أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - كامل عبو - هكذا مات جاسم















المزيد.....

هكذا مات جاسم


كامل عبو

الحوار المتمدن-العدد: 7430 - 2022 / 11 / 12 - 02:42
المحور: الادب والفن
    


كان من الممكن لجاسم ان يعيش واحدا ً وخمسين عاما او اكثر ولكنه مات في الخمسين كما اخبرني عن عمره قبل ان يموت. كان يبدو كهلا وإن كان شعره اكثر سوادا مما احمله فوق رأسي , ولكنني كنت ابدو اكثر فعالية وشبابا منه, كان اسمر البشرة.. طويل القامة..شديد النحافة
قد فَقَد معظم أسنانه خلا بعضها في فكه الاعلى على جهته اليمنى من فمه وربما كان هذا هو السبب في
عدم إفهامه, اضف الى ذلك آلامه التي كان يقاسيها
لست اذكر كيف كان لون دشداشته عندما وضعناه على الحمًالة الطبية وادخلناه مُصَفًحة َالبرادلي
المجنزرة (حاملة جنود امريكية ) التي إنطلقت تدَوي هادرة بشدة لتبلغ اقصى سرعتها التي لا تزيد عن خمسة وثلاثين ميلا في الساعة. كنا بعيدين عن مكان الطبابة الذي نتجه إليه ,إذ اخذ منا الوقت ما يقرب
من الساعة والنصف او اكثرعندما كنا نصارع يديه لإيجاد محل لغرز دواء المغذي فيها ,لقد كان ينزف بشدًة..ر صاصتان كانتا قد أصابتا كِلا فخذيه..واحدة في كل فخذ ,كانت الدماء قد لوثت ملابسه وحتى الداخلية عندما كشفنا عن ساقيه .قص الطبيب لباسه الداخلي الذي يستر عورته
وكان محل إتصال قضيبه بجسمه ملوثا بالدماء وكأن ًقشرة جلدية قد إنفصلت هناك او ربما كان ذلك دماً متجمدا . لكن الفتحة الدامية في صفحة فخذه الايسر خارج الجسم والأخرى على مستوى اعلى من الفخذ من داخل الجسم جعلتني أخمن ان الرصاصة في رجله اليسرى اصابته
. في صفحة فخذه الخارجية لتنفذ من الجهة الأخرى مصيبة ً قاعدة القضيب
. هل كانت الرصاصة مستقرة فيه ؟ لست ادري
كانت اسئلتي له لإلهائه فقط عما كان يفعله الطبيب وإثنان آخران داخل البرادلي وهي تلهب الطريق. كان الاول يعصب ساقه اليمنى ثم اليسرى بلفائف ويغرز شيئا من القطن والقماش الطبي الخفيف مكورا ليحشو مكان الرصاص . وكان الآخر يحاول تهدئة ساقيه اللتين كان يحاول تحريكهما متالما ولكن بدون جدوى . فقد كسرت الرصاصتان عظمَي الفخذين كليهما كما قال الطبيب. أما قائد المهمة فقد كان يساعد الطبيب احيانا ويمسك بيد الجريح اليمنى احيانا اخرى اما اليسرى فقد كنت امسك بها احيانا..أهدئه وكنت وامسح عن وجهه ورقبته حبات العرق.. كان يرفع يديه بعتاب كلما تحررتا ويشير الى إصابته اليمنى كمن يقول :إنظروا ماذا فعلهتم بي ؟
كنا قد وضعنا المصاب على الحمالة الطبية في الجهة اليمنى من البرادلي من الخلف , وكان ضابط المهمة قد عانى من وصلها بالسلاسل وتعليقها اما المجنزرة فهي تكفي لستة جنود في قاطعها الخلفي وهكذا فقد كنا كعلبة سردن لاننا لم نكن في وضع جلوس والحمالة بالمصاب تحتل الجهة اليمنى كاملة من البرادلي. ولكننا كنا جاهدين في عملنا على وضعنا غير المريح ذاك. إلا ان اوردة الرجل لم تكشف عن مواطنها في
يده اليمنى على ما بذله الطبيب من محاولات متتابعة في غرز الإبرة التي تحمل المغذي المعلًق ثم سحبها ثم غرزها.. مما إضطره الى المحاولة في اليد اليسرى التي إمتنعت عن تعاونها كذلك. فعاد الطبب الى اليد اليمنى ثانية ونجح بعد محاوات.. وفي كل هذا كان المصاب يصرخ بدون صوت ! إلا ان القطرات التي انسابت من كيس المغذي البلاستيكي اراحتنا قليلا لكنها توقفت بعد فترة فعالجها الطبيب
ضاغطا فاسرعت حتى إنتهى الكيس الاول فألحقه بالثاني الذي توقف هو الآخر ولم تفد معه المحاولات
بعد ذلك .
كان المصاب يتلوى وكنا نحاول ضبطه. سألته مرات عديدة : شسمك ؟ وفهمت بعد لأي انه ( جاسم .) وبعد صعوبة اخرى قال : آني حارس .. كانت لهجته كمن يقول ( انا حارس فقط فلماذا اطلقتم علَي الرصاص ؟). عندما دخلت المنزل المُداهَم كانت ليلة شديدة الظلام , ولم تكن المنازل والانوار العامة . مضاءة استثني بيتا واحدا كان مضيئا في واجهته الداخلية وبلا شك كان صاحبه يمتلك مولدة كهربائية فقد كانت الكهرباء العمومية شيئا نادرا ككنز ارضيً دفين اما ضجيج المجنزرة فهو صعب التحمل لا يطاق إذا ما تًقوقِع في داخلها لفترة.وهذا كان سببا في عدم سماعي صوت إطلاق الرصاص.كما ان عددها الذي طوق المنطقة لم يكن صغيرا أضف اليها واحدة او اثنتين من مصفحات . الهمفي .(ضمت تلك العملية 19 قطعة عسكرية ) إلا أن الجندي الذي قدم يطلبني هو الذي إصطحبني الى حديقة المنزل الامامية حيث كان الجنود متناثرين فيها وفي المنزل . وفي الحديقة كان هناك هيكل مسجى على الاعشاب, لم يكن الجسد واضحا لشدة الظلام ,نظر اليً الجندي الذي اقف جانبه .قال :(كان يحمل مسدسا في يده), لم اتبين الكثير فقد كان الجنود يحوطون جاسم وهو على الاعشاب. ولم اكن امتلك منظار الرؤية الليلية كبقية الجنود.
جيء بالحمالة الطبية ونقل جاسم اليها وعلى رصيف الشارع الضيق تم ربطه بها وكان يتألم بشدة وحملناه الى داخل العربة حيث صاح قائد العملية باننا متكاملون في الداخل مع بضعة كلمات معتادة من اللعنات والسباب الامريكي, وانطلقت المدرعة بسرعتها العظمى تاركة بقية المجنزرات لإتمام المهمة ..فقد كانت مهمة أحد أبناء صدام حسين ..قصي التي تبين في ما بعد انها كانت إخبارية كاذبة باءت بالفشل إلا قتيلا من عامة الشعب. في الداخل كان الطبيب العسكري وقائد الحملة وجندي آخر
. وانا نحاول بصدق جاهدين في معالجة جاسم
لاأخفيك انني كنت متأثرا لهذا الرجل النحيل حتى لقد كدت اذرف دمعا ,نظر الي القائد ..ولاحظ ما انا فيه..تابَعَ عمله قائلا :( حاول تهدئته بالكلام , سنصل قريبا .تحَمًلْ .)
كان جاسم يقول شيئأ ولكن بدون صوت وكنت احاول معرفة ما يقول من خلال مراقبة فمه وشفتيه ولم
آت بنتيجة إلا ان جاسم كان يرفض إيذاءه عندما كنا نعالجة بتحريكه او عصب فخذيه او زرق المغذي في وريده فكان يكرر بصوت شديد الخفوت كانه لفحات هوائية فقط: لالالالا ولمرات عديدة ومتواصلة.هذا ما إعتقدته حين ذاك .

هكذا قال بعد جهد جهيد وصوت كاد ألأ يسمع حين انحنيت عليه سائلا:إشكد عمرك ؟ إشكد عمرك ؟ -خمسين .
الآن فقط عرفت عمره حيث كنت في البرادلي اسال نفسي اهو اكبر مني سنا ام انني.. ؟
كان جاسم اصغر مني بتسع سنين ولكنه كان يبدو اكبر ,ترى اكانت حياته متعبة ؟؟
تركنا جاسم بين ايدي المجموعة المعالجة وانصرفنا كلٌ الى خيمته وكان الفجر يكشف عن ستره.فتهالكت على سريري متعباً.
بعد يومين إلتقيت قائد المجموعة التي إضطلعت بعملية المداهمة , لم نزد عن تبادل التحية المختصرة فلم يكن الرجل ممن اميل اليهم كثيرا إلاانني في اليوم التالي وبينما كنت متوجها الى المرافق الصحية صادفت الطبيب الذي كان في صحبتنا وكنت على علاقة طيبة معهفقد كنت ازوره قبلا شاكيا من آلام التمزق
العضلي الذي كنت اعانيه في كتفي اليمنى والذي كان يحرمني النوم مع ان حبوب الموترن المسكنة لم
تكن تفيدني كثيرا إلا ان الرجل كان يعتني بي ويهتم
- هل تدري ان الرجل مات ؟
-ماذا ؟ قلتها باستنكار وعجب
لعَنَ وسب-
لقد نزف كثيرا من دمه .. الرجل المسكين .هؤلاء الاوغاد لم يعرفوا كيف ينقذونه . قال ذلك ثم سكت
هنيهة .تمتمت باسف .
-آه.. كلا
بقيت طَوال ذلك اليوم افكر في جاسم , وكيف كان يعيش أ كان فلاحا يبذر الحبوب ويفتح السواقي المائية ويلقح اشجار النخيل التي لم تكن ملقحة تلك السنة بسبب الحرب ؟ أكان عاملا في احد المعامل البسيطة او الحكومية ؟ أكان يعمل في البناء ونقل مواده ومناولة قطع الحجارة والواح الطابوق ؟ أكان موظفا يعمل في خدمات حكومية ام كان بائعا للخضارفي الاسواق الشعبية ؟ أكان يطرب لغناء الارياف ام يشدو مع ام كلثوم ؟ أكان لجاسم إمراة تحبه وتنتظره عندما يعود من عمله واطفالٌ يحوطونه صارخين معربدين لقطعة حلوى ؟ اين كان يسكن ؟ إن البيت الذي دوهم لم يكن بيته بلا شك فلم يكن في هيأة جاسم ما يوحي بانه يمتلك بيتا كذلك الذي كسروا مصراعيه واقتحموه فلم يجدوا غيره فيه.
بقيت طوال ذلك اليوم افكر في جاسم , وكيف كان يعيش ؟ لقد اوصلناه حيا فلماذا مات ذلك الرجل الشديد النحافة ؟
مات جاسم لانه كان حارسا خرج وفي يده مسدس ليحمي البيت الذي يحرسه في وقت كانت القمامة والفوضى في كل مكان..والسلب والنهب والقتل والإغتصاب واخذ الفدية ومياه المجاري العفنة تطفو غلى السطح جمعاء , وكان البحث عن الارقام مهما جدا يسود البلاد برمتها .
مات لانه كان يعتقد _والاوضاع على ما كانت عليه وفي ذلك الظلام_ ان هناك من يقتحم البيت الذي يحرسه للسرقة والنهب فخرج مسلحا ليتلقى رصاص الجنود الذين اعتقدوا بدورهم انه ينوي المقاومة فسلاحه بيده شاهد عل ذلك
ولكن هل ابصرتُ المسدس ؟
.كلا فقد كان الظلام الداكن يعم المنطقة
-كان يحمل مسدسا في يده .تذكرت ما قاله الجندي عندما دخلت المنزل وتتابع الاحداث بعد ذلك في المجنزرة وكيف كان جاسم يحاول الكلام. تلك القراءة التي إستنتجتها من فمه : لالالالا معتقدا انه كان يرفض تحريكه اوالضغط على اماكن جروحه اوغيرها إلا ان بريقا لمع في مخيلتي عن يقين فان معرفتي ..البسيطة باللغة العربية كانت تؤكد لي ان الرجل كان يقول لا إله إلا الله لا إله إلا الله . لقد كان جاسم يتشاهد وكانه كان يعلم انه سيموت . ما كان على جاسم ان يموت ليضيف قصي رقما على صفحته . كلا لقد كانت ثياب جاسم القذرة مشرفة لكلا الساقطين . رحمة عليك يا جاسم ,سوف تبقى في مخيلتي الى الابد اشد عمقا من ذلك الشاب الذي توقفت انظر اليه ملقى في بركة مدماة ميتا على جانب الطريق رقم 9 واحشاؤه خارجة من جوفه ويده اليسرى ممدودة على جانبه كانها تطالب بعلبة سكائره الملقاة قرب اصابعه .



#كامل_عبو (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عهد وغيرة
- عهد ٌ وغيرة
- ثميل الدهر- ذكرى أُم
- شعب بديع-قصيدة


المزيد.....




- مصر.. الفنان بيومي فؤاد يدخل في نوبة بكاء ويوجه رسالة للفنان ...
- الذكاء الاصطناعي يعيد إحياء صورة فنان راحل شهير في أحد الأفل ...
- فعالية بمشاركة أوباما وكلينتون تجمع 25 مليون دولار لصالح حمل ...
- -سينما من أجل غزة- تنظم مزادا لجمع المساعدات الطبية للشعب ال ...
- مشهور سعودي يوضح سبب رفضه التصوير مع الفنانة ياسمين صبري.. م ...
- NOW.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 154 مترجمة عبر فيديو لاروزا
- لماذا تجعلنا بعض أنواع الموسيقى نرغب في الرقص؟
- فنان سعودي شهير يعلق على مشهد قديم له في مسلسل باللهجة المصر ...
- هاجس البقاء.. المؤسسة العلمية الإسرائيلية تئن من المقاطعة وا ...
- فنانة لبنانية شهيرة تكشف عن خسارة منزلها وجميع أموالها التي ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - كامل عبو - هكذا مات جاسم