قرأت الكثير عن الشعر و سمعت ، و الكل يعرّفون الشعر بما يشعرون ، ورغم أنه يصعب عليّ أن أ ضع تعريفا حاسما للشعر ، لكن يمكنني أن أعْرف ما هو اللاشعر. فاللاشعر أن تقيس وزن الحجر و حجمه و تبيّن صفاته الفيزياوية والكيمياوية ، وتدّعي أنك قد كتبت شعرا و ما هو بشعر ، و باختصار أنه كما قال الأقدمون إن اللاشعر أن تفسر الماء بعد الجهد بالماء ، وما أكثر ضجيج اللا شعرية عندنا. وبعد أن عرفت اللاشعر , أصبح ميسورا لي أن أقترب من فهم الشعر ، فأن تستنطق الحجر وتستشعره فهو شعر . و ما قرأت أبلغ ما قالته الشاعرة الأمريكية أميلي ديكنسون (1830-1886) عن الشعر: " إن قرأت كتابا، و جعل جسدي باردا بحيث لا يمكن لأية نار أن تدفئني , أعرف إذ ذاك أنه شعر.و إذا شعرت فيزياويا كأن قمة رأسي قد انفصلت عنه , لعرفت انه الشعر."
فلا شئ يناغم الروح ويستقر فيها مثلما يفعل الكلم الطيب الصادق ؛ سواء ورد شعرا أو أداء أم لحنا و أم صورة . فالشعر لا يخترع مفردات جديدة , ولكنه يكتشف مدلولات جديدة للمفردات الشائعة , كما يكتشف إمكانات مفتوحة على شتى الاحتمالات .. فجبران خليل جيران كان رساما أيضا ؛ يعبر عن شعره بنفس الشدة سواء سواء بالريشة و الألوان أو بالكلمات . و الشاعر من خلال توظيفه للمفردة , حيث يستخدمها في مواضيع معينة , وفي نفس السياق، يضيف لها دلالات جديدة لم تخطر على بال أحد من قبل.
وفي العصر الحديث برزت مقولات في ميادين الفن ومنه الشعر ، أثارت ولا تزال تثير جدلا كبيرا , منها الصورة الخارجية و الصورة الداخلية للشعر. ففي الأولى يواجهنا الوزن و القافية و كل ما يتعلق بالشكل. و رغم أن القسم الخارجي أو المرئي للشعر يتعلق بذات الشاعر , إلا أنه لا يمكنه تجاوز كل الصيغ السائدة في عصره نهائيا حتى لو كان هذا الشاعر نازك الملائكة أو السياب أو كوران أو سواهما ممن حطموا القوالب القديمة.
إن ما عملته نازك الملائكة و السيّاب من تحديث في الشعر العربي لم يخرج عن قواعد اللغة العربية و المقولات العروضية ، حيث أبقيتا على التفعيلات كوحدات بناء و استخدمتاها نفسها مثلما هي مستخدمة في الشعر العربي عبر العصور بعد إجراء تحولات في ترتيبها و توزيعا. ويمكن القول إن الشعر في هذه المقولة يأتي بنماذج شائكة يتبعها البناء اللغوي الأساسي في مجال اللفظ والمعنى و النحو والصرف.
أما المقولة الأخرى أي الصورة الداخلية ؛ فيمكن وضعها على النقيض من الأولى ؛ إذ تنزع إلى الإنزياح عن القواعد و الأسس المألوفة ، وأن الشاعر هنا ليس بصدد وضع قواعد جديدة في اللغة ؛ بل يسعى إلى التعامل مع المفردات كرموز و مفاتيح حيث تعمل خارج معانيها و مدلولاتها.
يجوز هنا أن نؤيد القائلين بأن المترجم و خاصة مترجم الشعر خائن, فالشعر في حالة حركة و نشوء دائمة.
فالتجربة الفنية وخاصة الشعرية منها يستحيل أن تتطابق عند شاعرين مهما كانا معاصرين و متفاهمين في مسائل الوجود والكون والحياة أو تشابهت بيئتهما و وظروفهما وكانا ينتميان إلى مدرسة شعرية واحدة , كل فنان يرى إلى العالم مثلما يريد و رؤاه تتميز عن رؤية بقية العالم . فإني أرى تشابها بين طرائق التجريب عند الفنان و المتصوف كلاهما يكدسان حالات جوا نية مكثفة فيضفيان شخصيتهما وصبغتهما على عوالمهما و يبلورانها وفق أذواقهما و بأدواتهما الخاصة , فيتجاوزان اللغة المألوفة سعيا وراء آفاق لغوية أوسع . الفنان ينبهر أمام الوجود و كثر ما يؤدي انبهاره ذاك إلى الانبهار بالنفس – النرجسية - والذي سيطبع حياته بطابعه و يحركه فنيا وشعريا. لذلك نرى الناس العاديين و الذين وسيلتهم العقل فقط في فهم الوجود نادرا ما يفهمون الشاعر، فانه يبدو لهم غير مألوف بمظهر غير رسمي وغير مصمم من قبل بيئته الرسمية ؛ حيث انه يرتدي أزياء من هندسة خياله .
يقول اوكتافيو باز :
الأسماك ضياء في قلب البحر المظلم
والطيور نور في ليل الغابة الدامس
وعظامنا كذلك
برق في ظلام الجسد
آه! فالعالم كله ليل
والحياة فيه ضياء .
في المقطع الشعري أعلاه ؛ يبني باز عالما من نسيج خياله وفق رؤيته الخاصة للكون والوجود.
وشاعر صيني يقول:
" أمس ؛ رأيتني فراشة ؛ والآن لا أدري إن كنت إنسانا لقي نفسه فراشة في الحلم ، أم فراشة رأى نفسه إنسانا في حلم الآخرين "
تبدلات الحلم و الواقع ليست خاصة بالفنانين بل بكل إنسان ؛ لكن الفنانين هم يعترفون بطرفي المسألة ولا يضحون بأحدهما على مذبح الآخر .
فالشعراء كثر ما يتناولون الحلم بحيث لا يكون أمام مخا طبيهم (جمهورهم) سوى القبول برؤاهم و في الكثير من الأحيان تهتز الأرض من تحتهم من اثر تصوير الشعراء لواقعهم كسراب ؛ فلولا الالقاءات الرؤيوية للشعراء لكان العالم بشكل آخر؛ إذ لم تكن الوردة جميلة مثلما نتصور ولما كانت لكلمة "الحب" ذلك السحر والجلال
فالفن يتميز بطابعه الفرداني الخاص يسبغه الفنان على بيئته ؛ هو عبارة عن هويته الشخصية. و الطابع الفرداني يتجلى بوضوح تام في الشعر و الذي يعبر عن تضاد بين الصور الذهنية و وسائل التعبير, رغم أن الشاعر يتخذ اللغة وسيلة اتصال و مخاطبة المتلقي أو الجمهور . فالاستيعاب السليم للفن وخاصة الشعر يستلزم إدراك ماهية التعبير و أدواته. و الشاعر كذلك يتأمل موضوعته من حيث المبدأ كمصوِّر ؛ و بعد إضفاء تداعياته الذاتية عليها يحولها إلى ما يتميز عن المألوف و العادي. هكذا يحول الشاعر بتداعياته و ما يقوم به من هدم وبناء ؛ الفعل التاريخي إلى فعل شعري . فهذه ليست حالة عابرة بل فعل وانفعال للنفس و الروح ، يعبرّان عن معاناة جوانيّة وحياتية للشاعر الفرد ، و الذي يتميز بمنطقه الشعري عن أي شاعر آخر . و هذا سر عدم إمكانية استنساخ شاعر أو ترجمة شعره ترجمة مرضية ومقنعة.
مالمو السويد