًا زمانيــًا لتقتصــر علــى حقبــة زمانيــة معّينــة، إن مــا يترتــب علــى كل الأمرين مــن خطــورة لا يحتــاج إلــى تبيــان)) (1)

وحتــى يتــم التفرقة أو التمييز بين العلم الحقيقي و الزائف لابد مــن العــودة لتعريف المصطلــح: ((أو قبل كل شــيء، فكــرة التعريف الجامــع المانــع قاصــرة، وهــي مســتحيلة، فلــو قلنـا مثـل: الِعلـم هـو البحـث عـن الحقائـق، لكانـت الجاسوسـية علمـًا. أو قلنـا: هـو بنـاء نسـقي مـن المعلومـات الواقعيـة، لكانـت شـجرة العائلـة علمـًا أو هـو بناء نسـقي مـن المعلومـات الواقعية المفيـدة، لـكان دليـل التليفون علمـًا ، وهكـذا يسـتحيل وضـع تعرفي يحصــر جميــع الأنشطة الِعلميــة ويميزهــا، وهــذا شــيء يـكاد يكـون مسـَّلمًا بـه، فهـل يمكـن مثـل تمييـز الِعلـم بواسـطة مجموعـة مـن الخصائـص، كأن نقـول: هو النشاط الـذي يتسـم: بالعموميــة والموضوعيــة والتجريــد والنســقية وثبــات الصــدق، والتسـليم ببعـض مبـادئ معينة، بالطبـع هـذه محاولـة ليسـت أقـل قصـورًا مـن فكـرة التعريف، فبغض لأنظـر عـن أن الِعلـم ليـس ثابــت الصــدق، وليــس هنــاك أيــة مبــادئ معينــة مــن الضــروري التســليم بهــا، فإنــه مــن الممكــن مثــل تنــاول مشــكلة شــخصية تنـاولا موضوعّيـًا، كمـا يمكـن تكميـم ميزانيـة الشـركة بـل وسـائر أنشـطتها، ويمكـن تجريـد خطـوط الرسـم فـي لوحـة فنيـة … إن الصفـات كيفيـة، وهـي فضفاضـة يمكـن أن تجتمـع فـي أي نسـق، وهـو ليـس علميـًا، ال سـيما وأن أنسـاق العلـوم الزائفـة تقـوم علـى تنســيق عقلاني خــالب، وإلا فلمــاذا نخشــى اختلاطها بالعلــم؟ الِعلــم نشــاط دقيــق، فــال بــد وأن يكــون تمييــزه علــى أســاس دقيـق دقتـه، إن لـم يكـن أكثـر، بعبـارة أخـرى: ال بـد مـن تمييـز الِعلـم علـى أسـاس منطقـة، أي منهجـه)) (9)

وفــي ســياق آخــر تطــرح يمنــى الخولــي قضيــة العالقــة بيــن فلســفة الِعلــم ونظريــة المعرفــة ((و لا شـك أن فلسـفة الِعلـم هـي الُمعِّبــر الرســمي والشــرعي عــن أصــول التفكير الِعلمــي، وهــي مسـئولة عـن وضعيـة ودور تاريـخ الِعلـم، ولكـن نلاحظ مبدئٍّيـا أن فلســفة الِعلــم كمبحــث أكاديمــي متخصــص ومســتقل عــن نظريــة المعرفـة بصفـة عامـة، قـد نشـأت فـي لأنصـف الأول مـن القـرن التاسـع عشـر، وهـذه حقبـة شـهدت ذروة مـن ذرى المجـد الِعلمـي؛ إذ كان الِعلـم الكلاسيكي الـذي تؤطـره فيزيـاء نيوتـن معتـدًا بذاتـه إلـى أقصـى الحـدود، فلـم ينشـغل رجالاته كثيـرًا بتاريـخ الِعلـم، ولم يعـن فلسفته بالإجابة علـى السـؤال: كيف بـدأ الِعلـم؟ كيف اتجه وسـار؟ كيف نمـا وتطـور حتـى وصـل إلـى تلـك المرحلـة)) (10)

بينمـا يصـل الِعلـم إلـى تلـك الدرجـة مـن المجـد واليقيـن، قـد يتبـادر إلـى ذهـن البعـض السـؤال المحـوري، هـل يسـتطيع الِعلـم الإجابة علـى كل الأسئلة التـي يطرحهـا الإنسان القلـق فـي القـرن الواحـد والعشـرين؟ الإجابة ليسـت مطلقـة، بـال أو نعـم، لكنهـا مشـروطة بنـوع وطبيعـة السـؤال المطـروح. فـي هـذا السـياق يعـدد أليكــس روزنبريــج بعــض الأسئلة، التــي لا معنــى لهــا، لكنهــا تنكـرت فـي صـورة سـؤال مشـروع، يبحـث عـن إجابـة. ((هـل تنام الأفكار الخضـراء بغضـب؟ أو متـي يحـل منتصـف لأنهـار بتوقيـت جرينتش؟ أو مـا هـو الوقـت علـى الشـمس؟ ويواصـل.. إن الأسئلة الوحيــدة التــي ســتبقى بــدون حلــول فــي نهايــة البحــث الِعلمــي هـي الأسئلة الزائفـة، التـي ال تحتـاج مـن الأشخاص المسـئولين فكريـًا، أن يقلقـوا بشـأنها. بالطبـع قـد لا تتواجـد الكائنـات العاقلة مـن أمثالنا طويـلا فـي تاريـخ العالـم لتسـتكمل الِعلـم، إلا أن ذلـك ليــس ســببًا لإستنتاج أن الِعلــم وطرقــه غيــر قــادرة مــن حيــث المبـدأ، علـى الإجابة عـن كل الأسئلة ذات المغـزى.))(7)

ثانيًا: ما هي الِّصلة بين الِعلم والإنسان؟
مقارنـة بتاريـخ البشـرية علـى سـطح الأرض، الـذي يصـل إلـى ملايين الســنوات، فــإن المعرفــة الِعلميــة بصورتهــا الراهنــة ال تتعـدى عـدة أيـام مـن ذلـك التاريـخ الطويـل. هـل يسـود التفكيـر الِعلمــي فــي القــرن الواحــد والعشــرين فــي ُك ِّل المجتمعــات؟ مــا هـي حـدود الذاتيـة والموضوعيـة فـي التفكيـر الِعلمـي؟ وهـل الِعلـم للجميـع أم للخاصـة المنتفعـة بـه فقـط؟ فـي هـذا السـياق يشـير د. فـؤاد زكريـا (( بـل إننـا نسـتطيع أن نقـول إن البشـرية، منظـورًا إليهـا ككل ، مـا زالـت بعيـدة عـن اكتسـاب جميـع سـمات التفكيـر الِعلمــي، ومــا زال هــذا التفكيــر يقتصــر فيهــا علــى مجتمعــات معّينــة، وحتــى فــي هــذه المجتمعــات يتعــرض الِعلــم لتشــويهات عديـدة، قـد تظهـر حتـى بيـن المتخصصيـن فيـه))
(11)
ونعـود إلـى موقـف الإنسان مـن الِعلـم مـع د. صـالح قنصـوة ((هنالـك موقفـان يحـددان الصلـة بيـن الِعلـم والإنسان الأول مرتبط بالتعريف الاســتاتيكي للِعلــم وهــو الــذي يقصــره علــى محتــواه المعرفــي فقــط والإنسان العاِلــم مــن هــذا المنطلــق ال يعــدو أن يكــون مــرآة مســتوية تعكــس كل مــا هنــاك فــي الطبيعــة، أو إجــراء الملاحظات والتجــارب، ومجــال الِعلــم فــي هــذه الحالة محــدود بالوقائــع والقوانيــن التــي تجــري علــى ســنن حتميــة وتثبتهــا الملاحظة والتجربــة الموضوعيــة وتبعــًا لهــذا الموقــف تكـون الحقيقـة الِعلميـة قابعـة هنالـك (فـي وجـود ديكارت)، محايدة ومسـتقله عـن الإنسان وعلـى رجـل الِعلـم أن يميـط عنهـا اللثـام وبهـذا يكـون الِعلـم منفصـ ًال عـن الفاعليـة الإنسانية ولـه سـلطته المسـتقلة إمـا نقبلهـا أو نرفضهـا)) (4)

أمـا الموقـف الثانـي الـذي يحــدد الصلــة بيــن الِعلــم والإنسان فهــو مبنــي علــى التعريف الديناميكـي للِعلـم. فالعلـم ليـس كائنـا مسـتق يواجهنـا ويلزمنـا أن نتخـذ موقفـًا بإزائـه، بـل هـو أحـد جوانـب النشـاط الإنساني (الفاعليــة النوعيــة) وهــو جهــد يبذلــه الإنسان لمعرفــة الطبيعــة والســيطرة عليهــا. والِعلــم ليــس هــو قوانيــن الطبيعــة، بــل هــو اكتشــافها وعمليــة الاكتشاف والصياغة المســتمرة هــي عمليــة مشــروطة كأي عمــل إنســاني آخــر وقــد قــال هاينزبيــرج Hinesburg- فـي هـذا السـياق «إن الِعلـم ليـس هـو الطبيعـة نفسـها، بـلهــو تصُّورنــا للطبيعــة ومعرفتنــا لهــا وهــو الطريقــة التــي نضــع بهــا أســئلتنا بحيــث نفــرد ونعــزل مجــا ًال محــدودًا بيــن خضــم الظواهــر)) (4) وتأييـدًا لهـذا الموقـف يقـول أينشـتين Einstein « ((ليـس الِعلـم ُمجـّرد قوانيـن أو قائمـة بحقائـق غيـر مرتبطـة، بـل هـو ابتـكارات العقـل الإنساني بمـا فيـه مـن معتقـدات وأفـكار نتيجـة فكـر حـر طليــق، وتحــاول كل النظريــات الفيزيائيــة تكويــن صــورة للواقــع وإيجـاد رابطـة بينهـا وبيـن عالـم الوعي))(4) والتسـاؤل الآن هـو ماهــي حــدود الموضوعيــة والذاتيــة فــي تلــك الصلــة بيــن الِعلــم والإنسان أو مـا هـو المنهـج الـذي يؤطـر شـرعيًا لتلـك العالقـة؟

المنهـج الِعلمـي ليـس مجموعـة محـددة مـن الخطـوات يجـب عــدم تجاوزهــا كأنهــا وصفــة مقدســة.. كمــا إنــه ليــس منهجــًا اســتقرائيًا كالــذي ألفنــاه عنــد بيكــون، سيتورات وديــكارت Ba- Descartes and Stewart con,، فمــا دام الِعلــم يتطــَّور فبالضرورة أن يتطـور المنهـج الِعلمـي ليواكـب ذلـك التطـُّور. والمنهـج الِعلمـي يتميــز بأنــه يتضمــن مبــادئ ومســلمات ويعالــج الوقائــع ويقيــم الفـروض التـي تربـط بينهـا ويصوغ فـي النهايـة القوانيـن والنظريات وفـي كل ذلـك الملاحظة والتجربـة هـي الأداة، والرياضيـات هـي اللغـة التـي يصـوغ بهـا نتائجـه. ووظائـف المنهـج الِعلمـي نسـتطيع تلخيصهــا فــي الوصــف، التفســير، التنبــؤ، والتحكــم ولـكل مــن هـذه الوظائـف أهميتهـا النسـبية)) (4)

الوصف : (De--script--ion) - يتفـق كل الوضعييـن إن الوصـف هـو المهمــة الجوهريــة للمنهــج الِعلمــي فمــاخ Mach يعتقــد إن وظيفة الِعلـم هـي «الوصـف الاقتصادي للوقائـع التجريبيـة» وهـو يـرى إن المعرفــة الِعلميــة ليســت ســوى أبســط مــا يمكــن مــن وصــف للعالقـات بيـن العناصـر بأقـل جهـد عقلـي ممكـن! أي الاقتصاد فـي التفكير. (4)

التفسـير :(Interpretation) - إذا كان الوصـف يجيـب على السـؤال مـاذا هنـاك؟ فالتفسـير يجيـب علـى السـؤال كيف يحـدث الـذي هنالــك؟ وال نريــد كمــا يقــول دكتــور صــالح قنصــوه إثــارة نــزاع بيزنطـي حـول كيف ولمـاذا طالمـا إننـا لا نعنـي (بلمـاذا) الدلالة الميتافيزقية لمعنـى العِّليـة الباطنـة فـي طبيعـة الأشياء. فلمـاذا هنا هـي الحافـز الأصلي لإثارة المشـكلة الِعلميـة. (4)

التنبــؤ :(Prediction) - ال يقــف فالســفة الِعلــم كثيــرًا عنــد التنبــؤ، ليــس لضآلــة أهميتــه، بــل لأنه الهــدف الــذي لا بد أن يتحقــق إذا مــا كان المشــروع الِعلمــي ناجحــًا. ويقــول Blank Max فـي هـذا الصـدد ـ» إن إمـكان التنبـؤ بالحـدث فـي المسـتقبل هو المقيـاس والمعيـار لوجـود الِعَّلـة أو غيابهـا» ويقـول إشـينباخ Achenbach ((إن المعرفـة الِعلميـة هـي أداة التنبـؤ وُيسـمي فلسـفته باســم (الفهــم الوظيفي للمعرفــة) والمعرفــة هنــا لا تشــير إلــى عالــم آخــر بــل تقــِّدم عرضــًا للأشياء فــي هــذا العالــم
وتعمــل على التنبؤ بالمستقبل. (4)

التحكـم :(Control) - الـذي يميـز رجـل الِعلـم عـن غيـره هـو إيثـاره للتحكـم كمـا يقـول هـوارد بيكـر Backer Hayward ((وال يلـزم أن يكـون التحكـم فعليـًا فـي جميـع الأحوال، بـل قـد يكـون فرضيـًا Hypothetical ويعنــي التحكــم بذلــك معالجــة الظــروف المحــّددة للظاهـرة لكـي تحِّقـق تفسـيرًا معينـًا للتنبـؤ بمسـارها. (4) ويؤيـد هـذا المعنـى مـا ذهـب إليـه Hinesburg من ((إن مـا نسـِّميه «بالعلم الموضوعي» هــو مــن صنــع تدخلنــا لأنشــط وطــرق مشــاهدتنا وتجاربنـا ليسـت هـي الطبيعـة نفسـها، بـل إنمـا هـي الطبيعـة بعـد أن تغّيـرت وتبدلـت باجتهادنـا فـي سـير البحـث)). (4) إذا افترضنـا جدلا إننا بتطبيـق ذلـك المنهـج الِعلمـي سـوف نـدرك الحقيقـة فالسـؤال عندهـا يكـون ماهـي الحقيقـة الِعلميـة؟

الحقيقـة Fact) Scientific :(Truth, - قـد يبـدو فـي السـؤال شـيء مـن السـذاجة لأننـا افترضنـا إدراكنـا للحقيقة سـلفًا.. ولكن فلسـفة تلــك الحقيقــة هــو الــذي يعطيهــا «المعنــى» ومــن ثــم تســتمد شـرعية صيرورتهـا. ((فالحقيقـة الِعلميـة ليسـت الواقـع Reality بـل هـي مـا يقـِّرره العلمـاء عـن هـذا الواقـع، وبالطبـع ليسـت هنالـك حقيقــة علميــة نهائيــة وتقــوم العلــوم بدحــض نظريــات الأمس لتؤسـس عليهـا فرضيـات جديـدة وهكـذا دواليـك.)) ويقـول برنـارد Bernard فـي هـذا الصـدد ((يجـب أن ال يتملكنـا الخـوف عندمـا نشـاهد فروضنـا الِعلميـة تختفـي عـن الأبصار فهـي تقضـي نحبها فـي سـاحة الشـرف الِعلمـي» ويكـون الِعلـم فـي طريـق الحقيقـة عندمـا يعطـي للأشياء والحـوادث معنـى ودلالة )) (4)

ثالثًا: هل هنالك ثمة تقاطع بين العلم والثقافة؟
بهـذا الطـرح المبسـط نكـون قـد وجدنـا تلـك الصلـة السـوية بيــن الِعلــم والإنسان.. الإنسان المشــروع أو «مشــروع الإنسان» الـذي يعمـل جاهـدًا للسـيطرة علـى المسـرح مسـتخدمًا فـي ذلـك سلاحه المضـاء ألا وهـو الِعلـم. (( لــم يلــق مصطلــح اجتماعي مــا لقيتــه كلمــة « ثقافــة « فــي اللغــات الأوروبية مــن اجتهــادات، منــذ أن عّرفهــا العالــم الأنثروبولوجي تايلـور Taylor B. E. فـي لأنصـف الثانـي مـن القـرن الماضــي بأنهــا: ذلــك الكلــي المعقــد الــذي يتضمــن المعرفــة والعقيــدة والفــن والأخلاق والقانــون والتقاليــد وُكل مــا يكتســيه الإنسان باعتبــاره عضــوًا فــي مجتمــع إنســاني))(12)

هنالــك تداخــل بيــن الثقافــة والِعلــم، حيــث التقــدم الِعلمــي الســريع ســاعد فــي انتشــار الثقافــة، وعليــه، المثقــف لا بد أن يكــون ملمــًا بأساســيات العلــوم الطبيعيــة. ((فقــد أصبــح للثقافــة فـي عالم اليوم بعديــن بعــد أدبــي وُبعــد علمــي، ولهــذا ذهــب اللـورد «سـنو» Snow) B. (C. للقـول بـأن المثقـف فـي هـذا العالـم ال تكتمـل ثقافتـه إن لـم يكـن عليمـًا بالأدب (Literature) كمـا هـو عالــم بالحســاب والطبيعــة (Numerate) وبصــورة عامــة فليــس كل متعلــم مثقفــًا، كمــا ليــس كل مــن مثقــف ينــدرج بالضــرورة فــي إطـار الصفـوة العارفـة Elite) (Knowledge، التـي ال يشـترط فيهـا أن تكـون مـن حملـة الإجازات الِعلميـة العليـا كمـا يحسـب البعـض. الأستاذ عبــاس العقــاد مثلا وهــو إمــام أهــل الكلام فــي هــذا القـرن، لـم يتجـاوز تعليمـه نظـام المرحلـة الابتدائية، وبنجاميـن فرانكليــن حكيــم الثــورة الأمريكية ورســولها إلــى فلســفة الثــورة الفرنســية ومؤســس جامعــة بنســلفانيا لــم يكمــل إلا عاميــن مــن التعليــم النظامــي، عمــل بعدهمــا عاملا فــي مطبعــة. وعلــى كل فالـذي يعنينـا فـي هـذه الدراسـة مـن أمـر المثقفيـن والمتِعلميـن أو النخبة أو ســمهم مــا شــئت هــو أنهــم الأقلية الإستراتيجية المؤثرة فــي المجتمــع الســوداني )) (13) . ولكـن وجـود هذا الإنسان مشـروط بظـروف عـدة منها السياسـي الاقتصادي الاجتماعي أي الطـرح الثقافـي السـائد، فالسؤال عندهــا يكــون ماهــي حــدود ونوعيــة العالقــة بيــن الِعلــم وذلــك الطـرح السـائد؟ لا أريـد أن أدخـل فـي متاهـات تعريـف الثقافـة ودروبهـا الشـائكة فهـذا موضـوع آخـر.. فالثقافـة هنـا نريدهـا بمعنــى ))الرصيــد الكلــي للعمــل الإنساني ومنتجاتــه الاجتماعية فـي مقابـل مـا ينقـل عـن طريـق الوراثـة البيولوجيـة ))(4) والثقافـة السـائدة هـي الرحـم الــذي يتصــل فيــه الِعلــم بأســباب الحيــاة كمـا إن لأنظـم الثقافيـة الأخرى هـي الروافـد الرئيسـية التـي بهـا يتفجــر نهــر الِعلــم أو يتوقــف تيــاره.

وهنـا يبـدأ مخـاض التساؤلات عندمـا نأخـذ السـودان كمثـال: رغـم التباينـات الكثيـرة التـي يحتويهـا المجتمـع السـوداني، هـل هنالــك نمــط ثقافــي بعينــه؟ وإذا وجــد، مــا هــي طبيعــة ذلــك النمــط؟ مــا هــي درجــة تخلفــه أو تقدمــه؟ مــا هــي إمكانيــات اســتيعابه للثــورة الِعلميــة التــي تتطــور كل لحظــة؟ وما هــو دور الصفـوة المتعلمـة فـي توسـيع قاعـدة المعرفـة؟ ولمصلحـة مـن تتـم تلـك الدعــوة للتجهيــل؟ وهنــا مربــط الفــرس حيــث يبــدأ شــبح الســلطة للعيــان.. فالثقافــة الســائدة أيــًا كان لونهــا هــي (ثقافــة السـلطة) أي ثقافـة القمـع! والسـؤال الآن هـو هـل ينتهـي دور الِعلـم للترويــج لثقافــة الُّســلطة؟ وأعـود حيـث كان البـدء.. فالمجتمـع السـوداني مـا زال يعاني آلام التسـنين سياسـ يًا -ومتخلــف اقتصاديــًا- اجتماعيــًا، فهــو مجتمــع رعـوي زراعي، قبلـي التوجـه، شـبه إقطاعي الاقتصاد والسـلطة الاجتماعية دينيـة الهـوى والُهِّويـة - وكنتـاج طبيعي لهـذه الظـروف نعيــش حالــة (الاغتراب الِعلمــي) ويقــول د. صـلاح قنصــوه فــي وصـف هـذه الحالـة « إن اغتـراب الِعلـم ال يختلـف عـن أيـة صـورة مــن صــور الاغتراب الثقافــي الأخرى حيــث التضــارب بيــن مــا ينبغـي أن نفعـل ومـا نعتقـد سـلفًا.» وعندهـا يصـرخ أدونيـس فـي الطـرف الآخر مـن البسـيطة (إن الآخـر يتلبسـنا فـي كل شـيء.).

المثقـف أو المتعلـم فـي العالـم العربـي فقـد القـدرة علـى القيام بالـدور الرسـولي، التبشـيري، الطليعي، الحداثـي، المزمـع القيـام بـه. ((لقـد مَّثـل المثقفـون دائمـًا الآباء المؤسسـين للأفكار الثورية في العالم في حين يتراجع دور المثقف العربي لصالح الفئات الاجتماعية الأخرى ليظهــر العــرج البيــن فــي ثــورات الربيــع العربـي علـى رأي الكاتـب الكبيـر الطاهـر وطـار «الثـورات التـي لا تتخـذ المثقفيـن سـمادًا لهـا سـتظل تسـير عرجـاء» (الطعنـات) فالمثقفـون ملـح الثـورات وسـمادها الـذي يمنعهـا مـن الانحراف عـن الأهداف الكبـرى ويجنبهـا أنصـاف الحلـول، ولكـن مـن هـو المثقـف المقصـود. )) (14) وتتعقــد الأمور أكثــر فأكثــر، عندمــا يعانــي «الِعلــم» مــن «الاغتراب» فــي وســط أهلــه مــن العلمــاء، الذيــن جيــروا كل شــيء مــن أجــل الســلطة، والتــي تتدثــر بثــوب « القداســة» أحيانــًا، والِعلــم الحقيقــي، فــي حالــة تغييــر مســتمر لتكتــب لــه السـيرورة. ((ولاغتراب الِعلـم منتفعـون بـه وسـاقطون تحـت وهمه، فالمنتفعـون يعارضـون المنهـج الِعلمـي ولهـم مصالـح مـع مصـادر الُّســلطة التقليديــة التــي شــرع الِعلــم فــي احتلال مكانهــا. أمــا السـاقطون تحـت وهمـه فهؤلاء يبـدون اسـتياءهم تجـاه تطبيقـات الِعلـم ويخلطـون بينهـا وبيـن الِعلـم فـي ذاتـه ومنهـم اللاهوتيون الذيـن يعتبـرون الِعلـم قـد حـط من قـدر الإنسان بوصفـه كائنـًا روحيـًا.. فأيـن نحـن مـن هؤلاء وأولئـك!! ناهيـك عـن المدرسـة الثالثــة التــي تنــادي «بإفلاس الِعلــم» وســوء مغبتــه! )) (15)

ويســخر هانــي الزغبــي مــن هــذا الموقــف ويكتــب «((فــي الواقـع إن العديـد مـن المتِعلميـن العـرب مصابـون بالشيزوفرانيا فيمــا يتعلــق بالعلــم ويمثــل الفــرد وكذلــك العديــد مــن أجهــزة الدولــة ومؤسســاتها يمثلــون بــ ُك ِّل عنــاد وإصــرار قصــة «دكتــور جيـكل ومسـتر هايـد» عمليـون فـي لأنهـار، خرافيـون فـي الليـل، عمليـون عندمـا يتناولـون الِعلـم بصورتـه الُمجـردة، خرافيـون فـي التطبيـق، عمليـون فـي الكلمـات منهزمـون فـي الممارسـة، ويعنـي ذلـك المزيـد مـن التبعيـة. )) (15) وهـذه النتيجة تقودنـا إلـى حقيقـة إن الِعلـم فـي علاقته مـع الثقافـة ليـس محايـدًا كمـا كنـا نعتقـد. والتســاؤل القضيــة الآن هــو... هــل هنالــك علاقــة بيــن الِعلــم والديــن؟ وإن وجــدت ماهــي طبيعــة تلــك العلاقــة؟

رابعًا: ما هي العلاقة بين العلم والدين؟
قبــل حوالــي قــرن مــن الزمــان - فــي عــام 1925 - طــرح طــه حسـين تسـاؤل جوهـري بصـدد العالقـة بيـن الديــن والِعلــم: ((لا خصومــة ولا مصالحــة بيــن الِعلــم والديــن «لمــاذا؟ الخصومة بينهمـا لأن لكل منهمـا حّيـزه وماهّيتـه الخاّصـة، فحّيـز الديـن هـو الشـعور والعاطفـة وماهّيتـه الثبـات والاستقرار، بينمـا حّيـز الِعلـم العقــل وماهّيتــه التبــدل والتطــُّور. هــذه هــي وجهــة نظــر عميــد الأدب العربــي)) (16)

ويسـتطرد شـامل عبـد العزيـز- فـي نفـس السـياق (( قـال بـأن النصـوص متناهيـة بينمـا الحـوادث غيـر متناهيـة - النصـوص ثابتـة جامـدة بينمـا الِعلـم كل يـوم هـو فـي شـأن - مـا يؤمـن بـه الِعلـم اليــوم قــد ينكــره بعــد عــام، ولكننــا فــي النصــوص ال نســتطيع أن ننكـر أن الأرض مركـز الكـون؟ هـل نسـتطيع أن نقتلـع لأنـص، هــل نســتطيع أن نحــذف بعــض النصــوص، هــل نســتطيع تبديــل كلمــة مــكان أخــرى؟ هــذا بالنســبة للخصومــة، ولكــن مــا هــي بالنسـبة للمصالحـة؟ المصالحـة بينهمـا لأن لكل منهمـا مواضيعـه والوسـائل التـي يبرهـن بهـا عـن صحتهـا. إذن نسـتطيع أن نقـول بصــورة أخرى: ((الِعلــم يحتــاج للتجــارب والمختبــرات بينمــا الديــن نـص ثابـت محفـوظ بيـن ثنايـا الكتـب منـذ آلاف السـنين)). (16)

الإنسان يحتــاج إلــى الإيمان ليــس فــي الديــن فقــط، بــل فــي كل ضــروب النشــاط البشــري الأخرى، مــن العلــوم والآداب، والفنــون، والسياســة وغيرهــا. وفــي المقابــل هنالــك ثمــة عالقــة جدليــة بيــن الإيمان والشــك، للوصــول إلــى اليقيــن المرتكــز علــى حريــة الاختيار، حتــى تحــدث نقلــة نوعيــة فــي الانتقال مــن «التدين-الخــوف» إلــى «التدين الناقــد.» ((ويعتبـر دوركايـم أول مـن ناقـش الوظيفية الاجتماعية للديـن أو الروحانيـات ولخـص ذلـك فـي عـدة نقـاط: يسـاعد فـي تأسـيس النظام المدنـي، احتـرام الملكيـة الخاصـة، احتـرام الـزواج وتقييد العلاقــات الجنســية، تطويــر الأمن الإنساني بتقويــة احتــرام الحيــاة، والتزويــد بحافــز للســلوك الجيــد)) (3)

«فـي مسـيرة تطـور الإنسان مـن عالـم السـحر والكهانـة إلـى رحـاب المعرفـة الحديثـة، طـَّور الإنسان أدواتـه ومناهجـه ليـدرك الكــون ويعلي ذاتــه ولــم يعــد الحديــث عــن الحقيقــة الِعلميــة والمعـارف الفلسـفية حديثـًا يلقـى علـى عواهنـه أو محـض تأملات فلســفية، بــل صــار يخضع للبرهان و التجربة و التحليل وفــق منطــق ومنهــج معّيــن ويخضــع للنقــد وإعــادة التقييــم» ويواصــل المنتصــر الطيــب حديثــه ((إن ولادة المنهــج الِعلمــي المعاصــر كان بمثابــة تتويــج كامــل لأدوات المعرفــة الإنسانية، أمــا المنهــج الدينـي فجميعنـا يعلـم إن الحقيقـة الدينيـة سـوى أتـت مـن وجهـة نظـر صوفيـة أو غيـر صوفيـة فهـي نابعـة مـن (الإيمان) الـذي ال يمليــه منهــج تجريبــي أو مــادي وبالطبــع ذلــك خــارج إمكانيــات وصالحيـات المنهـج الِعلمـي، لأن العلم لا يقر وجود حقيقـة أزلية غير قابلة للتغير)) (17)

ولقــد ظهــر فــي الآونة الأخيرة تيــار فــي داخــل المؤسســات الدينية يلجأ إلى محاولة التوفيق بين العلم و الدين و تفسير الظواهــر الِعلميــة بالرجــوع إلــى النصــوص الُمقّدســة، وتلــك المؤسســات الثيوقراطيــة تعمــل جــادة علــى مصــادرة واحتــكار المعرفـة حتـى تضمـن اسـتمرارية سـيطرتها علـى العبـاد وبأسلوب علمــي جــدًا. قــد يصــل الدجــل إلــى مراحــل متقدمة جــدًا حيــث تطــرح إمكانيــة التعامــل مــع الجــن المؤمــن مــن أجــل حــل المشــاكل الاقتصادية «وقـف أسـتاذ جامعي بكِّليـة العلـوم قسـم الرياضيـات – (فـي جامعـة سـودانية) ، وتحـدث عـن إمكانيـة الاستعانة بالجـن المؤمــن فــي كافــة مجالات التطــُّور والنهضة وقــال إن اســتعانة الإنس بالجــن هــي مســألة واردة، وهنــاك ســوابق كثيــرة علــى ذلـك، ونحـن نسـتطيع أن نسـتعين بالجـن السـوداني المؤمـن فـي تفجيــر الطاقــات وكافــة الاستخدامات المطلوبــة. وطلــب (رئيــس الدولـة مـن الدكتـور) إعـداد ورقـة شـاملة عـن الجـن. وهنـا تصـل الحداثــة المعكوســة إلــى مأزقهــا أي محاولــة تعايــش النقيضيــن علــى أرض الواقع. فهــو ممكــن جــدلا لا اقتناعــًا - علــى صعيــد النظــر والفكــر الُمجــّرد - ولكــن الفكــر الاســلاموي حيــن ينــزل إلــى أرض الواقــع يكشــف عــن تهافــت مقولــة أن يكــون تقليديــًا وحديثــًا فــي آ ن واحــد. (3)

وفــي كتابــه المعنــون «نقــد الفكــر الدينــي» يحــدد صــادق جلال العظــم العالقــة بيــن الِعلــم والديــن بأنهــا فــي طرفــي نقيـض، الأول يعتمـد علـى الملاحظة والتجربـة والاستقراء ليؤكـد اكتشــاف حقائــق جديــدة، أمــا الديــن فيعتمــد علــى أيدلوجيــة غيبيـة تعمـل علـى تأكيـد تبعيـة الإنسان للـذات العليـا. ((أن الديـن والِعلــم علــى طرفــي نقيــض، فبالنســبة للدين أن المنهج القويم للوصــول إلــى مثــل هــذه المعــارف والقناعــات هــو الرجــوع إلــى نصـوص ُتعتبـر مقّدسـة. ومـن نافلـة القـول أن نـرِّدد أن الطريقـة الِعلميـة فـي الوصـول إلـى معارفنـا وقناعاتنـا عـن طبيعـة الكـون ونشــأته وعــن الإنسان وتاريخــه، تتنافــى مــع المنهــج الانطباعي الســائد فــي الديــن، لأن المنهــج الِعلمــي قائــم علــى الملاحظة و الاستدلال و إن التبرير الوحيد لصحة النتائج التي يصل إليها هــذا المنهــج هــو مــدى اتســاقها المنطقــي مــع بعضهــا ومــدى إنطباقهــا علــى الواقــع)) (18) ، وفــي نفــس المصــدر يقتبــس د. صـادق جلال العظـم - الـرأي الآخر، الـذي يدعي أن العـداء بيـن الِعلـم والديـن يعـود إلـى الكنيسـة، وحربهـا الضـروس ضـد رجـال الِعلــم، والإسلام منــه بــراء. ((أمــا فــي الشــرق المســلم فالأمر مختلــف كل الاختلاف - بيــن الإسلام والِعلــم - وليســت هنالــك شــقة لذلــك نــرى أن الجهــود فــي الشــرق المســلم ترمــي لإزالة الشـقة الوهميـة بيـن الِعلـم والديـن، ال إلـى أنصـاف الحلـول، وال إلـى أي نـوع مـن التعايـش السـلمي، فالديـن مـن الله، و الله هـو الحـق كمـا أسـمى نفسـه تعالـى، وألا يصـدر عـن الحـق إلا حـق، ومــا صــح مــن الِعلــم فهــو حــق، والا يجافــي الحــق نفســه. فالجفـوة إذن بيـن الديـن والحـق، والِعلـم الحـق بطبيعـة الحـال. )) (18)

ورجـل الِعلـم كمـا يقـول د. صـالح قنصـوه يسـلم قبـل المضـي فــي خطواتــه بمبــدأ الحتميــة لأنــه إذا مــا كان عليــه أن يصــف ويفسر ويسـتقرئ الحـوادث فـلا بـد أن يكـون ثمـة ضمـان يكفـل لـه الاطمئنان فـي بلـوغ نتائجـه التـي يسـتخلصها مـن مجموعـة النتائـج المحـددة. وفكـر العلّيـة أو السـببية لا تعنـي شيئاً واحـدًا لأنهــا تطــَّورت وتحــّررت مــن التصــُّور التقليــدي الــذي يجعلهــا مكافئــة لفكــرة الإيجاد أو الخلــق ولكنهــا اليــوم تعنــي تصــُّورًا ُمعّينــًا للعالقــة بيــن الحــوادث.(4) ونذكـر هنـا موقـف الغزالـي مـن الِعليـة عندمـا أنكـر التلازم الضــروري بيــن الأسباب والمســببات فهــو يقــول فــي «تهافــت الفلسفة» الاقتران بيـن مـا يُعتقـد فـي العـادة سـببًا ومـا يعتقـد مسـببًا ليـس ضروريـًا عندنـا، بـل كل شـيئين ليـس هـذا ذاك وال ذاك هــذا، إن إثبــات أحدهمــا ال يتضمــن علــى الإطلاق إثبــات الآخر وال نفــي أحدهمــا يتضمــن علــى الإطلاق نفــي الآخر، وليــس مــن ضــرورة وجــود أحدهمــا وجــود الآخر. (4) وتحليـل الغزالـي للسـببية أو نقـده لهـا لـم يكـن نقـدًا يتصـل بنظريـة الِعلـم ومنهجـه بقـدر مـا كان يتعلـق بقضيـة الإيمان بـرد كل شــيء إلــى الله حيــث ينكــر قيــام قانــون طبيعي ثابــت. وقــد َعّبـر ابـن تيميـة عـن رأيـه فـي موضـوع السـببية بقولـه ((اقتـران أحـد الأمريين بالآخر إنمـا هـو لمحـض مشـيئة القـادر المريـد مـن غيـر أن يكـون أحدهمـا مسـببًا للآخر ولا مولـدًا لـه. )) (4) وفـي الفكـر الحديـث حـاول هيـوم Hume David رّد مبـدأ العليـة إلــى التعاقــب الزمنــي الــذي يجعلهــا عــادة تجريبيــة ال أكثــر وال أقـل. وقـد حـاول أيضـًا ديـوي Dewey John أن يـزّود مبـدأ العليـة بتبريــر منطقــي، ولكنــه احتفــظ بجوهــره القيمــي، فالعليــة كمــا يعرفهــا ديــوي ((هــي أمــر عملــي وغائــي وتكتســب قيمتهــا مــن حيــث هــي أداه نســتعين بهــا فــي الوصــول إلــى الهــدف وبذلــك ليسـ ت هـ ي أمــرًا قائمـ ًا فــي الوجــود الخارجــي.))(4)

وتمشــيًا مـع مبـدأ (الِعلـم المسـتحيل) الـذي جوهـره «اللاهوت» وظاهـره «التجربــة» فقــد ظهــرت دولــة الإيمان.. والتقنــي المؤمــن.. والزراعي المســلم.. والمهنــدس الصوفــي.. والطبيــب المجاهــد. ويــرد فيصــل دراج فــي نقــده لعــادل حســين فــي بحثــه عــن نظريـة (مؤمنـة) ((إن الانفتاح علـى زمـن المعرفة الإنسانية ممارسـة موضوعيــة، وكونيــة المعرفــة ال يمنــع تميزهــا واحتــرام النظرية يــؤدي إلــى الابتعاد عــن كل زمــن ضيــق، ســواء كان زمنــًا دينيــًا أو طائفيـا أو عنصريـا، وإذا قبلنـا بـأن وحـدة المعرفـة الإنسانية عنصــرًا أساســيًا فــي عمليــة التقــدم الاجتماعي، فالخــروج مــن هـذا الزمـن والرجـوع إلـى زمـن الأجداد يتضمـن بالضرورة دعـوه رجعيــة تقييــم بيــن البشــر والأفكار والأديان حواجــز وفواصــل وســدود))(19)ـ

وعندهــا نبــدأ مــن جديــد فــي البحــث عــن جبــل يعصمنــا مــن المــاء. والتسـاؤل الـذي يفـرض نفسـه فـي إلحـاح كالتالـي: هـل نحتـاج إلــى دراســة نقديــة علميــة لتفشــي ظاهــرة التديــن فــي المجتمــع السـوداني فـي العقـود الأخيرة التـي تزامنـت مـع ظاهـرة سـيطرة البترو-دولار فـي المنطقـة، وتراجـع المراكـز القديمـة فـي كونهـا مصـادر إشـعاع للمعرفـة والوعي والِعلـم؟ فـي هـذا الصـدد يجيـب دكتـور حيـدر إبراهيـم علـي ((رغـم أن الديـن يطـوف فـوق كل آفـاق الوجـود فـي الوطـن ويمـلأ مسـارب الحيـاة اليوميـ ة وشـ قوقها، ويتبـدى فـي كل نشـاط، ويوجـه ويراقـب كل فعـل وتأمـل، إلا إنـه يظـل مــع هــذا، أقــل الموضوعــات التــي تناولهــا البحــث والِعلــم الاجتماعي لأنقـدي العميـق فـي الوطـن العربـي، وللمفارقـة فقـد أعطــى الانتشار الدينــي خلال العقديــن الماضييــن الظاهــرة الدينيــة حصانــة مطلقــة وســلطة طاغيــة ضــد أي محاولــة لفهــم الظاهـرة وتفسـيرها بعيـدًا عـن الإعجاب أو التملـق أو الحـذر . )) (3)

فــي العلاقــة بيــن العقــل والديــن والحريــة - يشــير الغنوشــي - إلــى أهميتهــا فــي إطــار لأنقــد الفلســفي «ونحــن ال نندهــش حيــن يتحــدث عــن منهــج الشــك فــي البحــث عــن الحقيقــة لأن الإسلام ديـن العقـل: ويقـول «فلا ديـن لَمـن لا عقـل لـه ولا ديـن لمـن لا حريـة لـه.» ويؤكـد ضـرورة الفلسفة كطريق للبحث « أن الذيـن ينتقـدون الفلسـفة ينتقدونهـا بفلسـفة أخـرى، بمعنـى أن فـي طبيعـة الإنسان ممـا يدفعـه إلـى التفلسـف، أي إلـى طـرح قضايـا تتجـاوز المنافـع الحيويـة وحاجاتـه الغريزيـة. والغنوشـي أقـرب إلـى الحيـاة، فهـو صاحـب موقـف مـن الفنـون، إذ يـرى أن غنـاء فيـروز يمكـن إدراجـه تقريبـًا فـي إطـار الفـن الإسـلامي، مـا دام يمكـن أن يرتقـي بالـذوق والعقـل والشـعور». (3)

خامسًا: جدلية الوعي والثورة- كيف؟
الفقــر لا يصنــع ثــورة وإنمــا وعي الفقــر هــو الــذي يصنــع الثـورة.. الطاغيـة مهمتـه أن يجعلـك فقيـرًا وشـيخ الطاغيـة مهمتـه أن يجعــل وعيــك غائبــًا - (كارل ماركــس)

الوعي الثــوري «فــي الفكــر الماركســي، هــي مرحلــة الوعي التـي تلـي الوعي الطبقـي ويتـّم تحفيزهـا مـن خلال إدراك القـوى الثقافيــة التــي تبنــي العالقــات الطبقيــة، وتعمــل بوعلي لإحداث التغييـر الاجتماعي المنشـود..» ((لا يمكـن أن نتصـّور تغيـرات اجتماعيـة- اقتصاديـة أو سياسـية غيـر مؤسسـة علـى وعلي سـابق هـو بمثابـة الشـرارة التـي تقـود نحــو التغييــر لكــن مــن ناحيــة أخــرى يقــدم هــذا الوعي دائمــًا فــي شــكل كلـي غيــر واضــح الملامح. فهــل هــو مجموعــة مــن الأفكار والقناعـ ات الجماعيـ ة أو الفرديــة أم هــو أنســاق كليــة ومشــاريع ثوريــة أم هــو أدبيــات شــفوية أم هــو خليــط؟)) (20)

فـي هـذا السـياق يحِّلـل حسـن طـارق دور المثقـف فـي التحولات التاريخية، فـي مداخلـة بعنـوان « المثقـف والثـورة والجـدل الملتبس ((إذا لـم يكـن ثمـة جـ دال فـي أن الحـوادث الكبـري تخلخـل الآراء والمواقـف والأحكام، فالمؤكـد أن الانفجارات العربيـة في عـام 2011، بقيـت تعمـل على إعـادة صوغ أسـئلة أساسـية تتعلـق بالحريـة والعدالة و الكرامة و الديمقراطية و الدين . وفـي خضـم هذه «المعمعـة» توّزعت الآراء في شأن أدوار المفكرين وأداء المثقفين.)) (21) فــي نفــس المصــدر يذكــر حســن طــارق مــا توصــل إليــه الكاتــب المصــري جلال أميــن عــن دور المثقفيــن فــي التغييــر أثنـاء أحـداث الربيـع العربـي حيـث ((يطـور التحليل مشـككًا فـي الفكـرة التـي نحلمهـا عـادة عـن الأدوار الكبـري التـي تنسـب إلـى المفِكريـن فـي قيـام الثـورات، إذ قـد يكـون ثمـة أثـر لهـم فـي مـا ترفعـه هـذه الثـورات مـن شـعارات ومـا تعلنـه مـن مبادئ، لكـن مـا يتحقـق يكـون بعيدًا جـدًا عمـا كان فـي أذهـان المفِّكريـن.)) (21)

مــا حــدث أثنــاء الثــورة الســودانية فــي ديســمبر 2018، يتفــق إلــى حــد كبيــر مــع هــذه الرؤيــة، حيــث انحصــر دور المثقفيــن الســودانيين إلــى حــد كبيــر فــي رفــع شــعارات المرحلــة، ولــم يتعدهـا بطـرح برنامـج نقـدي متكامـل لاستشراف المسـتقبل بعـد التغييــر المنشــود. )) (22)

طبيعة نماذج الوعي الثوري:
يتمثــل النمــوذج الأول فــي الوعي المكتمــل الشــروط وهــو عبـارة عـن أفـكار وقناعـات وأنسـاق ورؤى تـم تداولهـا ومراجعتهـا ومناقشـتها وقـد تكـون فـي بعـض الحالات قـد أثبتـت فعاليتهـا فـي التغييـر وفـي صياغـة مشـروع مـا بعـد التغييـر أو مـا يسـَّمى بالمسـارات الانتقالية. مـن نمـاذج هـذا الوعي العديـد مـن الثورات العالميـة مثـل الثـورة البلشـفية 1917(22) أمـا النمـوذج الثانـي فهـو وعي غيـر قابـل للتصنيف والمقاربـة مثلمـا هـو الأمر فـي النمـوذج الأول حيـث يتميـز التغييـر الاجتماعي بالفجائيـة مـن ناحيـة وبغيـاب المرجعيـة الفكريـة الثابتـة والواضحة مـن جهـة أخـرى. لكـن هـذا لا يعنـي أن هـذا الوعي غيـر موجـود أو غيـر مكتمـل الشـروط لأنـه هـو الـذي سـمح بإحـداث التغييـر الاجتماعي. (22)

خصائص الوعي الثوري:
إن مفهــوم الثــورة بمضمونــه الحديــث لــم يــرد فــي التاريخــي العربــي الإسلامي، فالحــركات التــي عرفهــا المســلمون، كانــت إمـا تمـردًا علـى الخلافـة أو محاولات خـروج علـى السلطان؛ مــن هنــا فالتنظيــر للمفهــوم والتقعيــد لــه فــي الطــرح العربــي الاسلامي يبـدو أمـرًا ضبابيـًا. فمصطلـح الثـورة بدلالاته الحديثة هـو حديـث التـداول ولـم يسـبق لنـا أن عثرنـا عليـه فـي التـراث العربــي الإسلامي بهــذا المعنــى، ويقــّر عزمــي بشــارة الأمر فيقــول: وأقصــى مــا نجــده فــي مصنفــات القدامــى، عــن هــذا المفهـوم، هـو تسـمية محاولات الاحتجاج علـى نظـام الخلافـة أو ولاة الأمـر المسـلمين «خروجـا» أو «فتنـة» (23)

لا يمكــن فــي البدايــة أن نتصــَّور تغيــرات اجتماعيــة أو حتــى اقتصاديـة أو سياسـية غيـر مؤسسـة علـى وعي سـابق هـو بمثابـة القـادح الحقيقـي الـذي يقـود نحـو التغييـر. وعـدم وضـوح الرؤيـة مـن الناحيـة النظرية علـى الأقل يطـرح العديـد مـن التساؤلات. حيــث يقــدم هــذا الوعي دائمــًا فــي شــكل كلــي غيــر واضــح الملامح أو المعالـم. فهـل هـو مجموعـة مـن الأفكار والقناعـات الجماعيـة أو الفرديـة أم هـو أنسـاق كليـة ومشـاريع ثوريـة أم هـو أدبيــات شــفوية أم هــو كل هــذا؟ (24) تمثــل شــعارات الثــورة الســودانية مضاميــن الوعي الجديــد الناشئ وهــي شــعارات حملــت فــي معظمهــا مطالــب اجتماعيــة أساسـًا تطـَّورت فـي مرحلـة مواليـة إلـى مطالـب سياسـية. هـذه الشــعارات تتمتع بجملــة مــن الخصائــص تتماهــى مــع تلــك التــي وردت فــي المداخلــة بعنــوان: خصائــص الوعي الثــوري. (24)

أولا: الخاصية الأساسية سلمية الثورة
ثانيا: عفوية الشعارات.
ثالثـًا: هـي مطالـب اجتماعيـة أي أنهـا لـم تكـن مطالـب إيديولوجيــة أو حزبيــة أو سياســية
رابعــًا: تصاعديـة المطالــب فــي شــكلها ومضمونهــا عبــر مراحــل الثــورة إلــى حــدود ســقوط النظام. فقــد تطــَّورت هــذه المطالـب بحسـب ردود الأفعال القمعيـة التـي مارسـها النظام ضـد الجماهيـر.
خامسـًا: أنهـا تحَّولـت مـن التعـدد إلـى الوحـدة حيـث تـم اختصارهـا فـي (تسـقط بس)
سادسـًا: كونيـة الشـعار (حريـة - سـالم - وعدالـة) أكسـبها تعاطـف عالمـي ودولـي سـريع خاصـة علـى مسـتوى الـرأي العـام الشـعبي.

((الثــورة، بممارســتها وحركتهــا، تطــِّور الوعي الجمعي. وأسـباب ذلـك متعـددة، منهـا تجـاوز لأنـاس لـ كل أدوات السـيطرة التـي كّرسـتها الُّسـلطة فـي نفوسـهم، كالعـزل والتقسـيم والذاتّيـة والخــوف وتزيفي الوعي، ويحــل محلهــا أثنــاء وبعــد الثــورة التضامـن والتوّحـد والتعـاون والتضحيـة- تلـك القيـم التـي دمرتهـا الُّســلطة عبــر التاريــخ... وبيــن الوعي والثــورة، علاقــة جدلّيــة واضحــة. والتطــّور البشــري حقيقــة تاريخّيــة فيرضهــا الصــراع المتواصـل مـن أجـل القضـاء علـى كل أشـكال استغلال الإنسان للإنسان، وصـولا إلـى مجتمـع بشـري يحتـرم آدميـة الإنسان)) (25)

العمــل البنــاء لترســيخ وعي وثقافــة جديدتيــن يتطلــب فــي الدرجـة الأولى المزيـد مـن الوعي والتوقـف عـن ممارسـة سياسـة «الإقصاء واغتيـال الشـخصية» التـي مارسـها ويمارسـها عملاء النظام السـابق بهـدف تشـويش الصـورة ومنـع قيـام وعي ثـوري حقيقــي. ومــن أهــم التعريفات التــي قدمــت للثــورة مــا ورد فــي الميثـاق المصـري عـن الثـورة: ((إن الثـورة عمـل تقُّدمـي شـعبي، أي: حركــة الشــعب بأســره، يســتجمع قــواه ليقــوم باقتحــام جميــع العوائــق والموانــع التــي تعتــرض طريقــه لتجــاوز التخلــف الاقتصادي والاجتماعي وصــولا لتحقيــق غايــات كبــرى تريدهــا الأجيال القادمـة. ولـ م تكـ ن الثـورة نتـاج فـ رد أو فئـة واحـدة وإلا كانـت تصادمـًا مـع الأغلبية. وتتمثـل قيمـة الثـورة الحقيقيـة بمـدى شـعبيتها، وبمـدى مـا تعِّبـر عـن الجماهيـر الواسـعة ومـدى مــا تعبئــه مــن قــوى هــذه الجماهيــر لإعادة صنع المستقبل وفـرض إرادتها.)) (23)

فــي نفــس المصــدر وبصــدد تحديــد بدايــة ونهايــة الفعــل الثـوري يشـير عزمـي بشـارة ((المقصـود بالثـورة هـي كل تحـرك شــعبي واســع خــارج البنيــة الدســتورية القائمــة، أو خــارج الشــرعية، يتمثــل هدفــه فــي تغييــر نظــام الحكــم القائــم فــي الدولـة. والثـورة بهـذا المعنـى هـي حركـة تغييـر لشـرعية سياسـية قائمـة لا تعتـرف بهـا وتسـتبدلها بشـرعيٍة جديـدٍة. والضـرورة هنـا تقتضــي التعميــم الاستحالة الوصــول إلــى صيغــة عمليــة تحــدد مراحـل الثـورة، لان الثـورة هـي صيـرورة يصعـب الإشارة إلـى نقطــة بدايــة ونهايــة لهــا، وهــي تنطلــق مــن حاجــات يمكــن تحديدهــا، ولكنهــا أثنــاء اندلاعها قــد تنتــج حاجــات وسلاسل مطلبيــة ال عالقــة لهــا بالشــرارة الأولى الــذي أنتجهــا وضــع يتســم بـ «القابليــة الثوريــة. »)) (25)

سادسًا: ثنائيات العقل الجمعي السوداني إلي أين؟
إلــى أيــن ســوف تفضــي تلــك الثنائيــة المتجــذرة فــي العقــل الجمعي واللاوعي الســوداني فــي صراعهــا مــع أســئلة الحاضــر الوجوديــة؟ بينمــا المثقــف الســوداني صــار تجســيد عصــري لأسطورة سـيزفي. يحـاول دون جـدوى الوصـول إلـى القمـة بينمـا يظــل يــراوح مكانــه فــي القــاع. وفــي مداخلــة بعنــوان: النخبة السياسـية السـودانية وأزمـة العقـل التبريـري - يحِّلـل الأستاذ زيـن العابديــن صالــح عبــد الرحمــن هــذا الموقــف المعقــد: ((هنــاك عالقـة وطيـدة جـدًا بيـن الحريـة وأزمة العقـل، أيـًا كان انتمـاء هذا العقل لأن غياب الحرية تدفع الشخص للتبرير، و تراكمات التبرير في الخطاب السياسي و الثقافي يردي لتزفي الوعي، الـذي ينتـج أزمـة العقـل، ومـن إشـكالية العقليـة المأزومـة، إنهـا تجعـل النخبة السياسـية عاجـزة مـن الخـروج مـن دائـرة الأزمة، لأنهــا ســوف تســتخدم ذات فكرهــا وأدواتهــا التــي ســاهمت فــي إنتـاج الأزمة، وهـي عقليـة لا تبحـث عـن الأسباب الرئيسـة التـي أنتجـت هـذه الأزمة، لأنهـا تجـد نفسـها تواجـه ذاتهـا، وتواجـه تحديـات، ال تملـك الفكـر و الأدوات التـي تسـاعدها علـى مواجهـة هـذا التحـدي وتفكيـك وحداتـه، فليـس أمامهـا غيـر أن تنتـج ذات بضاعتهــا المأزومــة .)) (26)

وفـي المقابـل يؤكـد دكتـور حيـدر أبراهيـم علـي فـي مداخلـة بعنــوان - فــي ســؤال العقــل فــي الفكــر الســوداني (2-3) - يؤكــد وجـود مناطـق محرمـة علـى العقـل السـوداني الولـوج فيهـا: ((يمكن القـول بـأن المسـلمين قـد عاشـوا الخمسـة قـرون الأخيرة خـارج التاريــخ. إذ لــم يشــاركوا فــي إنجــازات البشــرية منــذ القــرن الســادس عشــر وحتــى اليــوم. وهــذه العصــور المظلمــة التي تجاوزتها أوربا بعد عصر التنوير والثورة الصناعية وصعــود البورجوازيـة. ولا يعـود ذلـك لكونهـم مسـلمين، ولكنهـم لانهـم عطلوا عقولهــم ورفضــوا حريــة التفكيــر وأغلقــوا حتــى بــاب الاجتهاد. فقـد أحـاط الفكـر الإسلامي بعـض القضايـا والمياديـن البحثيـة بسـياج مـن التحريـم بينمـا هـي تمثـل أكثـر الموضوعـات الإنسانية والاجتماعية أهميــة وحيويــة. فقــد جــري قــول شــبه دارج يؤكــد وجــود ثالثــة محرمــات (تابوهــات) هــي: الجنــس، والسياســة، والديـن. وهـي -كمـا نلاحظ - تـدور حـول أصـل الحيـاة: - المتعـة والنظــام والمعنــى. )) (27)

حـول المثقـف اللامنتمي ودوره فـي الحراك السياسـي السـوداني((العديـد مـن المفِّكريـن والباحثيـن فـي العلـوم الاجتماعية، كتبـوا عـن المثقـف ودوره فـي المجتمـع، وهـذا الـدور يصّنـف المثقـف وموقعــه مــن الصــراع، ودوره فــي المجتمــع، باعتبــاره الشــخص الـذي لديـه رؤيـة فـي الكـون وموقـف سياسـي، هـو الـذي يحـدد موقفـه مـن الأحداث الجاريـة، وفـي ذلـك كتـب الُمفكـر الإيطالي أنطونيــو غرامشــي عــن المثقــف التقليــدي والمثقــف العضــوي وغيرهـم، فمثلا هنـاك مثقـف الُّسـلطة الـذي تجـده دائـم الحضور فــي أجهــزة إعلام الُّســلطة ويمثــل حراســة الُّســلطة، وهنــاك المثقــف التقليــدي، أي المثقــف الــذي يشــتغل بالنشــاط الذهنــي مـن خلال الوظيفة التـي يؤديهـا فـي المجتمـع، وهنـاك المثقـف العضــوي الــذي رّكــز عليــه غرامشــي الــذي لــه دورًا آخــر غير الدور الفكـري والعمـل الذهنـي، هـو التصـِّدي الانحرافات الدولـة وعــدم الالتزام بتعهداتهــا للمواطنيــن، وهــذا الــدور هــو العمــل السياسـي، وُيسـِّميه غرامشـي المثقـف الـذي يؤِّسـس للبراكسـيس الــذي يضــع النظريــات الفكريــة ويحــاول تطبيقهــا فــي المجتمــع أو توظفيهـا فـي تحليلاته، أي المثقـف الـذي يربـط بيـن الفكـر والتطبيـق فـي المجتمـع. )) (28)

وفـي مداخلـة بعنـوان (المثقـف السـوداني.. الانهزامية، التنميـط والدوغماتيـة) يؤكـد عـادل البليـك ضـرورة تجديـد رؤيـة المثقـف السـوداني (( المثقـف السـوداني، مـازال وفـي الألفية الثالثـة، لـدى «أجيـال جديـدة» يجتـر تلـك الصـور النمطيـة ويتسـّلح بهـا علـى أنهـا أنمـوذج.. وهـو مـا يتطلـب إعـادة التفكيـر فيـه، بعـد أن اختلفـت صـورة المثقـف كثيـرًا فـي عالـم اليـوم)) ويواصـل فـي نفــس المداخلـة ((: لا نحتــاج إلــى مثقــف مقلــد، أو متعامــل مــع الثقافـة وفـق فهـم التيجانـي ومعاويـة نـور، إذ إن الواقع «المؤلـم» الـذي نعيشـه يتطلـب إنتـاج مثقـف لـه أثـر حقيقـي علـى الحيـاة الســودانية، برفدهــا بطريقــة براغماتيــة بحتــة. بعيــدًا عــن صــور النضـال التقليـدي والإسقاط الكلاسيكي للـذات علـى العالـم.)) (29)

ويلخـص دكتـور منصـور خالـد قضيـة عالقـة المثقف بالسياسـي فـي السـودان، بأنهـا قضيـة انعـدام الحـوار وغيـاب الفكـر الـذي يؤطــر لذلــك الحــوار ((وكنــت علــى يقيــن أيضــًا ومــا زلــت بــأن أزمــة الســودان السياســية علــى مســتوى الممارســات تعــزى فــي جانــب كبيــر منهــا للقطيعــة البائنــة بيــن الفكــر والعمــل. بــل تعـزى لغيـاب الفكـر غيابـًا كامـلا في بعـض الممارسـات العامـة، ولا سبيل للتواصل الفكري إلا بالحوار العقلاني لا الغوغائية، فبالحـوار العقلاني وحـده يخاطـب الُمفِّكـرون العقـل الواعي أمـا الغوغائيــة فهــي فــي أحســن حالاتها استثارة العقــل الباطــن، وفـي كل حالاتها استجاشـة للغرائـز الدنيـا، ومـا بمثـل هـذا تبنـى الأمم ولا بمثــل هــذا يصنــع التاريــخ.)) (13)

لقـد تطـَّور العقـل الإنساني عبـر التاريخ مـرورًا بمراحـل عديدة: الخرافـة-السـحر - الديـن - الفلسـفة - وأخيـرًا الِعلـم. ويلاحظ أن العقـل الجمعي السـوداني مـا زال محاصـرًا بيـن الثنائيـات التـي تجــذرت عبــر العصــور ومنهــا علــى ســبيل المثــال: الدين/الِعلــم، لأنقل/العقــل، الأصالة/الحداثــة، اليســار/ اليميــن، الوطن/القبيلــة، الغابـة/ الصحـراء، الفلسـفة / الديـن، العـدل/ الإقصاء، الثـورة / الإصلاح، الأنا / الآخر، العلمانيـة / الدولـة الدينيـة، فكـر الأزمة / أزمـة الفكـر. أو علـى حـد قـول محمـود درويـش «إنـه السـفر إلـى الداخـل والمحاصـرة بالثنائيـات» وأخيـرًا آمـل أن تكـون هـذه المداخلـة قـد أثـارت من التساؤلات أكثـر ممـا أجابـت وتلـك هـي الطريقـة التـي سـتؤدي إلـى تحريـك تلــك البركــة الساكنة داخــل كل فــرد ومــن ثــم، تدريجيــًا تقــود إلــى «ثــورة الإدراك» إدراك الإنسان لنفســه والعمــل علــى خلــق ذلـك الواقـع الـذي يليـق بـه فـي رحـاب الوطـن.

المراجع:


(1) إبراهيم بــدران حــول مفاهيــم العلــم في العقليــة العربيــة، المستقبل العربــي، العــدد 116 - أكتوبــر (1988) - ص 81، .19 20
(2) زكي نجيب محمــود همــوم المثقفين، الناشر مؤسســة هنــداوي يس آي يس - ينايــر2007 - - ص16
(3) حيــدر إبراهيــم علي - مواقــف فكريــة - الطبعــة الثانيــة في عــام 2006 - مركــز الدراســات الســودانية - القاهــرة - ص37، 89، 93 ، 94، 255، 259
(4) صـلاح قنصـوه «فلسـفة العلـم» - الهيئـة المصرية العامـة للكتـاب- مكتبـة الأسرة ، القاهـرة- 2002 - ص ،21، 37، 69، 70، 71، 143، 144، 147، 150، 151، 153، 155، 161، 162، 170
(5). كـمـال دشلــي - «منهجيــة البحــث العلمــي» - منشــورات جامعــة حمــاة - كليــة الاقتصاد – في عــام 2016- ص 23، 25، 26
(6) يمنى طريف الخــولي - فلســفة العلــم في القــرن العرشيــن، الأصول، الحصــاد، الأفاق المستقبلية - القاهــرة - مؤسســة هنــداوي للتعليــم والثقافــة - 26 أغســطس 2009، ص2
(7) أليكـس روزنبيرج « فلسـفة العلـم - مقدمـة معاصرة :« ترجمـة وتقديـم: أحمـد عبـد اللـه السايح، فتـح للـه الشـيخ؛ راجـع الترجمة وشـارك فيهـا: نصـار عبـد اللـه - القاهـرة - المركز القومـي للترجمة - 2011 – ص 8، 9، 17
(8) كارل بوبـر – منطـق البحـث العلمـي- ترجمـة وتقديـم: د. مجـدي البغـدادي -بيروت – المنظمة العربيـة للترجمة -2006- ص 63
(9) يمنى طريف الخــولي - فلســفة كارل بوبــر، منهــج العلــم ، منطــق العلــم – القاهــرة ،الناشر مؤسســة هنــداوي – 2007م، ص 21، 23
(10) يمنى طريف الخــولي - فلســفة العلــم في القــرن العرشيــن، الأصول، الحصــاد، الآفاق المستقبلية – القاهــرة – مؤسســة هنــداوي للتعليــم والثقافــة – 26 أغســطس 2012، ص 9
(11) فــؤاد زكريــا - التفكــر العلمــي - تحــت عنــون «عقبــات في طريــق التفكـيـر العلمــي « - القاهــرة- عــامل المعرفة 1978- ص 46
(12) محـي الديـن صابـر - «الثقافـة العربيـة وتحديـات المستقبل» في كتـاب: المثقـف العربـي: همومـه وعطـاؤه - مركـز دراسـات الوحـدة العربيـة - مؤسسـة عبـد الحميـد شـومان - الطبعـة الأولى - ديسـمبر 1995 – ص 29
(13) منصـور خالـد - النخبة السـودانية وإدمـان الفشـل - بيروت - دار السـاقي للنشر والتوزيع -الجـزء الأول – 1993- ص 14، 15
(14) مختــاري علي - أيــن هــو المثقف العضــوي في العالم العربي - القــدس – 22 أكتوبــر 2013
(15) . هاني الزغبي بيان عن الثقافة - بيروت - دار القدس - 1980 ص؟؟؟
(16) . شــامل عبــد العزيــز - طــه حسـيـن بـيـن الديــن والعلــم - الحــوار المتمدن – 27 مــارس2012- ص 1
(17) . المنتصر الطيب السديم، - العدد الرابع - 1988
(18) صادق جلال العظـم نقـد الفكـر الدينـي - الطبعـة الثانيـة - بيـروت - الطليعـة للطباعـة والنشر – 1970-ص .22
(19) فيصل دراج اليسار العربي - العدد 81 – 1988م
(20). لينيـن - الدولـة والثـورة - تعاليـم الماركسية حـول الدولـة ومهـمات البروليتاريـات في الثـورة - ترجمـة سـالمة كيلـة - كراسـات ماركسـية (2) ، 2014 - ص 27، 28، .29 (
(21) طــارق حســن - “المثقف والثــورة والجــدل الملتبس، محاولــة في التوصيف الثقافــي لحــدث الثــورة فــي كتــاب: «دور المثقــف فــي التحولات التاريخيــة» مجموعــة مؤلفيــن - بيروت - المركز العــربي للأبحاث ودراســة السياســات – 2017- ص67 ، 68
(22) . مجموعــة مؤلفـيـن - «خصائــص الوعي الثــوري العربي « - مركــز الدراســات العربيــة والتطويــر بباريــس في 23 سبتمبر 2016- ص 1، 2، 3، 4
(23) . فاتحة متزارتي (وآخرين( - الموسوعة السياسية - «مفهوم الثورة» 2021- ص3 ، 4
(24)) فادي عمرة - «جدلية الوعي والثورة» - الحوار المتمدن – 15 ديسمبر – 201- ص1
(25) عزمـي بشـارة - «في الثـورة والقابليـة للثـورة» - بيروت - المركز العربي للأبحاث ودراسـة السياسـات، 2012- ص .29
(26) زيــن العابديــن صالــح عبــد الرحمــن - «النخبة السياســية الســودانية وأزمــة العقــل التبريري» في 28 يونيــو2015 - صحفيــة الراكوبــة.
((27) حيــدر إبراهيــم علي – في ســؤال العقــل في الفكــر السوداني (2-3) - 22 مايــو 2013م، صحفيــة الراكوبــة.
(28) زيــن العابديــن صالــح عبــد الرحمــن - «حــول المثقف اللامنتمي ودوره في الحــراك السياسي السوداني « - - 11 أكتوبــر .2017- صحفيــة الراكوبــة
(29) عــادل البليــك - «المثقف السوداني: الانهزامية، التنميــط والدوغماتيــة» - 2 يوليــو -2014 صحفيــة الراكوبــة



#عبد_الله_ميرغني_محمد_أحمد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المثقف العضوي و الثورة
- الحداثة: تقاطع المطلق و المتغير


المزيد.....




- إيلون ماسك ونجيب ساويرس يُعلقان على حديث وزير خارجية الإمارا ...
- قرقاش يمتدح -رؤية السعودية 2030- ويوجه -تحية للمملكة قيادة و ...
- السعودية.. انحراف طائرة عن مسارها أثناء الهبوط في الرياض وال ...
- 200 مليون مسلم في الهند، -أقلية غير مرئية- في عهد بهاراتيا ج ...
- شاهد: طقوس أحد الشعانين للروم الأرثودكس في القدس
- الحرب على غزة| قصف إسرائيلي مستمر وبلينكن يصل السعودية ضمن ج ...
- باكستان.. مسلحون يختطفون قاضيا بارزا ومسؤول أمني يكشف التفاص ...
- كلاب المستوطنين تهاجم جنودا إسرائيليين في الخليل
- بلينكن يصل إلى السعودية للاجتماع مع وزراء خارجية دول مجلس ال ...
- ما علاقة الحطام الغارق قبالة سواحل الأردن بالطائرة الماليزية ...


المزيد.....

- كراسات التحالف الشعبي الاشتراكي (11) التعليم بين مطرقة التسل ... / حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
- ثورات منسية.. الصورة الأخرى لتاريخ السودان / سيد صديق
- تساؤلات حول فلسفة العلم و دوره في ثورة الوعي - السودان أنموذ ... / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- المثقف العضوي و الثورة / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- الناصرية فى الثورة المضادة / عادل العمري
- العوامل المباشرة لهزيمة مصر في 1967 / عادل العمري
- المراكز التجارية، الثقافة الاستهلاكية وإعادة صياغة الفضاء ال ... / منى أباظة
- لماذا لم تسقط بعد؟ مراجعة لدروس الثورة السودانية / مزن النّيل
- عن أصول الوضع الراهن وآفاق الحراك الثوري في مصر / مجموعة النداء بالتغيير
- قرار رفع أسعار الكهرباء في مصر ( 2 ) ابحث عن الديون وشروط ال ... / إلهامي الميرغني


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - عبد الله ميرغني محمد أحمد - تساؤلات حول فلسفة العلم و دوره في ثورة الوعي - السودان أنموذجا