أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - كيث روزنثيل - الإعاقة والثورة الروسية















المزيد.....



الإعاقة والثورة الروسية


كيث روزنثيل

الحوار المتمدن-العدد: 7155 - 2022 / 2 / 7 - 09:26
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


نشرت الورقة باللغة الانكليزية في مجلة الاشتراكية الأممية العدد 102 (شتاء 2016)



على الرغم من قلة الكتابات المتاحة المتناولة موضوع الإعاقة وخاصة في سياق الثورة الروسية في تشرين الأول/أكتوبر 1917، لكن قضايا الإعاقة برزت بشكل واضح فيها. وكما يظهر من المطالب المرفوعة والأدبيات المنتجة من الجماهير والأحزاب الثورية في السنوات التي سبقت الثورة، على ما يبدو كانت الإعاقة من العوامل المحفزة للثورة. فقد كانت الإعاقة من العناصر الأساسية في برنامج الحزب البلشفي ودعايته بين عامي 1903 و1917؛ بعد عام 1917، أجريت الكثير من الإصلاحات الاجتماعية من جانب الحكومة الثورية، والتي كانت بدورها ناتجة عن سياسات الإعاقة التي أثارها صراحة الجنود والعمال والفلاحين الثوريين.

وبسبب التشويهات الأيديولوجية الستالينية والرأسمالية والغربية، أخفي هذا الإرث أو جرى إهماله على نحو كبير. من دون شك أن مصير المعوقين بعد التحول إلى التصنيع الإجباري، التراكم الرأسمالي، واستغلال العمل المأجور في أواخر الـ 1920ات، اتبع النظام الروسي نفس المسار التاريخي القمعي الذي سارت به كل المجتمعات الصناعية الرأسمالية والصناعية الحديثة. مع ذلك، كما مثلت الستالينية نفياً للطابع التحرري والاشتراكي للثورة الروسية في سنواتها الأولى، كذلك شكّل تدهور أحوال المعوقين في ظل روسيا الستالينية نفياً للمكتسبات التي حققتها الثورة الروسية لهم.

كانت الثورة الروسية عام 1917 نقطة تحول في تاريخ الحركة الاشتراكية العالمية، وبالفعل، تاريخ البشرية. كانت المرة الأولى التي يتمكن فيها حزب ثوري مبني على أسس الماركسية- أي الحزب البلشفي- من قيادة غالبية الطبقة العاملة في الانتفاضة، متغلباً فيها على النظام السياسي للرأسماليين وأصحاب الأراضي، وتأسيس نظام حكم يقوم على الحكم الذاتي والديمقراطي للمستغلين والمضطهدين. (1)

في وقت كان مجال التغييرات التي حققتها الثورة البلشفية محدوداً بسبب الطبيعة المتخلفة على نحو كبير ولكن أيضاً الاقتصاد المحاصر دولياً، ورغم ذلك ما تحقق وقتها في روسيا الثورية هو مجتمع مضى بعيداً، حتى لا نقول أبعد، نحو التغلب على اضطهاد المعوقين من أي مجتمع آخر. بالإضافة إلى ذلك، يمكن القول إن هذا التاريخ هو دليل على المبدأ النابع من الماركسية القائل إن تحرر المعوقين مستحيل من دون تحرر الطبقة العاملة بأكملها، وتحرر كل الطبقة العاملة هو مستحيل من دون تحرر المعوقين. (2)

روسيا قبل الثورة

كان الاقتصاد في مطلع القرن الـ 20 زراعياً وفقيراً إلى حد بعيد، إلى جانب تنامي جيوب من الصناعات الرأسمالية. ما يقارب 80 بالمئة من السكان في الريف كانوا يتشكلون من صغار المزارعين، الذين يعملون عند أصحاب الاراضي شبه الإقطاعيين، في حين شكلت الطبقة العاملة في المدن، أو البروليتاريا، حوالي 15 بالمئة من السكان. ما كان حاصلاً هو رأسمالية بدائية، سيطرت عليها العلاقات الإقطاعية الماقبل-رأسمالية، وكل ذلك تحت وطأة اليد الاستبدادية للنظام القيصري. لم يتمتع الفلاحون والعمال بأي حق تقريباً، سواء في العمل أو في المنزل أو في المجتمع المدني، لو يتوفر أي جهاز لتقديم الخدمات العامة الأساسية كالصحة أو الضمان الاجتماعية أو تعويض البطالة.

في هذا السياق بدأ النضال الشعبي بالانتشار بين عامي 1900 و1905. في نهاية المطاف، رفع هذا النضال مطلب الإطاحة بالقيصرية كمطلب أساسي له، كما أثار كذلك مجموعة واسعة من المطالب الاقتصادية والاجتماعية في هذه السيرورة. وعلى الرغم من أن قمع انتفاضة عام 1905 قد حصل على نحو وحشي للغاية على يد النظام القيصري، لكن ذلك كان له تأثير عميق ومتجذر على المجتمع الروسي برمته. فالمطالب المرفوعة عام 1905، وكذلك أساليب التنظيم والنضال- السوفيتات والإضراب الجماهيري- سترفع بشكل أعمق وأقوى عام 1917.

بما خص قضية الإعاقة، كان لهذه المطالب والنضالات أهمية خاصة. إذ شملت تطوير نظام شامل للضمان الاجتماعي، وخاصة التأمين الشامل ضد العجز؛ والمطالبة بإصلاح وتوسيع نظام الرعاية غير الملائمة أبداً؛ والمطالبة بتحرير الطب النفسي من سطوة الدولة البوليسية القيصرية، إضافة إلى إلغاء تجريم الأمراض العقلية.

أخيراً، من الضروري بمكان استكشاف بشكل موجز قضية الديمقراطية وإدارة أماكن العمل كما انتشرت في الفترة التي سبقت ثورة عام 1917، وارتباطها ببعض الأسئلة الأساسية المتعلقة بالإعاقة.

النضال من أجل توفير ضمان الإعاقة

بحلول بداية القرن الـ 20، تزايد غضب الطبقة العاملة ضد الظروف التعسفية للانتاج الصناعي في روسيا. كانت الأمراض والإصابات المهنية سمة منتشرة وسط نظام صناعي ناشئ يتضمن آليات صناعية حديثة وسط عدد قليل من إجراءات السلامة أو الغائبة بشكل كلي. وما زاد الأمر سوءاً أن الدولة القيصرية والرأسماليين لم يوفرا نظاماً فعالاً للتأمين ضد الإعاقة أو توفير الضمان الاجتماعي.

رداً على ذلك، رفعت الحركة النقابية والاشتراكية غير الشرعيتين، وقتها، مطلب التأمين ضد الإعاقة والضمان الاجتماعي في صلب نضالهما. مع تزايد هذه الحركات، أرغم النظام القيصري على تقديم إدعاءات لحل المشكلة، وفي عام 1903 طرح مشروع للتأمين ضد الإعاقة. رغم ذلك، وبعيداً عن استرضاء الحركة العمالية، لم يؤدِ مشروع القيصر سوى إلى تأجيج غضب العمال وتزايدت راديكاليتهم لأنه لم يكن كافياً وغير عادل بشكل جلي.

في مقال نشر عام 1903 في جريدة ايسكرا، شرّح لينين مشروع قانون القيصر الذي كان يجبر “أصحاب الشركات على دفع تعويضات فقط عند فقدان قدرتهم على العمل بسبب الإصابات الجسدية الناجمة عن العمل داخل المؤسسة”، فضلاً عن إعفاء أصحاب العمل من مسؤوليتهم في الحالات التي تحصل فيها الإعاقة بسبب “أمراض سببتها ظروف عمل خطرة”. وأكمل لينين تحليله:

“أن أصحاب العمل قد يثبتون ليس فقط سوء نية الضحية نفسه، إنما أيضا “إهماله الجسيم، وغير المبرر خلال العمل”… “الإهمال الجسيم” أمر غامض لحد كبير ولا يمكن تحديده… لطالما اعتبر الرأسماليون، وسيبقون يعتبرون، أي “إهمال” من العمال جسيماً وغير مبرر، وسيكونون قادرين دوماً على إحضار عشرات الشهود و”المستشارين المستفيدين” من العمال لإثبات وجهة نظرهم (المستشار القانوني كذلك موجود وتدفع أجوره من المصنع نفسه!). إن كتابة هذه المسألة برمتها حول الإهمال الكبير في القانون هي تنازل كبير لتشجيع الشركات الصناعية على الربح: لا يعلق العامل في المكينة لأنه يحب ذلك، إنما دوماً عن طريق الخطأ، ولكن في الواقع، مهما كنت حذراً فإنك عندما تعمل لمدة 10 ساعات أو 11 ساعة في اليوم وسط آلات سيئة التجهيز، وسيئة الإضاءة، وسط الضجيج، مع الإنهاك الذهني بسبب العمل، وتزايد توتر الأعصاب بسبب التوتر المتزايد. وبما أن الأمر هو كذلك، فإن حرمان العامل المعوق من التعويض بسبب الإهمال الجسيم يعني عقاباً إضافياً لأنه سمح للرأسماليين باستغلالهم دون ضمير”. (3)

في نهاية الأمر، سحب القيصر مشروعه غير الشعبي في ظل انتفاضة عام 1905. ورغم ذلك، قدم مشروعاً آخر لقي دعماً رأسمالياً أكبر عام 1912. رداً على ذلك، تناول البلاشفة المسألة بشكل صريح في النسخة المنقحة والمحدثة من برنامجهم الحزبي. على النقيض من قانون الطبقة الحاكمة غير الكافي، طالب البلاشفة بأن يتضمن أي قانون في هذا المجال مجموعة من الإصلاحات المختلفة بشكل جذري وأكثر شمولية بكثير: أولاً، يجب أن يقدم المساعدة في كل حالات الإعاقة، من بينها كبر السن، والحوادث، والمرض، ووفاة الأقارب، بالإضافة إلى إعانات الأمومة والولادة. ثانياً، يجب أن تشمل كلاً من العمال وعائلاتهم. ثالثاً، يجب أن تكون التقديمات مساوية للأجور الكاملة ويجب أن يتحمل أصحاب العمل والدولة كل التكاليف. أخيراً، يجب وضع مؤسسات التأمين تحت الإدارة الديمقراطية الكاملة للعمال المشمولين بنظام الضمان. (4)

لم تتضمن النسخة النهائية من قانون الإعاقة الصادر عام 1912 الذي أصدرته الحكومة القيصرية أياً من المبادئ السابقة. وبقيت القضية غير محلولة في أذهان العمال، إلى أن عادت للظهور من جديد عام 1917 كدافع أساسي للثورة.

رعاية صحية

كانت القضية الأساسية الثانية والتي عبأت العمال في الفترة انتفاضة 1905 وثورة 1917 هي الحالة السيئة للرعاية الصحية في روسيا القيصرية. كانت البنية التحتية الطبية المتوفرة تقريباً محصورة بالأغنياء والطبقات العليا. ركّزت الميزانية الطبية القليلة للدولة القيصرية على تأمين العلاج الفردي لقاء دفع المال بدلاً من توفير الوقاية الاجتماعية الممولة من القطاع العام، مثل ضمان الظروف الصحية للجماهير مثل الإسكان والعمل والغذاء والمياه. وكنتيجة لذلك، عانت روسيا من انتشار الأوبئة مثل الكوليرا والتيفوئيد بحيث توفي مئات الآلاف، كما تفاقمت هذه الأزمة خلال الحرب العالمية الأولى.

من بين العمال والمهنيين في القطاع الصحي الحالي، كان العمال الصحيون والممرضون/ات هم الأكثر جذرية من الناحية السياسية والمؤيدين لبرنامج البلاشفة الرامي إلى تحقيق الرعاية الصحية المجانية والشاملة والمنظمة ديمقراطياً، أما الأطباء فمالوا إلى أن يكونوا أكثر تحفظاً وعداءً للبلاشفة. ورغم ذلك، حتى هذا الأمر بدأ بالتغير خلال وبعد انتفاضة 1905. فأصبحت مسألة الرعاية الصحية مسيسة بشكل كبير. مثلا، خلال مؤتمر الكوليرا الذي نظمه الأطباء عام 1905، مررت قرارات لدعم الثورة تدعو على وجه التحديد إلى الاقتراع العام، وتشكيل الحكومة التمثيلية، والحريات المدنية الأساسية. كما تزايدت أعداد الأطباء المنضوين في الاتحاد الراديكالي لمجمل الروس العاملين في المجال الصحي، والذي تكون في نهاية العام 1905، حيث استطاعت عصبة من الأطباء الماركسيين أن تكون مؤثرة أكثر من أي وقت مضى. (5)

تأثر عدد متزايد من الأطباء والمهنيين في القطاع الصحي بالحركة الجماهيرية للعمال والفلاحين، وباتوا الآن يتبنون وجهات نظر داعية إلى مساواة اجتماعية أكبر. فثورة 1905:

“جاءت حتى ترمز للدور الذي يمكن أن يلعبه الطب الوقائي والإصلاح الاجتماعي إذا أمكن اقتلاع مستقبل روسيا من يد النظام القيصري المشلولة… خرج الأطباء الماركسيون من ثورة 1905 بأدوات تحليلية ليس فقط كاملة إنما أيضاً أكثر وضوحاً. وقد كتب تحت اسم مستعار إي. م، اعتبر الطبيب البلشفي إي جي مونبليت أن أزمة الطب كانت مجرد جزء من أزمة أكبر لروسيا يحكمها “المئات السود” [أي أصحاب الأملاك الرجعيين المؤيدين للقيصرية]. خلال ذلك، بذل الطبيب ل. ب. غرانوفسكي جهوداً كبيرة لإثبات أن الرأسمالية المتقدمة هي المسؤولة عن انتشار السل، والإدمان على الكحول، والأمراض الجنسية في روسيا. (6)

بحلول العام 1917، تزايد عدد الأطباء الذين انضووا إلى الحزب البلشفي.

“مشاكل الصحة العامة للفقراء- التي يكمن حلها أبعد من الطب- جعلت الأطباء أكثر المجموعات الراديكالية بين الانتليجنسيا. بعد أن باتوا ينتقدون الحكومة تجاه الصحة العامة، أصبح العديد منهم ينتقدون النظام بحد ذاته. خلال الأحداث الثورية، لام الأطباء النظام القمعي في تدمير صحة السكان”. (7)

إذا كانت الصفوف العليا من مهنيي قطاع الطب تمر بمسارها الراديكالي، فقد كانت الحالة مضاعفة بين صفوف العاملين في القطاع الصحي في المستشفيات والقرى. فالفئة الأخيرة التي نالت دعماً كلامياً من الأطباء بما خص المطالب الديمقراطية في المجال السياسي خطت خطوة إلى الأمام مطالبة بالديمقراطية داخل المرافق والمؤسسات في النظام الصحي برمته. كما طالبوا بإخراج الرعاية الصحية من قبضة إداريين غير منتخبين، ووضعها عوضاً عن ذلك تحت سيطرة العمال والمرضى.

لخصت افتتاحية جريدة بلشفية عام 1910 هذا المزاج بشكل جيد: “الرعاية الصحية الحقيقية (إلى جانب تحقيق فكرة الإدارة الذاتية) لن تتحقق إلا عندما تنقل إلى أيدي أولئك الذين يعتبرون الموضوع مسألة حياة أو موت بشكل حرفي”.(8)

الطب النفسي والإعاقة العقلية

من المجالات الأساسية الأخرى التي كانت معبِّئة للحركة الثورية والدافعة لها، مجال الطب النفسي والإعاقة العقلية. قبل عام 1905، كان مسار الطب النفسي في روسيا متطابقاً مع ذاك الحاصل في أوروبا الرأسمالية [الأصح أوروبا الغربية]؛ حيث تزايد عدد المصحات وغيرها من المؤسسات المعالجة للإعاقات العقلية، والتي كانت على الأرجح أماكن لممارسة القمع والتعذيب أكثر من أي شيء آخر. فقد مارست الشرطة القيصرية سيطرة استبدادية على هذه المؤسسات واستعملتها كمقبرة حقيقية لكل “العناصر غير المرغوب فيها” والتي أرادت أن يبقوا معزولين عن المجتمع بأكمله كما عن بقية المساجين. وهذا شمل السجناء السياسيين والمشردين وصغار اللصوص، كما المصابين بأمراض وإعاقات عقلية. توقعت الشرطة من الأطباء النفسيين في هذه المؤسسات التصرف كحراس سجون أكثر من كونهم معالجين. (9)

مثل هذه الظروف البائسة في بداية القرن الـ 20 لاحظها وحللها بشكل جيد أحد الأطباء النفسيين الماركسين الأوائل في روسيا، بافيل ياكوبي. عام 1900. كتب ياكوبي كتاباً من 700 صفحة ضد حالة الطب النفسي بروسيا والتأثير المفسد الذي سببه صعود الرأسمالية عليه. وقد اعتبر بأنه مع تزايد أهمية علاقات الملكية البرجوازية، تغير المفهوم المهيمن لـ”الجنون” من رؤيته على أنه خاصيات حيادية إلى هذا الحد أو ذاك، إلى رؤيته يشكل تهديداً لما هو طبيعي (أي: الجالب للأرباح) بالنسبة إلى المجتمع والاقتصاد. اعتبر ياكوبي أن المصحات لا علاقة لها بمساعدة أو حماية المرضى فيه إنما هي مساعدة وحماية المجتمع منهم:

“بمجرد صياغة المسألة لناحية الدفاع عن المجتمع من هجوم المجانين، يمكن التمييز بين طرفين: المجتمع والمجانين. كأطباء نفسيين نمثل الفصيل المتقدم من المجتمع، والطليعة، ومتعقبي العدو، والمناوشين. كأطباء نفسين نطلق النار على المجانين. نبحث عنهم كما بحثوا عن مرضى الجذام في العصور الوسطى ونطلب من الإدارة اتخاذ إجراءات، ولكن عدم مساعدتهم. آه لا! نحن نطلب منها أن نحصل على الحماية منهم والأفضل “سجنهم”. كـ[الرهبان] الدومينيكان في العصور الوسطى، نتعقّب المهرطقين الفكريين، ومن دون تلكؤ نسلم هؤلاء المجرمين إلى السلطات”. (10)

تفاقمت ظاهرة الطب النفسي بوصفه شرطياً في روسيا بسبب أن القانون القيصري يجرم بشكل فعلي الأمراض والإعاقات العقلية. مثلاً، كانت محاولة الانتحار جريمة جزائية يمكن أن تؤدي بالناجي إلى السجن. (11) كذلك، أي شخص يعاني من مرض أو اضطراب عقلي اجتماعي من أي نوع، وقد جرى اتهامه بارتكاب أي جريمة، يمكن أن يسجن بشكل قانوني إلى أجل غير مسمى في إحدى مصحات القيصر. (12)

لعدة سنوات، لعب المتخصصون في الطب النفسي بروسيا دور المتواطئين مع هذه الفظائع. ولكن ذلك بدأ بالتغير بشكل جذري خلال ثورتي 1905 و1917. فجأة، وتحت تأثير الأحداث التحويلية التي جرت من حولهم، بدأ العديد من المختصين في الطب النفسي، ولأول مرة، بالتعبير علناً عن استهجانهم من الوضع. فقد رفضوا الاستمرار بالعمل كملحقين بالشرطة القيصرية. وأعلنوا أنهم يريدون مساعدة الناس وليس قمعهم.

بدأ العديد من الأطباء النفسين بالالتزام بفرضية ياكوبي القائلة بإن المشكلة لا تكمن بأولئك الموجودين بالمصحات إنما بالمجتمع نفسه خارجها. كما أعلنوا أن الاستبداد والقمع القيصريين على وجه التحديد، إلى جانب الفقر وانعدام المساواة والحرب التي لا تنتهي، هي العوامل الأساسية التي ساهمت بتدهور الصحة العقلية والنفسية للسكان.

كما أوضح أحد المؤرخين:

“كانت ثورة عام 1905 هي الحدث الذي بدّل بشكل جذري توجهات العديد من الأطباء النفسيين الروس. بمواجهة التحدي الحقيقي للاستقرار السياسي والاقتصادي، وجد الأطباء النفسيون أنفسهم يكرسون اهتماماً متزايداً للأسباب الخارجية التي اعتقدوا انها تسبب معدلات متزايدة من الوهن العصبي والهستيريا، وأشكالاً أخرى من الأمراض العقلية… من الواضح من المؤتمرات السنوية والمجلات الطبية أن الأطباء النفسيين، سواء كانوا ليبراليين أو محافظين، كانوا أكثر استعداداً لقبول الصلات بين الاضطرابات الاجتماعية والسياسية وعلم الأمراض العقلية مما كانوا عليه قبل العام 1905… كل الأطباء تحدثوا بشكل موحد ومتزايد عن القضايا الاجتماعية والسياسية. وفي صلب نقدهم… سجلوا اقتناعاً عميقاً بأن “منع التدهور الجسدي والنفسي للسكان يعتمد بشكل أساسي على الإصلاح السياسي والاقتصادي للحياة الروسية”.(13)

التجذر المستمر للمهنة انعكس لاحقاً بمعارضتها للحروب الامبريالية التي كانت الدولة القيصرية تشارك فيها- أولاً الحرب مع اليابان عام 1905 ولاحقاً في الحرب العالمية الأولى عام 1914. على عكس زملائهم الأوروبيين والأميركيين، قاوم الطب النفسي بأكثريته الساحقة محاولات الحكومة للضغط عليهم لخدمة الامبراطورية. على الصعيد الدولي، أصبح وباء “صدمة القذائف” أو “اضطراب الحرب” بين الجنود معترفاً به على نحو متزايد. مع ذلك، أكد الأطباء الأوروبيون، على الأقل أغلبهم، أن هذه الظاهرة لم يكن لها علاقة تذكر بالحرب الفعلية، إنما كانت “حرباً موازية لما يسمى الاضطراب التقاعدي وسط العمال العاطلين عن العمل”، بكلمات أخرى “ردود فعل نفسية- أو هيستيرية- لدى الرجال المرعوبين ضعيفي الإرادة، أو الكسولين”. (14)

في المقابل، رفض أغلب الأطباء النفسيين الروس- المتأثرين بجذوة الثورة ضد الحكومة التي كانت تشن الحرب- هذه الحجة. وبدلاً منها، أكدوا أنه “إلى جانب جروح الجنود، إن القذائف تشوه مشاعرهم وأرواحهم”، وأن الدور الوحيد للطبيب النفسي هو أن يشفي الأخير. الجنود الذين أظهروا عدم استعدادهم للقتال أو عدم قدرتهم عليه ليس “العيب” فيهم، إنما هم ضحايا الحكومة التي أرسلتهم ظلماً إلى الجبهات. (15)

فتزايدت العداوات بين النظام القيصري ومهنة الطب النفسي وباتت علنية وقمعية على نحو متزايد. مثلاً، خلال الاجتماع الافتتاحي عام 1911 للاتحاد الروسي للأطباء النفسيين والأخصائيين بالأمراض العصبية، تضمنت أغلب المداخلات نقداً قاسياً للحكومة لدرجة أن الشرطة أوقفت أعمال المؤتمر عقب جلسته الأولى فقط. (16) عام 1917، كما حصل عام 1905، راقب النظام بعناية الوضع المتفجر في المصحات العقلية في البلد: فلاحظت التقارير إلى أن المصحات قد سيطر عليها العمال والمرضى، الذين طردوا المسؤولين ورجال الشرطة. (17) عشية الثورة، “كان العديد من العاملين في المهنة قد بات معادياً للحكومة القيصرية بشكل علني. وأصبح العديد من مستشفيات الأمراض النفسية مركزاً للنشاط السياسي اليساري السري. وجرى طرد الأطباء النفسيين بشكل متزايد أو سجنهم أو نفيهم أو إقالتهم احتجاجاً على السياسات الحكومية”. (18)

الديمقراطية وإدارة أماكن العمل

الموضوع الأخير الذي ستتناوله هذه الورقة للحقبة السابقة للثورة هو النضال الجماهيري من أجل الديمقراطية وإدارة أماكن العمل. وخاصة، سيعالج مسألة توظيف وإيواء العمال المعوقين.

في المجتمعات الرأسمالية الحديثة، ثبت أن ادماج الأشخاص المعوقين في الاقتصاد الانتاجي أمر صعب تحقيقه. حتى الإصلاحات التشريعية التي لقيت ترحيباً كبيراً كقانون الأميركيين المعوقين عام 1990، الذي زُعِم أنه يهدف إلى زيادة توظيف المعوقين من خلال مطالبة أصحاب العمل بتوفير “تسهيلات معقولة” للعمال المعوقين، لم تؤد بشكل فعلي إلى أي تحسن في أرقام البطالة ضمن هذه الفئة. (19)

في الواقع، إن طبيعة علاقات الإنتاج في ظل الرأسمالية تجعل هذه المشكلة غير قابلة للحل داخل حدود النظام الرأسمالي، وبكل بساطة، ما يهم الطبقة الرأسمالية ليس استيعاب الطبقة العاملة إنما زيادة أرباحها عبر تكثيف الإنتاج. أصبح ذلك مضاعفاً عندما تعلق بالمعوقين الذين يراهم سوق العمل أقل إنتاجية (أي أقل ربحية) مقارنة مع زملائهم غير المعوقين (أو المنافسين).

ولذلك ارتبطت مسألة سلطة العمال وسيطرتهم على عملية الانتاج ارتباطاً وثيقاً بالنضال من أجل حقوق المعوقين. طول تاريخ الرأسمالية، كانت هذه الإجراءات التي أدخلت إلى أماكن العمل والتي تميل إلى وضع احتياجات العمال فوق الاعتبارات المجردة لتحقيق الأرباح والانتاجية هي تلك التي حصلت نتيجة للنضال الطبقي للعمال أنفسهم ضد الرأسماليين.

خلال الثورة الروسية، عبرت هذه الظاهرة عن نفسها ربما في أشكال أكثر تطوراً من أي مكان آخر في العالم. عام 1905 وكذلك عام 1917، طرحت الطبقة العاملة المكافحة والتي تزايدت ثقتها بنفسها مطالب أكثر راديكالية بهدف اقتلاع أساس ضعف العمال في أماكن العمل. مع ذلك، فقط بعد ثورة شباط/فبراير 1917- التي أسقط فيها القيصر واستبدل بحكومة مؤقتة يسيطر عليها الرأسماليون إلى جانب السوفيتات التي أقامها العمال في المدن والبلدات- تنامت الحركة من أجل السيطرة العمالية على الانتاج لتتحول إلى ظاهرة جماهيرية تعم البلاد. في كتابه، بتروغراد الحمراء: الثورة في المصانع، 1917-1918، وصف س. أ. سميث الديناميات في العاصمة:

“في 3 آذار/مارس كان كل شيء قد انتهى: تنازل القيصر وتحررت روسيا! ألهمت الإطاحة بأسرة رومانوف العمال المنتشين بالنصر. فعادوا إلى مصانعهم وقرروا أن النظام القديم سيطاح به في أماكن العمل، تماماً كما حصل في المجتمع ككل. فبدأوا بالعمل دفعة واحدة من خلال إلغاء عقود التوظيف القديمة، والأنظمة البالية، والقوائم السوداء… طالب عمال بتروغراد في كل مصانع المدينة بإقصاء كل الهرمية الإدارية التي جعلت حياتهم أكثر بؤساً”. (20)

خلال العام، اصبحت أشكال الإدارة العمالية والمطالب العمالية منتشرة على نطاق واسع أكثر من أي وقت مضى. فلنلقِ نظرة على بعض المطالب المرفوعة للإدارة من قبل 3000 عامل في مصنع تعديني في حزيران/يونيو عام 1917، والذي يمثل نموذجاً:

– إنشاء مساحة دائمة للجنة العمال بهدف عقد الاجتماعات فيها والمحاضرات والأنشطة الثقافية والتعليمية.

– تأمين تهوئة لكل الأماكن المغلقة والتي يحصل فيها أعمال انتاجية.

– توفير حمامات وغرف بخار للعمال/ات.

– في كل مراكز العمل ينبغي توفير كافيترات أو أماكن مغلقة ودافئة.

– أن تكون الحمامات أقرب ما يمكن من مكان العمل.

– توفير خزائن لملابس العمال.

– توفير المياه الساحنة في الورش التعدينية وورشات البناء، على العكس واقع الحال حيث هي بعيدة جداً ولا يمكن الوصول إليها بسبب طبيعة العمل المستمرة.

– يجب توفير الأدوية التي يصفها الأطباء المختصون من عيادة المصنع، وإذا لم تتوفر فيها، على المصنع أن يشتريها من صيدلي آخر.

كما تزايدت الخلافات حول انتاجية العمل، والتي كما ناقشنا سابقاً لها تأثير على العمال المعوقين، خلال الأشهر السابقة للثورة. طالب العمال وفرضوا بالقوة بشكل متزايد إلغاء الممارسات الإدارية الكثيرة الانتشار التي كانت تطرد أي عامل انخفضت انتاجيته نسبة للسنة السابقة. كما دعموا مطلباً شاملاً لتنفيذ جداول رواتب أكثر تكافؤاً مع مستويات المهارات المتعددة، وهو إصلاح له أهمية شديدة للعمال المعوقين الذين غالباً ما كانوا من القطاعات الأكثر تهميشاً والأقل أجراً والأدنى مهارة بين القوى العاملة.

من بين أمور أخرى، كان لهذه التدابير تأثير على فصل الأجور والتوظيف عن الانتاجية، بكلمات أخرى، جرى ضرب جذور الأعراف الاقتصادية الرأسمالية ومن ضمنها الحرمان الاقتصادي لفئة المعوقين. إن الصراع بين العمال وإدارة مصنع غوزون الفولاذي في موسكو خلال عام 1917 يظهر بشكل واضح هذه الظاهرة. وكما لاحظ كيفين مورفي:

“طوال العام 1917، أصبحت مطالب العمال أكثر شمولاً وتميزت بدعم القطاعات المهمشة من بين القوى العاملة. تركزت الشكاوى حول الأجور على الفارق بين العمال المهرة وغير المهرة. صوّت اجتماع الجمعية العامة لعمال المصنع، المنعقد يوم 23 نيسان/أبريل على ضرورة أن يرفض العمال المهرة معدلات الرواتب المرتفعة وأن يطالبوا بإعطاء هذه الأموال إلى العمال غير المهرة… كما خفّض انتاج المصنع. فغضب مدير المصنع من ذلك وطالبهم بالعمل، لكن العمال طردوه من المصنع بعد تهديده”. (22)

ردة فعل صاحب المصنع، لولي غوزون، لافتة لمدى وعيه الطبقي الرأسمالي، فأشار مورفي: “أصر غوزون على الحفاظ على التقسيم الطبقي للأجور، لأن رفع الأجور للعمال غير المهرة سيقوض أسس الانتاجية، وأن مستوى الأجور يجب أن يرتبط بشكل مباشر ودون أي تجزئة مع إنتاجية العامل”… رغم ذلك، كان العمال مهتمين بتحقيق المساواة الاقتصادية أكثر من اهتمامهم بالإجراءات اللوجيستية اللازمة لإدارة مشروع مربح… كانوا متحدين خلف مطلب جعل الأجور أكثر مساواة، والتي توفر “سبل العيش الكريم ليس فقط للعمال المهرة، إنما لكل العمال”. (23)

الإعاقة والتحرر الذاتي

إذا لخصنا مسألة الإعاقة لناحية ارتباطها بثورة 1917، ينبغي التأكيد على أن المعوقين في كل مكان قد شاركوا وساعدوا على تشكيل، ولعبوا دوراً قيادياً في كل التغييرات والاحتجاجات التي حصلت. كان المعوقون وكبار السن وعائلاتهم هم من وقفوا خلف الضغط الشعبي الشامل لتحقيق السلامة في مراكز العمل والتأمين ضد الإعاقة والضمان الاجتماعي. كما لعب المرضى والمعوقين دوراً أساسياً في النضال من أجل تأمين رعاية صحية مجانية وشاملة. وكان المصابون بإعاقات عقلية (وغير المصابين) داخل المصحات هم من أثّر بشكل راديكالي على مهنة الطب النفسي بشكل عام.

بعد اندلاع الحرب العالمية الأولى، لعب الجنود المعوقون والمحاربون القدامى دوراً حاسماً في السيرورة الثورية. في كتاب تاريخ الثورة الروسية، يصف ليون تروتسكي مشهداً في بداية عام 1917 يوضح كيفية انتشار الصراع الطبقي بين مختلف فئات المجتمع، من بينهم الجيش:

“في موسكو، في أحد المسارح، عقد اجتماع للمعوقين (24)، وجمع الجنود والضباط. بدأ حطيب مشلل بإلقاء اللوم على الضباط. فارتفعت أصوات المحتجين، وضربات أحذيتهم وعصيهم وعكازاتهم على الأرض. “كم كنت تهين، أيها الضابط، الجنود بالجلد والضرب؟” فوقف هؤلاء الجرحى والمصابون بالتروما والمشوهون كجدارين، الواحد بوجه الثاني. جنود مشلولون ضد الضباط المعوقين، الأغلبية ضد الأقلية، عكازات بوجه عكازات”.(25)

في شهر آب/أغسطس عام 1917، تعمق هذا الصراع داخل المعسكرات حيث ظهرت معارضة منظمة في أوساط المعوقين من صفوف الجيش. في مؤتمر رسمي عقدته الحكومة المؤقتة، تحدث معظم الحاضرين لصالح القائد الذي بات قريباً من تنفيذ محاولة انقلاب يمينية، الجنرال كورنيلوف. مع ذلك، لاحظ تروتسكي أن هذه المجموعة الأخيرة قد لقيت معارضة شديدة في مؤتمر “اتحاد روسيا للمحاربين المعوقين”، الذي تكون من الفلاحين والعمال، الذين تحدثوا لصالح سلطة الحكومة السوفياتية غير الرسمية، التي باتت خلال الأشهر التي تلت فبراير/شباط الأداة التي كانت الجماهير الروسية تتصارع بواسطتها على السلطة مقابل الطبقة الحاكمة المكونة من الرأسماليين وأصحاب الأراضي. (26)

بشكل عام، إن الحقيقة البسيطة هي أن أي حركة للطبقة العاملة والمضطهدة والدنيا ستميل إلى شمول في حراكها أعداد كبيرة من المعوقين كمشاركين خاصة لأن انعدام المساواة الرأسمالية جعلت من هذه الفئات الاجتماعية تعاني من الإعاقة على نحو مضاعف مقارنة مع الطبقات العليا والحاكمة (وبالعكس، الإصابة بالإعاقة يزيد من هشاشة المصاب لأن الوصول إلى الوظائف والإسكان والخدمات المدعومة كان مقيداً). (27) لذلك كانت سياسات الإعاقة عنصراً ليس مفصولاً عن نضال العمال إنما أكثر من ذلك عندما اتخذت تلك النضالات أبعاداً ثورية.

بالإضافة إلى ذلك، كما أثبتت الدراسات الحديثة في مجال دراسات الإعاقة المتزايدة، كان على كل مجموعة مضطهدة تناضل من أجل التحرر في العصر الحديث أن تواجه مسألة الإعاقة بشكل أو بآخر. سواء في حالة النساء، والسود، والمهاجرين والفقراء، فلطالما شككت بشرعية المطالبات التاريخية لهذه الفئات بتحقيق المساواة من خلال التذرع بعدم القدرة المفترضة وعدم أهليتهم بالمشاركة في الحكم الذاتية. بكلمات أخرى، تعرضوا لنوع من الإعاقة قياساً إلى المعايير العرقية والجندرية والطبقية المهيمنة. (28)

هذه الظاهرة لم تكن أقل من ذلك بالنسبة لطبقة العمال والفلاحين المضطهدين والمستغلين في روسيا الثورية. بررت الطبقة الحاكمة في روسيا- الحكم القيصري- والرأسماليون وأصحاب الأراضي- بدورها هيمنتها على العمال والجنود والفلاحين، من خلال الادعاء بأن هؤلاء كانوا أغبياء وأميين و”معوقين” جداً بعقولهم وأجسادهم- سواء بالوراثة أو الحوادث حتى يتمكنوا من إدارة المجتمع.

خلال الساعات الحاسمة من عام 1917، كان البلاشفة من لقيت أفكارهم صدى عند الجماهير المضطهدة في رفض هذا التعسف. منطلقين من الثروة والتكنولوجيا المتقدمة التي طورتها الرأسمالية (وإن كان ذلك من جانب واحد وبتكلفة بشرية كبيرة)، سعى البلاشفة إلى تحرير تحديداً تلك السمات المكبوتة التي تجعلنا أكثر إنسانية- القدرة على العمل معاً على نطاق واسع بما يتجاوز بكثير قدراتنا الفردية.

“نحن لسنا طوباويين” كتب لينين في تشرين الأول/أكتوبر عام 1917، عشية الثورة الثانية التي أطاحت بالحكومة المؤقتة ونقلت كل السلطة بأيدي السوفيتات.

“نحن نعلم أن العمال غير المهرة لا يمكنهم العثور على وظيفة في إدارة الدولة. في هذا نتفق مع [المنتقدين]. رغم ذلك، نحن نتعارض معهم لأننا نطالب بقطع حالي مع الأحكام المسبقة التي ترى أن الأغنياء لوحدهم أو المسؤولين المختارين من العائلات الغنية هم القادرون على إدارة الدولة، وإنجاز المهام الإدارية اليومية العادية. نحن نطالب بأن يحصل التدريب على أعمال إدارة الدولة”.(29)

بعد 16 عاماً كتب تروتسكي عن ذلك بعبارات أوضح:

“من سيصدق”، كتب جنرال قيصري مستهجناً بعد فترة قصيرة من الانتفاضة، مضيفاً “إن العتّال أو الحارس سيصبح فجأة رئيس محكمة، أو موظفاً في مستشفى، أو حلاقاً، أو عريفاً أو قائداً، وأن المياوم سيصبح رئيس بلدية، أن واضع الأقفال سيصبح مدير مصنع؟”. “من سيصدق ذلك؟” لكن كان لا بد من تصديقه. لم يكن عليهم سوى تصديق ذلك، عندما هزم العرفاء الجنرالات، وعندما تغلب رئيس البلدية- المياوم السابق- على مقاومة البيروقراطية القديمة، وعندما نظم مشحّم القطارات نظام النقل بكل دقة، وعندما بات واضع الأقفال منظماً للمعدات الصناعية. “من سيصدق كل ذلك” فليحاول أي شخص فقط ألا يحاول تصديق ذلك”. (30)

من الثورة إلى الثورة المضادة: الإعاقة والاتحاد السوفياتي من 1917-1927

عند نهاية تشرين الأول/أكتوبر 1917، حاز الحزب البلشفي على تأييد غالبية العمال والفلاحين داخل شبكة السوفيتات على مستوى البلاد ضمن برنامجهم للإطاحة بالحكومة المؤقتة. بعد الثورة مباشرة تقريباً، بدأ البلاشفة بإعادة روسيا برمتها. من المؤكد، أن طموحاتهم الكبيرة في هذه السنوات المتفائلة فاقت كثيراً الوسائل المحدودة للاقتصاد الروسي المتخلف الذي بات بيدهم. رغم ذلك، أملوا بانتشار الثورة في البلدان الرأسمالية المتطورة في أوروبا- وبذلك يحصلون على المساعدات الدولية المباشرة وفك الحصار الاقتصادي الذي فرضته الدول الرأسمالية نفسها- بدأ البلاشفة بإعادة تنظيم المجتمع باتجاه ثوري حقيقي.

أثرت الثورة على ثلاثة مجالات رئيسية تغييراً كبيراً بما خص موضوع الإعاقة: القانون والسياسة، الصحة والاقتصاد، والصحة والتعليم. (ملاحظة من المحرر: ستتناول هذه الورقة الجزء الأول، في حين أن القسم الثاني منها سيستعرض الجزئين الآخرين، [الذي ستنشر ترجمته خلال الأسابيع المقبلة- المترجم]).

القانون والسياسة

خلال السنوات الأربعة الأولى التي تلت الثورة، أصدر البلاشفة مجموعة من التشريعات التي قوننت تقريباً كل المطالب الأساسية المختصة بالإعاقة والتي رفعتها الحركات الشعبية خلال عقدين من الزمن. وقد تضمنت الأمور التالية:

– تقليص الحد الأقصى ليوم العمل ليصبح 8 ساعات لمعظم أنواع العمل، ومن 6 إلى 7 ساعات للبعض الآخر، فضلاً عن 4 إلى 6 ساعات للصناعات الأخطر.

– توفير إجازة أمومة بأجر كامل ورعاية الأطفال مجاناً لكل العاملات، لمدة شهرين قبل الولادة وشهرين بعدها.

– تغطية صحية شاملة لكل العمال تغطي كل أنواع الإعاقة، بغض النظر إذا كان أصل الإعاقة متصلاً بالعمل أم لا؛ تدار كل المؤسسات الضامنة من قبل المضمونين أنفسهم بشكل مباشر؛ تأمين حالات العجز المؤقت بتغطية جميع حالات العجز بأجر كامل.

– تكون تغطية الضمان الاجتماعي كاملة للجميع، مع تأمين معاشات حكومية لمن هم خارج القوى العاملة مؤقتاً أو بشكل دائم بسبب الإعاقة، والشيخوخة والمرض…، تحدد معاشات الضمان الاجتماعي وفق الأجور السائدة في منطقة معينة، بدلاً من الراتب السابق للفرد، أو حالة التوظيف أو مدتها، أو طبيعة الإعاقة.

– تأمين رعاية طبية مجانية وشاملة للكل، من بينها الأدوية المحددة بوصفة طبية، والأطراف الصناعية، والأجهزة المساعدة الأخرى، تكون كل المساعدات الطبية تحت رقابة المستفيدين، وبحيث تنتخب الهيئات الإدارية بشكل مباشر من العمال والمرض.

– إنشاء إدارات تفتيشية في مراكز العمل يختارها العمال، بهدف منع ومعالجة كل جوانب عملية الانتاج الخطرة وغير الآمنة.

– إعطاء الشرعية للاستيلاء الجماعي للفلاحين على الأراضي الإقطاعية السابقة وإعادة توزيعها، إضافة إلى الشرط التالي الذي أورده المرسوم المتعلق بالأرض: “في حالة العجز المؤقت لأي عضو من الكومونة القروية لمدة تصل إلى عامين، تلتزم الكومونة بمساعدته في هذه الفترة من خلال الزراعة الجماعية لأرضه حتى يصبح قادراً على الزراعة من جديد… كما ينال الفلاحون، الذين يعانون من إعاقة دائمة نتيجة الشيخوخة أو المرض وبالتالي غير القادرين على زرع الأرض بأنفسهم، معاشاً تقاعدياً من الدولة”. (31)

ربما ما كان الأكثر إثارة للاهتمام، ما لم يمكن مفاجئاً، أن مؤتمر السوفيتات في روسيا- أي أعلى هيئة تشريعية بروسيا في ذلك الوقت- سجّل من دون بهرجة احتفالية في سجلات التاريخ عام 1918 كأول حكومة في العالم (واحدة من ضمن عدد قليل من الحكومات حتى يومنا هذا) تصديقه على دستور اتحادي ينص بشكل واضح على الحقوق المدنية للمعوقين معترفاً بهم كجزء لا يتجزأ من المجتمع. (32)

على المستوى القانوني، ألغت الحكومة السوفياتية ما ورد في قانون العقوبات والنظام القضائي القيصريين، واستبدلته بآخر حيث ينتخب فيه ويعزل كل القضاة. (33) كما اتخذت إجراءات تحدّ من السلطة التسلطية للقاضي في قاعة المحكمة مقابل إعطاء وزن أكبر لعملية تداولية تشمل المعلمين والإختصاصيين الاجتماعيين والمعالجين النفسيين… (34)

أكثر من ذلك، في ظل النظام القضائي الجديد، لم يكن للقضاة أي سلطة على الإطلاق بما خص القضايا المتعلقة بالأطفال تحت الـ 18 سنة، والذين تتعامل معهم بشكل حصري عبر مفوضية التعليم أو الصحة العامة. لا يمكن سجن الأولاد سواء في السجون أو في مراكز حبس الأحداث، كما تسمى اليوم في الكثير من الدول (من بينها الولايات المتحدة). (35)

بما خص قانون العقوبات، توقف تجريم الانتحار والجنون، إنما باتا من الأمور التي تتطلب تدخلاً علاجياً اجتماعياً و/أو نفسياً. (36) أكثر من ذلك، في وقت كانت المحاكم القيصرية تعتبر الحالة النفسية للمتهم سبباً في التشدد في أحكامها التي كانت تصدرها، أظهر النظام القضائي الجديد منحىً متزايداً للتساهل مع من يعاني من إعاقة نفسية أو عقلية. (37)

كما أجريت إصلاحات قانونية أخرى تتعلق بإلغاء تجريم كل ما يتعلق بالإدمان والصحة الجنسية. الإدمان على الكحول، أو الإصابة بمرض عن طريق ممارسة الجنس، مثلا، لا يدل من الناحية الرسمية على أن ذلك هو فشل شخصي أو أخلاقي أو جنائي للفرد، إنما هو مرض اجتماعي يتطلب العلاج على المستوى الاجتماعي والعام. (38) هذه الإجراءات تتناقض بشكل كبير مع تلك التي حصلت في الولايات المتحدة، مثلا، عام 1920 لم يجرّم الإدمان على الكحول فحسب، إنما استمر كذلك بتجريم الأطباء والناشطين الموزعين لكتيبات تتضمن شروحات عن وسائل منع الحمل، والصحة الجنسية. (39)

عكست هذه الإصلاحات في قانون العقوبات اتجاهاً شاملاً ترسّخ داخل روسيا الثورية تمثل في تجنب الحلول البدنية لمجموعة من المشاكل الاجتماعية. مثلاً، فإذا كان المصابون بإعاقات نفسية لا يرمون في السجن، في الوقت عينه، لم يرسلوا إلى القاع الجماعي المتمثل بالمصحات العقلية أو مؤسسات الطب النفسي (كما كانت الممارسة شائعة في الدول الرأسمالية المتقدمة في أوروبا وأميركا). بدلاً من ذلك، تزايد عدد الأطباء النفسيين الروس الذين باتوا يرفضون ممارسة التمأسسية الشاملة لأنها غير فعالة وغير إنسانية. بدلاً من ذلك، كان من المفترض أن تحصل المعالجات ضمن البرامج المرتكزة على القرى في الأرياف وضمن مجموعة متنوعة من العيادات الخارجية في المدن. (40) على الرغم من وجود عوامل خففت من التمأسسية في روسيا (من بينها كان مروعاً، الحرب الأهلية والمجاعة التي قضت على أغلب المرضى والعاملين في تلك المراكز)، ولكن تشير التقديرات لعام 1923 أن عدد النزلاء في المصحات العقلية قد انخفض بنسبة 75 بالمئة مقارنة مع أرقامهم في روسيا قبل الثورة. (41)

ملحق: ملاحظة عن الحركة الثورية الروسية و”تحسين النسل”

منذ بداية القرن العشرين وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية، مارست حركة تحسين النسل تأثيراً كبيراً شمل السياسيين والمفكرين في الطبقة الحاكمة بأوروبا والولايات المتحدة. ارتكزت هذه الفلسفة على فكرة الهندسة العرقية والبيولوجية كوسيلة لـ”تطهير” مجموعة الجينات البشرية من العناصر التي يفترض أنها غير مرغوب بها (أي المعوقين، والجماعات العرقية “الأقل شأناً”…)، فقدمت هذه الحركة ما اعتبرتهم أكباش فداء لإنقاذ الطبقة الحاكمة الرأسمالية من الحروب والثورات والانهيار الاقتصادي التي تبدو غير قابلة للحل.

كل الناس تعلم اليوم عن تحسين النسل ليس بارتباطه بالنظام النازي الفاشي الذي حكم ألمانيا بين عامي 1933-1945. لكن، عدد قليل من الناس تعلم أنه خلال الـ 1920ات والـ 1930ات، اعتبر القادة النازيون صراحة أن هدفهم هو تطبيق ما اعتبروه ممارسات تحسين النسل الأكثر ابتكاراً وريادةً في الولايات المتحدة.

مع بداية عام 1907، أصدرت ولاية إنديانا قانوناً يشرع التعقيم القسري لـ”المجرمين والأغبياء والحمقى”. سرعان ما انتشرت هذه الممارسة في أنحاء البلد، ووصلت إلى ذروتها عام 1927 حين أكدت المحكمة العليا على شرعية التعقيم الإجباري. فبات مئات الآلاف من المعوقين والفقراء والأميركيين-الأفارقة وسواهم من الأقليات المضطهدة عرقياً ضحايا تحسين النسل التي نفذتها المؤسسات القانونية في 30 ولاية على الأقل، وكذلك من الحكومة الفيدرالية. (42)

على العكس من ذلك، كانت تلك الممارسات والفلسفات الداعية إلى تحسين النسل غائبة أو هامشية بشكل جلي في روسيا الثورية. يمكن ملاحظة بشكل واضح هذا التناقض في قوانين الهجرة بروسيا والولايات المتحدة في نهاية عام 1917. بالإضافة إلى إلغاء قانون العقوبات القيصري السابق، كما تخلصت الحكومة السوفياتية من كل قيود الهجرة التي كانت مفروضة، من ضمنها تلك المتعلقة بالإعاقة. كان الأساس الوحيد الذي وفقه كان يمكن الدخول إلى البلاد هو التزام المهاجر بدعم المجتمع الثوري الجديد والمشاركة في تنميته. (43) هذه السياسة كانت مميزة مقارنة مع الولايات المتحدة التي كان نظام الهجرة يحدد الأسباب المحتملة لمنع الدخول إليها: الصرع، ضعف العقل، نوبة جنون واحدة، الصمم، العمى، التشوه الجسدي، انحناء العامود الفقري، أمراض القلب، الربو، أي شخص يحكم عليه بأنه “مصاب عقلياً أو جسدياً، فإن هذا العيب العقلي أو الجسدي يكون من طبيعة يمكن أن تؤثر على قدرة المهاجر على كسب لقمة عيشه”. (44)

هذا لا يعني عدم وجود دعاة لتحسين النسل في روسيا. كانت الجمعية الروسية لتحسين النسل موجودة في البلد خلال الـ 1920ات، وضمت عدداً قليلاً من العلماء وعلماء الجينات وأكاديميين وعلماء الحيوانات. كما تلقت أموالاً من الدولة لإجراء بعض الدراسات النظرية. مع ذلك، من المهم الإفادة أنه وحتى 1928-32 على الأقل، كانت ما زالت حرية الأكاديميا والعلوم والفلسفة مقدسة من قبل الحكومة الثورية والشعب. ومنذ باتت الدولة تحتكر الأموال العامة بشكل فعلي، فإن كل المساعي الأكاديمية ستكون بشكل ما مرتبطة بالدولة. ولم تكن الدولة وقتذاك قد سيطرت سيطرة تامة على المواد التي يمكن مناقشتها في الجامعات ومجلات المجتمع المدني. وبالتالي، طالما أنها لم تصل إلى حد دعم الثورة المضادة، مثل تلك التنظيمات الفكرية المنظمة ذاتياً كجمعية تحسين النسل الروسية كان بإمكانها بسهولة نسبية الحصول على تمويل عام من الحكومة. (45)

بالإضافة إلى ذلك، الشكل الروسي من تحسين النسل كان فاتراً بشكل إيجابي مقارنة ازدهاره في أوروبا والولايات المتحدة في ذلك الوقت. رفضت الشخصيات والمجلات الروسية الأساسية بأغلبيتها الساحقة تحسين النسل “السلبي” المرتبط بـ”فكرة إنديانا”، أي التعقيم القسري. قدم المؤرخ مارك أدامز طرفة لهذا الأسر لناحية عدد القراءات والمقالات المنشورة عام 1923 من قبل م. ف. فولوتسكوي، المصر على أن “تطبيق برنامج التعقيم في روسيا”:

“اعتبر بأن قطع القناة الدافقة ليس إخصاءً؛ إذ كانت تعمل بشكل جيد في الولايات المتحدة؛ ومن الممكن اعتمادها على الفور؛ وأن نجاح البرنامج الأميركي سيحسن من دون شك النوعية البيولوجية للشعب الأميركي في المستقبل القريب. قوبل تأييد فولوتسكوي لتحسين النسل بمعارضة شديدة: فمراجعة كتابه التي أجراها فيليبتشينكو [يوري فيليبتشينكو، مؤسس الحركة الروسية لتحسين النسل] وغيره كانت بالكاد مؤيدة، في وقت كانت النقاشات حول التعقيم في اجتماعات تحديد النسل من لينينغراد إلى ساراتوف تقريباً معادية له بشكل جماعي”. (46)

في وقت فشل تحسين النسل “السلبي” في إيجاد مؤيدين له داخل حركة تحسين النسل الروسية، إلا أن ما يسمى بتحسين النسل “الإيجابي” الذي دعت إليه حركة تحسين النسل الروسية (أي التزاوج الانتقائي المراقب لمن لديهم مميزات “مرغوبة”) قد فشل تماماً في إيجاد مؤيدين له داخل المجتمع الروسي الثوري بشكل عام. وبحسب بعض المؤرخين، كان السبب وراء بقاء تحسين النسل قليل الأهمية في روسيا الثورية بشكل حصري كانت نتيجة “الانهيار السكاني”. فقد كتب المؤرخ مارك أدامز، على سبيل المثال: “بين عامي 1917 و1920، خسرت موسكو 49،6 بالمئة من سكانها، وبتروغراد 71 بالمئة منهم… كان التعقيم بكل بساطة غير مطروح: بسبب الواقع الاجتماعي، كان التصور السائد أن روسيا لا تحتاج إلى عدد أقل من الولادات، إنما تحتاج إلى الكثير منها”. (47)

المشكلة الأساسية لهذا التحليل الحتمي، أنه لا يستطيع تفسير الظواهر الأخرى التي تتعارض مع فرضيته. إذا كان الانهيار السكاني هو الدافع الوحيد وراء عدم شعبية تحسين النسل (أي، بكل بساطة قلة عدد الأطفال المولودين)، فما الذي يفسر شعبية القرارات الرسمية المشرعة للإجهاض في روسيا الثورية، حيث نزعت الصفة الجرمية عنه وأتيح مجاناً لكل النساء في كل الظروف؟ بالفعل، كانت الحملة الأولى لتحسين النسل الروسية، التي دافعت عنها من دون جدوى خلال الـ 1920ات، هي دعوتهم إلى إلغاء تشريع الإجهاض. (48)

يقوم التفسير الآخر والمقنع لتراجع تحسين النسل في روسيا الثورية على بعض العوامل الأخرى التالية: أولاً، على قدر ما بات قسم كبير من الشعب الروسي يتبنون المبادئ الماركسي، فإن هذه الأيديولوجية لا تتوافق إلى حد كبير مع مبادئ تحسين النسل. وكما يظهر من العدد الهائل من الحجج الموجهة ضد تحسين النسل في المجلات والمؤتمرات الأكاديمية الروسية طوال الـ 1920ات، يبدو أن الخلاف الأساسي رفض فكرة أن الجينات الجيدة الموروثة- على عكس من الظروف الاجتماعية والاقتصادية والتاريخية- تحدد السلوك البشري. بكلمات أخرى، لا يمكن أن تتحقق رفاهية البشر وتتحسن من خلال إعادة هيكلة الجينات الموجودة إنما بتغيير الظروف الاجتماعية القائمة بشكل راديكالي.

ثانياً، وكما ناقشنا سابقاً، بقدر ما كانت الثورة محافظة على طابعها الجماهيري والديمقراطي والطبقي، لم يكن لدى الشعب الذي كان متولياً زمام الأمور، إذا صح التعبير، أي اهتمام بالنظريات التي تطرح التفوق المتأصل (والموروث) لأي سلطة أرستقراطية جينية مفترضة. فالطبقة العاملة والفلاحية كانت قد أُخبِرت بأنها في أسفل الهرمية الاجتماعية لأنها مكونة من مواد أدنى. رغم ذلك، الآن وبعد أن أثبتوا بشكل واضح قوتهم وتقديرهم لذاتهم من خلال إسقاط النظام المسيطر بشكل جماعي، فإن هذه الطبقة الثورية من الناس- المؤلفة بشكل غير متناسب من المعوقين والمرضى أي من يسمون بـ”معذبي الأرض”- سيكون لديهم الأسباب الكافية، في نهاية الأمر، لرفض العلاج النخبوي للانتقاء الجيني الاصطناعي الذي يطرحه عدوهم الطبقي في كل أنحاء الأرض.

(الجزء الثاني من هذه الورقة سينشر خلال الأسابيع المقبلة- المترجم)

الهوامش:

For more on the Russian Revolution, see Leon Trotsky, History of the Russian Revolution (1932) John Reed, Ten Days That Shook The World (1919) Alexander Rabinowitch, The Bolsheviks Come to Power (Chicago: Haymarket Books, 2004).
Karl Marx makes this argument over the course of sections 3, 4, and 5 of chapter 25, “The General Law of Capitalist Accumulation,” in the first volume of Capital. Also see Marta Russell, “Disablement, Oppression, and the Political Economy,” Journal of Disability Policy Studies 12.2 (2001), and Roddy Slorach, A Very Capitalist Condition: A History and Politics of Disability (London: Bookmarks, 2015).
V. I. Lenin, “The Law on Compensation Payable to Workers Injured in Accidents,” Iskra, September 1, 1903, at Marxists Internet Archive, https://www.marxists.org. Also in Lenin, Collected Works, vol. 41 (Moscow: Progress Publishers, 1977), 99–100. The article was published about three weeks after the Russian Social Democratic Labor Party (RSDLP) split into Bolshevik and Menshevik factions at the party’s August 1903 Congress.
Vicente Navarro, Social Security and Medicine in the USSR: A Marxist Critique (Lexington, MA: D.C. Heath and Company, 1977), 7–8. The text of the party’s position can be found in Lenin, Collected Works, vol. 17 (Moscow: Progress Publishers, 1977), 475–77.
John F. Hutchinson, “‘Who Killed Cock Robin?’ An Inquiry into the Death of Zemstvo Medicine,” in Susan Gross Solomon and John F. Hutchinson, eds., Health and Society in Revolutionary Russia (Bloomington, IN: Indiana University Press, 1990), 6–8.
Ibid., 8.
Irina Sirotkina, “The Politics of Etiology: Shell Shock in the Russian Army, 1914–1918,” in Angela Brintlinger and Ilya Vinitsky, eds., Madness and the Mad in Russian Culture (Toronto: University of Toronto Press, 2007), 125.
Quoted in Neil B. Weissman, “Origins of Soviet Health Administration,” in Health and Society in Revolutionary Russia, 99.
Julie V. Brown, “Social Influences on Psychiatric Theory and Practice in Late Imperial Russia,” in Health and Society in Revolutionary Russia, 32.
Quoted in Julie V. Brown, “Psychiatrists and the State in Tsarist Russia,” in Stanley Cohen and Andrew Scull, eds., Social Control and the State: Historical and Comparative Essays (Oxford: M. Robertson, 1983), 278–279.
Kenneth Pinnow, “Lives Out of Balance: The ‘Possible World’ of Soviet Suicide during the 1920s,” in Madness and the Mad in Russian Culture, 130.
Brown, “Psychiatrists and the State,” 277.
Brown, “Social Influences,” 36, 42.
Sirotkina, 121.
Ibid., 118–119, 127.
Brown, “Psychiatrists and the State,” 279–283.
Brown, “Social Influences,” 38–39.
Ibid., 283.
Marta Russell and Ravi Malhotra, “Capitalism and Disability,” Socialist Register 38 (2002), 221.
S. A. Smith, Red Petrograd: Revolution in the Factories, 1917–1918 (New York: Cambridge University Press, 1983), 54.
Kevin Murphy, Revolution and Counterrevolution: Class Struggle in a Moscow Metal Factory (Chicago: Haymarket Books, 2007), 50–51.
Murphy, 47–48.
Ibid., 51.
“Invalid” was the official term used across Europe and the US at the time for the purpose of categorizing disabled soldiers.
Leon Trotsky, History of the Russian Revolution (Chicago: Haymarket Books, 2008), 187.
Ibid., 485.
Roddy Slorach, A Very Capitalist Condition: A History and Politics of Disability (London: Bookmarks, 2015), 150, 165–166.
Douglas C. Baynton, “Disability and the Justification of Inequality in American History,” in Lennard J. Davis, ed., The Disability Studies Reader 4th ed. (New York: Routledge, 2013), 16–33.
Lenin, “Can the Bolsheviks Retain State Power?” Prosveshcheniye No. 1–2, October 14, 1917, Marxists Internet Archive.
Trotsky, “In Defense of October,” The Militant , vol. 6, no. 3, January 21, 1933, Marxists Internet Archive.
Arthur Newsholme and John Adams Kingsbury, Red Medicine: Socialized Health in Soviet Russia (New York: Doubleday, 1933), 107 Arthur Ransome, Six Weeks in Russia in 1919 (London: George Allen & Unwin, 1919), 112–117 Navarro, 17–18 Health and Society in Revolutionary Russia, xi, 73, 93 Lenin, Materials Relating to the Revision of the Party Programme (Petrograd: Priboi Publishers, 1917), Marxists Internet Archive William McCagg and Lewis Siegelbaum, eds, The Disabled in the Soviet -union-: Past and Present, Theory and Practice (Pittsburgh: University of Pittsburgh Press, 1989), 78–79, 169 Lenin, “Report on Land Decree on Land,” Second All-Russia Congress of Soviets of Workers’ and Soldiers’ Deputies, Rabochy i Soldat, no. 9 & 10, October 26–27, 1917, Marxists Internet Archive.
Constitution of the Russian Soviet Federated Socialist Republic, ratified by the Fifth All-Russian Congress of Soviets, July 10, 1918, Marxists Internet Archive.
The relevant governmental decree of December 7, 1917 abolished all existing general legal institutions. Marcel Liebman, Leninism Under Lenin (London: Merlin Press, 1980), 326.
Madness and the Mad in Russian Culture, 13.
The Council of People’s Commissars, “Cases of Juveniles Accused of Socially Dangerous Acts,” Izvestia no. 51, March 6, 1920, cited in Lenin, “The Prosecution of Minors: Notes And Amendments to the Draft Decree,” March 4, 1920, Marxists Internet Archive N. Semashko, “The Work of the People’s Commissariat of Health,” Soviet Russia vol. 3 no. 2 (September 18, 1920), 276–279.
It should be noted, however, that the revised Soviet legal code of 1922 made it illegal to “instigate”´-or-coerce someone else into committing suicide (i.e., by placing them under conditions of persistent psychological duress, etc). Pinnow, 130–146.
Dan Healey, “Early Soviet Forensic Psychiatric Approaches to Sex Crime, 1917–1934,” Madness and the Mad in Russian Culture, 150-168.
Susan Gross Solomon, “Social Hygiene and Soviet Public Health, 1921-1930,” Health and Society in Revolutionary Russia, 175–189 Trotsky, Problems of Everyday Life (New York: Pathfinder Press, 1986), 175–176.
The eighteenth amendment to the US constitution concerned the prohibition of alcohol. On the criminalization of reproductive health, see Jennifer Latson, “Why Birth Control Pioneer Margaret Sanger Kept Getting Arrested,” TIME, October 16, 2015.
Madness and the Mad in Russian Culture, 287.
Ibid., 13.
Kim Nielsen, A Disability History of the United States (Boston: Beacon Press, 2012), 100–130.
Yuri Felshtinsky, “The Legal Foundations of the Immigration and Emigration Policy of the USSR, 1917–27,” Soviet Studies vol. 34, no. 3 (July, 1982), 327–348.
Baynton, 25–28.
Mark Adams, “Eugenics as Social Medicine in Revolutionary Russia: Prophets, Patrons, and the Dialectics of Discipline-Building,” Health and Society in Revolutionary Russia, 200–220.
Adams, 211–212.
Adams, 212.
Ibid.



#كيث_روزنثيل (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الإعاقة والثورة الروسية


المزيد.....




- الفصائل الفلسطينية بغزة تحذر من انفجار المنطقة إذا ما اجتاح ...
- تحت حراسة مشددة.. بن غفير يغادر الكنيس الكبير فى القدس وسط ه ...
- الذكرى الخمسون لثورة القرنفل في البرتغال
- حلم الديمقراطية وحلم الاشتراكية!
- استطلاع: صعود اليمين المتطرف والشعبوية يهددان مستقبل أوروبا ...
- الديمقراطية تختتم أعمال مؤتمرها الوطني العام الثامن وتعلن رؤ ...
- بيان هام صادر عن الفصائل الفلسطينية
- صواريخ إيران تكشف مسرحيات الأنظمة العربية
- انتصار جزئي لعمال الطرق والكباري
- باي باي كهربا.. ساعات الفقدان في الجمهورية الجديدة والمقامة ...


المزيد.....

- مساهمة في تقييم التجربة الاشتراكية السوفياتية (حوصلة كتاب صا ... / جيلاني الهمامي
- كراسات شيوعية:الفاشية منذ النشأة إلى تأسيس النظام (الذراع ال ... / عبدالرؤوف بطيخ
- lمواجهة الشيوعيّين الحقيقيّين عالميّا الإنقلاب التحريفي و إع ... / شادي الشماوي
- حول الجوهري والثانوي في دراسة الدين / مالك ابوعليا
- بيان الأممية الشيوعية الثورية / التيار الماركسي الأممي
- بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة ف. آي. لينين (النص كاملا) / مرتضى العبيدي
- من خيمة النزوح ، حديث حول مفهوم الأخلاق وتطوره الفلسفي والتا ... / غازي الصوراني
- لينين، الشيوعية وتحرر النساء / ماري فريدريكسن
- تحديد اضطهادي: النيوليبرالية ومطالب الضحية / تشي-تشي شي
- مقالات بوب أفاكيان 2022 – الجزء الأوّل من كتاب : مقالات بوب ... / شادي الشماوي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - كيث روزنثيل - الإعاقة والثورة الروسية