|
الرحماني و الكرين كارت
عبد الرحيم العطري
الحوار المتمدن-العدد: 1710 - 2006 / 10 / 21 - 07:10
المحور:
الادب والفن
قصة قصيرة ألقى بجسده النحيل على حصير متهدل ، واضعا مرفقه الأيمن على وسادة ملأى بالتبن ، رجلاه تعبثان بتراب الأرض المتشققة عطشا ، قبالة ناظره تمتد الأرض الموات ، التي لم يستغلها أحد مذ تنازع مع إخوته على الإرث . قبالته أيضا ينتصب إبريق من " لابروص" يرقد فيه شاي " زاعم " جدا ، به يهزم مرارة الوقت و يذيب ساعاته التي لا ترحل إلا بعد طول عناد ، و من أعلى شجرة التين الظليلة يتدلى " الترانزستور " الذي ورثه خفية من والده الذي كان يحكم أرض الجنوب ، لا شيء يقلق راحته غير كلاب " خيمة المكي " التي لا تنقطع عن النباح ، تماما كما المكي الذي لا يسلم من لسانه أي كان . هدوء موغل في الهدوء لا يكسره إلا النباح من جهة و الأخبار العاجلة التي يحملها الراديو ترانزستور من جهة أخرى . **** صوت المذيع يؤكد أن العدو الصهيوني يواصل غاراته الجوية على الجنوب اللبناني ، دون أن ينسى توجيه ضربات أخرى إلى غزة ...و حزب الله يرد له الصاع صاعين " ألا إن حزب الله هم الغالبون " ". يفرح الرحماني كثيرا بهذا الخبر العاجل ، يلقي كأس الشاي " الزاعم " في جوفه دفعة واحدة ، يتحسس حلاوة سكر القالب ، يضرب كفا بكف ، و يحدث نفسه بصوت عال " ها المعقول .. الله يعطيك الصحة آ سي حسن نصر الله ". يقف الرحماني ليعدل موجة الترددات أملا في " القبض " على إذاعة أخرى ، يفاجئه صوت مذيع رسمي و انبطاحي لدولة ما بين المحيط و الخليج ، يتعالى من أعماق الترانزستور صوته الماسخ مؤكدا أن حزب الله جر المنطقة إلى دمار شامل ، و أن ذات الحزب يعرقل عملية السلام !!! **** يستل من " قب " جلابته الصوفية عصا رقيقة مجوفة تنتهي بغليون صغير من الطين ، إنه" السبسي " الذي أهدته إياه محجوبة حفيدة القايد العيادي الذي كان يملك الرقاب بقبائل الرحامنة ، يعمر"شقفه" ب " كيف " خالص عمل على قصه طول الصباح ، يضرم نارا هادئة فيه و بعود ثقاب من ماركة السبع المشمع ، إنه يرفض القداحات التي صارت بدرهم واحد ، مثلما يرفض الأخرى التي يستعملها سادة القوم ، من أجل عود الثقاب الشمعي يقطع مسافة لا تقل عن عشر كيلومترات ، حتى يجده بالفيلاج . يهدي إلى صدره المهترئ مزيدا من دخان الكيف المعتق ، يتحسس " السبسي " و يتذكر لياليه مع محجوبة ، يتذكر عرضها القاضي بالرحيل إلى بلد العم سام أواخر السبعينات ، يطفئ نار الندم فيما تبقى من شاي بكأس " أمل حياتي " . فالكأس في دنيا الكيف لا تصلح للشرب فقط بل تستعمل كمنفضة لأعقاب السجائر و " طفيات السبسي "، و تلك إبداعات أخرى من توقيع ديوان الحشاشين. **** كلاب المكي الذي صار مالكا للأرض و الناس بعدما كان مجرد "خماس" يعمل لدى القايد الرحماني ، و ب" الخبزة " لدى آخرين، كلابه لا تنتهي من النباح طيلة اليوم ، وحدها كما صوت المذيع الرسمي تخرق هدوء دوار الحنيشات جنوب بن جرير . نباحها يصل إلى حدود دوار الحجرة البيضاء الذي يستقدم منه الكيف من عند ولد الطاهرة ، وحدها كلاب المكي الذي صار برلمانيا ، كما المذيع لا تجيد غير النباح ، غير آبهة مثل سيدها بما يحدث في لبنان و فلسطين و العراق و كل البقاع التي تحاول دولة الكرين كارت أن تطوعها و تنهب خيراتها . المذيع الرسمي كما المكي و كلابه يؤكد مرة أخرى أن فرنسا و أمريكا قد توصلتا إلى حل أمثل يجنب المنطقة مزيدا من حمام الدم ، الرحماني يخرج بصاقا متخثرا من تجاويف الرئة المهترئة بفعل الكيف ، يشتمه قويا " آ تفو .. الله يلعن اللي ما يحشم ... بل الكاروش لاخر" ...يعود للسبسي.. يعمر"شقفه" ب " كيف " خالص عمل على قصه طول الصباح ، يضرم نارا هادئة فيه و بعود ثقاب من ماركة السبع المشمع. **** يدس يده في" قب " جلابته مرة أخرى، يخرج إعلاما من السفارة الأمريكية يؤكد له فوزه في قرعة الورقة الخضراء ، هذا ما أخبرته به صاحبة نادي الإنترنيت بالفيلاج ، و التي ملأت له قبل سنة و نيف استمارة المشاركة في ذات القرعة ، يتذكر أنها يومئذ طلبت منه أن يأتيها بصورة من مقاس 5*5 ، و بسبب هذا المقاس اضطر إلى السفر إلى مراكش ، حتى يلبي رغبات العم سام ، المختلف عن الجميع ، فكل الإدارات و الدول تطلب صورا من مقاس 3*4 أو 3*2 بالنسبة للكارني ديال التعريف ، إلا هذه ال " أمريكا " التي تقول للعالم أجمع " و العمى .. خمسة على عينكم جوج مرات " . ها الورقة الخضراء بين يديه ، و ها الطريق بدت سالكة نحو محجوبة التي انقطعت أخبارها مذ هاجرت نحو ذاك الهناك ، لما جردوها من الأملاك ، فهل يفعلها هذه المرة و يسافر بحثا عن شقيقة القلب التي لم تولد مثلها في البلاد ؟ تراه فاعلا ماذا؟ **** المذيع الرسمي يتعالى صوته من الترانزستور كما المكي و كلابه ، يذكر المستمعين بأن حزب الله و حماس و سوريا و إيران و كل الشرفاء في هذا الوطن الجريح يعرقلون مسلسل السلام ، يمعن في تحليلاته العطنة ، و يخبر بعدد القتلى ، و يختم بمقولته الماسخة بعد الانتهاء من أخبار الموت و الدم و الانبطاح " أيها المستمعون الأعزاء أترككم مع هذا الفاصل الغنائي "، يعقبه مباشرة صوت تلك المعتوهة التي تجيد العراء أكثر من الغناء " خلي الواوا ... بوسي الواوا ..." الرحماني يرسل إلى الرئة المهترئة مزيدا من دخان الكيف ، يخرس الترانزستور ، فكلاب المكي أفضل ، النباح أفضل من الغناء البورنوغرافي على إيقاع القنابل و دم الشهداء " ا تفو على بني كلبون ، بل الكاروش لاخر ... بنت اللفعة الكرطيطة .. واش هاذا وقت الواوا .. و لا وقت الويل ... الله ينعل اللي ما يحشم ". **** الترانزستور معلق في الهواء ، إبريق الشاي " الزاعم " منتصب فوق الحصير المتهدل ، كلاب المكي تواصل عادة سيدها ، الأرض الموات التي تكتنز أسرار " مساخيط مولاي عبد العزيز" تتراءى لعين كستها " الجلالة " اللعينة ، السبسي ذكرى محجوبة عاد إلى موضعه الأثير ، الرحماني يقف إيذانا بانتهاء جلسة المساء ، عليه أن يقصد ولد الطاهرة بدوار الحجرة البيضاء ، كي يجود عليه بربطة كيف" كتامية " الأصل ، و منه إلى الفيلاج كي يحضر ماركة السبع المشمع ، إعلام السفارة الأمريكية بيده اليمنى ، يتأمله جيدا ، تبدو له الطريق نحو العم سام و محجوبة الذكرى البهية قصيرة جدا ، ما عليه إلا أن يحضر وثائق أخرى و ينعم بالورقة الخضراء ، و يتحرر من لعنة الأرض الموات و المكي و كلابه ، تراه ماذا فاعلا ؟ **** يغادر شجرة التين قاصدا ولد الطاهرة ، يراوغ مساره العادي كي يتجنب خيمة المكي ، لا يريد أن يكلم إنسيا هذا المساء ، يريد حلا ، يريد قرارا ، الرحيل أو البقاء . من طريق ملأى ب " الزعبول" يتمشى الرحماني ، إلى أن يصل إلى بئر " غظيفة " ، يتذكر ما قضاه من ليال برفقة محجوبة قرب هذه البئر ، يتأمل صفحة الماء البادية من فوق ، يتحسس إعلام السفارة ، تتشنج يده بعض الشيء ، يكوم الإعلام إياه ، يسويه من جديد ، يفكر ، لا يفكر في أي شيء ، يفتت الإعلام الأمريكي و يلقيه في عمق البئر . لا مجال ، لا ورقة خضراء بعد اليوم ، و لا محجوبة قبلا و بعدا ، أنى له و الذهاب إلى ذات البلاد التي تذيق بني عمومته سوء العذاب؟ لن يكون رحمانيا قحا كما أجداده الذين كانوا من قبائل السيبة ، و لم يستطع المخزن تدجينهم بالمرة إلى أن نعتوا بمساخيط مولاي عبد العزيز ؟ لن يكون هو الرحماني الذي رفض نفس العرض الذي قدمته محجوبة و بشروط أفضل ذات زمن بعيد ؟ **** يسرع الخطو في اتجاه دوار الحجرة البيضاء ، ليستقدم الكيف الكتامي ، يدير زر الترانزستور ، و يضبطه على إذاعة غير رسمية ، تفرحه أخبار القذائف التي يسقطها حزب الله على العدو الصهيوني ، يرسل دعوات صالحات إلى حسن نصر الله و كل الشرفاء في الوطن العربي الجريح ، و بالمقابل يرسل عظيم الشتائم و اللعنات إلى العدو الصهيوني و كل عرابيه و حلفائه العلنيين و السريين من أبناء العمومة أيضا . لا مكان له و لا حياة له غير الذهاب و الإياب ابتغاء الكيف أو عود الثقاب ، و ارتشاف الشاي " الزاعم " قبالة الأرض الموات ، و على أخبار الترانزستور و كلاب المكي ، هذا ما انكتب عليه مذ رحلت محجوبة و رحل الخير و الخمير عن بلاد يقال أنها لو " صيفت " لكان للوطن طعم آخر .
#عبد_الرحيم_العطري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ظاهرة تشغيل الأطفال بالمغرب : عنوان بارز للهشاشة الاجتماعية
-
جنوح الأحداث مغربيا : طفولة في مهب ريح الهباء
-
حقيبة من جلد التمساح
-
حالة المغرب 2005/2006 في العدد الثاني من كراسات استراتيجية ل
...
-
بورتريه : الناقد الأدبي محمد معتصم أركيولوجي النصوص العذب
-
بورتريه : المبدعة المغربية زهرة رميج لوتس اليسار النبيل
-
المبدع محمد بلمو شاعر لا يركع للخراب
-
بول باسكون الراحل خطأ : عالم الاجتماع هو ذاك الذي تأتي الفضي
...
-
في حوار مع المبدع المغربي محمد شويكة
-
المبدعة مليكة مستظرف فراشة في غير موعد الربيع
-
حوار مع المبدع المغربي محمد الاحسايني بائع الفحم الذي صار رو
...
-
من مفكرة دراسة اجتماعية : تفاصيل رحلة نحو المغرب العميق 3
-
من مفكرة دراسة اجتماعية : تفاصيل رحلة نحو المغرب العميق 2
-
افتتاح وحدة للتكوين و البحث في العلوم الاجتماعية و التنمية ا
...
-
من مفكرة دراسة اجتماعية : تفاصيل رحلة نحو المغرب العميق
-
حوار مفترض مع الشاعر الراحل محمد علي الهواري
-
أين الجثة ؟
-
كوم . إيكار
-
تكريما لروح بول باسكون
-
في لقاء حميمي مع المبدع المسرحي العراقي جواد الأسدي
المزيد.....
-
الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح
...
-
في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
-
وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز
...
-
موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
-
فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
-
بنتُ السراب
-
مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا
...
-
-الضربة المصرية لداعش في ليبيا-.. الإعلان عن موعد عرض فيلم -
...
-
أردوغان يشكك بالروايات الإسرائيلية والإيرانية والأمريكية لهج
...
-
الموت يغيب الفنان المصري صلاح السعدني
المزيد.....
-
صغار لكن..
/ سليمان جبران
-
لا ميّةُ العراق
/ نزار ماضي
-
تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي
/ لمى محمد
-
علي السوري -الحب بالأزرق-
/ لمى محمد
-
صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ
...
/ عبد الحسين شعبان
-
غابة ـ قصص قصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
اسبوع الآلام "عشر روايات قصار
/ محمود شاهين
-
أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي
/ بدري حسون فريد
-
أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية
/ علي ماجد شبو
المزيد.....
|