أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خليل حمد - النزعة التأملية الفلسفية في شعر جماعة أبولو















المزيد.....

النزعة التأملية الفلسفية في شعر جماعة أبولو


خليل حمد

الحوار المتمدن-العدد: 7491 - 2023 / 1 / 14 - 20:20
المحور: الادب والفن
    


النزعة التأملية الفلسفية في شعر جماعة أبولُّو
تُعدّ حالة الشعور بالدهشة ومن ثم التأمل هو أول الفلسفة، وأما وصف الشعور بإرهاف الحروف فهو الشعر. والفلسفة نفسها بدأت نصًا شعريًا، وإذا كانت الفلسفة تجلي الروح في بحثها عن الحقيقة، فإن الشعر تجلي الروح في عشقها للجمال. وقد قيل "إن موت الفلسفة يلازمه موت الشعر" (درويش على تخوم الفلسفة) .
فإن الشعر لا يمكن أن يكون فلسفةً، والفلسفةَ لا يمكن أن تكون شعراً، ولكن ليس غريباً أن تجد الفلسفةُ أصداءها في الشعر، مثلما يجد الشعر أصداءه في الفلسفة عبر اللغة؛ إذ اللغة تشكل مشتركاً جامعاً غير مفرِّق، في أسئلة كلٍّ من الفيلسوف والشاعر. وإذا كان الشعر يمثِّل مرحلة أداء جمالي على مستوى اللغة، فإنه يمثل أداء فلسفياً على مستوى الفكر، وبخاصة أن الأداء الشعري سبق الأداء الفلسفي، وأفاد من حمولته المعرفيَّة، وتشرَّبها.
إن الشعر والفلسفة على وجود الاختلاف بينهما، يلتقيان في كونهما مصدرين للوعي، وهما من أبرز المصادر التي يستقي منها الوعي قوامه، وكلاهما يمارس التأمل في العالم والوجود، كلٌّ على طريقته الخاصة. كما أنَّ جوهر الشعر وجوهر الفلسفة يلتقيان في البحث عن الحقيقة، وصوغ جمهوريتهما الفاضلة، وإن لم يصلا إليها، أو يمتلكاها.
تُعَدُّ هذه النزعة التأملية الفلسفية مَعلما بارزا على بعض إنتاج شعر أبولّو و تشيع في إبداعاتهم الشعرية ؛ وذلك لأن الظروف التي عاشتها الجماعة هي التي جعلتهم ينطوون على أنفسهم ويعبرون عن تجاربهم الذاتية ووسيلتهم في ذلك التعبير الرمزي عن مشاعر الحب والألم والإحساس بالحرمان والحاجة الى الانكفاء على الذات، وهي الظروف نفسها التي ركزت فيهم الرجوع إلى التأمل في طلب الخلاص من واقعهم وظلامه المخيم المخيف؛ فالتأمل محاولة لإجهاد الذهن والتفكير بطرائق حل المعضلات الواقعية ، والتأمل ليس جديدا في الشعر العربي لكنه أصبح نزعة واضحه للعيان عند جماعة أبولّو ، فكانت أكثر اتقادا ووضوحا عند أبي شادي على سبيل المثال أو ابراهيم ناجي أو محمد عبد المعطي الهمشري.
ومن أمثلة شعر الجماعة المتسم بالنزعة التأملية الفلسفية ما كتب إبراهيم ناجي في قصيدة (الحياة) التي فيها يقول:
جلست يوما حين حل المساء *** وقد مضى يومي بلا مؤنس
أُريح اقداما وهت من عياء *** وأرقب العالم في مجلسي
عييت بالدنيا وأسرارها *** وما احتيالي في صموت الرمال
انشد في رائع أنوارها *** رشدا من أغنمُ إلا الظلال
اغمضت عيني دونها خائفا *** مبتغيا لي رحمة في الظلام (ديوان ناجي،بدون:72)
ففي هذه الأبيات أراد أن يبث شكواه وحيرته متأملا في أسرار صفحات الوجود الفسيح، فلا يجد ما يفك التباسات أسئلته.
وأما الشاعر الهمشري فله قصيدة عنوانها "خلود البشر"
وفيها يقارب موضوع الموت قائلا:
قد حرت في الموت وأمره *** وما زَواهُ الله في سره
وكل ما سألت عنه أمرؤا *** أجابني والله ما أدرِه
فلِمَ يقول الناس مات امرؤٌ *** إن هاجر الدنيا الى قبره ؟!
اليس في القبر حياة امرئ *** تتطول بالمرء إلى حشره ؟!
فكيف قالوا إنه ميت *** من يوم أن غُيِّب عن دهره ؟!
لا قال بالموت سوى كافرٍ *** يكذب الأديان عن كفره ! (جودت،1963م:94) .
ففي القصيدة يظهر الهمشري حيرته إزاء حقيقة الموت وفلسفة الوجود التي تعد من ألغز الحقائق وأصرحها في الوقت ذاته، لأنه مصير لا بد أن تتلقاه الأحياء جميعا يوما ، ثم يحاول بطريقة السؤال والجواب أن يفك بعضا من أسرار الموت لحاجة نفسية، فقد عاش وهو يعاني المرض من العضال الذي قضى عليه في عمر مبكر وما قصيدته تلك إلا محاولة منه يطمئن بها نفسه تهيئة لها لقبول مصير الموت المحتوم .
إن خاصية التأمل تظهر في الصورة الشعرية العامة لشعراء الجماعة، فقد غدا التأمل سمتهم المميزة، وفي محيط التأمل الواعي تتداعى الكثير من المعاني والأخيلة وأن ذلك هو الذي يحقق المتعة في نفس المتلقي . ويمكننا أن نجد ما سبق في هذه الأبيات من قصيدة "صلوات في هيكل الحب" لأبي القاسم الشابي:
عذبةٌ أنت كالطفولة كالأحلام *** كاللحن كالصباح الجديدِ
كالسماء الضحوك كالليلة القمراء *** كالوردِ كابتسامِ الوليدِ
وفي هذين البيتين تتجلى الصور الشعرية ذات الطابع الرومانسي ؛ إذ تنقل لنا هذه الصور مشاعر الفرح والتفاؤل والانطلاق ، وهو يرى الحبيبة تحمل كل هذه الخصال النبيلة فالمشبه هنا الحبيبة التي يعبر عنها الضمير المنفصل "أنتِ" وأما المشبه به فقد جاء متعدداً وأداة التشبيه هي (الكاف) ؛ فحبيبة الشابي تشبّه الطفولة ليس بشكلها المادي بل بروحها بما تحمله الطفولة من براءة وصدق ونقاء.
فالشاعر الرومانسي لا يعني بالصور المادية بل بما تحمله الطفولة من مشاعر البراءة والنقاء والصدق فهو يصور مشاعر وأحاسيس وكذلك حبيبته تشبه الأحلام ولكي نعرف جمال الأحلام نستشهد بقول الشاعر "ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل" ، والأمل هنا هي الأحلام التي يحلم بها الإنسان في حياته التي تشده للحياة وتكون مسوغاً له للتعلّق بها ، وهو يروم أن يحقق أحلامه الجميلة التي حلم بها ، وإذا ما غرق الانسان بأحلامه فأنه يحس بالسعادة وهو نوع من الهرب من الواقع ليعيش في مملكة الاحلام وليس أحزان الواقع وكذلك الالحان حين يسمعها الانسان هي الاخرى تبعث السعادة والنشوة والصباح الجديد الذي يمثل فجراً جديداً وحياة جديدة كلها تبعث الانشراح والفرح وكذلك السماء الضحوك المشرقة والليلة القمراء وابتسام الوليد كل هذه المشبهات تعطي صورة طيبة عن حبيبته التي تتسم بالنقاء والطهارة وهي المضيئة في دنياه والتي تطرد الظلام منها وتبهج حياته وتنشر الفرح في ربوعها.
وجسّد أبو شادي رؤيته للشعر وهي الرؤية ذاتها للشعراء الرومانسيين الذين يرون فيها أن الشاعر يجب أن يلقي شيئاً من مشاعره على الطبيعة فيقول:
لا الشعر شعرُ ولا الاوزان أوزانُ *** إن فاته من شعور الكون ميزانُ
هذا هو الشفق الباكي بحرقته *** وهذه السحبُ فيها الدمعُ نيرانُ
كأنما الشفق الباكي يمثلني *** لكن حزني أضعاف وألوانُ
فكيف بي وأنا المحروم في زمني *** وكل عمري تباريحٌ وحدثانُ
ومنظر الغروب يثير الشاعر الرومانسيّ ويوقظ مشاعر الحزن والكآبة في نفسه فهو يمثّل رحيل النهار الذي هو صورة أخرى لرحيل الحياة وأفولها ؛ لذلك رأى الشاعر أبو شادي الشفق -وهو احمرار الشمس وقت الغروب واصطباغ السحب باللون الأحمر- رأى فيها حرائق من النار لا تمطر إلا دموعا بلون الدم ؛ لشدة الحزن على الفراق والأفول فشبّه نفسه بالشفق الباكي الذي يذرف دموع الدم حزنا على فراق حبيبته وانقضاء العمر وهو أسير أحزانه ومآسيه.
وأما الشاعر حسن كامل الصيرفي فله صور جميلة تقوم على التشبيه والاستعارات التشخيصية والتجسيدية التي شاعت لدى هؤلاء الشعراء، يقول:
الشمس تنزل في الغروب *** وقد تورد خدها
لتقبل الأفق البعيد *** وقد تسعر وجدها
تخفي الأسى خلف النخيل
مثل ابتسامات العليل
حتى إذا احتجبت تما *** ماً خلف أستار الأفق
وتراكضت زمر النها *** رِ وأسرعت زمرُ الشفق
نزل المساء برجله
وجرى الظلام بخيله
هنا في هذه الأبيات حشد من الصور التشبيهية والاستعارية ففي البيت الأول والثاني جعل الشمس تنزل في الغروب والشمس - كوكب لا يعقل ، جعلها الشعر تنزل وحدها يتورّد يصبح أحمر من شدة الخجل وهي تروم تقبيل الأفق البعيد بعدما تسعر وجدها، وكلها استعارات تشخيصية ؛ إذ جعل هذه الأشياء التي لا تعقل أشخاصاً تُقبّل ويتورّد خدّها من شدة الخجل ويشتعل الشوق عندها كما يشتعل في نفس الحبيب المتيّم.
وبعد ذلك يأتي بصور تشبيهية إذ شبه إخفاء الشمس لأساها بسبب الغروب والأفول ورحيل النهار، فجيء وقت الأفول والفراق والموت مثل ابتسامات العليل ، الذي يبتسم مخفياً أو جماعة، ومرضه الذي يمضي به نحو الموت وهي صورة جميلة عن حالتي القنوط واليأس اللتين أصابتا الشاعر.
وتزخر قصيدة الشابي "أنشودة الرعد" بالاستعارات التشخيصية من عنوانها ؛ إذ جعل الرعد وهو شيء لا يعقل ينشد أناشيد فبعث فيه الحياة إذ يقول:
في سكون الليل لما *** عانَقَ الكون الخُشوع
وأختفى صوتُ الأماني *** خلف آفاق الهجوع
رتَّل الرَّعدُ نشيداً *** ردَّدتهُ الكائناتْ
مثل صوت الحقِّ إن صا *** حَ بأعماقِ الحياة
هنا صور تشخيصية جميلة ؛ إذ جعل الخشوع وهو شيء مجرّد يدرك بالعقل يعانق الكون ، فبعث فيه الروح وأصبح إنساناً يعانق المحب وهو الكون، وجعل للأماني صوتاً يختفي ، كلها صور تشخيصية ويأتي بصور تشبيهية جميلة تجسّد الخيال الرومانسي ؛ إذ شبّه صوت الرعد بصوت الحق عندما صاح الرعد بأعماق الحياة.
وحين نتأمل الصور نجد العلاقة بين المشبه صوت الرعد والمشبه به الحق عندما ينطق في الحياة كلاهما يبعث الخوف في نفوس سكان الارض الذي يخيفهم صوت الرعد المجلجل بصوته والذي تستك منه الآذان وكذلك صوت الحق فإنه يرهب الباطل ويهز عروشه.
وإضافة إلى تلك الصور هناك صور تجسيدية تجسد الأشياء المعنوية مثل قول إبراهيم ناجي:
دار أحلامي وحبي لقيتنا *** في جمود مثلما تلقى الجديد
فجعل للأحلام داراً، والأحلام شيء مجرّد تدرك بالذهن فجسّدها بالدار. وكذلك في قول أبي القاسم الشابي:
إذا ما طمحت إلى غايةٍ *** ركبتُ المنى ونسيتُ الحذر
المنى شيء مجرّد يدرك بالذهن جسّده الشاعر بأن جعله يركب ويمتطى ويقول الشابي في قصيدته "الصباح الجديد":
في فجاج الردى *** قد دفنت الألم
جعل الردى فجاجاً إذ جسّد شيئاً مجرّداً الذي هو الردى وجعل له طرقاً وفي هذا البيت يقول:
ونثرت الدموع *** لرياح العدم
جسّد العدم بالرياح والعدم شيء مجرّد يدرك بالذّهن فجعل له رياحاً.
وقصيدة "ظمآن" للصيرفي يعمد فيها الشاعر إلى تجسيد المعاني المجردة في اشكال حسية بحيث يمكن مع ذلك تفسير جميع حركاتها تفسيراً مجرداً:
ظمآن أطلب رياً *** من جدولٍ سلسالِ
ينساب كالحلم حلواً *** ما بين أصفى ظلالِ
مياهه من نور *** تطفو عليه لآلِ
لتستحم وتعلو *** في موكب الإجلالِ
ويسكب البدر نوراً *** عليه كالآمالِ
فالجدول ينساب بين الظلال ولكنه في الوقت نفسه كالحلم، وهو يفيض ككل الجداول بالماء ولكنه ماء من نور والبدر يعكس أشعته عليه ولكنها أشعة كالآمال ونلاحظ أن الشاعر يزاوج بين المحسوس والمعنوي ، والواقع وما خلف الواقع ، ويصبح الجدول رمزاً لحالة الصفاء النفسي وللهدوء شبيهة بالحلم.
تبادل المدركات: لجأ شعراء أبولّو إلى نمط جديد في تشكيل صورهم الشعرية ، وهذا النمط لا يقوم على المشابهة أو المجاورة، وإنما يقوم على تراسل الحواس وتبادل المدركات والتعبير بالرمز ، وقد تأثّر هؤلاء الشعراء بشعراء الغرب مثل بودلير ورامبو ومالازمية وغيرهم الذين رأوا أن اللغات شاخت وعجزت عن التعبير مما دفع ذلك الشعراء إلى خلق "لغة في لغة" ؛ لينفسح أمامهم البوح باختلاجات الذات وارتعاشات اللاشعور.
وكان جهدهم منصباً في خلق لغة داخل لغة على استغلال القيم الصوتية في الكلمات والإيحاء بها إذ كانوا يعتقدون كما كان يعتقد (مالازمية) أن الشعر يمكن أن يبدع أثراً جمالياً يصل به التجسيد إلى درجة يكون فيها الفهم معطلاً تقريباً ... بينما تقوم الأصوات كما يقوم السياق الصوتي بكل العمل.
ولن تغدو معاني الكلمات حينئذ مركز الاهتمام فالشعور - إذا وجد- يستثيره السراب الكامن في الكلمات نفسها ؛ إذ لم يكن الرمزيون بصدد جمع الكلمات وفقاً للمنطق لكي يحققوا معنى يستطيع جميع الناس إدراكه ، وانما كانوا يجمعونها حسب الاحاسيس، لكي يبرزوا خاطراً أدركه الشاعر وحده ؛ لذلك نجدهم هزوا رتابة الجملة اللغوية ، فقدموا وأخّروا على نحوٍ تبدو الكلمات وكأنها نثرت نثراً عفوياً بينما تخضع لنظام واع دقيق.
ولكشف هذا النظام الدقيق تعين على القارئ بذل نظير جهد الشاعر . وليس تجريد السياق اللغوي من علاقاته التركيبية يعني بالضرورة فقدان كل وحدة تربط الكلمات بالجمل ، ولكن الوحدة التي حرص عليها الرمزيون من نوع جديد ؛ لأنها تعتمد على ما يسمى بالمواءمة الإيحائية بين الكلمات .
فصدى الكلمة عندهم ليس ما تعنيه وما يؤامها وينسجم معها من الألفاظ انسجاماً صوتياً غير مقيّد بحدود الدلالة وهو ما يدعوه (مالارميه) الانعكاس المتبادل تتفاعل فيه الكلمات وتخلع كل منها على الأخرى بعض إشعاعها السحري ، فما الكلمات إلا أحجار كريمة تنصهر في بناء إيحائي يسبه اتساقه وترابطه قصيدة من كلمة واحدة. فإذا بالعطور والألوان والأصوات تتجاوب على مستوى الصياغة الشعرية ، وإذا بمعطيات الحواس تتبادل فتتحول المسموعات إلى الوان وتصير المشمومات أنغاماً وتصبح المرئيات عاطرة.
بل إن المدركات ذاتها تغدو معنى مجرداً من ثقل المادة وكثافتها ، فالعطر فيما يرى بودلير سرّ تسفحه الزهور: (كثير من الزهور تسفح آسفة عطرها الناعم كسر). وأما اللون البنفسجي فليس في نظره إلا (حباً مكتوماً غامضاً مقنعاً).
ولعلنا لا نعجب حين نرى بعض الرمزيين يبدأ من هذه الحقيقة ليصل إلى أن مدركاً واحداً من مدركات إحدى الحواس يمكن يستقطب شتيتاً من مدركات الحواس الاخرى ، وهو ما يقرره بيتس حين يكون الصوت واللون والشكل كلاً مع الآخر في وحدة موسيقية ... فأنها جميعاً تصبح صوتاً واحداً ، ولوناً واحداً وشكلاً واحداً ، وتثير انفعالاً بصدد من مثيرات عديدة ، ولكنه رغم ذلك انفعال واحد ( ).
ويبدو تراسل الحواس واضحاً في هذه الأبيات من قصيدة محمد عبد المعطي الهمشري "أحلام النارنجة الذابلة" في قوله:
هيهات ..لن أنسى بظلك مجلسي *** وأنا أراعي الأفق نصف مغمض
خنقت جفوني ذكريات حلوة *** من عطركِ القمري والنغم الوضي
فانساب منك على كليل مشاعري *** ينبوع لحنٍ في الخيال مفضض
وهفت عليك الروح من وادي الأسى *** لتعب من خمر الاريجِ الأبيض
وجاء في البيت الثاني استعارة تجسّد تبادل المدركات ؛ إذ جعل الذكريات هي شيء مجرّد تخنق الجفون ، والخنق يؤدي إلى حبس النفس وقطعه. فالخنق يقع في منطقة الأنف والفم والعنق وليس الجفون .
ثم تكلل هذه الصورة بمفارقة جميلة ؛ إذ جعل الذكريات الجميلة هي التي تخنق الجفون فكيف تكون جميلة وتخنق والخنق يؤدي إلى الموت !!
فالشاعر في البيت الثاني استعار للمشموم – العطر - صفة الإشراق وهي القمرية وهي من صفات أو خصائص حاسّة النظر ، والنغم الذي يدرك بالسمع جعله الشاعر مضيئاً والإضاءة من مدركات البصر.
وفي البيت الثالث جعل من الينبوع الذي يقترن بالماء وهو يدركه بحاسة النظر - لحناً الذي هو من مدركات حاسّة السمع ، وأضفي على الخيال الذي هو شيء مجرّد يدرك بالذهن بسمةٍ حسيةٍ "مغضض" أي: لونية ويدرك بالبصر.
وفي البيت الرابع حدث تداخلاً بين معطيات الحواس من خلال الخمر التي تدرك بحاسّة الذوق قرنها بالأريج الذي هو من معطيات حاسة الشّمّ ، والأبيض من حاسة البصر. فقد عمل الشاعر على إسناد دور حاسة إلى حاسة أخرى ، وهو في هذه الأشياء المتباعدة يحاول أن يجمع بينها على نحوٍ غريبٍ ؛ لتوحي بمكنونات نفسه وأحاسيسه الغريبة بلغة مركّبة تعجز في التعبير عنها اللغة الاعتيادية.
ويبدو تراسل الحواس جلياً في قصيدة حسن كامل الصيرفي:
الضحكة النشوى *** موج من النور
في حوض بلورٍ *** فواتن الحور
تستعذب اللهوا *** في سحره المغرى
بالأعين الظمأى *** كالشدو والنجوى
من فم عصفور *** بالعطر مسحور
فالتراسل بين صوت الضحكة وأمواج النّور والعطر واضح في هذه الأبيات رغم أن الشاعر أورده على طريقة التشبيه ، كذلك الأعين الظمأى فالظمأ يقترن بالفم وليس بالعين التي هي حاسّة النظر.
ليس تراسل معطيات الحواس من أصوات وعطور وألوان هو وحده ما يميّز الصورة الشعرية عند الصيرفي بل يتجاوز الأمر ذلك إلى تراسل المدركات، ويراد به نقل صور العالم الخارجي ومرائيه من مواطنها ومجالاتها المعهودة فيما يشبه التداعي البصري.
ومن أوضح ذلك قوله في قصيدة "سحر صوت" :
إن غرد البلبلُ *** في هدأة الأسداف
وصفق المجداف *** في صفحة الجدول
فصوتك المرسلُ *** أنغامه أطياف
تطوف في دلٍّ *** في مرقص الليل
كشرد الأحلام *** براقة الأجسام
من عالم الوهم
فبدلاً من أن يستمع الشاعر أنغام الصوت يبصر فيها أطيافاً تتحرك في دلال وبدلاً من أن يكون مجال هذه الحركة مكاناً متميزاً محدوداً - كما هو المألوف - يتحوّل الليل كله إلى مرقص تحوّل خلاله هذه الأطياف براقة الأجسام رغم أنها أطياف وهمية، وينقل المدركات من مجالاتها الطبيعية.
وعلى هذا النحو استطاع أن يضعنا بإزاء صورة لا هي حقيقية ولا هي وهمية بحتة ؛ لأن بعض عناصرها واقعي فهي بين الوهم والحقيقة.
ومن الشعر التأملي الفلسفي قصيدة أبي شادي "رغوة العصفور" - و هي من الشعر الحر-:
ما بين دنيا ودنيا وبين صبح وليل *** ترى الحياة كنجم في حافةِ الأفق رفا
ما أصغر العلم منا بمن تكون وجوداً *** وأصغرَ العِلم عنهُ بما ستمضيْ إليهِ!
المدُ والجَزْرُ يمضي والدَّهر في جيشانِ *** وقَدْ حملنا بعيداً في موجة كالزبدِ
وكلما أنهدَّ فانٍ منها تجلَّى سِواه *** مجدداً ومسوطاً في رغوةٍ للعُصفُورْ
الهوامش:

- في العلاقة بين الشعر والفلسفة حول كتاب «درويش على تخوم الفلسفة» المقال منشور في جريدة الدستور تم نشره في الجمعة 7 كانون الثاني / يناير 2022. 12:00 صباحاً
- ديوان ناجي،مرجع سبق ذكره:72
- جودت، صالح (1963م)، الهمشري حياته وشعره، القاهرة: المجلس الأعلى للفنون والآداب والعلوم الاجتماعية:9



#خليل_حمد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الخصائص الفنية للموسيقى الشعر عند جماعة أبولو
- دراسة تحليليلية حول صورة أفريقيا في الوعي اللغوي الروسي


المزيد.....




- مصر.. الفنان أحمد عبد العزيز يفاجئ شابا بعد فيديو مثير للجدل ...
- الأطفال هتستمتع.. تردد قناة تنة ورنة 2024 على نايل سات وتابع ...
- ثبتها الآن تردد قناة تنة ورنة الفضائية للأطفال وشاهدوا أروع ...
- في شهر الاحتفاء بثقافة الضاد.. الكتاب العربي يزهر في كندا
- -يوم أعطاني غابرييل غارسيا ماركيز قائمة بخط يده لكلاسيكيات ا ...
- “أفلام العرض الأول” عبر تردد قناة Osm cinema 2024 القمر الصن ...
- “أقوى أفلام هوليوود” استقبل الآن تردد قناة mbc2 المجاني على ...
- افتتاح أنشطة عام -ستراسبورغ عاصمة عالمية للكتاب-
- بايدن: العالم سيفقد قائده إذا غادرت الولايات المتحدة المسرح ...
- سامسونج تقدّم معرض -التوازن المستحدث- ضمن فعاليات أسبوع ميلا ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خليل حمد - النزعة التأملية الفلسفية في شعر جماعة أبولو