أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - قصي بن فرج - لا يحتاج الامر الى عباقرة















المزيد.....


لا يحتاج الامر الى عباقرة


قصي بن فرج

الحوار المتمدن-العدد: 7461 - 2022 / 12 / 13 - 00:28
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


عادة الامر ما يحصل خلط بين التحليل الذي اقوم به وبين وجهة نظري التي اطرحها، فأنا حينما ابدي رأيي بخصوص موضوع ما عادة ما انطلق في تحليله، حيث احاول جمع اكثر ما امكن من معطيات وقراءات والتفاعل معها تفاعلاً موضوعيًا ونقاشها بشكل عميق بعض الشيء، وسردها ايضا بطريقة شديدة الحياد، كما اراها -على الاقل بالنسبة لي-، واثر ذلك يأتي ابداء الرأي، وهذا ما سأحاول فعله في هذا المقال، قبل ان اختم برأيي، رأيي الذي اتبناه، اجاهر به وادافع عنه.



هذا المقال هو عبارة عن مجموعة من التحليلات والاعتقادات، لا املك حقيقة ولا معطيات حصريّة، وما اقوله ليس اكثر من قراءة فرديّة مبنيّة عن ما “اعتقد” بكونه تجربة راكمتها اثناء مسيرتي الصغيرة في تونس منذ الثورة الى اليوم، تجربة مكّنتني من الإطّلاع على بعض كواليس السياسة في هذه البلاد، كيف تُفكّر نخبتها ويتصرّف شعبها، ومن بين هذه النُخب اخترت ان اوجّه اعتقاداتي نحو رئاسة الجمهورية، السيّد قيس سعيّد، رئيس السُلطات والقائد الاعلى للقوات المُسلّحة، في محاولة، شديدة التنسيب، لفهم هذه الشخصيّة وللظروف الموضوعيّة التي ساهمت في خلق هذه المراكمة، إجابةً على سؤال وجيه طُرح في احد المقاهي السياسية الاسبوع الماضي نظمّته مجموعة “المُفكّرة القانونيّة”، طرح خلاله سؤال اعتقد بأهميّته، حضرتْ للإجابة عليه، شرائح مختلفة من قوى المُجتمع واحزابه ووجوه شبابيّة كثيرة:

هل نعلمُ حقا ماذا يريد الرئيس؟



يُعتبر قيس سعيّد من المنتمين لجيل قديم في السياسة، بالتحديد لستينات وسبعينات القرن الماضي، تحديدا للمدرسة السياديّة العربية -المدرسة التي اعتقد بكوني اعرفها-، والتي تشكّلت بإعتبارها ردّة فعل على سنوات الاستعمار. تمتلك هذه المدرسة تعريفاتها الخاصة لمفاهيم كثيرة اهمّها السيادة والحريّة والعدالة، و ترتكز على محورين رئيسيّين، محور سياسي قائم بالاساس على فكرة السيادة، او فهمها الخاص لها : استقلالية القرار الوطني والتصدّي للنفوذ الخارجي والهيمنة الاستعمارية، ومحور ثاني اجتماعي قائم على فكرة اعادة توزيع الثروة وتدخّل الدولة في الحياة اليومية الاقتصادية لمواطنيها.

كما انّ لشخصيّة قيس سعيد كاُستاذ تأثير على تصوّراته الفكري، وطريقة ممارسته لها، فهو يظنّ انّه، وبإعتباره رجل قانون فإن هذا يعطيه المشروعية الكاملة لإعادة تشكيل القوانين، واعادة تأسيس النموذج الذي يرغب فيه بطريقة عموديّة كما يفعل الاساتذة بالضبط اثناء الفصل.

رغم هذا، لا زال سعيد يعيش تخبّطاته التي تظهر عادة الامر اثناء خطبه، فهو يتبنى هذه المفاهيم بطريقة رومنسية، و عاجز امام التأسيس لما يرغب فيه بإعتبار ان ما ذكرته في الفقرة السابقة ليس اكثر بالنسبة له من عناوين كبرى ونوايا تفتقر لخطط واستراتيجيات -ولمن يجسّدها- داخل هياكل دولة تأسست على مراكمة تاريخية مختلفة وبعد مسار معقّد منذ الثورة



لهذا ساُعيد طرح السؤال اعلاه واحاول الاجابة عنه بصيغ اخرى، سأقوم بتجزئته لأمكّن نفسي من اريحية اكثر وانا احاول تحليل هذه المسألة، التي تبدو بدورها شديدة التعقيد :

هل يعرف الرئيس حقا ماذا يريد؟

واعتقد انّ الإجابة هيّ لا، لا يعرف الرئيس ماذا يريد، وحتى ان عرف ماذا يريد فإنّ الامر ليس اكثر من نوايا رومنسيّة داخل سجن ذهني وحصار امر واقع مختلف تمامًا بل يكاد يكون متناقض مع الاطروحات الخاصة به.

في المقابل، اعتقد بكون قيس سعيد يعرف جيدًا ما لا يريد...



يبني قيس سعيد رؤيته الكاملة ومشروعيته على الثغرات التي اتت في المسار الذي حلّ بعد 14 جانفي، اي مسار الانتقال الديمقراطي، منذ هيئة عياض بن عاشور الى يوم 25 جويلية. ويعارضه على اكثر من مستوى، مستوى ذاتي كما تقول بعض الكواليس حول صراعات طويلة بين رجال القانون، ومستوى اجتماعي وسياسي قد لا يكون الوحيد الذي يرى فيه خللاً.



لقد صار الجميع مقتنعا ان هناك مشكل كبير في ترتيب الاولويات، وهذا المشكل هو ما ساهم في تشكّل جمهور واسع مساند للانقلاب الدستوري الذي حدث يوم 25 جويلية. حيث، عاشت تونس منعرجا ديمقراطيا انطلاقا من يوم 14 جانفي 2011 انهى عقود من حكم الرجل الواحد والحزب الواحد، وساهم في تصحير الحياة السياسية والثقافية في البلاد وتطويع الذكاء المحلي بالقوّة الصلبة، وانتهى هذا النموذج بتغيير سياسي شعبي في 2011 أطاح بنظام الحكم القائم واجهز على عقود من الاستبداد ليؤسس لنظام جديد أجمعت حوله اغلب القوى المدنية التي عارضت النظام السابق في هيئة عياض بن عاشور وما تلاها واخذ هذا النظام الجديد مُسمى “الانتقال الديمقراطي” قامت فلسفته على تغيير شكل نظام الحكم الى نظام ديمقراطي معدّل، حيث يبدو ان هذا الانتقال كان عبارة على تمرين سياسي وشعبي مُستحدث في كامل المنطقة، حيث لم يعرف العرب الديمقراطية والحرية يوما في دولهم، لم يمارسوها ولم يفكّروا فيها، ما انعكس على شخصية مواطنيهم ومنظوماتهم الفكرية ومحركاتهم الذهنية وتفاعلهم مع الاخر وانفتاحهم على الغير ومناهجهم التربوية وصولا الى عائلاتهم وعاداتهم وتقاليدهم.

واعتقد هنا، ان هذه هي الفلسفة وراء ترتيب الأولويات بطريقة تجعل السؤال السياسي الديمقراطي يحضى بتبجيل على حساب الإشكالية الاجتماعية التي كانت احد ابرز أسباب خروج الناس الى الشارع ضد نظام بن علي والتي لم تقدم لها الأحزاب الحاكمة اثر هذه المحاولة الديمقراطية الاخيرة إجابات كافية ولا العناية اللازمة بل قامت بتهميشها والتعامل معها بطرق ترقيعيّة في افضل الاحوال، ما انعكس على خروجنا بمحصّلة اقتصادية سلبية شكّلت هي الأرضية الشعبية التي باركت الانقلاب الدستوري الذي قاده رئيس الجمهورية في 25 جويلية لينهي أيام الانتقال الديمقراطي وليؤسس لنظام سياسي جديد.

حيث يبدو ان التونسيين قد فضّلوا، او جلّهم -في تلك الفترة-، التفريط في المكتسبات الاستثنائية التي حلّت بعد 2011 وتمثّلت في حرية التنظم في أحزاب وجمعيات، والترشح للانتخابات والمشاركة في فعاليات المجتمع المدني والتفاعل مع اعلام حرّ والنقاش المفتوح بلا قيود ولا رقابة في المقاهي ومجالسهم العائلية على حساب ما اعتبروا انه قد يساهم في إيقاف النزيف الاجتماعي وتردّي الخدمات العامة كما كان العهد عليه أيام حكم الرئيس الراحل زين العابدين بن علي.

وفي هذا الاطار جاء قيس سعيّد، الرجل الغامض الذي يبدو ان التونسيين لم يختاروه لشخصه ولا لبرامجه وتصوراته، وحتى وان سمعوها وتفاعلوا معها فإنهم لا يفهمونها، لكنهم اعتبروا هذا الرجل، وما بدى لهم كونه الصورة الرمزية لذلك الأستاذ المستقيم والذي يتكلّم بشكل جيّد باللغة العربية الفصحى، عقوبة لنخبة سياسية كاملة بإختلافاتها، انهكت عقولهم بالثرثرة وساهمت في تجويعهم على ما يبدو فتفاعلوا معها بطريقتهم الخاصّة.

كما يبدو ايضا، ان تجربة الانتقال الديمقراطي قد ساهمت في جرّ تونس الى معارك إقليمية ودولية كثيرة، وحشرها في صراعات اكبر منها، بل أصبحت مركزا لها في أحيان اخرى وهذا ما جعل الرئيس الحالي لا يجد صعوبة بادئ الامر في توحيد هياكل الدولة وقوّاها خلفه على الأقل في تلك اللحظة، نظرًا للاستنزاف الذي حصل للهياكل الأمنية اثناء فترة الحكم اللامركزي الذي لم يؤثر بشكل مُلاحظ في سلوك القوات الحاملة للسلاح والتي يبدو انها اعتبرت الانتقال الديمقراطي تنازلاً لا مكسبًا بإعتبارها تعوّدت على ان تحتكر أدوار النفوذ طوال العقود الطويلة السابقة.

على المستوى السياسي، يعتقد قيس سعيد ان زمن الديمقراطية التمثيلية بصيغتها الحالية قد انتهى، وان الوقت قد حان لاعادة التفكير في بدائل سياسية جديدة لممارسة الحكم، ويعتقد ان الإجابة على هذا السؤال لا تكون بصفة فردية، بمعنى انه لا يعرف بالتحديد كيف يمكن ان يكون المستقبل “الانساني” ولا المحلي وكيف يمكن ممارسة الحكم بطريقة افضل، لذلك يعتبر ان نظام الحكم القاعدي الذي يقترحه هو عبارة عن إجابة جماعية ومساحة لمناقشة الأفكار حول هذه الازمة الحالية المتعلقة بأي نظام سياسي يجب ان نعتمد لنحكم بعضنا البعض.



للوهلة الأولى، وكمادة فلسفية يبدو ان هناك بعض الأفكار التي تستحق النقاش في هذا الطرح، غير ان الأدوات التي يستعملها الرئيس الحالي تجعله في ضفّة أخرى من أفكاره نفسها، بإعتبار ان هذه التجربة الخاصة منذ 25 جويلية الى اليوم على مستوى طريقة ممارسة السلطة، داخل هياكل الدولة التي يحتكر كل ما فيها تقريبا تتعامل بطريقة متناقضة تماما مع الأفق شديد الإنسانية الذي ينوي الرئيس سعيّد فتح الطريق له، فهو من ناحية يبحث عن إجابات جماعية عن اسئلته، ومن ناحية أخرى يحتكر كل أدوات التغيير، يصرّح بكونه يطرح ان نمضي خطوة جديدة نحو الديمقراطية والحرية ولكنه لا يجد غير الأدوات الأمنية في التعامل مع المختلفين عنه، بإختلافاتهم.

كما ان سيادته، تعوّد على القيام بمغالطات -لا اعرف ان كان هذا هو المصطلح الأفضل لتوصيف ما يفعل-، اخرها موضوع تعاطيه مع ملف رفع الدعم، هذا الملف الذي يبدو شديدة الحساسية بإعتباره سيساهم في مراكمة ازمة راهنة على ازمة جديدة في الأفق، والذي يبدو كذلك ان لا بديل عن هذا الخيار على طاولة الامر الواقع في رئاسة الحكومة خاصة بعد الاتفاق الأخير مع صندوق النقد الدولي، مع ذلك يصرّ الرئيس على التأكيد على ان لا نوايا لحكومته لسلك هذا الخيار وانه له بدائل أخرى، الامر الذي اتمناه شخصيّا. كما يعرّج في اطار اخر بكون لا سبيل أيضا لخوصصة المنشآت والمؤسسات العمومية، في تناقض كامل مع ما قالته السيدة كريستينا جورجيفا مديرة صندوق النقد الدولي في تصريحاتها اثر ابرام الاتفاقية الأخيرة مع ممثلين عن الحكومة التونسية في شهر اكتوبر، حيث قالت بأن الجانب التونسي هو من ابدى رغبته في خوصصة بعض المنشآت العمومية.

واكثر من هذا، الى الان يتحدث السيد الرئيس كما لو كان زعيما للمعارضة وليس رئيسا للجهورية في نظام حكم رئاسي صرف، ما يحيلني على ما قاله الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي حينما قالوا له ان الشعب يريد القيام بثورة فقال انه هو أيضا ثائر، وانه يريد قيادتها. الامر الذي يطرح نقاط استفهام بالجملة حول هذا السلوك الغريب.

خارجيا، يبدو ان تونس قد خسرت أصدقاء كُثر وعزلت نفسها، فبعد ان صادق مجلس الامن الدولي بالاجماع على مقترحها منذ سنتين بإيقاف النزاعات المساحات المسلحة اثناء الوباء، وبعد الدعم الدولي الكبير الذي حضيت به هذه التجربة الديمقراطية الناشئة والخاصّة في مجالها خلال العشرية الماضية، وحتى اشهر بعد الانقلاب الدستوري، تبدو الوضعية الحالية وضعية شبه عزلة نظرا لما عقب مسار جويلية من تقلبات على مستوى السلوك العام والتصريحات، التي يمكن تفهم بعضها، في حين ان بعضها الاخر يمكن تصنيفه في خانة التصريحات الغير مسؤولة.

في الاثناء، وامام هذه التحليلات والمحصلات التي لا تسرّ، يبقى السيد رئيس الجمهورية وحده عالما بما فعله ليدخل التاريخ كما يُريد هو، مُتناسيا بكون كل الشخصيات التي دخلت هذا التاريخ هي شخصيات تحرّرت منه لتصنع المُستقبل، في وقتها، مستقبل لازلنا نعيش فوضاه وغموضه بشكل مُستمر ومُلاحَظ.



لا شيء يختفي في الطبيعة، ولا شيء يأتي من فراغ ايضا، ان كلّ فكرة او تغيير لا يجد الظروف الملائمة والسانحة له، كل قوّة العالم ستعجز عن القيام به، لهذا من الغباء ان تتم الإجابة على أسئلة بهذا الشكل بنعم او لا، او هل انت مع ام انت ضد، وكأننا في مقابلة كرة قدم ويطرح عليك احدهم سؤال من ستشجع، او في معركة، ويسألك احدهم مع من ستحارب، فتجيبه، عن مغزى الحرب، من اجل ماذا تحاربون؟ هل المسألة نتاج لاصطفاف غريزي اعمى؟ ان كان لا فبالتالي المسألة مسألة رؤى مختلفة عجزت أطرافها عن بناء إلتقائات ليبلغ بهم الامر معركة بقاء؟ ان كان الامر بهذا الشكل اذن فهذه هي رؤيتي..

ما غايتنا من السياسة؟ لماذا نقوم بكل هذا؟ نكتب وننشر ونناقش، نؤسس ننظم ونترشّح ونصوّت، نتحاور ونتجادل ونتناضر، نختلف ونتفقّ، نسقط نقفّ ثم نسقط مرة أخرى ونعيد المحاولة؟ ما الغاية من كل هذه المجهودات وهذا الوقت المهدور؟ لماذا نحن هنا؟ سؤال ليس صعبًا ويمكن اختزال اجابته في بضع كلمات مُختصرة وربما بديهيّة. سأختار: تحقيق المصلحة العامة والخير المشترك، وهل هذا ممكن؟ نعم، عادة ما يحصل هذا في التاريخ خاصة في الأوقات المشابهة والتي تتطلب تغييرات، وحتى ان لم يكن كلّه ممكنا، اعتقد اننا قادرون على تحقيقه بالتدريج او تحقيق ما امكن منه. اذن اين المشكل؟ المشكل اننا غير واضحين بالشكل الكافي الذي يجعلنا نتفق ونختلف، والمسألة تتحول شيئا فشيئا الى معركة مصالح، بلا مضامين قد تجعل احدهم يختار جبهة دون أخرى.

ماذا تقصد؟

بالضبط، هنا تحديدا تكمن المشكل، ان لا يُفهم ماذا اقصد..



انا مقتنع شديد الاقتناع، الامس، اليوم وغدًا، ان التونسيين، هذا الشعب الذي انتمي له، قادر على ان يكون شعبًا مُبدعًا متطوّرا ومتقدمًا، وان هذه الدولة، دولته، يمكن ان تصير اقلّ تخلّفًا وغباءً لتلتحق بركب الدول المُتقدمة الاخرى، وان هذه الدول التي يُشار لها حينما نتحدث عن التقدم هي نفسها، في أوقات سابقة في تاريخها قد مرّت بتجارب صعبة بل قاسية، هي التي ساهمت بشكل رئيسي في جعلها على هذا التقدم. وعليه فإن الرجوع الى الوراء او المُضيّ خطوات صغيرة الى الامام ليس مُشكلا في سنوات قليلة كهذه، وما علينا الاّ ان نتعامل معه بإعتباره اشكاليّة قد يمكننا تجاوزها من تعلم قواعد معرفية جديدة والتمرّن على التعاطي مع أزمات مشابهة ومراكمة خبرة تجعل ممارستنا انضج وهكذا.

خرج التونسيون يوم 14 جانفي الى الشارع في حدث لم يتكرر كثيرا في تاريخهم، امام انظار كل العالم، ليقولوا بصوت جماعي، للنظام الحاكم حينها، ان أيامه قد انتهت وان التغيير صار ضرورة بل صار امرًا واقعًا وان على الجميع احترامه. وانهم يريدون كتابة صفحة جديدة في تاريخ البلاد عنوانها المضامين الاجتماعية والسياسية التي تمت المطالبة بها المتمثلة أساسا في الكرامة والحريّة. لقد جاع الناس وتمّ تكميم افواههم وشعروا بالعجز والظلم وغموض المستقبل ما جعلهم يخرجون الى الشوارع، غير ان هذا التغيير لم يعالج كل المشاكل التي طرحتها الثورة بل ربما ساهمت في مزيد تعميقها في جوانب اخرى، وعليه فإن المشكل يبدو أطول زمنيًا من هذه الأشهر الأخيرة.

ان السؤال السياسي سؤال شديد الاهميّة، لكلّ منا طريقته الخاصة في الإجابة عنه، وهنا تكمن الحاجة الى الديمقراطية، الى مضامين الديمقراطية، بإعتبارها المساحة التي ستمكن كل منّا من اخراج طاقته وإدارة اختلافه مع الاخر والتعبير عن ما يراه من افكار والتصويت لمن يمثله والتمرّن على التداول على السلطة، بل اكثر من هذا، انا من الناس الذين يعتبرون الطلب على الديمقراطية في هذه الأمثلة من الدول كتونس، مسألة استراتيجية وجوهريّة اذا اردنا ان نتقدّم، ليس في ظاهرها بل في انعكاساتها، لقد عاشت هذه الشعوب عقود طويلة وربما قرون من تعطيل ذكائها ومحاصرته وقتله، ما جعلها عاجزة عن التطوّر، وما جعلها أيضا متشابهة في أحيان كثيرة، شعب في اغلب الاحيان يفكر بنفس الطريقة، يتصرّف بنفس الطريقة، يلبس بنفس الطريقة، ويتعاطى مع كل ما يستوعب عقله على انه مُسلّمات، فوق النقد، وفي أحيان كثيرة تدرك خزعبلات تافهة عنده مرتبة القداسة، شعب لا يُبدع، يتصرف بشكل غريزي، لا يقدّر العلم والمعرفة، وهذا ما انعكس حتى على العلاقات القائمة داخل العائلة نفسها، شعب عاجز عن التفاعل مع شعوب أخرى، وهذا احد اكبر الأسباب التي جعلته متأخرا بل ربما عبئ على الحضارة الإنسانية.

وفي هذا بالتحديد تكمن الحاجة الى الديمقراطية، الى مضامينها، وما تكفله من حريّة الفكر والابداع والاختلاف، هذه هي الإشكالية الأهم بإعتقادي،، اذا اجبنا عليها بطريقة جيدة يمكن القول اننا فعلا قد تعلمنا مع ما حصل وتطوّرنا به: كم كاتب وكاتبة ومسرحي ومبدعة ومجلّة وفلم ومناضرة جيّدة تتعلّق برؤى حول المستقبل قد قمنا بها ويمكن البناء عليها؟ والعودة اليها في المستقبل بإعتبارها مرجعيّة؟ قليل جدا مقارنة بعشر سنوات. انا اعتبر هذه هي الخسارة الاكبر التي تكبّدناهاـ، لقد عجزنا عن بناء جيل تونسي جديد شاب وديمقراطي وهذا هو رصيد الديمقراطية الحقيقي وجيشها السلمي والفعّال امام كلّ فكرة قد تحاول اجتثاثها.

كذلك المسألة الاجتماعية لا تقلّ قيمة عن الاشكال السياسي، كيف يمكن القيام بهذا التطوير ومنح العقل الشعبي فرصة للتطور والانفتاح والنقد وفي نفس الوقت عدم تمكينه من ابسط ضروريات الحياة، ان الانسان حينما يجوع يلقي الكتاب من يده ليذهب للبحث عن قطعة خبز، هذه المسألة غريزية و لا تحتاج الى عباقرة لفهمها، تحتاج فقط الى القليل من المنطق، ففي هذا المثال تصبح المسألة الاجتماعية حماية للديمقراطية نفسها وضمانًا لاستمراريّتها، هل من المنطقي ان يبارك الانسان من يريد ان يسلب حريّته من اجل ان يصبح كالخروف يأكل وينام؟ كأنك تسأل احدهم: هل تريد ان تصير عبدًا؟ سيقبل في حال واحد، حينما يجوع، لأن المسألة في تلك اللحظة تصبح مسألة بقاء، لقد جوّعت هذه العشرية الناس، وفقرّت الطبقة الوسطى فما بالك بالطبقات الفقيرة الاخرى، رخص سعر الانسان في الوقت الذي صار فيه كل شيء غاليًا، بل حتى مجالات التطور الذهني تم تحطيمها، لقد دُمّرت المدرسة العمومية، والجامعة، وتردّت الخدمات العامة، في حين ان المنطق يقول ان المساس بهذه القطاعات في خصوصية بلاد كتونس وفي وضعيتها هو إعطاء حبل للقوى التي تريد ان تعيدنا الى مربعات سابقة،

وهنا اريد ان انوّه بكوني لا أقول هذا بإعتباري يساري واحمل تصورات اجتماعية، بل الامر ابسط، حتى ادام سميث نفسه، احد اكبر مهندسي الفكرة الليبرالية يقول في احد كتبه : “ان الاجر يجب ان يساهم في اعتزاز الانسان بنفسه”، ثم تأتي السياسة ويأتي الاختلاف. المسألة منطقيّة، فنحن نريد القيام بتغيير استراتيجي شامل دون حدّ ادنى يمكن الارتكاز عليه للقيام بهذا التغيير؟ لقد كان الامر اشبه بالمجازفة، وكأنك تقف على رقائق من جليد قد تسقط بك في أي لحظة.

وهذا بالتحديد ما حصل، وان لم يكن قيس سعيد كان سيكون شخص اخر، ولو بقيت منظومة الانتقال الديمقراطي كانت ستنهيها قوى أخرى من داخلها كعبير موسي مثلا وبدعم شعبي هائل وبالصندوق وسيذهب الناس مقتنعين للتصويت للدكتاتورية.

لم يكن الامر بحاجة الى عباقرة في تلك الأشهر ولا السنوات التي تلت جانفي 2011، لقد أضعنا على انفسنا ثلاث او اربع سنوات في مسائل بديهيّة من المفترض ان يتم الاتفاق حولها فور هروب بن علي بين القوى السياسية، رغم انني اعرف ان الفوضى الإقليمية حينها كانت ستجعل الامر اصعب، لكنها لم تكن لتكون مستحيلة. فنحن بذلنا جهدا في غياب اتفاقات بديهية في تلك اللحظة. لقد كان التغيير الذي وقع في 2011 بلا قيادة سياسية وبلا أفكار بديلة، غير بعض الشعارات العامة والتي تم تجاهلها بدورها، وبالتالي كان من المفترض إيجاد قيادة واسعة او وثيقة تأسيسية فيها مشتركات بين من سيشارك في التغيير القادم، تتضمن ما يمكن ان يجمع الأطراف السياسية في تلك اللحظة، حتى قبل الحديث عن النظام السياسي نفسه، كمسألة الهويّة مثلا، لقد اوشكت البلاد على ان تدخل في حرب أهلية لتنتهي أخيرا بترك الفصل الأول بالدستور على ما هو عليه، المسألة تبدو سريالية ولو قلتها لشخص لا يعرف ما وقع لم يكن ليصدّق الامر. هل يحتاج القيام بإتفاق فيه: ان الصفحة الجديدة التي سنكتبها في التاريخ في تلك اللحظة بحاجة الى تثبيت “المكتسبات” المدنية التي تمت مراكمتها منذ الاستقلال الى ذلك الحين، خاصة انه تم الاتفاق حولها حتى قبل الثورة نفسها. ام اننا بحاجة الى تجييش اعلامي ومظاهرات واعتداءات وعنف وفوضى واغتيالات واعتداء على سفارات دول اخرى لنقول ان الامر يبدو منطقيًا، وهنا انوّه للدور السلبي جدا الذي لعبته حركة النهضة في ما حصل، يكاد يكون هذا الدور اهم الأدوار التي ساهمت في اجهاض عملية الانتقال الديمقراطي. كذلك كانت تونس بحاجة الى اتفاقات اجتماعية، او الى تغيير اجتماعي، حيث ان التغيير السياسي قد حصل لكن اقتصاديا تقريبا بقي الحال على ما هو عليه، ولم يكن الامر صعبا حينها ان نؤسس لعقد اجتماعي جديد او الى اتفاقات مشتركة بين الفرقاء وان نختلف في مسائل أخرى غير البديهيات، لقد مزّقت تونس صراع حول البديهيات.

وانا اعتقد ان لهذا السبب جُعلت الإدارة، لأنها عملية الاستمرار في جسد الدولة، لقد كانت الإدارة حينها بحاجة الى بعض التحيينات الإيجابية والتي اعتقد ان الظرف كان مواتيًا لاقناع الجميع بها.



والآن ما الحل؟



ابدي حزني الشديد، في هذه اللحظة، ان البلاد تخلوا من كل المبادرات المدنية والسياسية والتي يمكن ان تخلق تمايز او قادرة على الدعوة لحوار واسع او على اقل يمكن ان تساهم في الارتقاء بالصراع السياسي الموجود ولو قليلًا.



هل كان ممكنا اصلاح الانتقال الديمقراطي من داخله؟ اعتقد نعم، وهذا هو الميزة الوحيدة التي يتمايز بها على ما يقترحه الرئيس الحالي السيد قيس سعيد، شرط ان يتحمّل قادة الأحزاب السياسية في منظومة الانتقال الديمقراطي وعلى رأسهم حركة النهضة مسؤوليتهم في تدهور الأوضاع بذاك الشكل شديد السلبية، مع ان هذا الامر لم يعد ممكنا.

فقيس سعيّد، الرئيس الذي يبدو انه لا يعرف ما يريد الى الان، ويعيش على وهن معارضيه وربّما اجرامهم في حق التونسيين، إجهز على كل الأدوات السياسية القادرة على اصلاح حال البلاد من داخل منظومة الحكم، واقترح نظامًا احتكر خلاله كل الصلاحيات تقريبا، دون استغلالها لاعادة توجيه الديمقراطية كما صرّح بذلك، ودون ان يقترح على “الانسانية” بدائل مُبهرة الى الآن.



ان تونس، الدولة المدنية المتقدّمة بشعبها المتعلّم والمنفتح، ممكنة، و قادرة على ان تكون لا مثالاً إقليميا فقط، بل منارة عالميّة وفضاءً للحوار الإنساني حول القضايا المتعلقة بمصيرنا كبشر، تعيش هذه الأيام حالة تمزّق، بين قيادة الانتقال الديمقراطي، التي لم تتجرأ الى الان على نقد مردودها وآدائها السياسي خلال العشرية الفارطة، وبين رئيس يصرّ على الهرب الى الامام، وفي حال كهذا، يحول الحوار بيننا وبين العودة الى القوانين العرفية، وهذا ما يبدو جليّا في الافق، مصحوبا بأزمة اجتماعية خانقة.

ان الغاية الحقيقيّة من الحوار ليست انتصار احدٍ على الاخر، ان الغاية الحقيقية من الحوار هي اثبات جدارتنا في ان نتعايش بشكل مشترك، في هذه البلاد التي نتحمل مسؤولية مصيرها، والتي لا نملك غيرها. حوارٌ يجب ان ينطلق من اخلالات التجربة الاخيرة، من 14 جانفي وصولا الى اليوم، وعلى الأقل عدم خسارة هذه الخبرة التي تعلّمناها في التعاطي مع الازمات، وما اكثرها.

ان هذه الازمات تثبت، ان استقرار تونس لا يكون الاّ بإتفاقات جماعية، تكرّس بلاد الحدّ الأدنى الديمقراطي والاجتماعي، ثم تأتي السياسة ويأتي الاختلاف، الذي يكون الغاية منه، خلق تميّز بين بعضنا البعض، وجعل الحياة على هذه الأرض ممكنة.



#قصي_بن_فرج (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حتّى لا يولد الوٌحوش
- ماضي جديد، او وعيُ مستقبل.


المزيد.....




- فيديو أسلوب استقبال وزير الخارجية الأمريكي في الصين يثير تفا ...
- احتجاجات مستمرة لليوم الثامن.. الحركة المؤيدة للفلسطينيين -ت ...
- -مقابر جماعية-.. مطالب محلية وأممية بتحقيق دولي في جرائم ارت ...
- اقتحامات واشتباكات في الضفة.. مستوطنون يدخلون مقام -قبر يوسف ...
- تركيا .. ثاني أكبر جيش في الناتو ولا يمكن التنبؤ بسلوكها
- اكتشاف إنزيمات تحول فصائل الدم المختلفة إلى الفصيلة الأولى
- غزة.. سرقة أعضاء وتغيير أكفان ودفن طفلة حية في المقابر الجما ...
- -إلبايس-: إسبانيا وافقت على تزويد أوكرانيا بأنظمة -باتريوت- ...
- الجيش الإسرائيلي يقصف بلدتي كفرشوبا وشبعا في جنوب لبنان (صور ...
- القضاء البلغاري يحكم لصالح معارض سعودي مهدد بالترحيل


المزيد.....

- في يوم العمَّال العالمي! / ادم عربي
- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - قصي بن فرج - لا يحتاج الامر الى عباقرة