أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - يزن زريق - تناقض تولستوي: الأرستقراطي الذي أحبّ النُّسك















المزيد.....

تناقض تولستوي: الأرستقراطي الذي أحبّ النُّسك


يزن زريق

الحوار المتمدن-العدد: 7537 - 2023 / 3 / 1 - 14:36
المحور: الادب والفن
    



ما يحصل في حالة تولستوي هو نوع من التعويض، من خلال إعادة توجيه الطاقة النفسية نحو مستوى آخر، ونحو نطاق أعلى، بعد أن فشل في تحقيق إنجاز أو تغييرات على المستوى الأدنى، أي على مستوى الحياة اليومية والشخصية.

بدأت تظهر ملامح أزمة حادة وشاملة في شخصية الأديب العالمي ليون تولستوي (1828-1910)، بدءاً من سبعينيات القرن الـ19. وعلى الرغم من أنّه كان في أوج نجاحاته، من شهرة وصيت وحتى أتباع، فقد كان واضحاً لكلّ المراقبين أنّه يعيش تناقضات داخلية، تكاد تودي به أدبياً وحتى نفسياً.

ولتلخيص أزمة تولستوي، يمكن القول إنّها كانت أزمة مُثُلٍ عليا. فالمستوى الظاهري لأزمته هو أنّه لم يكن يستطيع، وهو ابن الطبقة الأرستقراطية الروسية العتيدة، أن يعيش حياةً تتطابق مع معتقداته الشرقية والفلسفية المسيحية، على الرغم من محاولاته العديدة والجادّة من أجل تحقيق ذلك. فتولستوي الذي بشّر في كتاباته الفكرية بالمثل العليا الصارمة للكنيسة الأرثوذوكسية، من فقر اختياري وتقشّف وزهد، كان يعيش فعلياً حياة فارهة هنيّة في مزرعته الشهيرة، وسط ضياعه وأطيانه، ومع زوجته وأولاده.

يتحدّث كُتّاب السيرة الذاتية للأديب الروسي بإسهابٍ عن "هروباته" المعروفة، حيث كان فجأةً، ومن دون أيِّ إنذارٍ أو إعلامٍ لأحد، يختفي من بيته وضياعه، ويبتعد عن أفراد عائلته، منطلقاً نحو الغابات والقرى والجبال والسهول، التي شكّلت منفاه الاختياري، ليعيش عيشة النُّسّاك والمبشِّرين، لكنَّ جميع محاولاته باءت بالفشل، كما هو معروف.

فالرجل لم يستطِع التغلّب على أرستقراطيته المتأصّلة في طبعه. وفي كلِّ مرَّةٍ، وبعد كلِّ تجربةٍ، كان يعود مهزوماً إلى عزبته الفخمة، وإلى عائلاته وحياته الاعتيادية القديمة.

يقول جورج هالداس، في دراسة له عن تولستوي، إنّ فشل الأخير في تطبيق مُثُله العليا على نفسه وعلى حياته اليومية كان "من حسن حظ الأدب وسعده"، حيث أنّ الأديب صعّد عجزه في الحياة فكرياً وفلسفياً (بمعنى التصعيد السيكولوجي الذي تحدّث عنه فرويد، والذي يأخذ به علم النفس الحديث)، وذلك من أجل تعويض هذا العجز.

وبحسب هالداس هنا (ومعه الفيلسوف والناقد جورج لوكاش، إلى حدٍّ ما) فإننا نستطيع الحديث عن "تولوستويين" اثنين؛ تولستوي الإنسان، صاحب المبادئ والقيم الرفيعة والصارمة، التي فشل كلياً في تطبيقها في كافة مفاصل حياته الشخصية والاجتماعية، وحتى السياسية، فرغم تأييده روحياً للثورة والتمرّد العام والحريات السياسية، فإنّه حافظ على خطوط حمر في مواقفه المعلنة من السلطة القيصرية، لم يخترقها أبداً.

وقد شكّل فشله هذا عقدة عجزٍ في حياته لم يستطع تجاوزها أبداً، ومصدراً عظيماً لصراعات روحية ونفسية وتقلّبات حادة، يدركها كلُّ معاصري الأديب الكبير ومتتبعي سيرته الذاتية، وأبرزهم الروائي مكسيم غوركي، الذي رسم صوراً أدبية عن حياة تولستوي اليومية، يظهر فيها بشكل جليّ تعدُّد المستويات النفسية للكاتب، وتناقضات أمزجته وعواطفه بين أطوار عدّة، توحي بالأزمة الداخلية العميقة التي عاشها لسنوات طويلة.

وقد بلغ عجز تولستوي عن تطبيق مبادئه على نفسه حدّ وقوع طرائف تثير التعاطف مع الأرستقراطي المتمرّد المعجب بحياة الفلاحين، من ذلك أنّه كان يصطحب معه خادمه الشخصي خلال هروباته الشهيرة، ليحمل له حوائجه الخاصة التي كان قد اعتاد عليها في حياته الأرستقراطية الفارهة، مثل ملابسه الداخلية النظيفة، على الرغم من أنّ نيّته كانت في الأساس قضاء أيامه مع المتسولين، وعيش حياة التشرد والتبشير بوصفها مثلاً أعلى في الحياة، على الإنسان أن يعيشها كي يجد الخلاص.

أما تولستوي الثاني، فهو الأديب والمفكّر والمنظِّر والداعية الأيديولوجي... أي هو باختصار رجل الفكر. وبحسب هالداس (ومنهج النظرية النفسية في الأدب عموماً)، فإنّ الأديب يجد حلّاً أو منفذاً للاستعصاء الداخلي الذي يعيشه عادة، في العمل الفكري عموماً، وفي واحد من أهم تجليات العمل الفكري خصوصاً، ألّا وهو الأدب والرواية وغيرها من أشكال الفنون.

ما يحصل في حالة تولستوي هو نوع من التعويض، من خلال إعادة توجيه الطاقة النفسية نحو مستوى آخر، ونحو نطاق أعلى، بعد أن فشل في تحقيق إنجاز أو تغييرات على المستوى الأدنى، أي على مستوى الحياة اليومية والشخصية. بتعبيرٍ آخر، وكخلاصة، يمكننا القول إنّ تولستوي عاش مبادئه التي لم يستطِع تطبيقها في حياته الخاصة من خلال أدبه وفكره، في نوعٍ من التعويض التصعيدي عن عجزه الإنساني المباشر عن تطبيق تلك المثل على الذات وفي الممارسة. ولكن ما مدى دقة هذه الخلاصة؟ وإلى أيِّ حدٍّ هي كافية لتفسير تناقضه؟

تبدو هذه الخلاصة هشّة إلى درجة أنّ طرحاً بسيطاً يمكن أن يهدم كل أسسها؛ فأين ظهرت التبشيرية المسيحية الزاهدة في أعمال تولستوي الكبرى؟ وأين عبّر عنها ولو بشكل أدبي أو درامي؟ لا أثر لذلك بالطبع في أعماله الكبرى مثل "الحرب والسلم" و"آنا كارينينا" و"البعث"، والتي كانت أوسع وأعمق بما لا يُحَدّ من مجموعة أفكار دوغمائية دينية، أو ذات منشأ نفسي ما، بل كانت ذات أبعاد إنسانية وفلسفية واجتماعية، بل تاريخية حتى. ولا أثر للأفكار التبشيرية في أعماله الصغيرة أيضاً، والتي يمكن أن توحي ظاهرياً باحتوائها على هذا البُعد، مثل رواية "الحاج مراد" التي يتحدث فيها عن الزهد، و"سوناتا لكروتزر" التي يتحدّث فيها عن رفض الزواج... فالحديث عن تصعيد تولستوي لمبادئه الشخصية في الأدب إذاً هو حديث غير دقيق. أين يمكن البحث إذاً عن التناقض الرئيس عند تولستوي، الذي أفرز أدباً إنسانياً خالداً لا يمكن تجاوزه ولا يكاد يضاهى؟

المفتاح الأساس هنا هو التمييز عند "تولستوي الثاني"، أي عند رجل الفكر، بين نوعين من الكتابات، أو بين شكلين من أشكال الممارسة الفكرية لديه: الأول هو الأدب، الذي يمكن أن نقرأه في أعماله المنشورة والمعروفة عالمياً، من روايات وقصص طويلة وقصيرة ومسرحيات. والثاني هو كتاباته الفكرية والأيديولوجية، التي ظهرت في مذكّراته ومقالاته وتعاليمه، التي كان يصدرها بين حين وآخر. عندها سيظهر لنا أن لتولستوي وجهان حقيقيان، ونضع يدنا فعلياً على التناقض الرئيس عنده.

يمكن اختصار القول هنا بأننا أمام قطبين رئيسيين في إرث تولستوي الفكري: تولستوي الفلاحي، وتولستوي الأرستقراطي. ونعني بالفلاحي هنا البعد الديموقراطي والثوري والتقدمي الموجود في شخصيته، والذي يعي فعلياً درامية التاريخ وزخم الحركة الاجتماعية في روسيا، في نهايات الـ19، ويعيشها. وهو قادر ببلاغة نادرة على التعبير عنها، وقد فعل ذلك درامياً وفنياً في أدبه، بنجاح أقل ما يقال فيه أنّه عبقري واستثنائي. أما الأرستقراطي فهو تولستوي ابن الطبقة المنعزلة، العاجزة والماجنة والطفيلية التي تعيش على تعب الآخرين، والفاشلة في تحقيق أي إنجاز شخصي أو اجتماعي، ناهيك عن الأخلاقي، والتي سبق أن حكم عليها التاريخ بالاندثار.

وكتابات تولستوي العقائدية والدينية الدوغمائية الوعظية، ليست سوى محاولة عاجزة ووجدانية لبثّ الحياة في جثة الأرستقراطية الروسية الهامدة، عبر قليل من الإرشاد الديني والأخلاقي.

بذلك فقط نستطيع التمييز بين جانبي إرث ليون تولستوي، أحدهما هو الجانب الحي والتاريخي، الذي يقبض على جوهر العملية الاجتماعية الكبرى والعظيمة، والذي تجلّى فعلياً في أعماله الأدبية، والجانب الآخر هو جانب ميت ومتحجّر، ومُفرغ فعلياً من أيّ محتوى فكري أو إنساني حقيقي، والذي من الخطأ كلياً استخدامه لفهم أدب الرجل أو إرثه.

يؤكّد جورج لوكاش أنّ إرث الأديب لا يُقرأ من خلال آراءه، ولا من خلال حياته، ولا من خلال كتاباته غير الأدبية، حتى لو كانت كتابات عن نفسه وعن أدبه، فتولستوي شتم أدبه في كتاباته مراتٍ عدّة، وتبرّأ منه مرات عدّة، بل إن إرث الأديب يُقرأ من خلال تركته الأدبية تحديداً. وهنا يكمن وجه تولستوي الحقيقي والحي والخالد على مر العصور.



#يزن_زريق (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المنهج الاجتماعي في قراءة الفن: فاغنر نموذجاً
- قراءة بوشكين في القرن الواحد والعشرين
- نحو مدرسة جيوبوليتيكيّة عربية
- عن تقاليد العمل السياسي المفقودة في أوساط اليسار العربي
- عن الفشل التاريخي لمشروع الإخوان المسلمين
- «الشيوعي اللبناني» ومعركة الانتخابات المقبلة
- موضوعات الجمالية الماركسية: بين الفلسفة والفن
- النقد الليبرالي السطحي للنظرية الماركسية
- التنظيمات العمالية العربية: طليعة النضال الديموقراطي الوطني
- مراسلات ماركس العربية: بين المنهج والنص
- حلّ المسألة النسوية في الاتحاد السوفياتي


المزيد.....




- معرض مكتبة الإسكندرية الدولي للكتاب يحتفي بالمغربي محمد بن ع ...
- -جائزة الشيخ حمد للترجمة- تعلن عن لغات دورتها الـ12 لعام 202 ...
- رعب وأبطال خارقون ومخلوقات خطيرة.. 8 أفلام تعرض في يوليو
- -كاسونغو-.. قصة فقدان وحب تختبئ خلف الإيقاعات الراقصة
- -كاسونغو-.. قصة فقدان وحب تختبئ خلف الإيقاعات الراقصة
- العمود الثامن: في حكاية الشيخ والشاعر !!
- الاحتفاء بالشاعر والمترجم ياسين طه حافظ بمناسبة اختياره رمزً ...
- جاهزون يا أطفال .. أحلى الأفلام الكارتونية على تردد قناة سبي ...
- مجزرة النصيرات في فيلم استقصائي على -الجزيرة 360-
- مجزرة النصيرات في فيلم استقصائي على -الجزيرة 360-


المزيد.....

- ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة- / ريتا عودة
- رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع / رشيد عبد الرحمن النجاب
- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي
- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي
- خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية ( ... / عبير خالد يحيي
- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي
- طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11 ... / ريم يحيى عبد العظيم حسانين
- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - يزن زريق - تناقض تولستوي: الأرستقراطي الذي أحبّ النُّسك