أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - دلشاد محمود صالح - قصة الانسان مع الكهف















المزيد.....

قصة الانسان مع الكهف


دلشاد محمود صالح

الحوار المتمدن-العدد: 7229 - 2022 / 4 / 25 - 21:18
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


منذ أن وجد الانسان على الأرض وهو يسعى إلى حماية نفسه من الظواهر الطبيعية غير المفهومة لديه إلى حد ما، وكذلك من المخلوقات الأخرى الأقوى منه، هذا ما دفعه الالتجاء إلى الظاهرة الطبيعية الجامدة-الحية والذي هو الكهف، فكان الكهف يمثل له آنذاك الملجأ الذي أوى واحتمى نفسه فيه، بل كان يقضي معظم أوقاته ضمن أحضانه الدافئة في الشتاء والمعتدلة في الصيف، وإلى جانب اضطراره العيش فيه كسكنٍ له، أضحى اللبنة الأولى لتوثيق أنماط حياته وتسجيل ثقافته البدائية.
يبدو أن الانسان الأول عاش لفترة امتدت طوال فترة ما قبل التاريخ داخل الكهف، ووصلت حضارته إلينا عن طريق الرسومات التي كان يرسمها على جدران الكهف، وبالرغم من اعتبار رواد الأدب والفن في القرون الوسطى الانسان الأول وساكني الكهوف متوحشين ومغطين بالشعر والرَجل فيهم يحمل عصى غليظة، بينما الأنثى فيهم تحبل وتلد وترضع الأطفال وهي متوحشة أيضاً، وكأن الكهف كان بمثابة وكرٍ للوحوش!، إلاّ إن الكهف، في الحقيقة، كان يمثل الملجأ والمسكن والحامي للإنسان، أي البيت وكل ما يمثله من نمط الحياة الرتيبة وفق معايير تلك الزمن الغابر، بل كان المكان الذي يمارس فيه الانسان الأول طقوسه الروحانية أو الدينية البدائية ومكاناً لدفن الموتى أيضاً.
ما أن تجلّى أولى إشراقات الحضارة حتى تعرف الانسان على بناء البيوت خارج الكهف، لكن بقي آثار الكهف تختلج وجدان الانسان، ليعبر عن ذلك من خلال سرد قصصه للأجيال اللاحقة في إطار منظومة الأسطورة لمختلف التجمعات البشرية الأولى ولأغراض مختلفة، لتبقي على رمزية الكهف متجذراً في أعماق النفس والفكر البشري لحد الآن وتظل قصة تسرد وفقاً للتطور الخاص لكل تجمع بشري ٍبحد ذاته.
اعتقد السومريون، أن روح الانسان تذهب بعد الموت إلى "أركالا" ذلك الكهف المظلم العميق البارد تحت الأرض والمحكومة من قبل الآلهة "إرشكيجال" وزوجها "نرغال" إله الموت. لم يختلف المصريون القدماء كثيراً عن السومريين بإضفاء الطابع الروحاني الديني على الكهف، ففي كتاب "الموتى" المعلّق على مقابر بعض الفراعنة والتي تمثل مجموعة من النصوص الجنائزية الدينية كدليل للموتى في رحلتهم إلى العالم الآخر السفلي، نرى إله الشمس "رع" يقوم برحلة في العالم الآخر، نازلاً إلى الكهوف المظلمة لهذا العالم في مسعى منه للولادة من جديد.
هكذا، تحول الكهف من مكان للعيش والسكن والسكينة إلى قصة ذات حبكة أسطورية تمثل فيها الكهف كدار القرار والمحطة النهائية للروح البشرية أو محطة انتقالية للولادة من جديد، أي أضحت فكرة دينية مغلفة برداء القداسة تنتهي إليه الآلهة وروح الانسان بعد الموت، محتفظةً بطابعه كملجأ ومأوى والمسكن الأول للإنسان سواء في صورته الأولى فيما يخص الأسلاف، ومسكناً ومأوى للروح بعد الموت للأجيال اللاحقة.
لم تنتهي قصة الكهف عند هذا الحد، بل تحولت إلى فكرة فلسفية لاسيما عند الإغريق وفي أثينا القديمة تحديداً، إذ وظفت الكهف لبيان فكرة أريد منها توضيح العلاقة بين الواقع والوهم، الظلام والنور، الجهل والمعرفة، من خلال الحوار الذي جرى بين سقراط وكلوكون حول "أصحاب الكهف"، الحوار الذي ذكره أفلاطون في الكتاب السابع من أثره "الجمهورية" على الشكل التالي:
(الكائنات البشرية التي أسكنت في كهف تحت الأرض له ممر طويل مفتوح باتجاه النور وباتساع داخلية الكهف، لقد وجدوا في الكهف منذ طفولتهم وقيدت سيقانهم وأعناقهم، ولا يمكنهم أن يتحركوا أو يروا إلاَ ما هو أمامهم فقط لأن السلاسل منعتهم من ذلك، هناك نار متأججة فوقهم وخلفهم من مسافة وبين النار والسجناء طريق مرتفع وحائط منخفض على طول الطريق، وهناك رجال مارَون على طول الحائط يحملون كل أنواع الأوعية والتماثيل وأشكال الحيوانات مصنوعة من الخشب والحجر والمواد المتنوعة التي تظهر فوق الحائط وبعضهم يتكلم والبعض الآخر يلتزم الصمت، هؤلاء السجناء في الكهف لا يرون شيئاً سوى الظلال التي ترميها النار على الجهة الأخرى من الكهف، ظلال الأغراض المحمولة وصدى الجانب الآخر باعتباره صدى الظل المارَ، ستكون الحقيقة عندهم متجسدة فقط في الظلال والنور، وإذا ما تحرر واحد منهم ونظر باتجاه النور سيرى الأشياء تدريجياً على حقيقتها وعند تذكره للكهف وأصحابه السجناء سيشفق عليهم ويهنأ نفسه على التغيير والتخلص من الوهم). هنا أيضاً، نجد أن الكهف لم يخل من رمزيته وتأثيره على الفكر البشري كمهد للحضارة البشرية الأولى الجاهلة والبدائية.
وقبل أن يصبح الكهف فكرة، تحول إلى معبد لمعظم الديانات القديمة، وبعد أن كان الملجأ والموطن الأول للإنسان العاقل، تبدل إلى أن يكون المكان المقدس للإنسان المتحول ضمن سياقات تطوره الحضاري، خصوصاً مع بدأ انتقاله للعيش في بيوت خارج الكهف، وهو عارف أن التحضر المادّي لن يؤل أبداً إلى التحضر المعنوي، فالمعنوي يبقى دائماً متصلاً بالبدايات، بالحبل السري للأم، بالمكان الأول الذي ولد وعاش فيه، بأواصر علاقات المجتمع الأول، بأماكن مدفن الآباء والأجداد، بالحب الأول والذي كان الكهف وعاءً لكل ذلك، وما كان منه إلاَ اللجوء إلى المعبد-الكهف، وربما بصورة يومية، هرباً من مصاعب ومعاناة الحياة الحديثة، يزكي فيها روحه ويجدد نشاطه بالتأمل والاسترخاء الروحاني، بالارتماء إلى أحضان الأم والطبيعة والفطرة الأولى، فكانت هناك كهوف ارتسمت عليها آثار العديد من الديانات القديمة ظلت شامخة حتى اليوم، وإن كانت تحن لليوم التليد، منها على سبيل المثال كهف "ذو الأعمدة الأربعة CHARSTIN" في كوردستان موطن النياندرتال، الذي يعود تاريخه إلى (12) ألف سنة، عبد فيها أتباع الإله "سين" آلهة القمر وبعدهم الزرادشتيون.
تحولت قصة أصحاب الكهف السجناء، العائشون في وهم الكهف والغائبون عن حقيقة العالم الخارجي، قبل الميلاد حوالي (500 ق.م) إلى قصة أصحاب الكهف العارفين بالله الأحرار والرافضين للظلم وعبادة غير الله بعد الميلاد بما يقارب الثلاثمائة سنة، هؤلاء كانوا "الفتية السبعة" عند المسيحية، الذين عارضوا الامبراطور الروماني "دقيانوس" في عبادة غير الله، إذ لجأوا هرباً من حكمه وظلمه إلى كهف في مدينة "أفسوس" بأناضول تركيا الحالية، وظلوا هناك مغطين في نومهم الأسطوري لما يقارب المائتي سنة (250-446 ب.م)، غير مدركين ما يحصل في الخارج، ليصحوا من نومهم بعد ذلك ويصبحوا عبرة للمشككين بالقيامة بعد الموت في عهد الامبراطور "ثيودوس" المسيحي، فصاروا قديسين يخلد ذكراهم في الكنائس حتى عهدنا الحالي.
ولقصة هؤلاء في الكهف سرد مماثل إلى حد ما في القرآن عند المسلمين، "الفتية السبعة" الذين آمنوا بربهم وزادهم الله هدى، هربوا بجلدتهم من بطش قومهم الوثني ولجأوا إلى الكهف برقيم الأردن، إذ أدخلهم الله في النوم راقدين، هيئتهم بعد طول البقاء فيه نائمين يوحي بالرعب، بعد أن اختلف المؤمنون على عدد الفتية وطول بقائهم في الكهف، فمنهم من عدهم ثلاثة ورابعهم كلبهم ومنهم من اعتبرهم خمسة وسادسهم كلبهم أو سبعة وثامنهم كلبهم، في حين أن الله حسم مدة بقائهم في الكهف على إنها كانت لفترة الثلاثمائة وتسع سنين، وكما كان الأمر عند المسيحية، فقد بقي ذكراهم خالداً عند المسلمين لحد الآن. هكذا، نرى أن الكهف كانت ملاذاً وملجأً وحامياً لهؤلاء الفتية وبعثاً لهم في الوقت نفسه من الموت، وكأنه بعث جديد للإنسانية.
لكن الإسلام غطى الكهف بلباس أكثر قداسة من خلال ربطه بنبيه في بدايات تحوله من إنسان مشكك لما جبل عليه قومه إلى نبي ورسول، وحتى منذ بدء دعوته إلى الدين الجديد، وكأن الكهف لا ينفك يعبر عن البداية والنهاية أو اللانهاية عموماً، فكان يخلو إلى كهف "حراء" بمكة قبل البعثة، يتأمل ويفكر في عبادة قومه وغير مقتنع بعبادة الأوثان، فهيأ له الكهف الظروف والأرضية الصلبة للوحي من عند الله، وأضحى نقطة انطلاقٍ له وعلامة فارقة لفض العباءة القديمة ولبس الهالة العرفانية النورانية الجديدة والوعي الشفاف والالهام الزاخر بالإيمان والصراط القويم. أما في بداية الدعوة واشتداد الأمر من جراء تألب قريش عليه، اضطر كرة أخرى إلى الفرار واللجوء إلى الكهف، هو وصاحبه، فكان الكهف هنا حامياً وملاذاً من جور وجهل الكفار ونصرة له عليهم:
(ثان اثنين إذ هما في الغار، إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا)
عندها أنزل الله سكينته عليهما وأرسل إليهم جنوداً غير مرئيين، وبذلك حماهما الكهف بشروط ربانية ليس بمقدور خارج الكهف المكشوف، العلن، غير المستور والمحمي توفيرها لهم.
وطوال فترة تعبد الناس لله والمسيح، كان الكهف خلوة للنساك والرهبان والصالحين المشمئزين من حال العباد، الهاربين من دنس الأعمال وعبث وجور الحكام، الراجين للنقاء الروحي والاتحاد النوراني مع المعبود، وهم بذلك مقرين أن العش الأول للإنسانية، والذي هو الكهف، هو ما سيقدم الخلاص والطمأنينة أو ربما هو المكان الوحيد الذي يجب على الانسان أن يبحث عن فطرته التي فطره الله عليها منذ بدايات وجود الانسان على الأرض.
في عصر الحضارة والتمدن والتكنولوجيا الفائقة، أبى الكهف إلاَ أن يبقى في المشهد وإن اختلف دوره عما سبق، فمن مخبأ للأشقياء وقطاع الطرق واللصوص والمتجرين بالمحرمات والإرهابيين في الآونة الأخيرة، إلى ملجأ وقاعدة ومركز قيادة للثوار وحركات التحرر القومية. إن كان الكهف في الحالة الأولى يمثل وكراً للشر، لكن في إطار الطبيعة المحمية والملاذ والملجأ للكهف، ففي الحالة الثانية كان نقطة الانطلاق لتغيير الأوضاع المزرية في الخارج من الأسوأ إلى الأحسن، من الجور والظلم إلى الحرية والعدالة، من هدم الأوطان إلى بناءها، من الجهل إلى النور، من الوهم إلى الحقيقة. ولعل أبرز ما يمثل هذا التحول العميق في رمزية الكهف، هو الثورات الكوردية المتعاقبة في معظم أجزاء بلاد الكورد، وكانت الحركة التحررية الكوردية الذي قادها "الملا مصطفى البارزاني" في ستينيات القرن المنصرم قد عاشت مع الكهوف أفضل مراحل مجدها وهي تمثل كل ما سبق.
كانت هذه قصة الكهف، عشَنا ومسكننا وملجأنا ومكان دفننا الأول، سكينتنا وحامينا ومهد أفكارنا الأولى، مكان تزكية النفوس وتطهير الأرواح كمقدس روحاني، موطن الانسان الأول البدائي بدناً وروحاً، الساعي إلى الخروج منه ومن الجهل والوهم والظلام إلى المعرفة والحقيقة والنور، لكن في أحلك الأوقات والأزمان والظروف وجده الانسان المخلِص والبعث والقيامة من جديد، لتكون دوماً تمثل علامة اللانهاية ∞، ومن يدري ربما سنضطر إلى اللجوء والاحتماء به مرة أخرى في نهاية الزمان ودمار الأوطان والأديان والنفوس، فتعود إليه بريقه الأول ونعود إلى حضن الأم الحنون التي ولدتنا من غياهب المجهول، حينها قد نصرخ سوياً:
"كلنا من الكهف وإلى الكهف نعود".



#دلشاد_محمود_صالح (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قصة الانسان مع الكهف


المزيد.....




- إسبانيا: رئيس الوزراء بيدرو سانشيز يفكر في الاستقالة بعد تحق ...
- السودان: متى تنتهي الحرب المنسية؟
- كأس الاتحاد الأفريقي: كاف يقرر هزم اتحاد الجزائر 3-صفر بعد - ...
- كتائب القسام تعلن إيقاع قوتين إسرائيليتين في كمينيْن بالمغرا ...
- خبير عسكري: عودة العمليات في النصيرات تهدف لتأمين ممر نتساري ...
- شاهد.. قناص قسامي يصيب ضابطا إسرائيليا ويفر رفاقه هاربين
- أبرز تطورات اليوم الـ201 من الحرب الإسرائيلية على غزة
- أساتذة قانون تونسيون يطالبون بإطلاق سراح موقوفين
- الإفراج عن 18 موقوفا إثر وقفة تضامنية بالقاهرة مع غزة والسود ...
- الى الأمام العدد 206


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - دلشاد محمود صالح - قصة الانسان مع الكهف