أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الطب , والعلوم - عثمان محمد حمدان - ذُبُولٌ مُتَنَبَّأٍ بِهِ















المزيد.....

ذُبُولٌ مُتَنَبَّأٍ بِهِ


عثمان محمد حمدان

الحوار المتمدن-العدد: 7509 - 2023 / 2 / 1 - 10:12
المحور: الطب , والعلوم
    


تَرجمَة لِمقال جَرَّاح الأعْصاب هِنَري مارْش * فِي المحْور الأدَبيِّ Literary Hub ( lithub . com )

عَملَت كجراح أَعصَاب لِأكْثر مِن أَربعِين عامًا. عِشْتُ فِي عَالَم مليء بِالْخَوْف، والْمعاناة، والْمَوْتِ، والسَّرطان. مِثْل جميع الأطبَّاء، كان عَلِي أن أَجِد توازنًا بَيْن التَّعاطف والاحْتفاظ بِمسافة مِن اَلمرِيض. كان هذَا فِي بَعْض الأحْيان صعْبًا لِلْغاية. لَكِن نادرًا مَا فَكرَت فِي مَا سَيكُون عليْه اَلْحال عِنْدمَا يَحدُث لِي مَا كُنْت أُشاهِده فِي العمل كُلَّ يَوْم. هَذِه هِي قِصَّة كَيْف أَصبَحت مريضًا.
جِئْتُ إِلى الطِّبِّ عَبْر طريق مُلْتَوِي، تَضمَّن دِراسة الفلْسفة والتَّخلِّي عَنهَا. بِحلول الوقْتِ اَلذِي أَصبَحت فِيه طبيبًا كُنْت أَعرِف فقط اَلعُلوم الأساسيَّة. على الرَّغْم مِن أَننِي مَفتُون بِشدَّة بِالْعِلْم، إِلَّا أَننِي لَسْت عالمًا. مُعظَم جِراحيٌّ الأعْصاب لَيسُوا عُلَماء أَعصَاب - اِدِّعاء ذَلِك سَيكُون مِثْل القوْل بِأنَّ جميع السَّبَّاكين هُم عُلَماء مَعادِن.
لكن مع اقترابي من نهاية حياتي، أجد نفسي محاصرا بأسئلة فلسفية وعلمية تبدو فجأة مهمة للغاية - أسئلة كنت أعتبرها في الماضي إما أمرا مفروغا منه أو كنت أتجاهلها. هذه أيضا قصة محاولاتي لفهم بعض هذه الأسئلة، دون العثور بالضرورة على إجابات.
بدَا الأمْر كمَزحَة فِي ذَلِك الوقْتِ - أَنَّه يَجِب فَحْص دِماغيٌّ. كان ينبغي أن أَعرِف أَفضَل. لَطَالمَا نَصحَت المرْضى والْأصْدقاء بِتجنُّب إِجرَاء فُحوصَات الدِّمَاغ مَا لَم تكُن لَديهِم مَشاكِل كَبِيرَة. فَقْد لَا يسرك مَا سَتَراه، كُنْت أَقُول لَهُم.
كُنْت قد تَطوعَت لِلْمشاركة فِي دِراسة تُعنى بمَسْح الدِّمَاغ فِي عَينَة مِن الأشْخاص الأصحَّاء. شعُرت بِالْفضول لِرؤْية دِماغيٍّ، حَتَّى لَو كان ذَلِك فقط فِي وَحَدات البكْسل الرَّماديَّة لِفَحص التَّصْوير بِالرَّنين المغْناطيسيِّ. لَقد أَمضَيت مُعظَم حَياتِي فِي النَّظر إِلى فُحوصَات الدِّمَاغ أو الأدْمغة الحيَّة أَثنَاء الجراحةـ الرَّهْبة اَلتِي شَعرَت بِهَا كَطالِب طِبٍّ عِنْد رُؤيَة جِراحة الدِّمَاغ لِأَول مَرَّة تَلاشَت بِسرْعة كَبِيرَة بِمجرَّد أنَّ بَدأَت التَّدْريب كجراح أَعصَاب.
عِلاوة على ذَلِك، أَثنَاء الجراحة، أَنْت لَا تُريد أن تَشتَّت اِنْتباهك بِالْأفْكار الفلْسفيَّة حَوْل اَلغُموض اَلعمِيق لِكيْفِيَّة تَولِيد المادَّة المادِّيَّة في أدْمغتنَا لِلْفكْر والشُّعور، وَلُغز كَيْف يَكُون هذَا واعيًا وغيْر وَاعِي فِي ذات الآن. كمَا لَا تُريد أن تَشتَّت اِنْتباهك بِالتَّفْكير فِي عَائِلة اَلمرِيض اَلمُمدد تَحْت مِبضَعك، وَهُم ينْتظرون خَارِج غُرفَة العمليَّات فِي يَأْسٍ وَقلَق. تَحْتاج إِلى فَصْل نَفسِك عن هَذِه الأفْكار والْمشاعر، على الرَّغْم مِن أَنهَا لَيسَت بَعِيدَة أبدًا. كُلُّ مَا يُهِم هُو التَّرْكيز ومَا يتطلَّبه مِن اَلثقَة بِالنَّفْس. فأنْتَ تحيا بِشَكل مُكثَّف لِلْغاية عِنْدمَا تَعمَل.
رُبمَا اِعْتقَدتْ أنَّ رُؤيَة دِماغيٍّ ستؤكِّد اِنْبهاري بِعلْم الأعْصاب اَلذِي قَادَنِي إِلى أن أَصبَح جَرَّاح أَعصَاب فِي المقَام اَلأُول، وأنَّهَا ستغْمرني بِشعور مِن الزَّهْو. لَكنَّه كان غُرورًا. لَقد اُفْتُرضت بِسرور أنَّ الفحْص سيظْهر أَننِي كُنْت واحدًا مِن صَفوَة مِن كِبَار السِّنِّ الَّذين تُظْهِر أدْمغتهم اَلقلِيل مِن علامَات الشَّيْخوخة. أَستطِيع الآن أن أرى أَننِي ، على الرَّغْم مِن تقاعدي، كُنْت لَا أَزَال أُفكِّر كطبيب - أنَّ الأمْراض تَحدُث فقط لِلْمرْضى، وليْس لِلْأطبَّاء، وَأننِي مَا زِلْتُ ذكيًّا جِدًّا وَلدِي ذَاكِرة جَيدَة مع تَوازُن وَتنسِيق مِثاليَّيْنِ. كُنْت أَركُض عِدَّة أَميَال كُلِّ أُسبُوع وأرْفع الأثْقال وأمارس تَمارِين الضَّغْط. وَلكِن عِنْدمَا نَظرَت فِي النِّهاية إِلى مَسْح دِماغيٍّ ، بدَا كُلُّ هذَا اَلجُهد وَكَأنَّه اَلمَلِك كَانُوت يُحَاوِل وَقْف اِرتِفاع اَلمَد فِي البحْر.
مَرَّت عِدَّة أَشهُر قَبْل أن أَتمَكن مِن فَتْح الديسك اَلذِي تمَّ إِرْساله لي بُعْد الفحْص. لَقد وَجدَت اَلكثِير مِن الأعْذار لِتأْجِيل ذَلِك - قد يَكُون تَنزِيل البيانات مِن الديسك إِلى جِهَاز الكمْبيوتر اَلْخاص بِي أمْرًا مُعَقدا، وَكَان لَدى اَلعدِيد مِن جَوْلات المحاضرات فِي الخارج، وأشْيَاء أَقُوم بِهَا فِي وَرشَة عملي، وَأَيام أَقضِيها مع أحْفادي. فِيمَا بَعْد، اِسْتطَعْتُ أن أَستوْثِق أَننِي كُنْت أُسوِّف لِقلقي بِشَأن مَا قد يُظْهِره الفحْص، لَكننِي تَمكنَت، أخيرًا، مِن قَمْع هذَا الخوْف، وإبْعاده عن تفْكيري الواعي. اِسْتغْرق الأمْر بِضْع دَقائِق فقط لِتنْزِيل الملفَّات. عِنْدمَا نَظرَت إِلى الصُّور على شَاشَة جِهَاز الكمْبيوتر، وَاحِدة تِلْو اَلأُخرى، تمامًا كمَا اِعْتدْتُ أن أَنظُر إِلى فُحوصَات مَرْضَاي، شَرِيحَة تِلْو اَلأُخرى، تَعمَل مِن جِذْع الدِّمَاغ إِلى نِصْفِي اَلكُرة اَلمُخية، غَمرَنِي شُعُور بِالْعَجْز التَّامِّ والْيَأْس. فَكرَت فِي القصص الشَّعْبيَّة عن الأشْخاص الَّذين تُساورهم هَواجِس حُضُور جِنازتهم.
كان دِماغيٍّ البالغ مِن اَلعُمر سبْعين عامًا مُنْكمِشًا وَذابِلا، نُسخَة بَالِية وَحَزينَة مِمَّا كان يَجِب أن يَكُون عليْه مِن قَبْل. كَانَت هُنَاك أيْضًا بُقَع بَيْضاء قَاتِمة فِي المادَّة البيْضاء، وعلامات تلف بسبب نَقْص تَروِية اَلدَّم، وَمرَض الأوْعية الصَّغيرة، الْمعْروف فِي مِهنَة الطِّبِّ بِاسْم فَرْط كَثافَة المادَّة البيْضاء - هُنَاك أَسمَاء مُختلفَة لَهَا. بدوْا مِثْل بَعْض اَلجُدري الشِّرِّير. حَتَّى لَا أُطيل التَّحذْلق، بدأ عَقلِي يَذبُل. لَقد بَدأَت فِي الاضْمحْلال. إِنَّه لِنذير وَاضِح، مَوعِد نِهائيٌّ.
لَطَالمَا شَعرَت بِالْخَوْف والرَّهْبة عِنْد النَّظر إِلى النُّجوم فِي اللَّيْل، على الرَّغْم مِن أنَّ ضَعْف البصر اَلذِي يَأتِي مع تَقدُّم اَلعُمر يَجعَل مِن الصَّعْب رُؤْيتهم بِشَكل مُتَزايِد. ضَوئهِم البارد والْمثاليِّ، وعددهم غَيْر المفْهوم وَبعدِهم، وبقاءهم اَلذِي يُقَارِب السَّرْمد يَتَناقَض مع عمري اَلوجِيز. اَلنَّظَر إِلَى مَسْحٍ دِمَاغِيٍّ أَيْقَظَ نَفْسَ اَلشُّعُور. كَانَت الرَّغْبة فِي إِشاحة بَصرِي كَبِيرَة جِدًّا. أَجبَرت نَفسِي على إِتمَام العمل على صُوَر المسْح اَلضوْئِي، وَاحِدة تِلْو اَلأُخرى، ولم أَنظُر إِليْهَا مَرَّة أُخرَى. إِنَّه أَمْر مُخيف لِلْغاية. هُنَاك أَدبِيات طِبِّية وَاسِعة حَوْل تغيُّرَات المادَّة البيْضاء اَلتِي أظْهرَهَا فَحْص دِماغيٌّ، والْمادَّة البيْضاء هِي مِلْيارات المحاور -الأسْلاك الكهْربائيَّة- اَلتِي تَربُط المادَّة الرَّماديَّة، الخلايَا العصبيَّة الفعْليَّة. إِذَا بلغْنَا الثَّمانين مِن اَلعُمر، فسيكون لَدى مُعظمنَا هَذِه التَّغْييرات. يَرتَبِط وُجودهَا بِزيادة خطر الإصابة بِالسَّكْتة الدِّماغيَّة على الرَّغْم مِن أَنَّه مِن غَيْر الواضح مَا إِذَا كَانَت تُنْبِئ بِالْخَرف أم لَا. إِذَا وصلْنَا إِلى الثَّمانين، يُكوِّن كُلٌّ وَاحِد مِن كُلِّ سِتَّة أَشخَاص منا عُرضَة لِلْإصابة بِخَطر بِالْخَرف، ويزْدَاد الخطر إِذَا عِشْنَا لِفتْرة أَطوَل.
صحيح أنَّ مَا يُسمَّى ب "نمط الحيَاة الصِّحِّيِّ" يُقلِّل مِن خطر الإصابة بِالْخَرف إِلى حدِّ مَا (يَقتَرِح بَعْض الباحثين نِسْبَة 30 فِي المائة) وَلكِن مُهمًّا كُنَّا نعيش بِعناية، لَا يُمْكننَا اَلهُروب مِن آثار الشَّيْخوخة. لَا يُمْكننَا تأْخيرهَا إِلَّا إِذَا كُنَّا محْظوظين. الحيَاة الطَّويلة لَيسَت بِالضَّرورة شيْئًا جيِّدًا. رُبمَا لَا يَنبَغِي لَنَا أن نَسعَى إِليْهَا بِلَهف شديد. لَقد وَصلَت إِلى هذَا اَلعُمر حَيْث تَبدَأ فِي كُرَه رُؤيَة نَفسِك فِي الصُّور الفوتوغْرافيَّة - أَبدُو أَكبَر بِكثير مِمَّا أَشعُر بِه، على الرَّغْم مِن أنَّ النُّهوض مِن اَلسرِير فِي الصَّبَاح يَزْداد صُعُوبَة كُلِّ عامٍ وأصْبح مُتْعبًا بِسرْعة أَكبَر مِمَّا كان الأمْر عليْه فِي الماضي. لَم يَكُن مَرَضاي مُخْتلفيْنِ - كَانُوا يحْتجُّون على شُعورِهم بِأنَّهم شَبَاب جِدًّا إِذَا أَشرَت إِليْهم بِعلامات الشَّيْخوخة فِي فُحوصاتهم. نَحْن نَقبَل أنَّ الجلْد المتجعِّد يَأتِي مع تَقدُّم اَلعُمر وَلَكننَا نَجِد صُعُوبَة فِي قَبُول أنَّ ذَواتِنا الدَّاخليَّة، أدْمغتنَا، تَخضَع لِتغْييرات مُمَاثلَة. هَذِه تُسمَّى التَّغْييرات التَّنكُّسيَّة فِي التَّقارير الإشْعاعيَّة. هَذِه اَلصفَة المقْلقة لَا تَعنِي سِوى أنَّ هَذِه التَّغْييرات إِنَّما هِي حَصِيلَة اَلعُمر.
بِالنِّسْبة لِمعظِّمنَا، مع تَقدمِنا فِي اَلعُمر، تَتَقلَّص أدْمغتنَا بِشَكل مُضطرِد، وَإذَا عِشْنَا طويلا بِمَا فِيه الكفاية، فَإِنهَا تَنتَهِي إِلى مَا يُشْبِه حَبَّات الجوْز الذَّابل، تَطفُو فِي بَحْر مِن السَّائل الدِّماغيِّ اَلشوْكِي، مَحصُورة دَاخِل جُمْجمتنَا. ومع ذَلِك، لَا نَزَال نَشعُر عَادَة بِأنَّنَا لَا نزال َنفْس ذَواتِنا الحقيقيَّة، وَإِن كَانَت مُتناقصة وَبَطيئَة وَمنسِية. المشْكلة هِي أنَّ ذَواتِنا الحقيقيَّة، أدْمغتنَا، قد تَغيرَت، وَبمَا أَننَا تَغَيرنَا مع أدْمغتنَا، فليْس لَديْنَا طَرِيقَة لِمعْرِفة أَننَا قد تُغَيرنَا. إِنَّها المشْكلة الفلْسفيَّة القديمة - عِنْدمَا أَستيْقِظ فِي الصَّبَاح، كَيْف يُمْكنني التَّأَكُّد مِن أَننِي اليوْم نَفْس الشَّخْص اَلذِي كُنْت عليْه بِالْأَمْس؟ وَكمَا كان اَلْحال قَبْل عشر سَنَوات؟
لَطَالمَا قَللَت مِن أَهَميَّة مدى هَذِه التَّغْييرات المرْتبطة بِالْعمْر اَلتِي تَظهَر فِي فُحوصَات الدِّمَاغ عِنْد التَّحَدُّث إِلى مَرَضاي، تمامًا كمَا لَم أُوضِّح أبدًا أَنَّه مع بَعْض العمليَّات يَجِب عليْك إِزالة جُزْء مِن الدِّمَاغ. نَحْن جميعًا قابلون لِلْإيحاء لِدرجة أَنَّه يَجِب على الأطبَّاء اِختِيار كلماتهم بِعناية فَائِقة. مِن السَّهْل جِدًّا على الأطبَّاء أن ينْسوْا كَيْف يَتَشبَّث المرْضى بِكلِّ كَلمَة، كُلُّ فَارِق بسيط، مِمَّا نقوله لَهُم. يُمْكِن للطبيب، عن غَيْر قَصْد، التَّعْجيل بِجميع أَنوَاع الأعْراض النَّفْسيَّة الجسديَّة والْقَلق. كُنْت عَادَة مَا أَقُول أَكاذِيب بَيْضاء مُبْهِجة.
"دِماغك يَبدُو جيِّدًا جِدًّا بِالنِّسْبة لِعمْرك"، هذَا مَا أودُّ أن أَقُولَه، لِلتَّفْريج عن المرْضى، بِغضِّ النَّظر عَمَّا أظْهرَتْه الفحوصات، مَا دَامَت مَقصُورة فقط على التَّغْييرات المرْتبطة بالْعمرْ لَا أَكثَر. كان المرْضى يُغادرون العيادة بِسعادة وارْتياح ويشْعرون بِتحسُّن كبير. كتب طبيب القلْب الأمْريكيِّ البارز بِرْنارْد لَوْن عن مدى أَهَميَّة اَلكَذِب على المرْضى - أو على الأقلِّ أن تَكُون أَكثَر تفاؤلا مِمَّا قد تُبَرره الحقائق، فالأمل هُو وَاحِد مِن أَثمَن الأدْوية تَحْت تَصرف الأطبَّاء. إِنَّ إِبْلَاغَ شَخْصِ مَا بِأَنَّ لَدَيْهِ أَمَلاً بِنِسْبَةِ خَمْسَةٍ فِي اَلْمِئَةِ فِي اَلْبَقَاءِ عَلَى قَيْدِ اَلْحَيَاةِ يَكَادُ يَكُونُ جَيِّدًا مِثْلٌ إِخْبَارِهِ بِأَنَّ لَدَيْهِ أَمَلاً بِنِسْبَةِ خَمْسَةِ وَتِسْعِينَ فِي اَلْمِئَةِ، وَسَيُؤَكِّدُ اَلطَّبِيبُ اَلْجَيِّدُ عَلَى نِسْبَةِ اَلْخَمْسَةِ فِي اَلْمِئَةِ اَلَّتِي تُؤَكِّدُ اَلْحَيَاةُ دُونَ إِنْكَارِ أَوْ إِخْفَاءِ اِحْتِمَالِ اَلْوَفَاةِ اَلْمُقَابِلُ بِنِسْبَةِ اَلْخَمْسَةِ وَتِسْعِينَ فِي اَلْمِئَةِ. إِنَّه صُنْدُوق بانْدورَا - مَهمَا خَرجَت اَلعدِيد مِن الأهْوال والْأمْراض مِن الصُّنْدوق، فهناك دائمًا أمل.
فقط فِي النِّهاية يُومض الأمل. الأمل لَيْس مَسْأَلة اِحتِمال أو مَزيَّة إِحْصائيَّة. الأمل هُو حَالَة ذِهْنيَّة، والْحالات الذِّهْنيَّة هِي حالات جَسَديَّة فِي أدْمغتنَا، وأدْمغتنَا مُرتبطَة اِرْتباطًا وثيقًا بِأجْسادنَا (وَخَاصَّة بِقلوبنَا). فِي الواقع، قد تَكُون فِكْرَة الدِّمَاغ غَيْر اَلمُجسد، اَلتِي يُروِّج لَهَا رواد الذَّكَاء الاصْطناعيِّ الأكْثر تطرُّفًا، بِلَا مَعْنى. هذَا لَا يَعنِي أنَّ كوْننَا طيِّبين ومتفائلين سيشْفيان السَّرطان أو يُمْكننَا مِن العيْش إِلى الأبد. يُحَاوِل العقْل البشَريُّ دائمًا اِختِزال جميع النَّوازل فِي أَسبَاب أُحادِيَّة الجانب، وَلكِن مُعظَم الأمْراض هِي نِتَاج اَلعدِيد مِن التَّأْثيرات المخْتلفة، وَوجُود أو عدم وُجُود الأمل هُو وَاحِد فقط مِن بَيْن اَلعدِيد مِن التَّأْثيرات.
لَديَّ نُسخَة رَائِعة مِن نَقْش لِلْفنَّان الألْمانيِّ ألْبريشْتْ دُورْر من القرْن السَّادس عشر على جِدَار مكتبي، ورثته عن والدَتي يُظْهِر القدِّيس جِيروم جالسا إلى مَكتَبِه، غُرفَة جَمِيلَة مِن اَلعُصور اَلوُسطى مع سَقْف مُجوَّف وَنافِذة كَبِيرَة مع بهو عميق وألْوَاح صَغِيرَة مِن زُجَاج التَّاج، يَسقُط مِن خِلالِهَا ضَوْء الشَّمْس المائل. هُنَاك أسد -المخْلوق المرْتبط بِالْقدِّيس- يَنَام على الأرْض أمامه. تَقُول اَلقِصة أَنَّ القدِّيس أَزَال شَوكَة مِن مِخلَب الأسد، وأصْبح بعدها نوْعًا مِن الحيوانات الأليفة. إضافة لذَلِك يَرمُز الأسد إِلى الولَاء. كان القدِّيس جِيروم أحد الآبَاء الأوائل لِلْكنيسة المسيحيَّة. وَيُقَالَ إِنَّهُ كَانَ لَدَيْهِ أَتْبَاعُ مُتَحَمِّسُونَ مِنْ اَلْأَرَامِلِ اَلْمُوسِرَاتِ فِي رُومَا فِي القرْن الخامس. تَعرضَت إِحْدى بَناتِهن لِتأْثيره ودعْوَته لِعَيش حَيَاة زَاهِدة. تمَّ إِلقَاء اللَّوْم عليْه فِي وَفاتِها بِسَبب مَا يَبدُو وَكَأنَّه فِقْدَان اَلشهِية العصَبيِّ. أَننِي أعْتبر القدِّيس جِيروم مُتعصِّبًا، وأَظُن أَننِي سأكْرهه إِذَا قابلْته.
ومع ذَلِك، فَأنَا أُحِب نَقْش ألْبريشْتْ دُورْر، تُحفُه هَالَة الحكْمة والتَّعلُّم، وقد صُنعَت ذات مَرَّة طَاوِلة على غِرَار المكْتب فِي الصُّورة. تُوجَد جُمْجُمة على رفِّ بِجانب مَكتَب القدِّيس جِيروم، وَهِي أَيقُونة** momento mori غالبًا مَا تُوجَد فِي صُوَر فَلاسِفة اَلعُصور اَلوُسطى، تَذكِيرا بِالْمَوْتِ القادم. مَسْح دِماغيٌّ لَا يَختَلِف. مَهمَا أنعمت النظر إليه –وقد أمعنت بِشدَّة- لَم يُخْبرْني بِشَيء لَم أَكُن أَعرِفه بِالْفِعْل: عَقلِي يشيخ، ذاكرَتي لَيسَت جَيدَة كمَا كَانَت، أَتحَرك وأفكِّر بِبطْء أَكثَر، سَأمُوت.
كان يَجِب أن أَعرِف أَننِي قد لَا أُحِب مَا أَظهَره فَحْص دِماغيٌّ، تمامًا كمَا كان يَجِب أن أَعرِف أنَّ أَعرَاض البروسْتاتَا اَلتِي كَانَت تُزْعجني بِشَكل مُتَزايِد كان مِن المحْتمل أن تَكُون نَاجِمة عن السَّرطان، كمَا هُو اَلْحال بِسَبب تَضخُّم البروسْتاتَا اَلحمِيد، اَلذِي يَحدُث لِمعْظم الرِّجَال مع تَقدمِهم فِي اَلعُمر. لَكننِي ظللْتُ أَعتَقد أنَّ المرض يَحدُث لِلْمرْضى وليْس لِلْأطبَّاء، على الرَّغْم مِن أَننِي كُنْت فد تَقَاعدَت. بَعْد عِشْرين شهْرًا مِن فَحْص دِماغيٍّ، تمَّ تَشخِيص إِصابَتي بِسرطَان البروسْتاتَا المسْتفْحل. لَقد عانيْتُ مِن أَعرَاض نموذجيَّة لِلْمرض لِسنوَات، كَانَت تَزْداد سُوءًا بِشَكل مُضطرِد، لَكِن الأمْر اِسْتغْرق وقْتًا طويلا قَبْل أن أَتمَكن مِن حَمْل نَفسِي على طلب المساعدة. اِعْتقَدتْ أَننِي كُنْت رزينًا بيْنمَا فِي الواقع كُنْت جبانًا. بِبساطة لَم أَستَطع تَصدِيق التَّشْخيص فِي البداية، لِذَلك كان إِنْكاري مُتأصِّلا بِعمْق.
لِسنوَات عَدِيدَة، اِحْتفَظتْ بِجمْجمة بَشَريَّة على اَلرَّف فِي مَكتَبِي، فِي تَقلِيد واعٍ إِلى حدِّ مَا لِلْفنَّان الألْمانيِّ ألْبريشْتْ دُورْر. كُنْت قد وَجَدتهَا مُلْقِية مُهمَلَة فِي صُنْدُوق، فِي كَومَة مِن القمامة، عِنْدمَا تمَّ إِغلَاق المسْتشْفى اَلذِي عَملَت فِيه لِسنوَات عَدِيدَة بَعْد أن تمَّ نَقلُه إِلى مَكَان آخر. لَا بُد أنَّ سلف لَا أَعرِفه كان يَتَدرَّب عليْهَا - كَانَت هُنَاك سِلْسلة مِن ثُقُوب النُّتوءات فِي قَبْو الجمْجمة، مع آثار قَطْع بالمنْشار بيْنهمَا، وَالتِي مِن الواضح أَنهَا تمت بِمنْشَار يَدوِي جِراحيٍّ قديم الطِّرَاز لَم يَعُد يَستخْدِم مُنْذ وَقْت طويل. كَانَت خِلَاف ذَلِك فِي حَالَة سَلِيمَة بِشَكل غَيْر عَادِي . . . بِمجرَّد تَشخِيص إِصابَتي بِسرطَان مُتَقدم، لَم أَعُد أَجِد مَشهَد الجمْجمة مُسَليا. أُعْطيَّتهَا لِأَحد زُمَلائِي فِي المسْتشْفى اَلذِي كُنْت أَعمَل فِيه، حَتَّى يَتَمكَّن مِن اِسْتخْدامهَا لِلتَّدْريس.
دَرْس هِنَري مارْش الطِّبِّ فِي مُسْتشْفَى رُويال فِريْ فِي لَندَن، وأصْبح زميلا فِي اَلكُلية الملكيَّة لِلْجرَّاحين فِي عام 1984 وَعيَّن اِسْتشاريًّا لِجراحة الأعْصاب فِي مُسْتشْفَى أتْكينْسون مُورْلِي / سانْتْ جُورْج فِي لَندَن فِي عام 1987. وَهُو مُؤلِّف المذكِّرات الأكْثر مبيعًا فِي نِيويورْك تَايِمز Do No Harm و NBCC Finals Admissions ، وَكَان مَوضُوع فِيلْمَيْنِ وثائقيَّيْنِ ، " حياتك فِي أَيدِيهم " ، اَلذِي فاز بِالْميدالْية الذَّهبيَّة لِجمْعِيَّة التِّلفزْيون الملَكيِّ ، و " الجرَّاح الإنْجليزيُّ " ، اَلذِي فاز بِجائِزة إِيمي . وَهُو مُتَزوج مِن عَالِمة الأنْثروبولوجْيَا كِيتْ فُوكْس ، ويعيش فِي لَندَن وأكْسفورْد .
أَيقُونة مومنتو مُورِي momento mori، فِي اَلفَن والرُّوحانيَّات ، هُو مُجَاز فَنِّي أو رَمزِي أو مُمَارسَة تَأملِية تَعمَل كَتذكِير بِالْفناء والطَّبيعة المؤقَّتة لِلْملذَّات الأرْضيَّة وَحتمِية الموْتِ. هذَا المفْهوم لَه جُذوره فِي فَلاسِفة اَلعُصور القديمة الكلاسيكيَّة والْمسيحيَّة . ظهر فِي اَلفَن الجنائزيِّ والْهنْدسة المعْماريَّة مِن فَترَة اَلعُصور اَلوُسطى فَصاعِدا . الشَّكْل الأكْثر شُيوعًا هُو الجمْجمة ، وَغالِبا مَا تَكُون مَصحُوبة بِعظمة وَاحِدة أو أَكثَر. عِبارة تِذكار مُورِي فِي اللَّاتينيَّة تَعنِي " تَذكُّر أَنَّه [ يَجِب عليْك ] أن تَمُوت ".
تَرجمَة إِليكترونيَّة ومراجعة عُثْمان مُحمَّد حَمْدان



#عثمان_محمد_حمدان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تصاعد تنظيم النقابات الامريكية في عام 2022: لندفع باتجاه حرك ...
- اِنْهض فِي غضب وَأمَل: كَيْف يُمْكِن لِلاحْتجاجات البركانية ...


المزيد.....




- وفاة رائد الفضاء السوري المنشق محمد فارس
- دعوى قضائية: أطباء يابانيون يطالبون غوغل بتعويضات بسبب نشر - ...
- وفاة محمد فارس.. ثاني عربي يصعد إلى الفضاء
- غزة تعاني من العطش وكارثة بيئية.. توقف جميع آبار المياه منذ ...
- مهندسة متفوقة في الطب في كاليفورنيا داعمة للفلسطينيين تحظى ب ...
- الصحة العالمية تصدر تحذيرا بعد اكتشافها -إنفلونزا الطيور- في ...
- صفحة على -فيسبوك- في مصر تبيع شهادات علمية معتمدة وموثقة‏‏‏‏ ...
- أنفلونزا الطيور لدى البشر.. خطر جائحة مُميتة يُقلق منظمة الص ...
- هل تؤثر الشيكولاتة البيضاء على صحة البشرة؟ اعرف أضرارها
- مش بس السمنة.. الإفراط في المشروبات الغازية يؤثر على صحة عظا ...


المزيد.....

- المركبة الفضائية العسكرية الأمريكية السرية X-37B / أحزاب اليسار و الشيوعية في الهند
- ‫-;-السيطرة على مرض السكري: يمكنك أن تعيش حياة نشطة وط ... / هيثم الفقى
- بعض الحقائق العلمية الحديثة / جواد بشارة
- هل يمكننا إعادة هيكلة أدمغتنا بشكل أفضل؟ / مصعب قاسم عزاوي
- المادة البيضاء والمرض / عاهد جمعة الخطيب
- بروتينات الصدمة الحرارية: التاريخ والاكتشافات والآثار المترت ... / عاهد جمعة الخطيب
- المادة البيضاء والمرض: هل للدماغ دور في بدء المرض / عاهد جمعة الخطيب
- الادوار الفزيولوجية والجزيئية لمستقبلات الاستروجين / عاهد جمعة الخطيب
- دور المايكروبات في المناعة الذاتية / عاهد جمعة الخطيب
- الماركسية وأزمة البيولوجيا المُعاصرة / مالك ابوعليا


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الطب , والعلوم - عثمان محمد حمدان - ذُبُولٌ مُتَنَبَّأٍ بِهِ