صفوان داؤد
الحوار المتمدن-العدد: 7532 - 2023 / 2 / 24 - 20:47
المحور:
العولمة وتطورات العالم المعاصر
منذ الحرب العالمية الثانية هيمنت الليبرالية الجديدة على أجزاء واسعة من العالم. وبقيادة الولايات المتحدة وحلفاؤها الأساسيون أوربا الغربية، اليابان في شرق آسيا، إسرائيل في الشرق الاوسط، تم بناء نظام دولي مترامي الأطراف متمحور حول التعاون الأمني، الانفتاح الاقتصادي. يبدو هذا السياق للوهلة الأولى مثاليا لكن الوقائع تؤذن بأن هذا النظام يحمل مشاكل عميقة، أشار إليها وحاجج فيها بشكل مبكر ضمن الإطار النظري العديد من المفكرين أمثال ليوتار ودريدا وجيجيك، إضافة الى نقاشات هايدغر وفوكو وجان بودريار وغيرهم حول السلطة وأهمية دور القوة في بناء السلطة والحقيقة والرؤى الشمولية التي شكلت نسقا سياسيا داخل الليبرالية الجديدة. لكن ما هو مصير هذا النظام الدولي بعد استحقاقات عدة؛ الغزو الروسي لاوكرانيا، سطوة سلاح العقوبات المارقة من قبل واشنطن وعواقبها المدمرة لمئات ملايين الناس حول العالم، وشكل أوربا بعد خروج بريطانيا منها، وما هو وضع العولمة في هذا العالم المتشرذم؟ هذا السؤال الذي كان قد طرحه رئيس مؤتمر دافوس هذا العام أمام مسؤولي اقوى اقتصادات دول العالم.
في الواقع يوجد تحت المتغيرات قصيرة المدى تحولات عميقة مرتبطة بطبيعة النظام الدولي عموما. أهمها هيمنة الدولار على دورة المال العالمية. حيث كان يُنظر إليه بعد اتفاقيات برايتون وودز كضامن لاستقرار النظام المالي الدولي، من شأنه أن تنشر الرخاء في اصقاع العالم. لكن رويدا رويدا بدأ يُنظر إليه على أنه سلاح يمكن للولايات المتحدة من خلاله فرض هيمنتها على العالم. وفعلا بدأت العديد من الدول اتخاذ إجراءات للحد من تأثير الدولار، ويعتبر إعلان البرازيل والأرجنتين مناقشات توحيد عملتهما علامة فارقة في هذا السياق. من شأن كسر احتكار الدولار للمالية العالمية أن يحدث انزياحا في طبيعة النظام الدولي النيوليبرالي. لكن أكثر مايخشاه معظم القادة السياسيين، هو أن يؤدي الخلل الناتج عن هذا الانزياح الى حقبة جديدة من الحرب الباردة. وبحسب تقارير اعلامية واردة من اجتماعات دافوس، أشتكى ممثلين عن قادة أفريقيا وأمريكا اللاتينية من أن بلدانهم عانت كثيرا من الضغوطات الجيوسياسية والاقتصادية خلال الحرب الباردة الأولى وأكثر ما يخشوه أن يتكرر هذا الوضع مرة اخرى. بالنسبة لهم، هناك القليل الذي يمكن اكتسابه من الاضطرار إلى الاصطفاف مرة أخرى. حتى حلفاء الولايات المتحدة يعارضون الاضطرار إلى هذا الاختيار. وفي خطابه الخاص أمام المؤتمر، أعلن المستشار الألماني أولاف شولتز أن عالم 2045 لن يكون ثنائي القطب بل متعدد الأقطاب. وهو ما دفع بعد أيام إعلان الرئاسة الروسية أن بوتين لا يمانع من الحوار مع المسؤولين الألمان بشأن القضايا الأوربية. لكن الخبر المثير للقلق جاء من وزير خارجية الولايات المتحدة في مقابلة على سي بي اس نيوز الأميركية 18 فبراير الجاري وقال فيها ردا على احتمال تسلم روسيا من الصين "أسلحة قاتلة" أن هذا سيكون له "عواقب وخيمة". مازالت واشنطن متمسكة بقوة ولن تتنازل عن احادية القطبية العالمية، لكن يبدو أن الأمور متجهة الى غير ذلك وستكون إعادة العولمة التي تم إلقاء نظرة عليها في دافوس 2023 مختلفة اختلافًا جوهريًا عن التكرارات السابقة على حد تعبير مارك ليونارد من صحيفة الدايلي ستار.
لم تكن الليبرالية الجديدة بعد الحرب العالمية الثانية مشروعا عالمياً، إنما جزءا من مشروع جيوبولتيكي مناهض للشيوعية. بني وتطور هذا المشروع داخل العالم الغربي. وفي المراحل الاولى خلال نهاية الأربعينات وبداية الخمسينات كانت أغلب الاتفاقات بخصوص السياسات النقدية وحرية التجارة كانت بين بريطانيا والولايات المتحدة فقط ثم توسع لاحقا. وحين سقط جدار برلين انتشر هذا المشروع خارج العالم الغربي وأصبح المشروع النيوليبرالي معولما. لذلك اعتبرت كل من بريطانيا والولايات المتحدة، على التوالي، مركز الموجتين الأوليين للعولمة، لكن يجمع معظم الباحثين على أن الموجة الثالثة ستكون متعددة الأقطاب والقطب الجديد هنا هو الصين. خلال السنوات العشر السابقة لم تملأ الصين الفجوة الاقتصادية مع الولايات المتحدة فحسب، بل تجاوزتها كأكبر شريك تجاري لمعظم دول العالم وبلغ الحجم التجاري بين الصين والولايات المتحدة حوالى 755 مليار دولار عام 2021 بزيادة قدرها 28% عن العام الذي سبقه، في حين بلغ 581 مليار دولار مع الاتحاد الأوربي لنفس العام . تشير هذه الارقام المأهولة لتجارة الصين الى تحول كبير في ميزان القوة الاقتصادية؛ يرافق هذا التحول في أن العولمة ذاتها قد وصلت إلى مرحلة لا يمكن الاستغناء عنها داخل النظام النيوليبرالي. فسوق الخدمات والتجارة الدولية ونظام التحويلات المالية والنقل جميعها بلغت ذروتها المعولمة، وتفتح التطورات في البنية التحتية الرقمية إمكانيات جديدة هائلة. هناك أيضًا ثورة متسارعة في تنويع أشكال مصادر الطاقة، مدفوعة جزئيًا بتقليل الاعتماد على النفط، حيث أشار مركز بروجيل الأوربي في دراسة جديدة أن مؤشر ارتفاع أسعار الطاقة في عام 2022 أنخفض عن عام 2022، عام الغزو الروسي لأوكرانيا، في دلالة إلى أن الحرب والعقوبات ليست هي المحركات الأهم". من الواضح أن العالم مقبل على مرحلة جديدة سيتغير معها شكل وطبيعة العديد من المفاهيم وروح القوانين وطبيعة الاقتصاد وسلّم القيم الاجتماعية التي ساد بعضها، ربما لمئات السنين، وأن الليبرالية السياسية قد دخلت فعليا منذ خروج بريطانيا من الاتحاد الأوربي قبل بضع سنوات عتبة مرحلة جديدة كليا بدأ الكثير من الأكاديميين والمختصين يطلقون عليها مرحلة "ما بعد الليبرالية".
ما بعد الليبرالية مفهوم حديث نسبياً نشأ عن النظرية الاقتصادية القائمة على فكرة أن السوق يُنتج الواقع من خلال أشكاله الخاصة من الحقيقة والذاتية والسلطة؛ معيدة إلى حد كبير تعريف التجربة الإنسانية. وهي تهيمن حالياً على العملية الاقتصادية واتجاه حركة القوى السياسية على الصعيد العالمي. وهي أنشأت سياقات اجتماعية سياسية واقتصادية جديدة ومتراكمة عن الارث النيوليبرالي لأوربا الغربية والولايات المتحدة، وهي تفرض الخطوط العريضة لشروط التحول السياسي في جميع أنحاء العالم وتحولها هي نفسها -بقيادة الفضاء الرقمي والذكاء الصناعي- الى مابعد الليبرالية .
#صفوان_داؤد (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟