أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - غياث المرزوق - اِشْتِكَالُ ٱلْمَنْظِمِ ٱلْإِدْرَائِيِّ: بَيْنَ ٱمْتِشَاقِ ٱلْمَدينَةِ، بَيْنَ ٱعْتِشَاقِ ٱلْخَدِينَةِ (1)















المزيد.....

اِشْتِكَالُ ٱلْمَنْظِمِ ٱلْإِدْرَائِيِّ: بَيْنَ ٱمْتِشَاقِ ٱلْمَدينَةِ، بَيْنَ ٱعْتِشَاقِ ٱلْخَدِينَةِ (1)


غياث المرزوق
(Ghiath El Marzouk)


الحوار المتمدن-العدد: 7266 - 2022 / 6 / 1 - 01:03
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


مَنْ لا يَقُولُ ٱلْحَقَّ جَادًّا حَتَّى فِي ٱلْصَّغَائِرِ،
لَنْ يَسْتَحِقَّ ٱلْوُثُوقَ رَادًّا بِمَا يَقُولُ فِي ٱلْكَبَائِرِ!
آلبرت آينشتاين

(1)

إنَّ من بينِ أهمِّ الحركاتِ الفكريةِ التي نشأتْ كضَرُورَةٍ فلسفيةٍ في أواسطِ القرنِ الثامنَ عشرَ، والتي استمرَّتْ بتأثيرِهَا اللافتِ للاهتمامِ حتى أوائلِ القرنِ العشرينَ على أدنى تخمينٍ، إنما هي الحركةُ الفكريةُ التي جَرَتْ تسميتُها بمثابةِ اصطلاحٍ جرمانيٍّ-إنكليزيٍّ وِفاقيٍّ بـ«التاريخانيةِ» Historicism، إن صَحَّ كليًّا هذا المقابلُ في اللغةِ العربيةِ. إذْ لم تَكُنْ هذهِ الحركةُ الفكريةُ، بادئَ ذي بدءٍ، تنظرُ إلى «التاريخِ» نظرًا مذهبيًّا (أو حتى إيديولوجيًّا) ناجزًا كيفمَا اتَّفَقَ، بل كانتْ تنظرُ إليهِ بوصفِهِ «علمًا» قائمًا بذاتِهِ حسبما يقتضيهِ منهجٌ، أو بالحريِّ برنامجٌ، بَحْثِيٌّ خاصٌّ بهكذا «علمٍ»، بطبيعةِ الحَالِ – تمامًا مثلمَا هي الحَالُ في ذلك المنهجِ البَحْثِيِّ الكَلِمِيِّ المُسَمَّى رياضيًّا بـ«برنامجِ اشتقاقِ الحَدِّ الأَدْنَى»، أو حتى اختصارًا فيما بعدُ بـ«الأَدْنَوِيَّانِيَّةِ» Minimalism، ذلك المنهجِ البَحْثِيِّ الذي ارتبطَ ارتباطًا وثيقًا بامتيازٍ باسمِ العَالِمِ اللسَانيِّ الأمريكيِّ، نعوم تشومسكي، منذُ مطلعِ التسعينياتِ من القرنِ العشرينَ، رغمَ أنَّ العديدَ من إوَاليَّاتِهِ اللغويَّةِ والمنطقيةِ المُثْلَى يُمْكِنُ اقتفاءُ آثارِهَا اقتفاءً جليًّا في أُصُولِ «النظريةِ اللسَانيةِ العربيةِ» التي سَبَقَ لَهَا أن تبلورتْ حينًا بعدَ حينٍ في القرونِ الوسطى، كما بيَّنتُ ذاكَ بشيءٍ من التفصيلِ في مقالٍ بَحْثِيٍّ خاصٍّ كنتُ قدْ ناقشتُ جزءًا مِمَّا اقتضَاهُ معَ تشومسكي نفسِهِ قبلَ عددٍ من السنينَ (انظرا، مثلاً، مقالي البَحْثِيِّ باللغةِ الإنكليزيةِ: «ابن خلدون وتشومسكي عن ماهية اللغة: دراسة مقارنة» Ibn Khaldūn and Chomsky on Language: A Comparison، الدورية الدولية لتراث اللسانيات العربية، المجلد السادس عشر 2018). وهكذا، فيمَا لَهُ مِسَاسٌ بالمنهجِ التاريخانيِّ دونَمَا سِوَاهُ، فإنَّ الغايةَ المنشودَةَ والجليَّةَ الأولى، قبلَ كلِّ شيءٍ، هي أن ترقى عَيْنُ «التاريخِ الإنسانيِّ» إلى ذلك المقامِ السَّامِقِ بالوَقَارِ والتوقيرِ الذي تحظى بِهِ ذاتُ «العلمِ الطبيعانيِّ» مفردًا، أو حتى ذواتُ «العلومِ الطبيعانيَّةِ» كافَّةً، علمًا بأنَّ لِعَيْنِ ذاكَ الأوَّلِ غاياتٍ منشودةً خاصَّةً بِهِ ومعاييرَ اِستقصَائيَّةً محدَّدةً لَهُ وكذاكَ طرائقَ اِستكشافيَّةً تميِّزُهُ بجلاءٍ عن كُلٍّ من المجَالاتِ المعرفيةِ والعرفانيةِ الأُخرى – فلا بُدَّ، إذنْ، من أن يُؤْخَذَ بالحُسْبَانِ، كُلِّ الحُسْبَانِ، ذلكَ الفارقُ المبدئيُّ الأسَاسِيُّ بينَ مَا يُنْظَرُ إليهِ نَظَرًا باتِّصَافِهِ مبحثًا فاعلاً في الميدانِ «التاريخيِّ الفيزيائيِّ»، من طرفٍ أوَّلَ، وبينَ مَا يُنَظَّرُ فيهِ تنظيرًا باعتبارِهِ مبحثًا منفعلاً في الميدانِ «اللاتاريخيٍّ الميتافيزيائيٍّ»، من طرفٍ آخَرَ. واستنادًا إلى ذلكَ كلِّهِ، فيمَا يتبدَّى، فإنَّ الغايةَ المنشودَةَ المعنيَّةَ ذاتَهَا تلكَ إنَّمَا تقتضي إضفاءَ نوعٍ من «الاِستقلاليةِ» اِقتضاءً على عَيْنِ «التاريخِ الإنسانيِّ» في حدِّ عَيْنِهِ: ليسَ لهذا التاريخِ إلاَّ أنْ يُقَيِّضَ لنفسِهِ قضَاءَ نفسِهِ بنفسِهِ تبعًا لتلك المعاييرِ الاِستقصَائيَّةِ التي تحدِّدُهُ تحديدًا وتبعًا لتلك الطرائقِ الاِستكشافيَّةِ التي تميِّزُهُ تمييزًا، وليسَ لَهُ من ثَمَّةَ إلاَّ أنْ يُقَوِّضَ، بالأسلوبِ قَوْضًا آخَرِيًّا، كُلَّ مَا يعتريهِ من تدخُّلٍ، أو بالأحرى من تطفُّلٍ، خارجيٍّ، سَوَاءً كانَ أيٌّ من هٰذَيْنِ آتيًا من سلطانٍ سياسيٍّ أو من سلطانٍ دينيٍّ أو من أيِّمَا سلطانٍ فكريٍّ (أو حتى إيديولوجيٍّ) آخَرَ.

يستتبعُ مِمَّا تقدَّمَ، والحَالُ هُنَا، أنَّ أولى إرهاصَاتِ هكذا تدخُّلٍ، أو بالأحرى هكذا تطفُّلٍ، خارجيٍّ (بالمعنى الموضوعيِّ المجرَّدِ، لا بالمعنى الجغرافيِّ اللامجرَّدِ) كانتْ قد انبثقتْ دونَمَا سَابِقِ إنذارٍ انبثاقًا «فلسفيًّا»، أو هكذا يتجلَّى، من فوَّهَاتِ ذلك الميدانِ «اللاتاريخيٍّ الميتافيزيائيٍّ» المُشَارِ إليهِ قبلَ قليلٍ، ذلك الميدانِ البركانِ الذي استباءَ جُلَّ حَيِّزهِ التنظيريِّ شكلاً ومضمونًا، إن لمْ يَكُنْ كُلَّهُ إبانَئذٍ، ثلاثةٌ من أهمِّ أولئكَ الفلاسفةِ الأفذاذِ الذينَ قامتْ على كواهلِهِمْ أيَّمَا قيامٍ منظومةٌ «فِكْرَانِيَّةٌ» مذهبيَّةٌ، أو شبهُ مذهبيَّةٍ، عُرفتْ بالإجماعِ فيمَا بعدُ بـ«(الفلسفةِ) المثاليَّةِ الألمانيَّةِ» German Idealism، أولئكَ الفلاسفةِ الأفذاذِ الثلاثةِ الذينَ يمكنُ إيرادُهُمُ بالتَّرَاتُبِ الزَّمَانِيِّ وَ/أوِ التَّعَالُقِ «الفِكْرَانِيِّ» على النحوِ التالي: – أولا، يوهان غوتليب فيخْته (1762-1814)، وهو الذي طوَّرَ مفهومَهُ المتفرِّدَ والمهمَّ عن ماهيةِ كلٍّ من الوعيِ والإدراكِ الذاتيَّيْنِ، فضلاً كذاك عن تطويرِ إسهامِهِ الفريدِ والهَامِّ فيمَا يُعْرَفُ ازدواجًا بـ«الفلسفةِ السِّيَاسِيَّةِ»، أو بـ«النظريةِ السِّيَاسِيَّةِ» Political Theory، هذهِ الفلسفةِ أو النظريةِ التي تُعنى بقضايا الحريةِ والعدالةِ والاستحقاقِ والملكيةِ، ومَا إلى ذلكَ – ثانيًا، فريدريك فيلهيلم يوزِف (فون) شيلنغ (1775-1854)، وهو الذي تتلمَذَ على يَدِ الفيلسوفِ المثاليِّ الأوَّلِ (فيخْته)، وعلى الأخصِّ فيمَا يتعلَّقُ بتطويرِ كلٍّ من مفهومِهِ المتفرِّدِ والمهمِّ وإسهامِهِ الفريدِ والهَامِّ، كَمَا ذُكِرَ للتَّوِّ، فكانتْ فَحَاوِي ذاتِ النظامِ الفلسفيِّ عندَ شيلنغ بالتالي صِلاتٍ وَاصِلَةً مَا بينَ فلسفتَيْنِ مثاليَّتَيْنِ مُؤْتلفتَيْنِ لا مختلفتَيْنِ أُولاهُمَا مُمَثِّلَةٌ مُيَمِّمَةٌ وأُخْرَاهُمَا مُكَمِّلَةٌ مُتَمِّمَةٌ، ألا وهُمَا: الفلسفةُ الفيخْتويَّةُ (نسبةً إلى فيخْته) والفلسفةُ الهيغليَّةُ (نسبةً إلى هيغل) – ثالثًا، غيورغ فيلهيلم فريدريك هيغل (1770-1831)، وهو الذي كانَ بإزاءِ الفيلسوفِ المثاليِّ الثاني (شيلنغ) زميلاً دراسيًّا ومن ثَمَّ صديقًا حياتيًّا، لكنَّهُ صَارَ بعدئذٍ غريمًا «مثاليًّا» وإلى حَدِّ العَدَاءِ والخِصَامِ، وخاصَّةً حينَ طوَّر، من طرفِهِ هو الآخَرُ، مفهومَهُ عمَّا سُمِّيَ بـ«الغَائِيَّةِ الحَالَّةِ (أو البَاطِنَةِ)» Immanent Teleology، لكيما يُصَالِحَ بينَ مَا تستلزمُهُ فكرةُ «المنهجِ التاريخانيِّ» بالذاتِ وبينَ مَا تستوجبُهُ فكرةُ «التقدُّمِ الموضوعيِّ» بالعَيْنِ، ذلكَ لأنَّ للواقعِ، حسبَمَا يَرَاهُ هيغل، بنيةً مفهوميَّةً كَنِينَةً، قبلَ كلِّ شيءٍ، وأنَّ أَيَّمَا مفهومٍ مَحْضٍ، لهذا السببِ، ليسَ تمثيلاً أو تجسيدًا ذاتيًّا للانطباعِ «الحِسِّيِّ» (أي المُدْرَكُ بالحَوَاسِّ)، بلْ إنَّ الشيءَ (أيَّ شيءٍ)، على العكسِ المنطقيِّ تمامًا هُنَا، إنَّمَا يتواجَدُ بالوُجُودِ «اللَّحْقِيِّ» A Posteriori (أي القائمُ على الاِستقراءِ)، لكي يعملَ، بنحوٍ واقعيٍّ أو بآخَرَ، على تحقيقِ أو حتى على تفعيلِ مفهومِهِ المَحْضِ المُتَوَاجِدِ بالوُجُودِ «السَّبْقِيِّ» A Priori (أي القائمُ على الاِستنتاجِ)، بحكمِ تلكَ البنيةِ المفهوميَّةِ الكَنِينَةِ المُتَكَلَّمِ عنهَا. ووفقًا لذلك كلِّهِ، فإنَّ مفهومَ المفهومِ، في النظامِ الفلسفيِّ عندَ هيغل، لَيَتَجَلَّى على أنَّهُ عَيْنُ «الفكرةِ»، أو عَيْنُ «الصُّورةِ»، التي تُتَّخَذُ، أنَّى تواجدتْ، مثلاً أعلى – وأيَّةً كانتْ مصداقيَّةُ ذلكَ الكتابِ المديدِ الاِسمِ لا العنوانِ، «معنى المعنى» The Meaning Of Meaning، «فكرةً» أو «صُورةً» مُثْلَى عن نِيَّةِ كُلٍّ من الدلاليِّ الإنكليزيِّ تشارلز كاي أوغْدين (1889-1957) والبلاغيِّ الإنكليزيِّ آيفور آرمسترونغ ريتشارد (1893-1979) حينما أَلَّفَاهُ بكلِّ «جَدٍّ» و«كَدٍّ» في مطلعِ العقدِ الثالثِ من القرنِ العشرينَ حَائِزًا ونَائِلاً من الشهرةِ الإعلاميةِ أيَّمَا حَوْزٍ وأيَّمَا نَيْلٍ في حينهِ حتى حينٍ.

هكذا، فيمَا يبدو للعيانِ، كانَ شيءٌ من مَخَاطِرِ ذاكَ التدخُّلِ، أو ذلك التطفُّلِ، الخارجيِّ بالمَعْنَى المَعْنِيِّ في شؤونِ هذا «المنهجِ التاريخانيِّ» القائمِ من لَدُنْ فلاسفةٍ قامتْ على كواهلِهِمْ «فلسفةٌ مثاليَّةٌ» مشبَعَةٌ إشباعًا «ميتافيزيائيًّا» أيَّمَا قيامٍ (لكنْ دونَ أن تُثْقِلَهَا إثقالاً إجرائيًّا، في واقعِ الأمرِ). وهكذا، فيمَا يبدو للعيانِ أيضًا، كانَ هؤلاءِ الفلاسفةُ «المثاليُّونَ» بامتيازٍ يُطلقونَ إطلاقًا مباشرًا، أو حتى لامباشرًا، بذينكَ التهديدِ والوعيدِ «الميتافيزيائيَّيْنِ»، وذاكَ من جرَّاءِ استخدامِ التاريخِ الإنسانيِّ إلى حدِّ الاِسترقاقِ كُلاًّ وتصْييرِهِ بذاكَ خادمًا مسترَقًّا للنظام الفلسفيِّ مفردًا، أو للنُظُمِ الفلسفيَّةِ جمعًا، ليسَ غيرَ. وحتى بعدَ أن شرعتْ نجُومُ «الفلسفةِ المثاليَّةِ» في الأُفُولِ شيئًا فشيئًا في أواسطِ القرنِ التاسعَ عشرَ (أو مَا يُقَارِبُ)، صارتْ مَخَاطِرُ التدخُّلِ، أو التطفُّلِ، الخارجيِّ بالمَعْنَى المَعْنِيِّ المُشَابِهِ تأتي إتيانًا متعاقبًا من منظومةٍ «فِكْرَانِيَّةٍ» أُخرى جدِّ قاسيةٍ بأسلوبِهَا التجريبويِّ الخاصِّ، كمثلِ تلكَ المنظومةِ المُسَمَّاةِ عمدًا بـ«الفلسفةِ الوَضْعِيَّةِ» Positivism، هذهِ الفلسفةِ التي تألَّقَ نجمُهَا تألُّقًا لافتًا على أكتافِ رائدِهَا الفيلسُوفِ الفرنسيِّ الفذِّ، أوغسْت فرانسوا خافيير كونتْ (1798-1857)، والتي كانتْ تقولُ على الدوَامِ بالقولِ اليقينيِّ (أو بالكادِ) بأنَّ المعرفةَ الحقيقيَّةَ كلَّهَا هي إمَّا معرفةٌ صَحِيحَةٌ بالتحديدِ وإمَّا معرفةٌ وضعيَّةٌ (لا مِرَاءَ فيهَاَ) في حدِّ ذاتِهَا – أي معرفةُ الحقائقِ ذاتِ الوُجُودِ «اللَّحْقِيِّ» A Posteriori، مستمدَّةً بشتَّى طرَائقِ الاِستدلالِ العقليِّ والمنطقِ الصُّوريِّ من التجريبِ «الحِسِّيِّ» (أي المُدْرَكُ بالحَوَاسِّ): تلك «المعرفةُ» التي تُسْتَمَدُّ استمدادُا تائهًا من أسَاليبَ أُخرى، كالأسلوبِ الميتافيزيائيِّ والأسلوبِ اللاهوتيِّ والأسلوبِ الحَدْسِيِّ والأسلوبِ الاِستبطانيِّ ومَا أشبهَ ذلكَ، إنَّمَا هي «معرفةٌ» مرفوضةٌ منبوذةٌ بَتًّا وبَتَّةً بصفتِهَا «معرفةً» عاريةً عنِ الصِّحَّةِ والصَّحَاحِ، أو حتى «معرفةً» خاليةً كلَّ الخُلُوِّ من المعنى. من هنا، يَتَبَيَّنُ باستشفافٍ نسبيٍّ أنَّ مَا كانتْ تفعلُهُ أركانُ «الفلسفةِ الوَضْعِيَّةِ» في مقابلِ مَا كانَ يصبو إليهِ «المنهجُ التاريخانيُّ» القائمُ طامحًا هو أن تصيِّرَ الغاياتِ المنشودةَ الخاصَّةَ بالعلومِ الطبيعيةِ، فضلاً عن تلكَ المعاييرِ الاِستقصَائيَّةِ التي تحدِّدُهَا وكذاكَ عن تلكَ الطرائقِ الاِستكشافيَّةِ التي تميِّزُهَا عن المجَالاتِ المعرفيةِ والعرفانيةِ الأُخرى، هو أن تصيِّرَهَا كلَّهَا مرهونةً رهنًا حتميًّا وأشدَّ حتميَّةً حتى بكافَّةِ السِّمَاتِ والصِّفاتِ التي تتَّسِمُ وتتَّصِفُ بهَا «الحياةُ الفكريَّةُ» (أو حتى «الحياةُ الذهنيَّةُ» Mental Life، بالتعبيرِ النفسانيِّ الفرويديِّ المعهودِ). ومن هنا أيضًا، يَتَبَيَّنُ باستشفافٍ أكثرَ أنَّهُ ليسَ لِهٰذَا «المنهجِ التاريخانيِّ» القائمِ، في معمعَانِ هكذا مشهدٍ تهديديٍّ وعيديٍّ جِدِّ مقيتٍ، إلاَّ أن يخوضَ بالإكراهِ وبالإرغامِ إبَّانَئِذٍ غِمَارَ حَرْبَيْنِ «فِكْرَانِيَّتَيْنِ» سياسيَّتَيْنِ متناقضتَيْنِ، من حيثُ كلٌّ من الشكلِ والمضمونِ، لكنَّهُمَا حَرْبَانِ متتاليتَانِ زمَانيًّا، من حيثُ الأجيالُ الفلسفيةُ المُقَاسَةُ بالعقودِ وبالقرونِ: أولاهًمَا حربٌ ضدَّ «الفلسفةِ المثاليَّةِ» ذاتِ الأسلحةِ «الميتافيزيائيَّةِ» بامتيازٍ في النصفِ الأوَّلِ من القرنِ التاسعَ عشرَ، وأُخراهُمَا حربٌ ضدَّ «الفلسفةِ الوَضْعِيَّةِ» ذاتِ الأسلحةِ «التجريبَوِيَّةِ» بامتيازٍ أشدَّ في النصفِ الثاني من القرنِ التاسعَ عشرَ ذاتِهِ، كمَا نوَّهَ الأكاديميُّ الأمريكيُّ، فريدريك تشارلز بايزَر، من قبلُ بشيءٍ من التفصيلِ، بوصفِهِ باحثًا متخصِّصًا في تدوينِ التراثِ الفلسفيِّ الألمانيِّ بوجهِ العمومِ (أنظرا، على سبيلِ المثالِ، كتابَهُ المحرَّرَ باللغةِ الإنكليزيةِ: The German Historicist Tradition [التراث التاريخاني الألماني]، مطبوعات جامعة أوكسفورد 2007).

بيدَ أنَّ هناكَ أعلامًا أفذاذًا اِستثنائيِّينَ، ولا ريبَ في ذلكَ البَتَّةَ، أعلامًا كانوا قدْ جمعوا بالإيهابِ الفريدِ خاصَّةً بينَ عَوَالِمِ التفكيرِ الفلسفيِّ (العقليِّ) الأصيلِ، من جانبٍ أوَّلَ، وبينَ عَوَالِمِ التخييلِ الأدبيِّ (القلبيِّ) الأثيلِ، من جانبٍ آخَرَ. وفي هذا الجمعِ بالإيهابِ الفريدِ خاصَّةً أشدَّ، يبرزُ الفيلسُوفُ والشاعرُ الألمانيُّ الموهوبُ، يوهان غوتفريد هيرْدَر (1744-1803)، يبرزُ مرتبطًا إذَّاكَ بالاِسمِ والمُسَمَّى بذاتِ «المنهجِ التاريخانيِّ» ارتباطًا وثيقًا بامتيازٍ فريدٍ كذاكَ، إلى جانبِ بضعةٍ من أسماءٍ ومُسَمَّيَاتٍ فكريةٍ وَ/أوْ أدبيَّةٍ أُخرى كانتْ قدِ ازدهرتْ أيضًا في ذلك الحينِ. حتى أن هذا الارتباطَ الوثيقَ كانَ قدْ تغلغلَ ميداءً ومدًى في أراضٍ بعيدةٍ كلََ البُعادِ عن أراضي الوطنِ، مِمَّا جعلَ حشدًا من الأعلامِ الأفذاذِ الاِستثنائيِّينَ الآخرينَ، كمثلِ الشاعرِ والكاتبِ الصحافيِّ اليونانيِّ، قسطنطين كافافي أو كافافيس (1863-1933)، هذا الشاعرِ و«التاريخانيِّ» الذي كانَ قدْ جمعَ بالإيهابِ الفريدِ الخاصِّ المُمَاثلِ، بدورِهِ هو الآخَرُ، بين دُنى الإبداعِ الشعريِّ (النفسيِّ) الماثلِ، من طرفٍ أوَّلَ، وبينَ دُنى الإقناعِ التاريخيِّ والسياسيِّ (الجسديِّ) الأمثلِ، من طرفٍ آخَرَ – وعلى الأخصِّ، هَا هُنَا، حينمَا يشرعُ في سُبْأتِهِ المديدةِ، سُبْأةِ العُمْرِ بالذاتِ، مرتحلاً طائفًا، سَماءً وأرضًا على حدٍّ سَوَاءٍ، بَيْنَ ٱمْتِشَاقِ ٱلْمَدينَةِ تارةً، وبَيْنَ ٱعْتِشَاقِ ٱلْخَدِينَةِ تارةً أُخرى!

[انتهى القسم الأول من هذا المقال ويليه القسم الثاني]

*** *** ***

دبلن (إيرلندا)،
29 أيار 2022



#غياث_المرزوق (هاشتاغ)       Ghiath_El_Marzouk#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- وَمَا زِلْتُمْ أَحْيَاءً فِي ٱلْمَدَىْ: رَسِيلٌ شِعْرِ ...
- وَمَا زِلْتُمْ أَحْيَاءً فِي ٱلْبَصِيرَةِ: ثَلاثُ رَسَ ...
- وَمَا زِلْتُمْ أَحْيَاءً فِي البَصِيرَةِ: ثَلاثُ رَسَائلَ شِ ...
- تِلْكَ ٱلْكَاْتِبَةُ ٱلْرِّوَاْئِيَّةُ: خَرَفُ  ...
- تِلْكَ ٱلْكَاْتِبَةُ ٱلْرِّوَاْئِيَّةُ: خَرَفُ & ...
- تِلْكَ ٱلْكَاْتِبَةُ ٱلْرِّوَاْئِيَّةُ: خَرَفُ & ...
- مِنْ حَقَائِقِنَا هٰهُنَا، وَمِنْ حَقَائِقِهِمْ ه¤ ...
- مِنْ حَقَائِقِنَا هٰهُنَا، وَمِنْ حَقَائِقِهِمْ ه¤ ...
- خَفَايَا ٱلْعِشْقِ ٱلْأَرْبَعُونَ: «خَفِيَّةُ &# ...
- خَفَايَا ٱلْعِشْقِ ٱلْأَرْبَعُونَ: «خَفِيَّةُ &# ...
- خَفَايَا ٱلْعِشْقِ ٱلْأَرْبَعُونَ: «خَفِيَّةُ &# ...
- خَفَايَا ٱلْعِشْقِ ٱلْأَرْبَعُونَ: «خَفِيَّةُ  ...
- ٱلْأَنَٰا: ظَاهِرِيَّاتُ ٱلْتَّدْلِيْلِ وَ ...
- ٱلْأَنَا: ظَاهِرِيَّاتُ ٱلْتَّدْلِيلِ وَبَاطِنِي ...
- ٱلْأَنَــــا: ظَاهِرِيَّاتُ ٱلْتَّدْلِيْلِ وَبَاطِ ...
- ٱلْأَنَــــا: ظَاهِرِيَّاتُ ٱلْتَّدْلِيْلِ وَبَاطِ ...
- ٱلْأَنَــــا: ظَاهِرِيَّاتُ ٱلْتَّدْلِيلِ وَبَاطِن ...
- وَذَاكَ ٱلْفُرَاتُ ٱلْجَلِيُّ، وَذَاكَ ٱلْ ...
- وَذَاكَ ٱلْفُرَاتُ ٱلْجَلِيُّ، وَذَاكَ ٱلْ ...
- وَذَاكَ ٱلْفُرَاتُ ٱلْجَلِيُّ، وَذَاكَ ٱلْ ...


المزيد.....




- نيابة مصر تكشف تفاصيل -صادمة-عن قضية -طفل شبرا-: -نقل عملية ...
- شاهد: القبض على أهم شبكة تزوير عملات معدنية في إسبانيا
- دول -بريكس- تبحث الوضع في غزة وضرورة وقف إطلاق النار
- نيويورك تايمز: الولايات المتحدة تسحب العشرات من قواتها الخاص ...
- اليونان: لن نسلم -باتريوت- و-إس 300- لأوكرانيا
- رئيس أركان الجيش الجزائري: القوة العسكرية ستبقى الخيار الرئي ...
- الجيش الإسرائيلي: حدث صعب في الشمال.. وحزب الله يعلن إيقاع ق ...
- شاهد.. باريس تفقد أحد رموزها الأسطورية إثر حادث ليلي
- ماكرون يحذر.. أوروبا قد تموت ويجب ألا تكون تابعة لواشنطن
- وزن كل منها 340 طنا.. -روساتوم- ترسل 3 مولدات بخار لمحطة -أك ...


المزيد.....

- في يوم العمَّال العالمي! / ادم عربي
- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - غياث المرزوق - اِشْتِكَالُ ٱلْمَنْظِمِ ٱلْإِدْرَائِيِّ: بَيْنَ ٱمْتِشَاقِ ٱلْمَدينَةِ، بَيْنَ ٱعْتِشَاقِ ٱلْخَدِينَةِ (1)