أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - محمد الهادي عمري - التمييز العنصري: من التبرير النظري إلى سياقات تصريفه















المزيد.....



التمييز العنصري: من التبرير النظري إلى سياقات تصريفه


محمد الهادي عمري

الحوار المتمدن-العدد: 7201 - 2022 / 3 / 25 - 00:41
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


« ستكفّ كلاب إفريقيا عن النّباح إذا ما تنفّست هواءنا »
فرانسيس جالتون
مقدّمة
لم يكن ممكنًا لفرانسيس جالتون Francis Galton تصريف أعراض حقد كلماته ومزاعم تفوّق حضارته لَوْ لم تكن ثقافته سليلةَ تاريخٍ طويلٍ، أحداثه لاتزال أشباحها تتردّد في الأركان المظلمةِ للكنيسةِ، وعلى جدران أروقة الموت. تاريخٌ عميقٌ يقوله الصّمت السحيق للمقابر الجماعية الشّاهدة على فضاعة الجرائم والانتهاكات الواسعة والبشعة لحقوق الأفراد والأقلّيات والأجناس والأعراق. لم يكن ممكنًا لمن تقوده نزعته العنصرية المُنفلتة أن يضع قواعدَ لعلم "تحسين النّسل Eugenics اليوجينيا"، ولا أن يضع آليات التحكّم في السلالة البشرية للحدّ من تناسل أولئك الذين يعتبرهم لا يستحقّون الحياة كأصحاب البَشْرة السوداء. لم يكن متاحًا أن يمضي إلى عَماه لو لم يجد في تراثه النّظري والفلسفي أرضًا خصبةً وخلفية تبريرية لاشاعة أفكاره المائتة.
يتجنّب الكثيرون ربط نشأة العقلانية الغربية بأنظمة العنف والسّلب والميز التي بات إرثها اليوم مرئيًا بضوحٍ فارقٍ، ونحن حينما نكشف عبر النصوص عن المناطق المظلمة لعصر الأنوار لا نكون، ولن نكون في موضع عنصريّة مضادّة باتجاه الغرب، وإنّما حسبنا، ههنا، أن لا نقرأ التاريخ بأعينٍ ذائلةٍ، وأن لا نتحدّث عن ماضي الانسانية –الذي هو ماضينا- بشفاهٍ متلعثمة، أملاً في بناء مُقبلٍ à-venirيُخلّص حاضر الإنسان من ماضيه اللاّإنساني. حين نتحدّث عن عنصريّة البيض، فلسنا نُعمّم، وإنّما نتحدّث عن فئةٍ من البيض تمكّنت يدها الطولى من القرار السّلطوي والمعرفي، فلا أحد يُنكر مقاومات البيض أنفسهم لهذه الظاهرة، وصفحات التّاريخ العالمي للكفاح ضدّ كلّ أشكال التمييز تُؤكّد تشابك الأيادي الملوّنة في المسار النضالي المشترك والطويل. لقد سبق وأن أشار أنطونيو نغري إلى أنّ حركة التنوير في أوروبا اخترقها خطّان فلسفيان متضادّان: خطٌّ تبريري محافظٌ تقوده إيديولوجيا السوق الصّاعدة وفكرةُ تفوّق الرّجل الأبيض، وخطُّ مقاومة الماضي اللاّإنساني الذي تواصله الحداثة تحت راية العقل والعقلانية .
عمومًا، في ورقة العمل هذه، سنعمل على التوقّف عند ثلاث لحظات لبلورة المشكل الذي نحن بصدد التفكير فيه: في مستوى أوّل، سنكشف عن بعض الأسس الفلسفية والعلمية التي مثّلت مسوّغات خلفية لتبرير ظاهرة التمييز العنصري. وفي المستوى الثاني سننظر في الفجوة بين الرّهانات النظرية للمواثيق والقوانين ومآلاتها العملية في علاقتها بالسياقات الجديدة للتمييز العنصري التي أفرزت وجوهها امبراطورية العولمة اليوم، وأخيرًا سنذهب باتجاه أفقٍ إتيقي لبناء مشتركنا الإنساني وإجتراح مسالكَ وسبلٍ لتضييق ما أمكن من دائرة أشكال الميز حتّى لا نقول القضاء عليها.
I - الأسس الفلسفية والعلمية للتمييز العنصري
قد يكون تاريخ العبودية الحديثة هو الحقل الأكثر وضوحًا ودقّة لاستكشاف هذه العلاقة العضوية والحميمة بين الحداثة والنّزعة الاستعمارية كما بين الحداثة والجمهورية والملكَيّة، فعبوديّة السّود وتجارة العبيد هي العناصر الأساسية والمرتكز المتين للحكومات الجمهورية في أوروبا وأمريكا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وحتّى الكمّ الهائل من "النّصوص الجمهورية" في تلك الحقبة والتي اعتبرت العبودية فكرةً نقيضًا للحرّية والعدالة كانت في الحقيقة كتابات بورجوازية موارِبة ومُلتوية، إذْ تُشير عمومًا إلى العبودية القديمة وتبقى عمياء إزاء بشاعة عبودية عصرها، الأمر الذي دفع نغري إلى التأكيد في مواقعَ متعدّدةٍ وبأكثرَ من معنى أنّ « العبودية هي فضيحة للجمهورية » ذاتها، إنّ علاقة العبودية بالجمهورية تُمكّننا من أن لا ننظر إلى عنصرية الحداثة اليوم كإيديولوجيا بسيطة لنسق الممارسات المادّية والصّناعية، بل على الفكر أن يتلقّاها كبنية سلطة تذهب فيما أبعد من المؤسّسات العبودية وهذه الأشكال الجديدة من الاستعباد ليست علامة على عدم اكتمال الحداثة مثلما ذهب إلى ذلك يورغن هابرماس ولكّنها تُشير بالعكس إلى العلاقة التي لا تنفصم بين النزّعة العرقية والحداثة، فالنزّعة العرقية كما العبودية لها وظيفة تأسيسية، ولا يتعلّق الأمر إطلاقًا بتبادل المواقع وإنّما الحداثة والاستعمار والعنصرية هي آلات سلطوية تشتغل معًا وبطريقة مركّبة بحيث تعمل الآلات الثلاث متعاضدة وفي نفس الوقت تُستعمَل كلّ واحدة كمرتكزٍ ضروريٍ للبقيةِ.
لن نذهب جنيالوجيًا بعيدًا في تناول مسألة العبودية والتمييز العنصري، التي هي أقدم من أيّ ذاكرةٍ، وإنّما اخترنا أن نتعقّب ارتباطها بالفكر الغربي منذ محاولات التنوير الأولى في نهاية القرن السادس عشر وصولاً إلى بعض تيّاراته المعاصرة، وحسبنا أن نبدأ أوّلاً في تعقّب المسألة في محاضنها التي تبلورت فيها. لكّن قبل ذلك سنتوقّف سريعًا عند الحدّ الدّلالي لهذا المفهوم المركّب، ويُمكننا تعريف التمييز العنصري على أنّه تلك الأفكار والأفعال والمعتقدات والممارسات التي تُتيح لفردٍ أو عرقٍ أو إثنيةٍ ما انتهاك حقوق الآخر أو الإساءة إليه مادّيًا ومعنويًا أو النظر إليه وتحديد موقعه دونيًا انطلاقًا من صفاته البيولوجية أو ثقافته أو معتقده أو مظهره الخارجي بما في ذلك لون بَشْرته. وورد في المادّة الأولى من الاتفاقية الدّولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري: « يُقصد بتعبير "التمييز العنصري" أيُّ تمييزٍ أو إستثناءٍ أو تقييدٍ أو تفصيلٍ يقوم على أساس العرق أو اللّون أو النّسب أو الأصل القومي أو الإثني ويستهدف أو يستتبع تعطيل أو عرقلة الاعتراف بحقوق الإنسان والحرّيات الأساسية أو التّمتع بها أو ممارستها على قدم المساواة في الميدان السّياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي أو الثقافي أو في أيّ ميدانٍ آخر من ميادين الحياة العامّة » . هذه الاحالات الدّلالية تُؤكّد أنّ حقوق الإنسان يتمتّع بها جميع النّاس، وهي ليست منّة تمنحها الدّول، بل هي متأصّلة في طبيعة البشر كيفما كانت أجناسهم أو نوعهم الإجتماعي أو أصولهم القومية أو العرقية أو لونهم أو دينهم أو لغتهم، وهي حقوق تمتدّ من الحقّ في الحياة لتصل إلى الحقوق التي تجعل الحياة جديرةً بأن تُعاش، وبصيغة أدقّ، هي حقوق كونية لا تتجزّأ وغير قابلة للتصرّف ولا يجوز التنازل عنها أو حرمان أيّ شخصٍ منها إلاّ في حالات محدّدة تتعلّق بإدانة قضائية. تقتضي جذرية فهم هذه الظّاهرة واجتراح سُبل مواجهتها أن لا نتوقّف عند هذه التعريفات، ولا ينبغي كذلك أن تحجب عنّا حزمة المواثيق والاعلانات والقوانين التي تُجرّم التمييز العنصري دون أن نفتح النّوافذ الخلفية لتاريخٍ آخر/صامت/مسكوت عنه، تاريخُ صراع طويل بين حداثة ادّعت الأنوار وحداثة مضادّة وُلدت من رحمها وقادت مسارات التنوير الحقيقية. عبر ممرّات هذا الصّراع سنحاور بعض المواقف الفلسفية والعلمية حول مسألة التمييز العنصري.
تعود العنصرية وأشكال التمييز جميعها إلى تلك التبريرات النّظرية التي صاغتها الحداثة الغربية، فالعنصرية تبلورت في البداية كبنيةٍ ذهنيةٍ وفكريةٍ، وتصيّرت فيما بعد سلوكًا إجتماعيًا وفعلاً لا أخلاقيًا. وبعض المصادر التي أسّست لفلسفة التمييز العرقي في أوروبا تجد دعائمها في كتابات ومواقف عددٍ من الأنواريين الذين توهّموا أنّ الحياة تقوم على تضادّ وتناحر الأجناس البشرية، ليتمّ تصنيف البشر وتقسيمهم بحسب نظرية الانتخاب الطبيعي ومقولات التقدّم/التخلّف، وهو ما خلق مناخًا لاحتضان النّزعات العنصرية المتشدّدة. يُخفي الفكر الحداثي وراء مقولات المساواة والعدالة والحرّية مواضعات التقسيمات العنصرية وتصنيفات البشر انطلاقًا من العرق أو الجنس أو اللون، ومتابعة نصوص كانط Emmanuel Kant 1724-1804 المهجورة تُساعدنا بشكلٍ كبيرٍ في فهم كيف تطوّرت الفلسفة العرقية في التقاليد الغربية للعنصرية، والغريب أنّ النقاد وعموم المنشغلين بتاريخ الفلسفة لم ينتبهوا إلى مؤلّفات كانط الحاملة لأفكاره العنصرية ونظرياته العرقية، والغريب أنّ كانط لم يُغادر إطلاقًا المدينة البروسية التي ولد بها "كوينزبيرغ" Konigsberg والتي تُعرف اليوم بــــ Kaliningrad فكيف له أن يُكوّن أثروبولوجيًا تلك الصورة الدّونية للأعراق الأخرى ؟ هل يكون دافيد هيوم David Hume 1711-1776 الذي أيقظ كانط من سباته الدّغمائي هو نفسه من دفعه إلى أن يسلك هذه الوِجهة العنصرية؟
يقول كانط في كتابه "ملاحظات" حيث يُشير إلى هيوم ويستعيده كحجّة معرفية: « إنّ زنوج القارّة الافريقية لا يملكون إحساسًا يدفعهم للارتقاء فوق التفاهة والوضاعة » ، وفي ذات الصفحة يتحدّث عن الفوارق بين البيض والسود ليقول بصيغة لا تخلو من مغالطة « يظهر الفرقُ الكبيرُ بوضوحٍ في تفاوت القدرات العقلية بقدر ما هو واضح في لون البَشْرة »، وكأنّ ملكة العقل عند غير البيض ناقصة، بل يمضي إلى أكثر من ذلك معتبرًا السود مجرّد خدمٍ وعبيدٍ يُمكن ترويضهم عبر التعذيب الجسدي. مثل هذه الأفكار ساهمت جدّيًا في قيام ما يُسمّى بالمركزية الغربية التي تزعم أنّ العرق الأبيض بطبيعته هو العرق الوحيد الذي يحوز على كلّية العقل والثقافة، وهو وحده من يستحقّ الدراسة. لم تأخذ فلسفة كانط العرقية نفس القدر من الشهرة والاهتمام الذي عرفته فلسفته الأخلاقية باستثناء بعض الدّراسات نذكر منها على سبيل المثال أعمال إيمانويل إيز Emmanuel Eze وميل تشارلز Mills Charles الذي رأى أنّ مفهوم "الهويّة البشرية" عند كانط مرادفٌ للرّجل الأبيض في حين أنّ مفهوم "الإنسان الثانوي" مرادفٌ للنّساء وكلّ الأعراق الأخرى، لينتهي إلى أنّ أفكار كانط العنصرية مثّلت صورة على مزاعم تمركز العقل الغربي وتفوّقه.
رغم ما قدّمه كانط من اضافات في تاريخ الفكر الفلسفي، فإنّه بقي واحدًا من أهمّ المفكّرين الذين صنّفوا الأعراق على أساس اللّون، ذلك أنّ لون البَشْرة عنده يُمثّل العاملَ الفارقَ الذي يُحدّد موقع العرق ومنزلته، والإنسانية تتجلّى في شكلها الأمثل في العرق الأبيض، بل أصحاب البَشْرة البيضاء هم أكثر الأنواع ذكاءً وإقتدارًا حضاريًا، ثمّ أصحاب البشرة الصفراء، فالسود، وفي أسفل الهرم العرقي يضع "الهنود الحمر" الذين نعتهم بكونهم أسوأ الأجناس وأقلّهم تطوّرًا وذكاءً. هكذا يضع كانط هرمًا عرقيًا متدرّجًا على قاعدة اللّون ، واستنتاجاته لم تكن حصيلة بحوث أثروبولوجية، بل توصّل إليها عبر اطلاعه على منشورات وتقارير رحلات المستكشفين والتجّار والمبشِّرين حول الأعراق الأخرى.
لقد نشأت الأشكال الحديثة للتمييز العنصري عندما وصل الرّجل الأبيض إلى أمريكا "العالم الجديد" التي أرسى فيها بَعْدَ غزو إفريقيا نظام تجارة الرقّ والعبودية، لذلك كان من الطبيعي أن تُكرّس الحداثة الغربية، التي كان كانط واحدًا من طلائعها، النّزعة الفوقية البيضاء، وأن تُنتج فلاسفتها ومنظّريها الذين يُؤدلجون ويُدافعون عن تفوّق ثقافتها عبر الذرائع والنظريات الاجتماعية والأثروبولوجية لتبرير التمييز وتعزيز أشكاله ليتحوّل إلى ثقافة مهيمِنة تخترق طبقات الوعي الجمعي. لقد تمّ العمل على تبرير التمييز العنصري فلسفيًا لتثبيته فيما بعد إجتماعيًا وسياسيًا، فالكثير من فلاسفة "التنوير" بنوا مواقفهم العنصرية على فرضية "التخلّف البنيوي" لثقافات الشعوب غير الأوروبية ، وكذا الشأن عند بعض الفلاسفة المعاصرين، فقد مثّلت كتاباتهم أرضية خصبة لبعض مؤوّليها لاقصاء الضعفاء والمرضى أو لابادة الآخر المختلف ثقافيًا وعرقيًا، واللّحظة النيتشية والهيدغرية مثال حيّ على أثر هذه الأفكار، فالأولى مثّلت مصدر إلهام للنّازية والثانية تورّط صاحبها مع هتلر ابّان صعود هذه الحركة في ثلاثينات القرن الماضي .
تزامنت مع هذه التصوّرات الفلسفية الحديثة محاولات تأكيدها في المجال العلمي، فتشارلز داروين Charles Darwin 1809-1886 الذي طوّر في كتابه "أصل الأنواع" نظرية النشوء والارتقاء في التعاقب الجيولوجي للكائنات العضوية، ورغم رفضه القاطع للعبودية وتقسيم البشر بحسب أجناسهم، فإنّ بعض المفكّرين استخدم وبتأويل سيّءٍ فكرة الانتقاء الطبيعي كحجّةٍ لتبرير أطروحاتهم العنصرية، لتتحوّل الداروينية لاحقًا إلى سلاحٍ نظريٍ لتبرير فكرة التفوّق، وليشهد العالم أحداثًا وصراعات عرقية موغلة في التوحّش كالمذابح الجماعية والتهجير القسري والتجويع. ويُعتبر فرنسيس جالتون Francis Galton 1822-1911 هو من صاغ بشكلٍ نهائيٍ نظرية تحسين النّسل/اليوجينيا Eugenics ، ففي سنة 1883 اقترح هذا الرّجل فكرة تحسين التركيب الجيني للبشر، مدشّنًا بذلك ما سوف يُصطلح عليه لاحقًا بالداروينية الإجتماعية المرتبطة بالضبط البيولوجي للسلالات البشرية والمنطلقة من مبدأ عدم المساواة بما هو قانون طبيعي لا يُمكن انكاره. لقد حاول جالتون تطبيق قوانين الانتقاء الطبيعي على الإنسان لتحسين الخصائص الوراثية للبيض في محاولةٍ لتطويع العلم من أجل منح فرصةٍ أفضل للسلالة البيضاء التي يعتبرها الأصلح بيولوجيًا للتناسل والاستمرار، لأنّ الأعراق الأخرى في نظره مجرّد انحرافات لمسار التطوّر الطبيعي. هذه الأفكار مثّلت حقلاً مؤلمًا نمت فيه بذور التمييز الجنسي والعرقي والديني واللّوني، هذه الأفكار شرّعت أخلاقيًا للعبودية والاستعمار، فالهندسة الوراثية بوصفها نظرية عنصرية عند جالتون وأتباعه شكّلت محضنة خلفية وقاعدة للحركات العنصرية في أوروبا الأمس واليوم. تلك هي، إذًا، حالُ زمن التأسيس الحداثي لثقافة التمييز العرقي في المجال العلمي والتي ستتواصل مع آرثر دي غوبينو Arthur De Gobineau 1816-1882 الذي ذهب إلى أنّ اختلاط الأعراق وتزاوجها هو سبب انحطاط الحضارات وانهيارها معتبرًا أنّ العرق محرّك التاريخ، أو مع عالم الأنثروبولوجيا الألماني يوجين فيشر 1874-1967 Eugen Fischer الذي نظّر لتعقيم المرضى والقتل الرّحيم لذوي الاحتياجات الخصوصية. في كلمة، لم تكن تطبيقات ومباحث الهندسة الوراثية بريئة من أشكال التوظيف الإيديولوجي التي لا تزال فاعلة وعاملة إلى اليوم وإن بصيغٍ مقنّعة ومواربة أحيانًا، يقول أنطونيو نغري: « خلف الهندسة الوراثية وخلف السّلوك الشيطاني المخيف للسّلطة يُوجد اليوم مشروع تقسيم العمل بواسطة "خطوط لونية" و/أو إثنية ترمي إلى أن يقع تطبيقها ضمن الاقتصاد المعولم الذي يسجن حركة العمال في شبكات الإستغلال » .
هذا الطريق الملتوي للفكر الغربي لا يمنعنا من الاعتراف بالمحاولات الغربية-وهي كثيرة- التي خلخلت أوهام النّقاء والتمييز العرقي، عديدةٌ هي الكتابات الفلسفية والابستيمولوجية التي أكّدت على وحدة النّوع الإنساني وبيّنت أنّ الاختلافات بين البشر لا علاقة لها بمسألة العرق، وإنّما أسبابها معقّدة يتداخل فيها الجغرافي والمناخي وأساليب الإنتاج والموروث الجيني وغيرها من الأسباب، ويعتبر كلود ليفي ستراوس Claude Lévi-Strauss 1908-2009 واحدًا من الذين كشفوا زيف نظرية تفاضل الأعراق، وفنّدوا قناعة أولئك الذين يخلطون بين الوضع الثقافي لجماعة بشرية وأصلها العرقي.
II – الضجيج الحقوقي والسياقات الجديدة للتمييز العنصري
« ينبغي أن يكون للقانون سلطةٌ على البشر وليس للبشر سلطة على القانون » ، ليست القوانين، من الزاوية الفلسفية والسياسية، مجرّد قواعد تشريعية فحسب، ولا هي أيضًا تلك الضوابط التي تُنظّم علاقات النّاس، بل هي تلك البيئة المناسبة لرعاية كرامة الإنسان أو إنتهاكها. علينا أن نُميّز بين ضجيج القوانين والصّمت المتعمّد إزاء عدم أو سوء تطبيقها حتّى لا تتّسع الهوّة بين ما تقوله وما تسكت عنه، بين ما تعلنه وما يُمارس على أرض الواقع، والدّليل على ذلك أنّ الانتهاكات الواسعة والبشعة لحقوق الأفراد وحرّياتهم الأساسية تُوجد أكثر في البلدان التي تزعم أنّ لها جذورًا ضاربة في الديمقراطية، فالأفكار الأساسية التي جعلت أمريكا معقلاً للحركات العنصرية تعود إلى النظام الإجتماعي الذي يُعيد إنتاج مشاعر التعصّب والتفوّق بأشكالها ومضامينها ومستوياتها المتعدّدة عبر التنشئة ونظم التربية الموجّهة بثقافة الفصل العرقي واللّوني ورفض الآخر المختلف. القوانين لا تمنع الجريمة، القوانين موجودة لأنّ الجريمة موجودة أو يتوقّع المشرّع حدوثها، ومفاهيم الحرّية والمساواة وقبول الآخر ليست مجرّد نصوصٍ وتشريعات قانونية أو شعارات سياسية، وإنّما هي، أوّلاً وقبل كلّ شيءٍ، تربيةٌ وتنشئةٌ وثقافةٌ نحملها في طيّات اللّغة والأفعال لأنّ سياسات الموت من قبيل العنصرية أو كره الأجانب Xénophobie حينما تسود داخل المجتمعات فإنّها تسحق المقتضيات الأخلاقية للذّات. يُقال أنّ توماس جيفرسون Tomas Jefferson 1743-1826 أحد الآباء الأوّلين/المؤسّسين للولايات المتحدة الأمريكية ممّن صاغوا وثيقة الاستقلال التي رفعت شعار المساواة للجميع، والذي وقّع كذلك سنة 1807 قانونًا يمنع جلب العبيد إلى أمريكا، كان وقتها يستعبد حشودًا من السود في مزارعه. كثيرة هي الأمثلة والمفارقات، وقد لا يتّسع المقام لذكر الدّول والجمهوريات الديمقراطية التي أقامت صروح دساتيرها وتشريعاتها واتفاقاتها الدّولية على مناهضة التمييز العنصري، لكن رغم تجريمها لهذه الظاهرة قانونيًا فإنّها تسكت عن الانتهاكات، وتتورّط أحيانًا حكوماتها في ممارسة أبشع وأقذر ألوان التمييز وصنوف العزل والفصل باتّجاه أفراد بعينهم أو حتّى جماعات. هذه الحلقة المكسورة بين الحبر السائل للقوانين وضروب دَوْسِه تضع ما أسماه مذ زمنٍ بعيدٍ توماس هوبس بـــ"العلم المدني" موضع سؤال.
إنّ مبدأ عدم التمييز يقتضي تجاوز حدود المساواة القانونية في دلالتها المطلقة والجامدة نحو اجراءات وتدابير تضمن تفعيل هذه المساواة على أرض الواقع، وإن كنّا نعلم أنّ المساواة الإجتماعية مسألة إشكالية أعقد من المساواة السياسية التي تقوم على مبدأ مساواة البشر جميعًا أمام القانون، فإنّ البعد السياسي يبقى رأس المشكل، فنحن نُدرك، فيما توفّر لنا من ثقافة حقوقية، أنّه لا يُمكن حماية حقوق الأفراد وحرّياتهم الأساسية، وتوفير الضمانات الكافية لها إلاّ في ظلّ شيوع مبدأ سيادة القانون- وجود القانون غير كافٍ- فمبدأ المساواة الإجتماعية هو الأصل في وجود كافّة أنواع الحقوق والحرّيات، وهذا المبدأ لا يتجسّد بوجود القوانين وإنّما بسيادتها، إذ المساواة من حيث الأساس تعني عدم التمييز بين الأفراد في الحقوق والواجبات لأيّ سببٍ كان باعتبارهم يُولدون متساوين بالطبيعة . « إنّ كلّ النّاس سواسية أمام القانون ولهم الحقّ في التّمتع بحمايةٍ متكافئةٍ منه دون أيّ تفرقةٍ، كما أنّ لهم جميعًا الحقَّ في حمايةٍ متساويةٍ ضدّ أيّ تمييزٍ يُخلّ بهذا الإعلان وضدّ أيّ تحريضٍ على تمييزٍ كهذا » . بالرّغم من أنّ القانون الدولي يُقرّ هذه الحقوق، ويُلزم الدّول باتّخاذ التدابير ووضع الآليات اللاّزمة لتحقيق ممارستها وحمايتها، إلاّ أنّ الواقع يشهد العديد من القيود والعراقيل التي تفرضها هذه الدّول لتقييد هذه الحقوق، وهو أمرٌ يُذكّرنا بما كان قد ذهب إليه الأنجليزي جون أوستن John Austin 1790-1859 حينما اعتبر أنّ ما يُطلق عليه قانون دولي إنّما هو مجرّد أخلاق دولية وضعية تفتقر إلى الصّفة القانونية الالزامية ولا يترتّب عن مخالفتها أيّ مسؤولية قانونية.
لقد اعتمد القانون الدّولي في بداية تشكّله على مجموعة من الوسائل والآليات لحماية حقوق الإنسان أهمّها "التّدخل الإنساني" بهدف الرقابة على تمتّع الأفراد بحقوقهم وحمايتها من إخلال الدّول بها، وغالبًا ما كان هذا "التّدخل الإنساني" يُستخدم لأغراضٍ تُخفي وراءها مطامع سياسية خاصّة ، كما عرف القانون الدولي نظام حماية الأقلّيات كوسيلة تُحرّكها أهدافٌ سياسيةٌ ومطامعٌ توسّعيةٌ استعماريةٌ، ليشهد فيما بعد صيغة المعاهدات والاتفاقات التي أكّدت جميعها على ضرورة الاعتراف لكلّ النّساء على اختلافهنّ بالحماية المتساوية مع الرّجل . هذه الأجيال المتعاقبة من القوانين بقيت عاجزة أمام حربائية سياسات التمييز الفردية والحكومية التي تُغيّر مفاعيلها ومراكز دوائرها في كلّ آنٍ وحينٍ. قد يعترض البعض، فيقول أنّ المشكل لا يتعلّق بالجهاز القانوني في حدّ ذاته، بل بعَرَج القضاء، ربّما هناك بعض الوجاهة في هذا الاعتراض، فنظريًا القضاء هو الحارس الطبيعي للحقوق والحرّيات، وسيادة القوانين تبقى مرتبطة ارتباطًا لا فكاك منه بمبدأ إستقلال القضاء على اعتباره فعلًا يُمارس وِفقًا لحقّ المواطنة بغضّ النظر عن الجنس أو العرق أو اللّون، لكنّ القضاء بما هو الفعل الأخير-لا بمعنى المتأخّر- الذي يُكرّس سيادة القانون على أرض الواقع، فإنّ الفعل الذي له لا يستهدف الجميع بذات المكيال، فهو غير معزول عن صراع القوى المتنفّذة ماليًا وسياسيًا سواءً داخل سيادة الدّولة أو خارجها، في كلمة، القضاء ليس مستقلّا ولا محايدًا ولا ناجزًا ولا فعّالاً.
لم تستهدف القوانين الأسباب الحقيقية للجريمة، وكذا الأمر بالنسبة للتمييز العنصري، بل هي في الغالب نصوصٌ تُعالج نتائجه وآثاره السلبية، فليس ثمّة أدنى شكٍّ في أنّ سياسة التمييز العنصري سياسة ثابتة منتظمة ومبرمجة ومنتشرة في مختلف قارات العالم، وما الضجيج الحقوقي والجدل الواسع وكثرة الهيئات والمنظّمات والجمعيات المحلية وما فوق قومية إلاّ دليلٌ على أنّ الأزمة أزمة مسارٍ بدأ مع الحداثة، وما انفكّ يتعقّد مع القضايا الجديدة والأشكال المعاصرة للعنصرية التي يطرحها العصر اليوم في علاقة بالمهاجرين والعمالة وتقسيم السّكان ونزع الملكية والعمل القسري واضطهاد الأشخاص بسبب أفكارهم ومنع الحركة وتصاريح المرور وقضايا النسوية والتعقيم القسري وتحكّم رجال الصناعة في مستقبل الإنسانية من خلال التّدخل في المخزون الوراثي للبشر وتحويله إلى مجرّد ملكية صناعية خاضعة لقوانين السوق، فتقنيات التحويل الوراثي أصبحت قابلة للاستخدام في أغراض مناقضة لمطامح الإنسانية.
كلّ هذه الأشكال تمّ تجريمها غير أنّها مازالت موجودة تقف وراءها دولٌ بحالها إمّا لتبريرها أو تعزيزها في ظلّ إمبراطورية العولمة الجديدة التي أفرزت وجوهًا أخرى من المقهورين والمستعبدين وعديمي الهويّة والجنسية والإقامة في وضعٍ ما بعد حداثي يتميّز بتداخل وتشابك الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والثقافي، وهذا النظام الإمبراطوري الجديد لا يكتفي بتنظيم التفاعلات بين البشر، بل يسعى إلى التحكّم بالطبيعة البشرية وهو ما يُؤكّد أنّ الإمبراطورية تُمثّل الصيغة النموذجية للسّلطة الحيويّة التي تُعيد إنتاج التمييز الاجتماعي والسياسي حتّى وإن اقتضى ذلك تعميم حالات الطوارئ والاستثناء والتمييز القانوني. الإنتاج اليوم غادر أسوار المصنع لأنّ المجتمع نفسه أصبح مصنعًا لإنتاج ذاتيات مستلَبة في شبكات سلطوية منظّمة من خلال مراقبة الجموع وتدجينها وتحييدها وفصلها وعزلها عن الحياة السياسية وإيهامها بالحماية الأمنية، إنتهاءً إلى خلق أشكال ذاتية جديدة تتزاحم في مسرح الإنتاج الاجتماعي والتي اختزلها أنطونيو نغري في أربعة أشكالٍ أساسية : هي الذّاتيات المَدينة Les subjectivités endettées والذّاتيات المؤعلمة Les subjectivités médiatisées والذّاتيات المُؤمّنة Les subjectivités sécurisées والذّاتيات المُنابة Les subjectivités représentées .
III – الأفق الإتيقي لبناء المشترك الإنساني
إنّ كارثية هذه المخاطر هي ما يسمح بالتعاطي مع الإتيقا كمسألة تقع في صلب علاقتنا بالغير، أي كمفتاح لتدبير حقوقنا وحقوق الآخرين، وتثبيت كرامتنا عبر تأكيدها عند الآخر. الإتيقا التي نقصد هي تلك التي بها سنُغيّر أشكال المقاومة ونُبدّل استراتيجيات المواجهة التقليدية للظواهر اللّاإنسانية، فالعنصرية ليست فقط تلك النّزوعات العدوانية التي تتجلّى معنويًا ومادّيًا لتخترق الإنساني فينا، وإنّما هي أيضًا تلك المشاعر والأحاسيس، وما يُكتب على الجدران، وما تُظهره العيون وتُخفيه اللّغة، وما تحمله الأجساد من أوشامٍ وندوبٍ، وما ترشح به الصيرورة من صراعات دامية بين الإنسان والإنسان. كلّ ذكرى كفاحٍ ضدّ العنصرية وما جاورها هي شعلةُ أملٍ لتحفيزنا لإختراع السُبل للقضاء عليها. قد تكون الإتيقا هي سبيلنا لبناء عقولٍ جديدةٍ تُعيد رسم خرائط التربية والتنشئة الإجتماعية والبرامج التعليمية حتّى نُواجه العنصرية ولا نُحلّق فوقها بواسطة قوانين مجرّدة. الفعل الإتيقي الذي نعنيه، ههنا، هو ما لم يَخْب يومًا في النّضال والمقاومة، فإذا كان واقع العلاقات بين البشر يحكمه السّواد، وإذا كانت صرخات ضحايا العنصرية لا تزال تتردّد في تاريخنا المعاصر، وإذا كانت أنياب ماضي التمييز تمتدّ في الحاضر، فإنّ مسؤوليتنا تتضاعف و« ليست المسؤولية في الوعي بما يتعيّن عليّ فعله فحسب، إنّها بالمثل وعيٌ بارتباطي مع الآخر وما ينتظره منّي » ، تلك هي المسؤولية الفاتحة لإمكانات حرّيتنا وتحرّرنا في أقاصي الاعتراف بالآخر. ينبغي أن لا نُفوّت على أنفسنا بناء إتيقا وسياسة في حجم أزمنتنا، فوحده الخطاب الإتيقي يطرح نفسه اليوم كاستجابة لتداعيات اللّحظة التاريخية وافرازاتها الخطيرة. الإتيقا تُخاطب دائمًا القضايا العظيمة انطلاقًا من الذّات، وتُظهر أفعالنا كتشكّلٍ مبدعٍ للرّغبة المشتركة في الحبّ والمساواة والتضامن، وهي لا ترى في الفكر غير اضطلاعٍ بالمسؤولية والفعل الجماعي في الوجود المشترك. الإتيقا هي المجال الذي تنكشف فيه الذّات مع الآخرين، وهي الفعل الذي يُجدّد باستمرار الحرّية أيّا كانت التناقضات والصّراعات. الإتيقا التي بها سنواجه العنصرية هي التي عبرها نرسم أخلاقيات وآداب سلوكٍ تُجذّر وجود البشر في العالم حتّى وإن كان هذا العالم مُعتلّا بأمراضه وأمراض الإنسانية. لكّن الفعل الإتيقي لا يتحقّق من غير وعيٍ تحرّري، يدفع النّاس، كلّ النّاس دون تمييزٍ إلى تأسيس تاريخٍ متشابكٍ/مشتركٍ عبره يعودون إلى عالم الحياة، فأن نكون أحرارًا لا يعني فحسب أن نُحرّر أيادينا من القيود، بل أن نُحرّر الآخرين أيضًا، وأن نُدرك أنّ الحرّية تُضيئها دائمًا المسؤولية. الحرّية هي التي تُحدّد ما يمكن أن يكونه الكائن، ووحدها تسمح له بالذّهاب إلى ما وراء الهويّات المغلقة، فالإنسان يرغب أن يكون كثرةً من العلاقات، ولا يحتمل أن يكون وحيدًا، لذلك فالمشترك لا يجب أن يُفهم بصفته هويّةً ولا أصلاً ولا مرجعًا، لأنّ « الإتيقا من حيث المبدأ هي إتيقا الآخر، إنّها انفتاحٌ رئيسٌ على الغير يُخضع الهويّة إلى الاختلاف » . ويُجذّر الآخر بوصفه حدثًا إتيقيًا يتجلّى في المشترك. الإتيقا هي ما يجعل الإنسان يُجدّد علاقته بذاته وبالآخرين والعالم، والكفاحية والبناء المشترك للنّضال ضدّ العنصرية هي العناصر الأساسية للإتيقا، فالممارسة التي تحمل إتيقاها قبل الفعل هي أيضًا تحمل النقد سلاحًا، وتمنحنا إمكانًا حقيقيًا لتخريب مواقع أشباح التمييز العرقي التي اخترعها العقل الحداثي وحصّنتها ايديولوجيته. الإتيقا مثلما قرأها نغري عند سبينوزا هي مشروع « نواة فكرٍ مخرّبٍ » لتلك المواقع، وهي سبيلنا للتعرّف على السّلاسل الخفيّة للميز العنصري وتحليلها وتحطيمها ومن ثمّة التحرّر من قيودها.
حينما نذهب إلى الإتيقا فنحن نفتح بابًا ضيّقًا لكنّه مُؤدٍّ إلى تفاؤليةٍ مفرطةٍ بالقوّة المادّية للعقل الإنساني، وبالرّغبة التي تتصيّر تضامنًا وحبًّا سياسيًا، إذ المحبّة والتعاطف والألفة واحترام الآخر هي طرقٌ وكيفيات وجودٍ متميّزة معها تنفتح إمكانات وآفاق فيها تنفجر طاقات الفعل الإنساني ضدّ الانغلاق وأشكال الإستلاب، المحبّة والتعاطف لا يُشيران إلاّ إلى إرادةٍ تأبى أن تخبو أو أن يهدّها الوَهن والارتكاس، ففيما تتعرّض أشكال نضالية قديمة للتراجع ثمّة مواقع وأشكال جديدة تظهر للوجود عبر الإتيقا، أشكالٌ إبداعية يَبنيها الرّفض والفعل المقاوِم بما هما التأكيد الايجابي للوجود الطافح حياةً وأملاً. هذه الإتيقا التي ندفع بها لتغيير النّسيج الإجتماعي للقناعات والأفكار، هي التي تَبني القيم من الأسفل وتُحوّلها وفقًا لإيقاع المشترك، وهي التي تُشكّل الشروط المادّية لتحقّق الحرّية التي لا تعني شيئًا آخر غير هذه الخاصّية العميقة التي تجعل من الفعل فعلاً ممكنًا لتجديد الوجود الإنساني، وأكثر من ذلك هي التي تجعل الأفعال تتعيّن ككيفيّة مادّية للكينونة حيث ديمقراطية الصّراعات هي الشكل الوحيد المعقول للحرّية والمساواة.
الإتيقا هي ما يجعلنا نعتقد في المقبل وفي الإقتدار المبدع للإنسانية الذي يذهب في اتّجاه الحرّية لا بما هي مسألة نظرية وتجربة باطنية تخصّ أنا فردية أو جماعية، وإنّما بما هي تجربة إنسانية وحركة جماعية عبرها يُهدم الخوف ويتحققّ الأمن للجميع، فالحرّية تُولد في شبكة والشبكة دائمًا شبكة الروابط الإنسانية، وإذا كان ثمّة أفق للحرّية غير ما تُبشّر به الليبرالية الجديدة، وثمّة أفقٌ للخلاص من العنصرية، فلابدّ لنا من كسب الأفق الأوّل وبناء الأفق الثّاني، ولا يمكن أن نكسب هذا الأفق أو أن نبني ذاك إلاّ عبر هذه الإتيقا الحاملة للأمل والإعتراف بأنّ الآفاق مفتوحة أو بالإمكان فتحها واختراعها، وبأنّ المقبل لن يكون إلاّ كما نُريده. يجب أن نفهم أنّ العودة إلى الإتيقا رهانها تحويل المبادئ الأخلاقية إلى قواعد سارية المفعول في البيت كما في الشارع، في المدرسة كما في العمل، في المؤسّسات كما في المجتمع، في الأذهان كما في الأعيان. العودة إلى الإتيقا رهانها ترسيخ قيم الديمقراطية والحوار والتسامح والتضامن العالمي، وما أحوجنا اليوم إلى تقليب صفحات علاقتنا بالآخر الإنساني حتّى لا يكون خطابنا في مواجهة العنصرية هو ذاته خطابٌ عنصريٌ، ما أحوجنا ككائنات حرّة أن نتدبّر فنّ العيش معًا L’Art de vivre-avec لتأسيس الوجود في المشترك L’Être en commun بعيدًا عن العنف والتعصّب والتعالي على الغير.
خاتمة
تبقى هذه المحاولة مجرّد مقاربة تمنحنا مفاتيح الاقتراب من إشكالية التمييز العنصري، ولسنا ندّعي الاحاطة أو الالمام بهذا الموضوع الشائك والمترامي الأطراف، وليس في مستطاعنا المعرفي أن نمرّ على كلّ الحقول التي يتحرّك فيها، بل كان همّنا الانتباه إلى التّاريخ وما يتشكّل فيه من انقطاعات وصراعات عرقية، وكذلك النظر إلى حاضرنا المحكوم بـــ« انضباطات مظلمة وصامتة وبكماء تعمل في الأعماق، في الظّلام وتُشكّل الأرضية التّحتية الخرساء للآلة الكبيرة للسّلطة » التي ترتكب في حقّنا أشنع الجرائم. ولا تزعم محاولتنا البحثية الانتهاء إلى نتائج نهائية بقدر ما سعت إلى توسيع دائرة الأسئلة المفتوحة على قضايا العنصرية والتمييز. وعَوْدٌ على بدءٍ، علينا أن نعمل على تحديد الصورة التي يتوجّب أن تكون عليها علاقتنا بالغير، وليكن الاختلاف إطار هذه الصورة الإنسانية، ليكن ما به نُواجه في مجتمعاتنا المشكلات الأخلاقية التي تُثيرها العبودية الجديدة، وليكن سؤالنا موجّه إلينا: هل استطعنا أن نُحرّر أنفسنا ممّا ترسّب من تعصّبٍ في سحيق موروثنا الثقافي « لا تشتري العبد إلاّ والعصا معه »؟ قد تكون بعض الأسئلة هي التي تفتح الأبواب الكبرى وقلّة هم أولئك الذين يتركون هذه الأبواب مُشرعة.



#محمد_الهادي_عمري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- التمييز العنصري: من التبرير النظري إلى سياقات تصريفه


المزيد.....




- ترامب: جامعة كولومبيا ارتكبت -خطأ فادحا- بإلغاء حضور الفصول ...
- عقوبات أميركية جديدة على إيران تستهدف منفذي هجمات سيبرانية
- واشنطن تدعو بغداد لحماية القوات الأميركية بعد هجومين جديدين ...
- رئيس الوزراء الفلسطيني يعلن حزمة إصلاحات جديدة
- الاحتلال يقتحم مناطق بالضفة ويشتبك مع فلسطينيين بالخليل
- تصاعد الاحتجاجات بجامعات أميركية للمطالبة بوقف العدوان على غ ...
- كوريا الشمالية: المساعدات الأمريكية لأوكرانيا لن توقف تقدم ا ...
- بيونغ يانغ: ساحة المعركة في أوكرانيا أضحت مقبرة لأسلحة الولا ...
- جنود الجيش الأوكراني يفككون مدافع -إم -777- الأمريكية
- العلماء الروس يحولون النفايات إلى أسمنت رخيص التكلفة


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - محمد الهادي عمري - التمييز العنصري: من التبرير النظري إلى سياقات تصريفه