أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - عبد الله ميرغني محمد أحمد - المثقف العضوي و الثورة















المزيد.....



المثقف العضوي و الثورة


عبد الله ميرغني محمد أحمد

الحوار المتمدن-العدد: 7557 - 2023 / 3 / 21 - 22:46
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
    


المثقف أو المُفكِّر باعتباره شخصية يصعب التكهن بما سوف تقوم به في الحياة العامة، ويستحيل "تلخيصها" في شعار محدّد، أو في اتجاه حزبي "معتمد"، أو مذهب فكري جامد ثابت. ولقد حاولت أن أقول إن علينا أن نحدِّد معايير الصدق أو معايير واقع الشقاء البشري والظلم البشري وأن نستمسك بها مهما يكن الانتماء الحزبي للمثقف أو المُفكِّر الفرد، ومهما تكن خلفيته القومية، ومها تكن نوازع ولائه الفطري. ولا يشوِّه أداء المثقف أو المُفكِّر في الحياة العامة شيء قدر ما يشوّهه "التشذيب والتهذيب" أو اللجوء إلى الصمت حين يقتضيه الحرص، أو الانفعالات الوطنية، أو الردة والنكوص بعد حين مع تضخيم ذاته. (1)
لقد مثَّل المثقفون دائماً الآباء المؤسسين للأفكار الثورية في العالم في حين يتراجع دور المثقف العربي لصالح الفئات الاجتماعية الأخرى ليظهر العرج البيّن في ثورات الربيع العربي على رأي الكاتب الكبير الطاهر وطّار "الثورات التي لا تتخذ المثقفين سماداً لها ستظلّ تسير عرجاء (الطعنات)، فالمثقفون ملح الثورات وسمادها الذي يمنعها من الانحراف عن الأهداف الكبرى ويجنبها أنصاف الحلول، ولكن من هو المثقف المقصود؟(2) والتساؤل ما زال يفرض نفسه في إلحاح عندما تتشابك وتتقاطع المصالح بصدد استمرارية جذوة الثورة السودانية – هل المثقف العضوي جدير بأن يكون رسول المرحلة؟
في البدء قبل أن نتناول مفهوم المثقف العضوي وعلاقة ذلك بحتمية الثورة هنالك العديد من المصطلحات يجب تعريفها حتى نستطيع عبرها إماطة اللثام عن بعض اللبس عندما تتقاطع المصطلحات في مجال العلوم السياسية/ الاقتصادية / الاجتماعية. وخلال الورقة سوف نتطرق إلى العناوين التالية:
أولاً: تعريف المثقف (إدوارد سعيد- جان بول سارتر – لويس كوزر)،
ثانياً: المثقف الكوني مقابل المثقف المتخصص،
ثالثاً: نبذة مختصرة عن حياة أنطونيو غرامشي،
رابعاً: مفهوم الدولة من وجهة النظر الماركسية قبل وبعد غرامشي،
خامساً: مفهوم المثقف العضوي عند غرامشي،
سادساً: مفهوم الحزب عند غرامشي،
سابعاً: المثقف العضوي وحتمية الثورة،
ثامناً: المثقف السوداني – إلى أين؟،
مَن هو المثقف؟
أصل المصطلح مترجم من كلمة Intellectual الفرنسية منذ القرن التاسع عشر وأُطلق على مجموعة من العاملين في مجال الفكر والأدب الذين اتخذوا موقف تجاه الشأن العام الفرنسي في ذلك الوقت. يقابله مصطلح "إنتلجنسيا" الذي صاغه مثقفو الحركة الشعبية الروسية والذي لا يرتبط بالمؤهلات العِلمية، بل برفض الواقع السائد وتغييره من منظور الشعب (عزمي بشارة) والمشترك بين المصطلحين هو رفض المثقفين للواقع القائم والقيام بالوظيفة النقدية من أجل نشر الوعي(3).
يرى إدوارد سعيد أنَّ حقيقة المثقَّف الأساسية. «هو ذلك الموهوب الذي يقوم علناً "بطرح أسئلة محرجة" ويصعب على الحكومات أو الشركات استقطابه لأنَّه لو تمكَّنوا من استقطابه فقد المثقَّف بُعده النقدي وخان نصَّه الإبداعي. كما وجب عليه مواجهة كُلّ أنواع التنميط والجمود لأنَّ المثقَّف عموماً لديه الفرصة بأن يكون عكس التيار. إنَّ المثقَّف الحقَّ هو ذلك الذي يمثِّل المسكوت عنه والمثقَّف الحقَّ يمثِّل مبادئ كونية مشتركة لا تنازل عنها، فهو يمثِّل نبض الجماهير وهو الذي "لا يقبل أبداً بأنصاف حلول أو أنصاف الحقيقة"، هو الشخص الذي يواجه القوَّة بخطاب الحقِّ ويصرُّ على أنَّ وظيفته هي أن يجبر نفسه ومريديه بالحقيقة، هو المثقَّف "المقاوم"، يقاوم بفكره ونشاطه هيمنة السُّلطة السائدة بمختلف أنماطها المادية والاجتماعية والسياسية التي تحتكر البنية الفوقية للمجتمع والسياسة» (4).
ويُعرف بول سارتر المثقف بأنه: «"هو ذلك الذي يدس أنفه في ما لا يعنيه"، ما يشير بحسب سارتر إلى التزام المثقف بالمساهمة الفاعلة في معالجة كبريات قضايا المجتمع الجذرية ومحاولة إصلاحها بما يفيد المجتمع ويدفعه نحو التغيير إلى الأفضل. وأَنَّ مهمة التغيير لا يمكن إنجازها إلاَّ من المجموعة المتعلمة الواعية جيداً باين تكمن مصلحة المجتمع مع سعيها إلى نقل الأفكار من إطارها النظري إلى واقعها العملي، وهذه المجموعة هي طبقة المثقفين وأَنَّ فكرة الالتزام عند سارتر هي التي قرَّرت الوظيفة الاجتماعية للمثقفين»(5)
ويرى عالم الاجتماع الأمريكي المعاصر لويس كوزر أن « المثقفين ورثة الكهنة والأنبياء، وأَنهم معنيون بالبحث عن الحقيقية والاحتفاظ بها، وبالقيم الجمعية المُقدّسة، تلك التي تتحكم بالجماعة والمجتمع والحضارة. المثقف كائن هجين ينتج عملاً فنياً أو عملياً تظهر التزامه بالبنية، وهو قادر في الوقت ذاته على رؤية التناقضات والعمل على الدعوة لتهميشها، الأمر الذي يشير إلى ملامح الصورة التي ينبغي أن يكون عليها المثقف من التزام بالنظام من ناحية ومن أخرى الدعوة إلى تغييره، ما يعني أن المثقف يشكل صورة متناقضة بين مهمته كمهنة عقلية حرة وناقدة من جهة ومن جهة أخرى موقعه في الانتماء المؤسساتي والهوياتي»(6).
«إننا هنا نواجه تعريفين للمثقف أو المُفكِّر، يتسمان بالتعارض الأساسي حول هذه المسأله، وهما من أشهر تعريفات القرن العشرين. فنرى أن أنطونيو غرامشي، المناضل الماركسي الإيطالي، يكتب فيما كتب في مذكرات السجن قائلاً "أن جميع الناس مُفكِّرون، ومن ثم نستطيع أن نقول: ولكن وظيفة المثقف أو المُفكِّر في المجتمع لا يقوم بها كُلّ الناس". ويحاول غرامشي أن يبين أن الذين يقومون بوظيفة المثقف أو المُفكِّر في المجتمع يمكن تقسيمهم إلى نوعين: الأول يضم المثقفين التقليديين مثل المعِلمين والكهنة والإداريين، وهم الذين يستمرون في أداء ذلك العمل نفسه جيلاً بعد جيل، والثاني يضم من يُسمِّيهم المثقفين المنسقين، وكان غرامشي يرى أنهم يرتبطون مباشرة بالطبقات أو المشروعات التي تستخدم المثقفين في تنظيم مصالحها، واكتساب المزيد من السُّلطة، والمزيد من الرقابة»(7).
وفي المقابل يوجد تعريف جوليان بندا للمثقفين «باعتبارهم عصبة ضئيلة من الملوك الفلاسفة من ذوي المواهب الفائقة والأخلاق الرفيعة، الذين يشكِّلون ضمير البشرية. وهو يقول إن المثقفين الحقيقين هم الذين لا يتمثل جوهر نشاطهم في محاولة تحقيق أهداف عملية، أي جميع الذين ينشدون المتعة في ممارسة أحد الفنون أو العلوم أو التأملات الميتافيزقية، وبالاختصار بالظفر بمزايا غير مادية، ومن ثم يسنطيع كُلٌّ منهم أن يقول "إن مملكتي لا تنتمي لهذه الدنيا»(7).
خلافاً للقناعة الحزبية السائدة في بعض الأوساط،« فإن غرامشي لم يقصد المثقف الحزبي الذي لا يفقه إلا أيدولوجيته، والذي يحاول أن يفهم كُلّ شيء من خلالها. هذا النوع من المثقفين العاملين في الـ "بروبباغندا" الحزبية، ظاهرة دعوية عقائدية مبسطة (تشمل منظرين حزبيين وخطباء وكُتَّاب). لقد قصد غرامشي بمصطلح المثقف العضوي ذلك المثقف (الحزبي أو غير الحزبي) القادر على تبيين أن الواقع الاجتماعي القائم غير طبيعي، ويمكن تغييره بالقدرة على تحليل ثقافته ونقدها، وتحقيق الهيمنة الثقافية للمضطهدين. لقد أثار مصطلح غرامشي هذا ضجّة في أوساط الحركة الشيوعية، واحتفى به مثقفون يساريون نقديون، ولاحقاً "ما بعد حداثيون"، على الرغم من أنه لا يعد نظرية، ولا هو تجديد فكري، إلا بالنسبة إلى الحركة الشيوعية التي قادها مثقفون لم تفرد لهم أيدولوجيتهم مكاناً لهم كفاعليين تاريخيين.»(7).
المثقف الكوني مقابل المثقف التقني (المتخصِّص):
تُعد جدلية المثقف الكوني والمثقف التقني من الجدليات المهيمنة على علم الدراسات الثقافية بوصفه فرعاً مستحدثاً من فروع العلوم الإنسانية، « يهدف بالأساس إلى ربط الخطاب الثقافي بسياقيه التاريخي والسياسي، ومن ثم فإن المثقف بوصفه العنصر الفاعل والمُنتج لهذا لخطاب قد استحوذ على نصيب الأسد من تلك الدراسات، وخصوصاً فيما يتعلق بتعريفه وأنماطه اللذين يعدان انعكاساً لطريقة ونهج تعاطيه مع ملابسات وظروف الواقع المحيطة به والتي تشكل بكُلِّ تأكيد ظرفاً موضوعياً تعتمل في إطاره أفكاره ومواقفه»(8).

فالفكر الشيوعي- مثلاً- سجّل عبر أحد أهم منظريه، وهو الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر انحيازه إلى النمط الكوني من المثقفين، وهو موقف أعلنه سارتر في كتابة الشهير دفاع عن المثقفين؛ حيث أكد بوضوح أن المتعِلمين حتى وأن كانوا من أصحاب الشهادات العليا وأصحاب التخصصات في الطب والهندسة والفيزياء والطب النفسي وغيرها من الحقول المعرفية ليسوا بمثقفين؛ فهم بحسب وصفه مُجرّد جوقة من التقنيين، ويضيف المُفكِّر الفلسطيني/ الأمريكي إدوارد سعيد، «شرعية المثقف تُكتسب بحسب تأكيده في كتابه (صور المثقف) بتمثيله للأشخاص والقضايا؛ انطلاقاً من المبادئ والمعايير الإنسانية الكونية والعامة؛ لأن جميع أفراد الجنس البشري يجب أن يتمتعوا بالعدالة والحرية وفقاً لتلك المعايير التي يشكِّل انتهاكها أمراً لا يمكن السكوت عنه، ومن ثَمَّ تجب مجابهته من قبل المثقفين، ولذلك يجب أن يبقى المثقف حُراً من كُلِّ وصاية أو سيطرة مؤسساتية وفقاً لقناعة إدوارد سعيد»(9).

وفي المقابل من هذا الطرح نجد المُفكِّر فوكو ياما الذي يتبنّى مدرسة المثقف المتخصِّص أو التقني يميز فوكو ياما بين المثقف الكوني والمثقف المتخصِّص، ويتحدث فوكو عن انتهاء عصر المثقف المالك للحقيقة، والذي مثل ضمير المجتمع والعدالة فيقول فوكو: «لقد مرّت تلك الحقبة الكبرى من الفلسفة المعاصرة، حقبة سارتر وميرلوبونتي، حيث كان على كُلِّ نص فلسفي، أو نظري ما، أن يعطيك معنى الحياة والموت، ومعنى الحياة الجنسية، وأن يقول لك هل الله موجود أم لا؟ وما هي الحرية وما ينبغي عمله في الحياة السياسية وكيف تتصرف مع الآخرين، إلخ(10) يؤسس فوكو لمفهوم المثقف المتخصِّص، والذي هو المقابل للمثقف الكوني الذي مثَّلته الماركسية، والوجودية، وهو يمتاز بصفات ذكرها الدكتور زواوي باغورا منها»(12) المثقف المتخصِّص، هو الذي يقطع نهائياً، مع دعوى الشمولية، والكونية، والكلية، ويمارس يقظةً سياسية، نظرية، أخلاقية في ميدان عمله أو محيطه الاجتماعي.
1- المثقف الجديد هو المحلل والناقد لأنظمة الفكر، والتي أصبحت تشكِّل بديهيات، والتي ترتبط بشكل عضوي مع مفاهيمنا، ومواقفنا وسلوكنا.
2- ليست مهمة المثقف الجديد، سَنَّ القوانين واقتراح الحلول وتقديم النصح، وإنما مهمته التحويل، أو التغيير من خلال ميدانه، وذلك بتشخيص الحاضر.
«ربما لا يستحق "المثقف" تسميته ما لم يبحث في الماهية التي يتشكل منها وفي الهُوِّية التي ينتمي إليها. لذا كان على "المثقف" دائماً أن يترحل باحثاً عن أبعاد هُوِّيته الذاتية، ولا غرو في ذلك، فمبحث "المثقف" يفيض بالتشويق ويتدفق بالإثارة، وقلما نجد مُفكِّراً بارعاً لم يخض في هذه القضية ويبلي فيها بحثاً في دلالاتها وغوصاً في معانيها. وقد تقاطرت الأبحاث وتواترت النظريات في هذا الميدان لتشكل مجالاً حيوياً بالغ الاستقطاب في العلوم الإنسانية ولا سيما في علم الاجتماع السياسي وعلم الاجتماع التربوي على حدٍّ سواء»(10).
وقد دأب المثقفون أنفسهم على البحث المستمر في ماهية ” المثقف“ ودوره، فوظفوا أدواتهم النقدية استقصاءً للعلاقة الحيوية بين ”المثقف“ والثقافة، كما بين ”المثقف“ والحياة والإنسان، واستطاع هذا الموضوع أن يستقطب جلّ الباحثين والدارسين فتكاثفت أعمالهم وتكاثرت أبحاثهم في هذا الميدان المثير.(11)
ويشير مختاري علي في مداخلة بعنوان - أين هو المثقف العضوي في العالم العربي؟ إلي أهمية دور المثقف عبر التاريخ خاصَّة في مرحلة الأزمات «تمر الأمم والشعوب بأزمات حادة وحالات من انسداد الأفق وضبابية الرؤى المستقبلية لا سبيل للخلاص منها إلا بتحليل ودراسة هذه الأوضاع للوقوف على مواطن الخلل والضعف والأكيد أن للمثقف دور بالغ الأهمية في تحليل ونقد الأفكار وطرح الأسئلة المعرفية من أجل تصحيح الإعوجاج وإعادة بناء المفاهيم والقيم وقيادة المجتمع والرأي العام نحو الوجهة الصحيحة والخيارات المثلى المناسبة للمصلحة العامة، واليوم والمنطقة العربية – والسودان على وجه الخصوص- تمر بمخاض عسير توشك أن تنفصل البنية الاجتماعية وتتآكل هياكل الدولة يتساءل المتابع أين هو المثقف العضوي في العالم العربي من كُلِّ هذه الأحداث؟»(12).
نبذة مختصرة عن حياة أنطونيو غرامشي:
ولد «أنطونيو غرامشي» في 22 يناير/ كانون الثاني عام 1891 في سردينيا، وهي جزيرة فقيرة كانت الزراعة فيها متأخرة بفضل الظروف التي فرضتها سيطرة الشمال الإيطالي الأكثر تقدماً ومدنية، وهي التي ستشكل أغلب تصورات غرامشي مستقبلاً كما يلي:(13)
1913 انضم إلى الحزب الاشتراكي الإيطالي وشارك في تاسيس صحيفة الحزب، 1917 شارك في نضال الطبقة العاملة في تورينو ضدّ الحرب، 1920م القيام بإضراب والذي أثر في التوجه الراديكالي لأفكاره ،1924 تم القبض عليه بالرغم من الحصانة البرلمانية التي يتمتع بها، 1926 تم الحكم عليه بعشرين سنة سجن كتب خلالها دفاتر السجن (11 عام)، 1937 توفي بعيادة في روما نتيجة نزيف في المخ.
لا خلاف في أدبيات النظرية السياسية أن «أنطونيو غرامشي» هو واحد من أهم مُفكِّري القرن الـ20، وهو أهم مُفكِّر ماركسي بعد «ماركس» على الإطلاق، وعن طريقه تم التمهيد للمشهد النقدي. هذه الأفكار النقدية يسميها (البراكسيس) أي الممارسة الفعلية - تقوم بعمل قطيعة معرفية مع الأفكار الماركسية بشكليها التقليدي والدوجمائي، وتولي الاهتمام للممارسة النظرية والتصورات الواقعية. (13)


الدولة في الفكر الماركسي:
يلخص لينين الفكرة الأساسية التي تنطلق منها الماركسية في مسألة دور الدولة التاريخي ومعناها. فالدولة هي نتاج ومظهر استعصاء التناقضات الطبقية. فإن الدولة تنشأ حيث وعندما وبمقدار ما تكون التناقضات الطبقية موضوعياً في حال لا يمكن التوفيق بينها. وبالعكس، فإن وجود الدولة يبرهن على أن التناقضات الطبقية لا يمكن التوفيق بينها. (14).
يلخص أحمد رمضان مفهوم الدولة في الماركسية وفقا للنين (15):
1. ليست تعبيراً عن فكرة مطلقة (كما يدعي هيجل) وفي ذلك أيضاً انتقاد للمفهوم الليبرالي عن الدولة.
2. نابعة من الوجود المادي -الاقتصادي – الاجتماعي.
3. الدولة ناتجة عن التناقضات والصراع الطبقي، وهي تعمل كقوة ملطفة لحدّة ذلك الصراع
4. الدولة أداة لسيطرة الطبقة البورجوازية، فالدولة هنا هي دولة الطبقة الأقوى اقتصادياً، والتي تصبح سائدة سياسياً.(16)
الدولة عند غرامشي:
ينتقد غرامشي اختزال الدولة في أنها محض (آلة) أو (جهاز) ويعرف الدولة بقوله: « ينبغي ألا تفهم الدولة على أنها فقط جهاز الحكومة. ولكن أيضاً الجهاز الأهلي (غير الحكومي) للسيطرة السياسية، أو المجتمع المدني. ولا بُدّ من ذكر أن الفكرة العامة للدولة تشمل عناصر نحتاج أن نرجعها إلى فكرة المجتمع المدني.. ويمكن أن نقول أن الدولة = المجتمع السياسي + المجتمع المدني، أو بتعبير آخر” سيطرة سياسية يحميها سلاح القهر.» (17). تمثل الدولة بالنسبة لـ«ماركس» قمّة الهرم التطوري لنمط البنية الفوقية، حيث تعتبر أداة لاستمرار البرجوازية في السُّلطة وتنظيم المجتمع وفي الوقت نفسه هي نقطة نهاية تلك الطبقة، إذ ينظّر «ماركس» لضرورة سيطرة الطبقة العاملة على هذه الأداة وتحطيمها لإرساء أداة مُنظِمة جديدة عادلة خاصَّة بالمقهورين.(17).
ويعرّف غرامشي المجتمع المدني بأنه شبكة أفقية من المنظمات، والعلاقات المهنية تنتظم في الحياة الاجتماعية مثل: النقابات والأحزاب والصحافة والمدارس والكنيسة، باختصار كُلّ ما هو خارج سُلطة الدولة. (18). عند غرامشي العلاقة بين الدولة، والطبقة المهيمنة اقتصادياً ليست علاقة خطية ولا بسيطة، فينتقد غرامشي اختزال الدولة في شكل (أداة)، فليست هناك دولة دون سيطرة سياسية، وحلول وسطية، وعلاقات وتحالفات، فهناك منطقة وسيطة بين الحاكمين والمحكومين، تتجاوز فيها الطبقة الحاكمة المصالح الاقتصادية الضيقة، ليتم التوصل لنوع من التسوية، أو الحل الوسط، لتأكيد وضعيتها كطبقة قائدة سياسياً، وتتم تلك السيطرة عن طريق شبكة معقدة من الإجراءات، التي يتشارك فيها القمع، والأيديولوجيا. وهذا هو مفهوم غرامشي عن الهيمنة، فالدولة ليست فقط أداة للقمع، بل هي تخلق شبكات أيديولوجية تتمثل في كثير من المؤسسات، والأدوات التي تستخدمها في تحقيق سيطرتها السياسية.(19)
المثقف العضوي عند غرامشي:
وفي تعريفه للمثقف، يرفض غرامشي تماماً التقسيم السوسيولوجي الشائع للمجتمع في عصره كفئتين: الشغيلة اليدوييين والشغيلة الفكريين. إن هذا التقسيم يجري حسب اعتقاده، في ظاهر النشاطات الفكرية وليس في مجموع نظام العلاقات التي تجد نفسها متداخلة بالنظام العام للعلاقات الاجتماعية. صحيح أن العامل أو البروليتاري مثلاً لا يتميز بخصوصية العمل، أو الآلي، ولكنه يتميز بهذا العمل ضمن إطار علاقات اجتماعية معينة ومحددة. ويري غرامشي أن في كُلِّ عمل جسدي حدّ أدنى من المهارة، أي حدّ أدنى من النشاط الفكري المبدع، غير أن هذه المهارات لا تحدِّد موقعه الاجتماعي بل العلاقات العامة الاجتماعية هي التي تحدِّد وتميز هذا الموقع. ” يمكن القول إن كُلَّ إنسان هو إنسان مثقف، ولكن ليس لكُلّ إنسان في المجتمع وظيفة المثقف “.(20)
للمثقفين وضعية خاصَّة بالنسبة لـ غرامشي، فهم المُناط بهم الفعل السياسي والتأثير المهم في الحركة وتشكيل وعي الجماهير من خلال المجتمع المدني. وينتقل غرامشي نتيجة وضعية المثقف وعضويته في المجتمع إلى الحديث عن نوعين متقابلين من المثقفين؛ المثقف التقليدي والمثقف العضوي. يعرّف العضوي بأنه هو المثقف الذي ينتمي إلى طبقته ويمنحها وعياً بمهامها، ويصوغ تصوّراتها النظرية عن العالم، ويفرضه على الطبقات الأخرى من خلال «الهيمنة»، ويدافع عن مصالحها، ويقوم بالوظائف التنظيمية، والأداتية لضمان تقسيم العمل الاجتماعي داخل الطبقة من ثم استمرارها.
ويؤكد غرامشي ذلك »كُلّ جماعة اجتماعية، يظهر وجودها على الأرض الأصلية لوظيفة أساسية في عالم الإنتاج الاقتصادي، وهي تخلق بنفسها عضوياً»، طبقة أو أكثر من المثقفين يمنحونها تجانساً ووعياً بوظيفتها الخاصَّة ليس فقط في المجال الاقتصادي لكن في المجالين الاجتماعي والسياسي أيضاً« (20)
ومن الملاحظ أن «جرامشي» لا يعرف المثقفين بشكل تقليدي، وإنما يتوسع في التعريف، ويضم كُلّ من كان يمارس مهام عضوية بالمعنى العريض سواء في حقل الإنتاج الاقتصادي أو الثقافي أو الإداري، وهو ما يصطلح بتسميتهم بـ«الإنتلجنسيا»؛ وفقاً للمصطلح الروسي - وهي فئة عريضة من المتعِلمين تعليماً جيداً (التكنوقراط) يمارسون وظائف تقنية في المجتمع سواء مهندسين، أو أطباء أو محامين أو موظفين في الدولة. هل بالضرورة أن ينتمي هؤلاء التكنوقراط إلى قبيلة المثقفين فقط بحكم وظائفهم؟ ويربط غرامشي ظهور المثقفين العضويين بنشأة البرجوازية والتي نمت في جنبات النظام الإقطاعي، والتي انسلخت منه تدريجياً وبدأت صعودها بتوسع صناعاتها الصغيرة (المركنتيلية)، وقيام سوق آخذ في الاتساع شيئاً فشيئاً. بهذا يفترض غرامشي أن كُلَّ مثقفي البرجوازية الصغيرة عضويين أي ثوريين! وتزامن مع قيام الثورة الفرنسية وشيوع أفكار التنويريين احتاج هذا النمط الجديد من الإنتاج إلى فئة من المثقفين تعمل على مصلحته وتضفي تجانساً على بنية الطبقة الصاعدة الجديدة، وتساعدها في التوسع والانتشار، وحسمها للصراع مع النمط القديم (الإقطاعي) وهو ما كان سواء من خلال الثورة الفرنسية أو الثورة الصناعية في إنجلترا.(20)
إلا أن هذا المثقف العضوي له عدو طبيعي؛ وهو المثقف التقليدي الذي هو نتاج نمط إنتاج قديم يحمل تصورات عالم اختفى. يقصد به غرامشي رجال الدين، والإكليروس، وهم مثقفون يرون أنفسهم مستقلين عن الطبقات الاجتماعية، وأنهم فوق التاريخ والتطوّر الاجتماعي، ويقومون بحجب أصولهم الاجتماعية من خلال الأيدولوجيا التي يبشرون بها. والتساؤل الذي يفرض نفسه هو، هل من الممكن أخلاقياً الاستعانة بالمثقف التقليدي من قبل الطبقة العاملة بهدف تعضيد جهودها للهيمنة على المجتمع المدني؟


مفهوم الحزب عند غرامشي:
وتصوُّر غرامشي عن الحزب أبعد ما يكون عن التصور التقليدي للأحزاب الشيوعية التقليدية ذات البيروقراطية المركزية والمصالح الشخصية لأعضاء لجانها المركزية، هو يطرح نموذجاً لتجمع ثقافي بشكلٍ ما يخلق وعياً جديداً ويمارس التفكير بطريقة نقدية. إحدى الوظائف التي يختص بها المثقف العضوي (البروليتاري) كما يُعيّنها «غرامشي»، هي القضاء على الأفكار التقليدية الراسخة ومنها فكرة الأمير، وهو الشخص الكاريزماتي الأوحد ذو الخطاب الواحد، والحزب الواحد الذي ينتج دولة توتاليتارية؛ مثل دولة السوفيتات بعد وصول «ستالين»، وهو على الجانب الآخر يطرح تصوُّراً حديثاً للأمير على أنه إستراتيجية أو مجموعة من الأفكار (عقل) تقوم بتوجيه الحزب وتشكله بحسب الظروف التي يمرّ بها. (20)

وينظرغرامشي إلى الأمير بوصفه ممارسة ضدّ التحجر الحزبي، وفي الوقت عينه يحقق الوحدة الجدلية بين النظرية والسياسة، وبين المثقفين العضويين وما لديهم من دور تاريخي بتوعية الطبقة التي ينتمون إليها وبين كتلة الجماهير (اللامبالية) التي يعمل الحزب الثوري على الارتقاء بها إلى مستويات ثقافية أعلى.
ومن خلال هذه الأقانيم الثلاثة (المثقفين – الحزب – الأمير) تتشكل النظرية الماركسية باعتبارها براكسيس؛ أي ممارسة واقعية تقوم على نقد العقل السياسي، وتؤسس للثورة بوصفها قفزة نوعية تعتمد بالأساس على الوعي والحزب والإستراتيجية الصحيحة.(20)
المثقف العضوي وحتمية الثورة:
يرى غرامشي أن المجتمع المدني ينتمي إلى البنية الفوقية، بعكس ما أطلقه «ماركس» عليه بأنه بنية تحتية ونمط إنتاج. وفي رأي «جرامشي» يقابل هذا المجتمع المدني؛ الدولة (المجتمع السياسي). كُلّ هذه النقاط تتجه بالضرورة صوب فكرة واحدة: الثورة، بوصفها تلك الغاية أو الفكرة الشاملة التي يمكنها إرساء القيم الجديدة في المجتمع بعد هيمنة الطبقة العاملة على مؤسساته المدنية. فهي انقلاب نوعي في الوعي أولاً من خلال حرب المواقع، قبل أن تكون انقلاباً مادياً. يقول «غرامشي» عن حرب المواقع: هي الحرب التي تنتهي بهيمنة طبقة على طبقة أخرى من خلال المفاهيم الأيديولوجية قبل أن تتحول إلى حراك مادي في الشوارع يتم فيها تنفيذ إستراتيجية الطبقة العاملة ذات الأحقية التاريخية في السُّلطة.(20)
انتقد دكتور علي المرهج تعريف المثقف العضوي لغرامشي «بالقول إن هناك كثيراً من اللبس قد اعترى هذا المفهوم، فكثير منا يعتقد بأن مفهوم "المثقف العضوي" مرادف لمفهوم "المثقف المُستقل" الذي لا يقبل الخضوع لأيديولوجيا أو عقيدة معينة سوى ما يتطابق مع رؤى الإنسان الحر ومُتبنياته المعرفية المستندة على معطيات المنطق، استقرائياً كان أم استنباطياً، أو في ضوء منطق النقائض، سواء أكان هيجلياً أم ماركسياً.»(21)
ويواصل علي المرهج في رفض تعريف ودور المثقف العضوي وفقاً لطرح أنطونيو غرامشي «إن مفهوم المثقف في ضوء كُلّ تشكلات المنطق هذه شاء أم أبى من تبنّاها هو مثقف نخبوي، لأنه يبحث عن اجتراح مفاهيم لها طاقة نظرية تجريدية، ولكن ما يشتغل عليه غرامشي هو التكوينات المجتمعية بتشكلاتها الأفقية المرتبطة بالواقع ومتغيراته، وبالتالي يكون مفهوم "المثقف العضوي" عنده هو الشخص الذي يستطيع أن يُدرك بمهارة تنم عن وعي ثقافي مميز تُعبر عن جماعته التي ينتمي إليها، وفق تفسير واقعي أخاذ، نافذ، ومقبول لحاجيات وتصوُّرات طبقته التي ينتمي إليها، والذي يعني غرامشي هو مقدار ما يمتلكه هذا المثقف من وعي خلَّاق يستطيع من خلاله التعبير عن أيديولوجيا الجماعة التي هو جزء فاعل وواعٍ منها، ولا استقلالية له إلَا بالمقدار الذي تكون فيه هذه الاستقلالية تعبير حقيقي لرغبات طبقته، ولكن وعيه التاريخي بها وبتحولاتها أشد وأعمق منهم، حينذاك سيجد معارضة شديدة من الوعي الجمعي لطبقته، الأمر الذي يضطره لأن يكون خارج الجماعة ليعبِّر عن طموحاته بحرية أكبر، وهو في هذه الحال، أي خروجه عن الجماعة التي ينطق باسمها، ليُعبِّر عن طموحاتها، إنما هو إدراك ووعي نافذ عنده، وخروج عن نمط التفكير السائد الذي يتماهى فيه "المثقف التقليدي" مع "الحس الجمعي" للطبقة التي هو فيها، ما نخلص له من القول إن مفهوم غرامشي عن "المثقف العضوي" لا يشمل الأدباء والكتاب والعلماء الذين لا ينشغلون بهَم الطبقة التي يمثلونها، فهؤلاء في عداد "المثقفين التقليديين"، لأنهم يكتبون ويُنظرون للأدب من أجل الأدب، والعِلم من أجل العِلم، بينما تكون وظيفة "المثقف العضوي" عنده هي وظيفة اجتماعية تقتضي "التغيير"، لكن أي تغيير، إنه تغيير وفق مُعتقد وأيديولوجيا لها مقبولية وتأثير اجتماعي».(21)
وفي نفس السياق يكتب عزمي بشارة «لا يوجد معنى واضح لمقولة المثقف النقدي، فهذا تعبير غير مفهوم؛ فالنظرية الاجتماعية بطبيعتها نقدية، بمعنى أنها تحليلية، ويفترض أن تكون نقدية للأيديولوجيا عموماً، "مؤكداً أن الانتماء الثقافي شرط المثقف"، فلا مثقف من دون ثقافة. كما أن لا وجود لمثقف عالمي إلا كنفي مُجرّد، أو كاستغلال لثقافة مهيمنة يبرز المثقف العالمي بسبب هيمنتها، لا بسبب هيمنته هو»(22)

ينتقد دكتور أحمد مفلح تعريف غرامشي للمثقف، ذلك التعريف الذي ينبني على الدور الذي يقوم به، دون مراعاة لعموميته. « وفي ظل الغرق مع مقولة غرامشي غير الواقعية والديماغوجية، والتي مفادها أن الإشكالية ليست في تعريف المثقف، بل في تحديد الدور الذي يقوم به في مجتمعه، من منطلق أن الناس جميعهم مثقفون. وهذا كلام غير عِلمي اليوم مع الثورات العِلمية، فهل كُلّ الناس ينظّرون وينتجون معرفة؟ أو من مقولة سارتر المثالية والقيمية التي ترى أن المثقف هو الذي يدس أنفه فيما لا يعنيه، لأنه "دور" و"أداة" فحسب. هذا مع العِلم أن "المثقف" في التجربة الغربية له خصوصية؛ باعتباره من إفرازات التحوُّل النهضوي الذي بدأ منذ أكثر من سبعة قرون، حيث تأصل رابط بين شخصية المثقف ومهنته الرمزية القائمة على النقد والمواجهة، وارتباطه بالنهضة، والإصلاح، والتنوير. فهل من مثيل لهذا التاريخ من النهضة والتجربة في المجتمعات العربية اليوم؟»(23)

في مداخلة بعنوان (نقد المثقف أو موت المثقف) يصل المؤلف – صقر أبو فخر إلى تنيجة ضدّ كُلّ المتفق عليه، من قبل المثقفين، حيث إن رجل الدين هو المثقف العضوي الوحيد في العالم العربي، يجسد إمكانية القيامة والتجدد .«فالمثقف العضوي الذي وضع اليساريون بين يديه "جهيزة التي تقطع قول كُلّ خطيب" هو في حالتنا العربية ليس إلا رجل الدين بامتياز، الذي لا ينفك متأرجحاً بين الاستقلال عن السُّلطة أو الانضواء في أحضانها، وهو الأقرب إلى الانضواء تحت عباءتها. فاحتكاره العلوم الدينية أعطاه مهنة وسُلطة لكسب العيش. وهذه المهنة أضفت عليه وظيفة اجتماعية ودينية ومكانة بين الجماعة. »(24).

ينعى د. عبد المسحن شعبان (في نستولوجيا المثقف اليساري) رحيل المثقف العضوي من الواقع العربي المأزوم ويطرح العديد من التساؤلات، علّها تعين في تشخيص الداء، وتحديد الدواء. « نعود إلى السؤال: أين المثقف اليساري، الماركسي والقومي العربي والليبرالي الوطني؟ وكيف يمكن توظيف إبداعه ليستعيد دوره؟ ومن حقنا، بعد الارتكاس والتقهقر الذي تعرّض له المثقف، أن نصوغ السؤال الملغوم: أهي نهاية للمثقف العضوي بحسب غرامشي؟ وهل بإمكان” تفاؤل الإرادة “تغيير” تشاؤم الواقع“، أم ثمة عوامل ينبغي استكمالها لتحقيق ذلك؟ وهل صعود مثقف العولمة والمثقف النيو ليبرالي هي نهاية للمثقف اليساري؟»(25)

المثقف السوداني – إلي أين؟

وفقاً للظروف المعقدة التي يعيشها المجتمع السوداني كذلك تصبح أهمية وتعقيد الدور المزمع القيام به من قبل المثقف، ويعرف دكتور الشفيع خضر سعيد المثقف الثوري العضوي كالتالي «المثقف، ليس هو المتخصص ممتهن الثقافة فحسب، وإنما الإنسان المدرك للشرط الاجتماعي للتغيير والتجديد، والمدرك لحقائق المنجزات العِلمية والتكنولوجية والمعرفية، ولعلاقات القوى السياسية المختلفة والمتناقضة في العالم، ولمحتوى التحالفات ومحتوى البدائل والحلول، والذي لا يعتقل حركة التغيير في مُجرّد الشعارات والهتافات التعبوية. والمثقفون، هم بناة قوى الوعي المناضل والمبدع الذين يسعون لإنجاز التغيير وتحقيق غاياته، وهم، في عصرنا الراهن، أصبحوا قوة إنتاجية ثورية تعمل مع الآخرين لحل القضايا والمشاكل المختلفة، محلياً أو عالمياً، من خلال تنويع الخيارات وتجديد الخبرات القديمة أو انبثاق خبرات جديدة، ومن خلال إقامة علاقات حضارية إنسانية متشابكة ومتنوعة»(26).

ويطرح دكتور حيدر إبراهيم علي سؤالاً محورياً هو: مدى انتشار وعمق العقلانية في الفكر السوداني؟ (خفاض أو ختان العقل السوداني) ويعرف العقلانية بأنها: ببساطة في السياق الحالي هي عدم تناقض الغايات والوسائل. ولكن العقل المختون يفصل باستمرار بينهما، مما يعكس النقص القاتل في ذلك العقل أي نواقص التفكير والتحليل السليمين. وهذا ما يوقعه أيضاً في ممارسات يصعب إدراكها منطقياً، في كُلِّ مجالات الحياة، وبالذات السياسة. ويرجع ذلك إلى عدم طرح الأسئلة الصحيحة، وبالتالي الوصول إلى نتائج مختلفة تماماً من المقدمات. (27)

وفي العلاقة بين النشاط الثقافي/ السياسي يؤكد الأستاذ صلاح شعيب جدلية العلاقة في مقال له بعنوان (هل المثقف كلب السُّلطة): « وإذ تضع أنت (الناشط السياسي) كمقابل لمَن هو يحرك العمل الثقافي فإن ما يلزم هذا الناشط السياسي هو المعرفة عامة، والسياسية خاصَّة. ولكن للأسف وجدنا أن المثقفين هم الذين حكمونا وحكموا السياسة، وأن السياسيين هم الذين حكمونا وحكموا الثقافة. بهذه الخلفية يكون من الصعب أن أكون مثقفاً للتنوير دون أن أكون قادراً على فهم السياسة وتنوير الناس بــ (مخالب قططها). كما أنه من الصعب يا صديقي أن تكون سياسياً عاملاً للتقدُّم المجتمعي دون أن تكون قادراً على فهم الثقافة، وتنوير الناس بها وتوظيفها في عملك، وإلا فإن (السياسيين/المثقفين) متدرعين بشذى الثقافة ومعرفة السياسية سيهزمون مشروعك. وعليه يبقي الفصل التجريدي بين هذين المحورين الاجتماعيين أشبه بالحرث في النهر، وتفضح سياستنا وثقافتنا محاولات الفصل الواقعي بينهما. »(28)

ويزداد تعقيد الموقف لدي المثقف السوداني عندما تبدو السُّلطة الدينية للعيان وفي هذا الصدد يطرح دكتور الفاتح الزين شيخ إدريس التساؤل التالي: هل للمثقف سُلطة؟ وفي المقابل يعدد الأسباب التي اقعدت المثقف والثقافة في السودان « إن العوائق التي تمسك بخناق المثقف السوداني تتجسد في أوهام خمسة يرتبط كُلّ وهم منها بأحد المفاهيم التي تكثر في الخطاب الثقافي السوداني، وهي الوهم الثقافي ويرتبط بمفهوم النخبة، والوهم الأيديولوجي ويرتبط بمفهوم الحرية، والوهم القبلي ويرتبط بمفهوم الهُوِّية، والوهم الجهوي ويرتبط بمفهوم الأصالة، أما الوهم الأخير فهو الوهم الحداثي ويرتبط بمفهوم التنوير. ويعني الكاتب بوهم النخبة أنه عندما يسعى المثقف لينصب نفسه وصياً على الحرية والثورة أو رسولاً للحقيقة والهداية أو قائداً للمجتمع، تكون النتيجة أن كُلَّ أفكاره عندما يحاول تطبيقها على المجتمع تأتي بعكسها تماماً. والسبب في ذلك ليس محاربة الأنظمة له بقدر ما هو عزلته عن الناس الذين يدّعي أنه يفكر نيابة عنهم.»(29)

وفي مقاربة أدبية جميلة يشير الكاتب إلى أهمية التحرر من الخوف «يقوم راهب أعمى بوضع السم في صفحات الكتب الممنوعة حتى يسري في يد كُلِّ مَن يحاول الاطلاع عليها. إنه راهب متجهم يرى أن سبب مفاسد البشر هو الضحك لأنه يحرر الإنسان من الخوف من الشيطان، وإذا تحرر الإنسان من الخوف انبثق في داخله ذلك الشوق للمواجهة حتى إنه يمكن أن يتحدى الموت. هذا الخوف من تأثير الكتب لدرجة قتل الآخرين يشرحه الكاتب الإيطالي "ألبرتو إيكو" في روايته الشهيرة "اسم الوردة.”»(29)

ويعود تدجين المثقف السواني في العصر الحديث وفقاً لتحليل دكتور حيدر إبراهيم علي إلى: « تضافر وتآمر جهود عدد من المؤسسات للقيام بعملية -الخفاض أو الختان لعقل المثقف السوداني- بطريقة بارعة بحيث يؤدي الخفاض وظيفته في الحرمان والكبت والتدجين. وهي تتمثل في عدد من الفاعلين يتقسمون على عدد من المؤسسات. الفاعل الأول: المؤسسة الدينية المحافظة التي بدأت بهيئة علماء السودان التي رعاها الاستعمار البريطاني. أما الفاعل الثاني في عملية الخفاض فهي الطائفية التي لم تقف عند تقطيع أهم أدوات العقل النشطة، بل قامت بتدجين النخبة المثقفة خلال فترة حاسمة في تكوين عقل كفء ومجدد. والفاعل الثالث هو النظام التعليمي بشقيه الديني والمدني: المعهد العِلمي وكلية غردون. فقد ختن هذا النوع من التعليم العقيم مبكراً من خلال الحفظ، والتلقين، والطاعة.» (30)

المراجع:
(1) إدوارد سعيد – المثقف والسلطة - ترجمة و تقديم الدكتور محمد عناني – القاهرة - رؤية للنشر و التوزيع 2006 -ص 21، 22،

(2) مختاري علي -أين هو المثقف العضوي في العالم العربي ؟ - القدس العربي - 22 -أكتوبر 2013- ص 1، 2

(3) عزمي بشارة - عن المثقف و الثورة – القاهرة – المركز العربي للابحاث ودراسة السياسات - مجلة (تبين) العدد رقم 4 - مايو 2013 - ص 7 ، 8 ، 9 ، 10 .

(4) حاتم الشلغمي - في سؤال المثقف - قراءة في كتاب ادوار سعيد المثقف والسلطة - ترجمة محمد عناني – الحوار المتمدن - 24مايو 2013 - ص 3

(5) فتحي الحبوبي - المثقّف وهواجس قول الحقيقة وفعل التغيير و استقلاليّة الموقف- الحوار المتمدن – 3اكتوبر 2015 - ص 1.

(6) مثني العبيدي - المثقف ودورة المنشود - 30 ابريل 2018 - صحيفة البرق - ص 2.

(7) إدوارد سعيد – المثقف و السلطة - ترجمة و تقديم الدكتور محمد عناني – القاهرة - رؤية للنشر و التوزيع 2006 -ص9، ،10، 32 ، 33 ، 34 ، 35، 36

(8) طارق بوالعينين - جدلية المثقف الكوني و المثقف التقني – مقالات مصراوي - 14 سبتمبر 2019 - ص2

(9) إدوارد سعيد – المثقف و السلطة - ترجمة و تقديم الدكتور محمد عناني – القاهرة - رؤية للنشر و التوزيع 2006 -ص 9،10

(10) أحمد رمضان - المثقف بين غرامشي و فوكو- المحطة " إنسانيات و آفاق فلسفية " - 31 أغسطس2018 - ص 4،5.

(11) علي اسعد وطفه - المثقف النقدي مفهوما و دلاله - الحوار المتمدن - العدد رقم11- 5 ابريل 2015-ص 1، 4، 5

(12) مختاري علي -أين هو المثقف العضوي في العالم العربي ؟ - القدس العربي - 22 -أكتوبر 2013- ص 1، 2

(13) مصطفي هشام - مدخل الي قراءة فكر انطونيو جرامشي -لإضاءات - 7 فبراير 2018 - ص 1،3،4،7

(14) لينين – الدولة و الثورة – تعاليم الماركسية حول الدولة و ومهمات البروليتاريات في الثورة - ترجمة سلامة كيلة – طراسات ماركسية (2)= 2014- ص19

(15) أحمد رمضان - المثقف بين غرامشي و فوكو- المحطة " إنسانيات و آفاق فلسفية " - 31 أغسطس2018 - ص 4،5.

(16) لينين – الدولة و الثورة – تعاليم الماركسية حول الدولة و ومهمات البروليتاريات في الثورة - ترجمة سلامة كيلة – طراسات ماركسية (2)= 2014- ص 27،28،29

(17) مصطفي هشام - مدخل الي قراءة فكر انطونيو جرامشي -لإضاءات - 7 فبراير 2018 - ص 1،3،4،7

(18) أحمد رمضان - المثقف بين غرامشي و فوكو- المحطة " إنسانيات و آفاق فلسفية " - 31 أغسطس2018 - ص 4،5

(19) مارك مجدي - أنطونيو غرامشي و مفهوم المثقف العضوي- الحوارالمتمدن - 12 مايو 2019 – ص 3.

(20) مصطفي هشام - مدخل الي قراءة فكر انطونيو جرامشي -لإضاءات - 7 فبراير 2018 - ص ، 4 ، 5 ، 7

(21) علي المرهج – من هو المثقف العضوي ؟ قراءة نقدية للشائع حول فوكو غرامشي – نوفمبر 2019 - صحيفة المثقف (تنوير و إصلاح) – العدد 4819- ص 1،2،3

(22) عزمي بشارة (مع اخرين) - دور المثقف في التحولات التاريخية - بيروت - المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات - أبريل 2017 – ص 40 .

(23) أحمد مفلح - ورقة حول دور المثقف في التحولات التاريخية تبين العدد 31 (8) – شتاء 2000 - ص 3 ، 4.

(24) صقر أبوفخر - نقد المثقف أو موت المثقف - مجلة الدراسات الفلسطينية –- المجلد 8- العدد 29-1997- ص 115 .

(25) عبد المحسن شعبان - نستولوجيا المثقف اليساري - اليسار العراقي - 24 ديسمبر 2020 - ص 3.

(26) الشفيع خضر سعيد - المثقف و التغيير: رهان علي الشعب - صحيفة التغيير الإلكترونية - - 31 ما يو 2017 - ص1.

(27) حيدر ابراهيم علي - الخفاض الفرعوني لعقل المثقف السودان – سودانايل- - 19 يونيو 2012 -ص 1.

(28) صلاح شعيب –- المثقف السوداني: هل هو كلب حراسة للسلطة؟! - سودانيل - 6 يناير 2010- ص 3.

(29) الفاتح الزين شيخ الدين - أزمة المثقف السودانى: قمع السلطة أم خلل في بنية الفكر؟ سودانيل- 8 مارس 2011 -ص 1 ، 2.

(30) حيدر ابراهيم علي - الخفاض الفرعوني لعقل المثقف السودان – سودانايل- - 19 يونيو 2012 -ص 1،2.



#عبد_الله_ميرغني_محمد_أحمد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الحداثة: تقاطع المطلق و المتغير


المزيد.....




- هل تصريح نتنياهو ضد الاحتجاجات في الجامعات يعتبر -تدخلا-؟.. ...
- شاهد: نازحون يعيشون في أروقة المستشفيات في خان يونس
- الصين تطلق رحلة فضائية مأهولة ترافقها أسماك الزرد
- -مساع- جديدة لهدنة في غزة واستعداد إسرائيلي لانتشار محتمل في ...
- البنتاغون: بدأنا بالفعل بنقل الأسلحة إلى أوكرانيا من حزمة ال ...
- جامعات أميركية جديدة تنضم للمظاهرات المؤيدة لغزة
- القوات الإيرانية تستهدف -عنصرين إرهابيين- على متن سيارة بطائ ...
- الكرملين: دعم واشنطن لن يؤثر على عمليتنا
- فريق RT بغزة يرصد وضع مشفى شهداء الأقصى
- إسرائيل مصدومة.. احتجاجات مؤيدة للفلسطينيين بجامعات أمريكية ...


المزيد.....

- كراسات التحالف الشعبي الاشتراكي (11) التعليم بين مطرقة التسل ... / حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
- ثورات منسية.. الصورة الأخرى لتاريخ السودان / سيد صديق
- تساؤلات حول فلسفة العلم و دوره في ثورة الوعي - السودان أنموذ ... / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- المثقف العضوي و الثورة / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- الناصرية فى الثورة المضادة / عادل العمري
- العوامل المباشرة لهزيمة مصر في 1967 / عادل العمري
- المراكز التجارية، الثقافة الاستهلاكية وإعادة صياغة الفضاء ال ... / منى أباظة
- لماذا لم تسقط بعد؟ مراجعة لدروس الثورة السودانية / مزن النّيل
- عن أصول الوضع الراهن وآفاق الحراك الثوري في مصر / مجموعة النداء بالتغيير
- قرار رفع أسعار الكهرباء في مصر ( 2 ) ابحث عن الديون وشروط ال ... / إلهامي الميرغني


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - عبد الله ميرغني محمد أحمد - المثقف العضوي و الثورة