أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - ياسين الحاج صالح - سورية... من بلا تاريخ إلى بلا جغرافيا















المزيد.....

سورية... من بلا تاريخ إلى بلا جغرافيا


ياسين الحاج صالح

الحوار المتمدن-العدد: 7342 - 2022 / 8 / 16 - 17:09
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
    


سورية بلد بلا تاريخ بالمعنى المعياري والقوي لكلمة تاريخ، أي حين يكون التاريخ تغيراً كبيراً في العالم، تحققاً للحرية مثلما فكر هيغل، أو إنشاء لأوضاع ومؤسسات وعقائد لم تكن موجودة من قبل. بهذا المعنى، هناك تاريخ للغرب الحديث، وهناك تاريخ لبلدان عملت بقوة على أن تكون شيئاً في العالم وقطعت أشواطا مؤثرة في ذلك مثل اليابان وكويا الجنوبية، وبصورة ما مثل روسيا والصين، وبمقادير متفاوتة بلدان كثيرة في ما كان يسمى العالم الثالث. وبكل تأكيد إسرائيل كانبعاث لكيان يهودي سياسي بعد سنوات من أكبر كارثة حلت باليهود خلال ألفي عام من "المنفى"، الهولوكست. في تاريخ اليهودية السياسية المنتصرة خلال ثلاثة أرباع القرن هناك ما يذكر بتاريخ الإسلام الباكر: انتصارات صاعقة على امبراطوريتين لم يكن لهما من منافس غير واحدتهما للأخرى حتى ذلك الوقت. انتصارات إسرائيل علينا في 1948 و1956 و1967 و1973 و1982 تشبه ذلك، وإن تكن جرت في إطار استعماري، لن يكف عن رفع علامة استفهام كبيرة بخصوص مصير هذا الكيان.
بلدان الشرق الأوسط العربية تشارك سورية في أنها بلا تاريخ بهذا المعنى الكبير، ولا حتى بمعنى قدر من الانبعاث السياسي بعد خمول، والسير إلى الأمام وفق معطيات الأمام المعاصر، الاقتصادية والسياسية والحقوقية. الشرق الأوسط نظام دولي فرعي، قام على سيطرة قوى مثل الولايات المتحدة وإسرائيل، ويتمركز حول أمن إسرائيل وحاجات أميركا من الطاقة، ومؤخراً التطلعات الامبريالية الروسية. وتنضبط بإملاءات هؤلاء النافذين لا تتحداها الدول العربية، ومنها سورية بطبيعة الحال.
لكن سورية بلا تاريخ بمعنى يخصها منذ أن أخذ الأبد يصير شكل علاقتها بالزمان، أي منذ عام 1970، وعبر محطة التوريث الرئيسية عام 2000. الأبد السوري ليس استمراراً مما تسعى وراءه المؤسسات البشرية عموماً، بل هو شكل نشط من الحرب ضد المستقبل والقتل المستمر لأي بذور محتملة للتغير. عبر الأبد صارت سورية بلداً بلا وعود عامة، بلداً سجين حاضر مؤبد، تتماثل آنات الزمان فيه، فلا يتمايز مستقبل عن ماض، يغرقان معاً في مستنقع الحاضر.
دون تاريخ، تطورت سورية بعد الثورة لتصير دون جغرافيا، أو بجغرافية متكسرة. صار لسورية دواخل كثيرة وخوارج كثيرة وحدود كثيرة، وبكلمة واحدة: صارت سوريات. روسيا وإيران وتركيا وأميركا وإسرائيل في الداخل السوري الموزع إلى خمسة دواخل: الأسدية التي لا تزال تعول على الأبد، وتوريث الحكم كشكل لتحققه، ومرتفعات الجولان التي ضمتها إسرائيل إليها منذ عام 1981، ومناطق سيطرة تركيا عبر أتباع سوريين، ومناطق قسد ("قوات سورية الديمقراطية") ذات العماد الكردي تحت الحماية الأميركية، ومنطقة هيئة تحرير الشام في إدلب التي هي "منطقة خفض تصعيد"، تعيش وضعاً خاصاً في إطار تفاهم روسي تركي. وهذا كله يشكل سورية الداخلة. وإلى جانبه ثمة سورية الخارجة، نحو سبعة ملايين لاجئ، يشكلون نحو 30% من السوريين، منثورين في 127 بلدا، أكثريتهم الساحقة في ستة بلدان: تركيا، لبنان، ألمانيا، الأردن، مصر، العراق. خلافاً للتاريخ الذي زال بالتجميد، الجغرافيا زالت بالسيولة.
العلاقة السببية بين تجميد التاريخ وتفكك الجغرافيا أكيدة. الثورة كانت صراعاً بين التاريخ والأبد، حاضر يبحث عن تغير ومستقبل. الإصرار على الأبد، اللاتاريخ، قاد نحو التمزق، تمزق اجتماعي في البداية تطور بالتدريج إلى تمزق جغرافي. وهذا مثلما قاد تعثر تغيير البلد بمعنى تغيير نظامه إلى تغيير البلد بمعنى الارتحال منه إلى غيره.
لا نزال نفكر بسورية كبلد واحد وكاسم لمصير مشترك. هذا ليس أكيداً. كلما طال الأمد بالتجزئة السورية الجارية (كي نستعير من قاموس القومية العربية)، كان محتملاً أن تتصلب الكيانات القائمة، وتسير في اتجاهات مختلفة. لكل من السوريات الخمسة الحالية حماتها- محتليها الدوليين الخاصين، وهو ما يرشحها لطول العمر. لكن الوضع لا يزال سائلاً، وتبدو تركيا مثلاً أقرب إلى النظام إذا سيطر هو مباشرة على المناطق التي تسيطر عليها قسد. ويبدو أن شركاء تركيا من الروس والإيرانيين يدفعون في هذا الاتجاه. وبالمقابل، لا يظهر أن الولايات المتحدة معترضة جدياً على هذا الترتيب، ولا قسد ذاتها، خلا طلب ضمانات قد يجري التخلي عنها.
هذا المنعطف يشير إلى اتجاه يكون فيه النظام، أو "سورية الأسد"، هو البديل الوحيد عن سورية المنقسمة. أي أن الخيارات تنحصر بين أن تكون سورية بلا تاريخ ولا جغرافيا كحالها اليوم، وبين أن تكون بلا تاريخ لكن مع جغرافيا شبه موحدة (مرتفعات الجولان تبقى خارج الحساب)، ومع تعدد محتلين. الروس والإيرانيون حتماً، والإسرائيليون طبعاً، وإذا خرج الأتراك، فلا يبعد أن يكون ذلك بضمانات تلبي حاجاتهم الأمنية والرقابية. المحتل الذي قد يثبت في النهاية أنه أهون المحتلين وأقلهم خطراً هو الأميركيون.
على أنه من غير المحتمل للسابقة التي مثلتها سنوات الانقسام الواقعي الماضية أن تزول، إن زالت، دون أن تخلف آثاراً عميقة في الذاكرات والسيكولوجيا الاجتماعية والترقبات المستقبلية. وهو ما يعني أن التئام الجغرافيا السورية السابقة للثورة لن يطال الجغرافيا النفسية، إن جاز التعبير، لملايين السوريين. وهناك بعد مجالان لا يمكن أن يطالهما هذا الالئتام إن حصل في أي وقت قريب أو منظور. أولهما اللجوء الواسع خارج البلد بوصفه أحد أوجه انكسار الجغرافيا السورية، وبالتحديد انكسار التطابق الجغرافي السكاني. إذ لا يبدو وارداً أن نشهد عودة واسعة إلا بالإكراه، لأسباب يتلاقى فيها عدم الثقة بالنظام بفقدان الملكيات استيلاء أو تدميراً وتدهور الخدمات، ثم بسنوات من ترتيب الحياة في بلدان اللجوء. والمجال الثاني والأهم هو أن أحد أوجه التكسر الجغرافي هو التمدد الخارجي في الداخل السوري من بلدان غير مجاورة، إيران وروسيا، ووجودهما في الداخل السوري هو وحده ما أنقذ النظام من السقوط في المقام الأول، وما قد يتيح لأم الجغرافيا تحت سلطته الإسمية، عبر ترتيبات لخروج تركي وأميركي في المقام الثاني. بعبارة أخرى، أن التأمت جغرافيا سورية على ما كانت عليه قبل النصف الثاني من 2012، وقت أخذت مناطق من البلد تخرج من سيطر النظام، فإن محتوى هذه الجغرافياً مختلف كثيراً: سوريون أقل، إيران وروسيا أكثر. ثم إن الحدود السورية اللبنانية ستبقى مفتوحة على حركة المجاهدين الشيعة وقواعدهم المنتشرة في سورية.
لا يبدو في المحصلة أن هناك عودة محتملة إلى ما قبل عشر سنوات أو إلى ما قبل الثورة. التصفير المستمر للتاريخ الذي قاد إلى تكثير وتكسير الجغرافيا مستمر إلى حين حدوث تغير أساسي في البيئة السياسية السورية، تغير تاريخي يبدأ من صفر الأبد لكن لا ينتهي عنده. وليس غير انطواء حكم العائلة الأسدية يمكن أن يكون هذا التغير الكبير.



#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رحل نبيل كمير
- علاء (مقدمة كتاب شبح الربيع)
- في الاختلاف السوري: المجزرة تفادياً للمجزرة
- علاء عبد الفتاح ودولة ما بعد الاستعمار
- معنى التغييب القسري
- أوجه المجزرة السبع
- أركان التغييب القسري الثلاث وجوهره
- نحن وإسرائيل والعالم، والتغير الواجب
- منطق تجميع القوى والقضية السورية اليوم
- العالم من منظور سوري
- في سنوية الثورة السورية: مواعيد معلومة ومصير مجهول
- لماذا أوكرانيا قضية سورية؟
- المتلاعب والقاتل، واليسار
- سِيَر سورية في صورة: من الشاهد؟
- جمعية سميرة الخليل ويومياتها
- التفاهة والدموية
- أليس هناك غير سميرة؟
- الأحوال والأهوال: الأسدية الثالثة وتغيير السكان
- في الحاجة إلى طوبى عالمية جديدة
- تسييس: وجها السياسة ومعنياها


المزيد.....




- تربية أخطبوط أليف بمنزل عائلة تتحول إلى مفاجأة لم يتوقعها أح ...
- البيت الأبيض: إسرائيل أبلغتنا أنها لن تغزو رفح إلا بعد هذه ا ...
- فاغنر بعد 7 أشهر من مقتل بريغوجين.. 4 مجموعات تحت سيطرة الكر ...
- وزير الخارجية الفرنسي من بيروت: نرفض السيناريو الأسوأ في لبن ...
- شاهد: أشباح الفاشية تعود إلى إيطاليا.. مسيرة في الذكرى الـ 7 ...
- وفد سياحي سعودي وبحريني يصل في أول رحلة سياحية إلى مدينة سوت ...
- -حماس- تنفي ما ورد في تقارير إعلامية حول إمكانية خروج بعض قا ...
- نائب البرهان يبحث مع نائب وزير الخارجية الروسي تعزيز العلاقت ...
- حقائق عن الدماغ يعجز العلم عن تفسيرها
- كيف تتعامل مع كذب المراهقين؟ ومتى تلجأ لأخصائي نفسي؟


المزيد.....

- اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية / ياسين الحاج صالح
- جدل ألوطنية والشيوعية في العراق / لبيب سلطان
- حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة / لبيب سلطان
- موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي / لبيب سلطان
- الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق ... / علي أسعد وطفة
- في نقد العقلية العربية / علي أسعد وطفة
- نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار / ياسين الحاج صالح
- في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد / ياسين الحاج صالح
- حزب العمل الشيوعي في سوريا: تاريخ سياسي حافل (1 من 2) / جوزيف ضاهر
- بوصلة الصراع في سورية السلطة- الشارع- المعارضة القسم الأول / محمد شيخ أحمد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - ياسين الحاج صالح - سورية... من بلا تاريخ إلى بلا جغرافيا