أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - ناصر بن رجب - كتاب صُنِع في الجحيم (1)















المزيد.....



كتاب صُنِع في الجحيم (1)


ناصر بن رجب

الحوار المتمدن-العدد: 7137 - 2022 / 1 / 16 - 19:25
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


رسالة سبينوزا الفاضِحة ونشأة العَصر العَلماني


A Book Forged in Hell
Spinoza’s Scandalous Treatise and the Birth of the Secular Age
Steven Nadler


مقدِّمة قصيرة جدّا للمترجِم
هذا كتاب مهمّ جدّا، ارتأيتُ أن أقدِّم ترجمة له إلى قرّاء الحوار ومن ورائهم إلى كلّ قرّاء العربيّة، في حلقات متتالية. هذا الكتاب هو من تأليف ستيفن نيدلر(Steven Nadler)، أستاذ فلسفة في جامعة ويسكنسن، الذي نشره تحت عنوان (A Book Forged in Hell) أي "كتاب صُنِع في الجحيم". يتناول نيدلر في كتابه هذا بالتّحليل والدّرس مؤلَّف سبينوزا "رسالة في اللاّهوت والسياسة" الذي شكلّ عند صدوره صدمة صاعقة للنّخب المثقّفة الأوروبيّة بشكل خاصّ والغربيّة بشكل عام، ومثّل صدمة ارتجَّت لها أركان التّفكير التّقليدي السّائد في القرن السّابع عشر في تلك المجتمعات، وصفعة مدوّية ترنّحت تحت وقعها كلّ شرائح الطّواقم الدينيّة بمختلف انتماءاتها الكَنَسيّة. وحتّى "الجمهوريّة الهولنديّة"، التي عاش في كنفها سبينوزا، والتي كانت تمثّل، نتيجة للإصلاحات الدينيّة الكبرى للتيّارات البروتستانتينيّة التي ثارت على الكنيسة الرّومانيّة والمؤسَّسة الباباويّة، فضاءً فريدا من نوعه يسود فيه نوع من حريّة التّفكير فصار ملاذا للمفكّرين الفارّين من ظلم الكنيسة واستبداد الملوك والأمراء وتعسّفهم، مثل ديكارت وغيره، لم تسطع تقبُّل هذا العمل الجريء والسّاحِق بصدر رحب.
لقد كانت الفلسفة، وخاصّة حريّة التّفلسُف خارج الأطر الكلاسيكيّة، تُعتبر زندقة ما فوقها زندقة. والمتفلسِف، أي مَن تسوِّل له نفسه الخروج عن نهج الكنيسة ومحاولة مناقشة نصوصها القانونيّة المقدّسة بمناهج التّفكير المنعتِق من قيود الغيبيّات والخوارق وهيمنتها المطلقة على العقل البشري، كان يُعدُّ مارقا عن الملّة وزنديقا يجب إقصاؤه من "الجماعة المؤمِنة" ومعاقبته أشدّ عقاب.
ألا يذكِّركم هذا الوضع بوضع مشابه اليوم في بلداننا العربيّة-الإسلاميّة؟ ألا يذكِّركم هذا بما تقوم به قطعان التّكفيريّين المُلتَحين في يوم النّاس هذا من تحريض على ذبح وصلب المفكّرين الذين يرومون الاجتهاد خارج أنماط التّفكير القروسطيّة حتّى يكونوا عبرة لغيرهم؟ بمعنى كلّ المفكّرين الذين يطمحون لتجاوز أنماط تفكير "شيوخ الإسلام" التي صدِئَت، ابتداءً من الأجيال الأولى التي أسّست المذاهب الفقهيّة وأصّلت الأصول إلى دُعاة الظّلاميّة المعاصرة، الجديدة المتجدِّدة، التي تزعّمها محمّد بن عبد الوهّاب، وحسن البنّا، وتمتدّ اليوم في الحركات الجهاديّة المُعْلَنة والمتخفيّة في شتّى أنحاء العالم ... إلخ؟
كيف لنا ألاّ نلاحظ أنّه إذا لم تعد "حريّة التّفلسُف" ممنوعة في الدّول الديمقراطيّة المتقدِّمة، فإنّها للأسف الشّديد ظلّت في بلداننا حظرا محظورا، تُفهَم باستمرار على أنّها أداة شيطانيّة تُستَعمل للطّعن في المقدّسات ونسف أسس العقيدة الإسلاميّة برمَّتها وخاصّة المساس بنبيّ الإسلام وقدسيّته. إذ كيف لنا أن نفسِّر أنّنا لم نشاهِد أيّ نظام عربيّ حتّى في فترة ما بعد الاستعمار وبناء الدّولة الوطنيّة الحديثة إلى يومنا هذا لم يتجرّأ أبدا على الخروج، عدا نظام بورقيبة في تونس بشكل جدّ محتَشم، على المرجعيّة الدينيّة الإسلاميّة. إنّ جلّ دساتير هذه البلدان، إن لم نقل كلّها، تُشير من قريب أو بعيد إلى الدّين؛ فحتّى الدّستور اللّبناني الذي يكتفي في مقدّمته (الفقرة ب) بالإشارة إلى أنّ "لبنان عربيّ الهويّة والانتماء"، دون الإشارة إلى مرجعيّة دينيّة مُعيَّنة بحكم نظامه الطّائفي، إلاّ أنّه في مادّته التّاسعة بعد أن يؤكّد على أنّ "حرية الاعتقاد مُطلَقة" فإنّه يُضيف مباشرة أنّ الدّولة اللّبنانيّة تؤدّي "فروض الإجلال لله تعالى" دون أن يُحدِّد مع ذلك هويَّة هذا "الإله". فهل المقصود به هنا هو إله المسلمين أم المسيحيّين أم اليهود وكلّ بطوائفهم يسبِّحون وفي عوالمه يسبحون؟ أم هو "إله"، لا هذا ولا ذاك، يُفتَرَض فيه أن يكون فوق كلّ الدّيانات وعابرا لها. ثمّ ما هي "فروض الإجلال" هذه؟ وهل كلّ الطّوائف يجب أن تقيمها بنفس الطّقوس وفي نفس المناسبات الدينيّة؟... إلخ
إنّ هذا التغوُّل الدّيني المسيطر على أدمغة مواطني هذه الشّعوب، من أبسط مواطن فيها إلى أعلى نخبها السيّاسيّة والعلميّة والثّقافية، هو نتيجة حتميّة للتّرهيب الممنهَج الذي تمارسه الأسرة، ورجال الدّين، والمؤسّسات التّعليميّة بشتّى أشكالها، والمجتمع بأسره على عقول الصّغار، منذ نعومة أظافرهم، باسم المقدَّسات والمحرّمات وعذابات جهنَّم الجسديّة التي "أُعِدّت للكافرين". فهذا التّرهيب إذ يشلّ العقل تسود الخرافة والتعصُّب، ويقتل العزيمة والإتّكال على النّفس عوض الإتّكال دائما على قوى غيبيّة، ويطفئ في الضّمير كلّ حسٍّ نقديّ ونزوع للاستقلال بالفكر والرّأي. إنّها فعلا عمليّة "إخصاء للعَقل" بأتمّ معنى الكلمة تجعل من الفرد والجماعة معاً خدَماً لسلاطين الأرض، في الحياة الدّنيا، وعبيداً لربّ السّماء في الحياة الدّنيا وفي الحياة الآخرة أيضا.
يقول سبينوزا في مقدِّمته: "ولم تنجَحْ هذه الإجراءات [قتل روح التّفكير الحرّ] في أيِّ مكانٍ بقدر ما نجَحَت عند المُسلمين، حيث تُعدُّ المُناقشة اليسيرة كفرًا وحيث تطغى الأحكام السابقة على الحُكم الصحيح، وحيث لا يُمكن للعقل السليم أن يُدلي برأيٍ أو أن يُبدي مُجرَّد شكٍّ"؛ ويعلِّل سبينوزا هذه الوضعيّة بخصائص ثلاث كانت تميِّز الأتراك، حكّام الخلافة الإسلاميّة آنذاك:
1) القضاء على حُريَّة الفكر واعتبار أيِّ نظرٍ صحيح في الدين كفرًا،
2) سيادة الأحكام السابقة على فكرهم وبالتالي سيادة الخُرافات والأوهام،
3) تحريم النظر العقلي كليةً حتى استحال عليهم الشكُّ في المَوروث أو إعمال العقل السليم." (رسالة في اللاّهوت والسياسة، ص 119، ترجمة حسن حنفي).

فالخلاص، كلّ الخلاص، لهذه الشّعوب لا يمكن أن يحدث إلاّ من خلال رفع القداسة عن المأثور [مثلما نرفع الحصانة عن نوّاب الشّعب الفاسدين لكي تتمّ محاسبتهم] حتّى يتسنّى إخضاعه للنّقد بكلّ حريّة وموضوعيّة دون الاضطرار إلى اللّف والدّوران وركوب المقاربات التّلفيقيّة والتّوفيقيّة خوفا من رصاص أو سكاكين "حرّاس العقيدة" وجيش "خَزَنة التّراث"، هذا التّراث الذي، حسب اعتقادهم، لا سبيل إلى أن يأتيه الباطل من خلفه ولا من أمامه، صامد، سرمديّ كالله.
قوّة سبينوزا لا تكمن فقط في كونه استعمل عقله في تناول التّراث اليهودي-المسيحي بالنّقد، ولكن بالخصوص في تلبيّته نداء ضميره وتركه كلّ الحسابات الشخصيّة جانبا بدون خوف أو وجل على سمعته وحتّى على حياته لكي يصدح بـ"الحقيقة" كما تراءت له من خلال تمحيص النّصوص المقدّسة ومقارنتها بما يجري على أرض الواقع حين يتأمّل تصرّف رجال الدّين تجاه مواطينهم بإبقائهم في حالة رعب دائمة من "عقاب الله" الذي يمكن أن يتسلَّط عليهم أو على ذرّيتهم في أيّ لحظة، الآن وهنا، في الأرض قبل السّماء. ما ينكره سبينوزا شديد الإنكار هي السّلطة المشطّة التي كان رجال اللاّهوت اليهودي والمسيحي وحتّى رجال الدّين الإسلامي، وإن لمّح لذلك بشكل عَرَضي عند حديثه عن الأتراك العثمانيّين كما مرّ ذكره آنفا، يمارسونها على المواطنين، وينكر مشروعيّة التّفويض [التي تقول المؤسَّسة الدّينيّة أنّها تستمدّها من الله] وأيضا شرعيّة المفوِّض وطبيعته [الله الذي تقدِّمه المؤسّسة الدينيّة في صورة كائن قاس لا يرحم، يعاقب ويحاسِب على كلّ صغيرة وكبيرة] الذي بحسب رأيه لا يمكن أن يكون وراء هذا التّرهيب والإذلال المسلَّط على البشر؛ فكيف يكون له ذلك وهو ربّ الرّحمة والخير والعدل؟. كلّ ما في حقيقة الأمر، كما يقول سبينوزا، هو أنّ الشّرائح اللاّهوتية بشتّى مراتبها كان همّها الوحيد هو الإبقاء على السّلطة والتسلُّط بين أيديها من خلال الحرص على دور الوعظ والإرشاد بالتّرهيب والتّرغيب والتّشديد على أهميّة إقامة الطّقوس والشّعائر التي تستخدمها لتكريس تلك السّلطة وذاك التسلّط. كلّ هذا ولّد تلك التبعيّة المشينة، الفكريّة، والروحيّة، والاجتماعيّة، والسياسيّة، والاخلاقيّة التي فرضها رجال اللاّهوت على المواطنين طيلة قرون. علاقات مهينة ذهبت إلى حدّ التدخُّل في العلاقات الحميميّة بين الزوج وزوجته، مع العلم أنّ الكنيسة غالت كثيرا في هذا السّياق، وذهبت إلى حدّ أبعد ممّا ذهب إليه فقهاء الإسلام وما جاء في كتب التّراث الإسلامي التي تناولت هذه العلاقات؛ إذ من المعروف أنّ العلاقات الجنسيّة كانت مراقَبة بشكل صارم في القرون الوسطى من طرف الكنيسة التي كانت تنظر إلى كلّ علاقة جنسيّة، حتّى الشّرعية منها بين الأزواج، على أنّها علاقة لا تخلو من الدَّنس وتحرِّمها على أقلّ تقدير أربعة أيّام في الأسبوع.
إنّ أيّ مشروع نقدي تنويري لأيّ دين من الأديان، بما فيها الإسلام، لا يمكن أن يتمّ فقط من خلال تناول النّصوص المقدّسة ودراستها وتدريسها "بالعلوم الإنسانيّة الحديثة"، كما كان يحلو للأستاذ الرّاحل العفيف الأخضر أن يقول، ولكن يجب كذلك تعريّة الممارسات التي يقوم بها رجال الدّين "العاديّين"، وليس فقط المتطرّفين والتّكفيريّين من الفرق المتشدِّدة، والتي غالبا ما تكون ممارسات نفعيّة، ماديّة، دنيويّة صرفة لإرضاء الأهواء وإشباع الغرائز البشريّة، لا علاقة لها من قريب ولا من بعيد بصلاح البلاد والعباد. وخير دليل على ذلك ما يحدث اليوم من صراعات بين جماعة الإخوان المسلمين في منافيهم، بعد أن لفظتهم الشّعوب في الأوطان التي حكموها ودمّروها؛ وهذا الصّراع لا يتعلّق البتّة بالمبادئ والمرجعيّات، كما يمكن أن ينتظره المرء من أناس "يخافون الله، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر"، بل هو بكلّ بساطة صراع دنيويّ-مُدنَّس ومدنِّس يتمحور حول ما راكموه من متاع الدّنيا حتّى صار أهل العلم بذلك يتحدّثون عن امبراطوريّات ماليّة واقتصاديّة منتشرة في كلّ أرجاء العالم "في بلاد الكُفر" [دار الحرب]، تبيع وتشتري "وتمشي في الأسواق" وتَرشي وترتشي.
إذا ما لم نفهم مرّة واحدة وإلى الأبد أنّ "رجال الدّين" [أي كلّ مَن يحمِل فكرة تطبيق الشريعة الإسلاميّة الغيبيّة على الأرض]، حتّى وإن كانوا بزيّ مدني، خاصّة المنضوين منهم داخل أحزاب وتيّارات الإسلام السّياسي، في البلدان التي لم يتمّ فيها بعد الفصل بين الدّين والدّولة، بين العقيدة والسّياسة، يُمثِّلون أوّلا وقبل كلّ شيء فئة اجتماعيّة-سياسيّة مُنتَفعة بامتياز تدافع، ومستعدَّة أن تدافع إلى آخر رمق، عن مصالحها الماديّة وعن بقائها في الوجود [أي في السّلطة، وخير مثال ما يفعله الإسلام السّياسي الآن في تونس بدون خجل أو أيّ شعور بالذّنب بعد أن دمّر البلاد تدميرا] ما بقيت "سلعتها" [إيديولوجيّتها] حيّة بين أفراد الشّعب وما دامت فئات من الشّعب تعتبرها قدوة حسنة وملاذا وسندا لها في أفراحها وأتراحها لأنّها تمتلك، حسب ما تعتقد، مفاتيح حقيقة ومغزى الوجود في الأرض وفي السّماء.
في رسالة وجّهها إلى صديقه أولدنبورغ (Oldenbourg)، يلخِّص سبينوزا مشروع كتابه والدوافع الذّاتية التي حفزته لإنجازه كما يلي:
"إنّني الأن بصدد تحرير مقالة حول رؤيتي للكتابات المقدَّسة؛ ودوافعي للقيام بذلك هي كالآتي: 1) آراء رجال الدّين المُسبَقة؛ فأنا على يقين أنّ هذه الآراء المسبَقة هي بالفعل التي تقف حاجزا أمام البشر وبالخصوص دون استطاعتهم استعمال عقولهم في الفلسفة؛ لذلك أرى أنّه من المفيد تعرية هذه الأفكار المسبَقة وتخليص العقول الواعية منها. 2) رأي الرّعاع الذين لا ينفكّون عن اتّهامي بالإلحاد؛ أراني إذا مضطرّا لمحاربتهم ما استطعت إلى ذلك سبيلا. 3) حرّية المرء في التّفلسُف (التّفكير الحرّ) وإبداء رأيه؛ لذلك أرغب في إرسائها بكلّ الوسائل لأنّ سلطة الدُّعاة المشِطَّة وغُلوِّهم السّافِر يميلان إلى إلغائها." (من رسالة سبينوزا إلى أولدنبورغ، سنة 1665)
تحدث على امتداد تاريخ الأمم والشّعوب مِحَن تُصيب بعض المفكِّرين العظام لأنّهم اختاروا أن يُغرِّدوا خارج السّرب وتجرّأوا على نقد الثّوابت [نعرف اليوم أنّه لا توجد ثوابت مطلقة بل هناك قيم ومعايير نسبيّة تتغيّر مع تغيّر الزّمان والمكان]؛ غير أنّنا نلاحظ وجود مِحَن تُحدِث طفرات نوعيّة إيجابيّة تقود إلى خلخلة المأثور وتجاوز المعتقدات المتحجِّرة والتّمهيد لقيام "ثورات حضاريّة" [فكريّة، ثقافيّة وعلميّة]. لقد حدث هذا مع محنة كوبيرنيك، وغليلي مع الكنيسة مثلا. وهناك بالمقابل مِحَن تريد شلّ عجلة التّاريخ بل حتّى العودة إلى الوراء كما حدث مع محنة ابن حنبل التي أفضت إلى هدم أفكار المعتزِلة والإطاحة بالنّظام العقلي الذي أرادوا بناءه لمحاولة زعزعة فكّيْ كمّاشة الرؤى السّلفية التي كانت تقبض بأسنان من حديد على كلّ البِنيَة الفوقيّة والتّحتيّة كما يقول كارل ماركس. وهناك محن تبوء بالفشل كمحنة ابن رشد التي انجرّ عنها نسف كلّ الجهود التي بذلها مفكِّر التّنوير القرطبي من أجل إعادة الاعتبار للفلسفة واستعمال العقل؛ وقريبا جدّا منّا محنة طه حسين مع شيوخ الأزهر ومحاولة التمرُّد عليهم وعلى أنماط التّعليم عندهم ومناهجهم التربوّية التي عفا عنها الزّمن؛ وأخيرا وليس آخرا محنة نصر حامد أبو زيد مع نفس عمامات الأزهر المتآكِلة ممّا اضطرّه لمغادرة مصر واللّجوء إلى الخارج والموت فيه مغتربا... [تُرى متى نُوقِف هذا النّزيف؟]. هذه المِحن التي تُصيب نخبَنا ومفكِّرين لم تأت أكلَها كما ينبغي على الأقلّ إلى يوم النّاس هذا؛ بالعكس فنحن نرى يوما بعد يوم المزيد من النّكسات تترى علينا الواحدة تلو الأخرى أشدّ وأنكى من سابقاتها. يقول البعض بأنّ عامل الزّمن ربّما يكون كفيلا بإنصاف ابن رشد، وطه حسين وأبو زيد وغيرهم، ولكنّني أقول أنّ عامل الزّمن، حتّى وإن كان مهمّا، فهو لا يكفي لوحده؛ يجب أن تتوفّر أيضا إرادات ثلاث: إرادة مُجتَمعيّة شاملة تخلق مناخا يوفِّر مزيدا من الحرّيات، إرادة فرديّة تستجيب لهذه الإرادة المجتمعيّة تتفشّى شيئا فشيئا بين غالبيّة أفراد المجتمع، إرادة القطع مع مفاهيم الماضي والكفّ عن شيطنة الآخر واعتبار أنّنا "خير أمّة أُخرِجت للنّاس" وأنّنا نحن هم الفائزون.
مشروع سبينوزا، الذي استغرق إنجازه ما يقارب ثلاثة قرون، استنزف طاقات هائلة بذلها مفكّرون ناضلوا بكلّ قواهم من أجل التحرّر من نير التفكير الدّيني وهيمنة رجال الدّين. ولهذا فإنّني أعتقد أنّنا اليوم، في أوطاننا العربيّة-الإسلامية، في صراع وسباق مع الزّمن مع القوى الظّلامية الهاذية بماض مثاليّ تأسطَر في وعيها ولا وعيها، في حين أنّه كان كأيّ ماض إنسانيّ غلبت فيه المصالح الدنويّة أوّلا وكلّ شيء. فحتّى يمكننا أن نطرح مشروعا تنويريّا طويل النّفس على غرار مشروع سبينوزا، يجب أن نبدأ في إرساء لبناته الأساسيّة منذ الآن يبدأ بوضع هذا الماضي في سياقه التّاريخي "الحقيقي" وإعادة صياغته بمناهج العلوم الإنسانيّة المعاصرة بكلّ تجرّد بعيدا عن الدغمائية والنّظرة الإيمانيّة التمجيديّة لكلّ ما فعله "السَّلَف الصّالح" من أمجاد وبطولات وحقّقه في مجتمع الخلافة "الفاضل". بالرّغم من كلّ الإخفاقات، والنّكسات المتعاقبة، والهجمات الشّرسة التي ما فتئت تتعرّض لها النّخبة التّنويريّة في بلادنا العربيّة-الإسلاميّة فإنّه من الجدير التّنويه على أنّها بدأت تخطو خطوات بطيئة محتشمة ولكنّها حاسمة لمستقبل صراعها المرير الذي لن ينتهي بسهولة وسلام مع فيالق الدّعاة الظّلاميّين وحشود الإسلام السّياسي...
فَلَتثبُت على هذا الدّرب...

ملحوظة: من يريد الرّجوع إلى كتاب سبينوزا بالعربيّة يمكن العودة إلى ترجمة حسن حنفي (الذي غادرنا منذ أيّام):
رسالة في اللاّهوت والسّياسة
ترجمة: حسن حنفي
مراجعة: فؤاد زكريا
نشر: مؤسّسة هنداوي، 2020.

اعتمدتُ في نقل الاقتباسات من كتاب سبينوزا هذا، التي يوردها المؤلِّف هنا، على ترجمة حسن حنفي المشار إليها أعلاه، وأشرت لها على النّحو التّالي: حسن حنفي، ص...؛ إذا حدث واختلفتُ معه في بعض الأحيان بخصوص التّرجمة فإنّني أشير إلى ذلك على هذا النّحو [المترجِم].
وإليكم الحلقة الأولى من الكتاب
****

افتتاحيّة الكتاب
في مايو 1670، كتب عالِم اللاّهوت الألماني يعقوب توماسيوس مُشهِّراً بكتاب مجهول المؤلِّف كان قد صدر حديثا. إذ اعتبر أنّ هذا الكتاب هو "وثيقة كُفر وإلحاد" يجب حجرها على الفور في جميع البلدان. وقد شدّد زميله الهولندي رينيي مانسفيلد، أستاذ في جامعة أوتريخت، على أنّ هذا الإصدار الجديد مُضرّ بكلّ الأديان، ولذلك "يجب أن يُقبَر نهائيّا في ذاكرة النّسيان الأبديّة". في ذات الوقت، كتب ويليم فان بلينبورغ، وهو تاجر هولندي ذو ميول فلسفيّة، أنّ "هذا الكتاب الملحِد مليئ بالفضاعات [...] وكلّ شخص عاقِل سوف يجده لا يُطاق". وذهب ناقد مُنزَعِج إلى أبعد من ذلك، إذ كتب أنّ هذا إنّما هو "كتاب صُنِع في الجحيم" ألّفه الشيطان شخصيّا.
ومحلّ كلّ هذه العناية الفائقة هو كتاب عنوانه Tractatus Theologico-Politicus (رسالة في اللاّهوت والسّياسة) ومؤلِّفه يهودي من أمستردام كان قد وقع تكفيره وتمّ طرده من الملّة اليهوديّة، وهو باروخ دي سبينوزا (Barush de Spinoza). لقد اعتبر معاصرو سبينوزا أنّ هذه "الرّسالة" هي أخطر كتاب لم يُنشَر مثله من قبل على الإطلاق، إذ اعتبروا أنّه يهدّد بزعزعة الإيمان الدّيني، والتناغم الاجتماعي والسّياسي وحتّى الممارسات الأخلاقيّة اليوميّة. لقد كانوا يعتقدون أنّ المؤلِّف، الذي لم تمكث هويّته سريّة زمنا طويلا، كان رجل دين مُخرِّب وسياسيّ راديكالي هدفه نشر الإلحاد والفسوق داخل المجتمعات المسيحيّة. لقد كانت الضجّة التي أحدثتها رسالة سبينوزا هي، بدون منازع، حدث من أهمّ الأحداث في تاريخ أروبا الفكري باعتبار أنّه وقع في فجر عصر الأنوار. فإلى جانب أنّ الكتاب كان قد أرسى قواعد التّفكير الحرّ، اللاّئكي والديمقراطي اللّاحِق، فإنّ النقاش الذي أثاره أيضا كان قد سلّط الضوء على التوتّرات العميقة داخل عالَم بدأ يتعافى بعد حرب دينيّة وحشيّة دامت أكثر من قرن.
والرّسالة هي أيضا واحدة من أهمّ المؤلَّفات التي أفرزها الفكر الغربي على الإطلاق. فقد كان سبينوزا هو أوّل مَن أكّد أنّ البيبل ليس هو كلام الله بالمعنى الحصري للكلمة، بل هو بالأحرى منتوج أدبيّ إنسانيّ؛ وأنّ "الدّين الحقيقي" لا علاقتة له باللّاهوت، ولا بالطّقوس اللّيتورجيّة أو المعتقدات المذهبيّة، بل الدّين هو مجرّد قاعدة أخلاقيّة تتلخّص في "حبّ الإنسان لأخيه الإنسان"؛ وأنّ السّلط الكَنَسيّة لا يجب عليها أن تلعب أيّ دور في إدارة شؤون دولة عصريّة. كما أنّ سبينوزا يصرّ على تأكيد أنّ "العناية الإلهيّة" ليست إلاّ قوانين الطّبيعة؛ وأنّ المعجزات (باعتبارها خروقات للقانون الطّبيعي للأشياء) هي أشياء مستحيلة والاعتقاد في حدوثها ما هو إلاّ تعبير عن جهلنا للأسباب الحقيقيّة للظّواهر، وأنّ أنبياء العهد القديم كانوا مجرّد أفراد عاديّين يمتلكون، حتّى وإن كانوا متفوِّقين على المستوى الأخلاقي، خيالا خصبا متميِّزا. فصول الكتاب التي تتطرّق للسّياسة تقدِّم دفاعا بليغا لم يُر له نظير من قبل من أجل التّسامح (خاصّة فيما يتعلّق بـ"حريّة التّفلسُف" دون تدخّل السّلطات) والديمقراطيّة.
إنّ سُمعة فيلسوف من الماضي هي في الغالب رهينة توجُّهات الحاضر الأكاديميّة. والقائمة المعياريّة للفلاسفة الكلاسيكيّة، بالرّغم من أنّها تتمتّع باستقرار نسبيّ في نواتها الرئسيّة منذ زمن طويل (مثل قائمة الأعضاء القارّين لمجس الأمن في الأمم المتّحدة) فإنّها عرفت حذف أسماء وإضافة أسماء أخرى عبر العصور. وخلال زمن طويل، خاصّة في عالم الفلسفة الأنجلو-أميركي في النّصف الأوّل من القرن العشرين، لم يُقبَل سبينوزا في هذه القائمة. فإذا كان سبينوزا قد استمرّ في التمتّع بمكانة فخريّة باعتباره من بين أكبر المفكّرين الغربيّين إلاّ أنّ فلسفته لم تُعتَبر على درجة من الأهميّة تُخوِّل له أن يُصنَّف من بين عظماء الفلاسفة، وكانت كتبه نادرا ما تُدرَّس حتّى في مادَّتيْ التّاريخ والفلسفة. ولم يساعد على تدريس كتبه "الأسلوب الهندسي" الذي اعتمده في تأليف عمله الجبّار، "الأخلاق"، الذي كان أسلوبا شديد العتامة والغموض (خلافا لشفافيّة التّفكير والتأليف التي يُحبِّذها، على الأقل من حيث المبدأ، الفلاسفة التحليليّون)، والذي يقترح فيه مبادئ ونظريّات كانت تبدو للكثيرين قريبة من التصوّف.
إعادة الإعتبار لسبينوزا بدأت في النّصف الثّاني من القرن العشرين وتنامت شيئا فشيئا مع تنامي هيمنة الميتافيزيقا والابستيمولوجيا على الفلسفة الأكاديميّة. والميتافيزيقا التي كانت سائدة في تلك الفترة لم تكن تلك الميتافيزيقا النّظاميّة (métaphysique systémique) للفترات السّابقة، بما فيها ميتافيزيقا سبينوزا، ولم تكن أيضا الميتافيزيقا المثاليّة المفضَّلة لدى أتباع هيجل في جامعة كمبريدج في نهاية القرن التّاسع عشر وبداية القرن العشرين، ولكنّها كانت ميتافيزيقا تتمثّل في بحوث تحليليّة دقيقة حول النَّفْس، والمادّة، والسببيّة والكونيّات. في ذات الوقت، كان الابستمولوجيّون المعاصرون، مثلهم في ذلك مثل أفلاطون وديكارت قبلهم، يتساءلون بخصوص طبيعة الاعتقاد، والحقيقة، والتّبرئة الإلهيّة (justification) والمعرفة. وهذه كلّها مواضيع كان يُعتَقد أنّ سبينوزا كان له فيها رأي مهمّ وحصيف. بالإضافة إلى ذلك، كانت نظرته غير التّقليديّة لله ومقاربته العبقريّة والمبتَكَرة لمشكلة الجسد-النّفس تجعلانه يبدو، بشكل أو بآخر، أكثر حداثة من معاصريه في القرن السّابع عشر الذين كانوا أكثر ميولا إلى الدّين.
نتيجة هذه التمشّي المُعضِل نوعا مّا جعلت سبينوزا يبدو في نهاية المطاف (مرّة أخرى مثل ديكارت) بمثابة شخص كان بالأساس منخرطا في الميتافيزيقا والابستيمولوجيا ولم يكن يهتمّ إلاّ بقضايا مثل طبيعة المادّة ومشكلة الجسد-النّفس بالإضافة إلى التحدّيات التشكيكيّة التي توجه المعرفة الإنسانيّة. في أوساط التّعليم والبحث وقع التّركيز على الفصليْن الأوّليْن من كتاب "الأخلاق" اللّذيْن نجد فيهما نظرة سبينوزا الأحاديّة (monistique) للطّبيعة، وسرده عن الادراك والإرادة، والتّوازي جسد-نفْس الذي يُفتَرض أنّه يمثّل ردّه على الصّعوبات التي تعرّضت لها ثنائيّة (dualisme) ديكارت. أمّا الفصول الثّالث والرّابع والخامس من علم الأخلاق -التي تتعرّض لنظريّته في الأهواء وفلسفته الأخلاقيّة- فإنّها قلّما تعرّضت للنّقاش (وقلّما دُرِّست أيضا). لقد تمخّضت عن هذا صورة غير كاملة ومُضلِّلة لمشروع سبينوزا الفلسفي؛ وقد نذهب حتّى إلى حدّ التّساءل عن سبب تسميّة الكتاب "الأخلاق".
امّا كتابه "رسالة في اللاّهوت والسّياسة" فقد قوبِل في تلك الفترة بمعاملة أسوأ. وبالفعل، فقد وقع تجاهله من طرف فلاسفة القرن العشرين. وهذا التّجاهل لم يأتِ فقط من أولئك الذين كانوا يعملون في حقل الميتافيزيقا والابستيمولوجيا ولكن كذلك، وبصورة غير متوقَّعة، من المختصِّين في الفلسفة السّياسيّة والدّين. هناك قليل جدّا من كتب تاريخ الفكر السياسيّ التي تتحدّث عن سبينوزا، والمؤلَّفات التي تتناول فلسفة الدّين فهي لا تذكر اسمه إلاّ نادرا. وحتّى يومنا هذا، يصعُب علينا أن نجد درسا في الفلسفة يتعرّض لهذا الكتاب.
بالرّغم من كلّ هذا، ظلّ فكر سبينوزا، خارج جدران الجامعات، يثير شغفا كبيرا. وهذا الشّغف لا يخصّ ما قاله حول المادّة والعلاقة بين النّفس والجسد، وهي مواضيع لا تثير إلاّ شغف الفلاسفة المهنيّين، بقدر ما تخصّ نظرته حول الله، والدّين، والمعجزات، والبيبل، والديمقراطيّة، والتّسامح. أمّا غير الفلاسفة، ذاك الصّنف من النّاس الذين يتوافدون بأعداد غفيرة عشيّة يوم أحد للاستماع لمحاضرة عموميّة حول سبينوزا، فإنّهم يتشوّقون جدّا لمعرفة آرائه الرّاديكاليّة حول هذه المسائل، خاصّة على ضوء قضيّة تكفيره المشهورة وإقصائه من الدّيانة اليهوديّة. يمكن أن يكون لهؤلاء بعض الإلمام بما يكون سبينوزا قد قاله وكذلك بعض المعرفة بعدد من المفاهيم الرومنسيّة والبريئة تتعلّق بشخصه بالذّات، ولكن قليلا منهم قرؤوا حقيقة رسالته في اللاّهوت والسّياسة حتّى وإن كان هذا الكتاب أكثر سهولة من كتاب "الأخلاق" الذي يُعتبر صعْب المراس ومُنهِكًا.
منذ تسعينات القرن الماضي، وقع التّعامُل مع الرّسالة بقسوة أقلّ. فقد وقع تخصيص عدد من الكتب المهمّة وعديد المقالات القيِّمة للكشف عن أطروحاته وحججه وأيضا تسليط الضّوء على محيطه التّاريخي. ومع ذلك، فإنّ أغلب هذه المؤلَّفات لها طابع الإختصاص وتميل إلى الاقتصار على الاعتناء بهذا الجانب أو ذاك من التفكير الدّيني والسّياسي لسبينوزا. فبقدر أهميّتها لتعميق فهمنا للرّسالة فإنّ هذه الدّراسات العالِمة تبقى أساسا متوجِّهة لقرّاء جامعيّين. ولهذا يبدو أنّها ساهمت بصفة ضئيلة في إشباع ما يبدو أنّه رّغبة حقيقيّة عند القرّاء غير المتخصِّصين في شغفهم للحصول على معلومات حول هذا الكتاب الذي قرؤوا أو سمعوا عنه أشياء خارجة عن المألوف.
أرجو من خلال دراستي هذه أن أعرِّف بكتاب سبينوزا "رسالة في اللاّهوت والسّياسة" لدى جمهور أكثر اتّساعاً. إنّ غايتي فسيحة الأفق إذ هي تتناول أكثر من مسألة وبالأساس كيف ألِّفت الرّسالة، وما هو محتواها وما هو السّياق الذي ظهرت فيه. ماذا نجد بالضّبط في هذا الكتاب الذي صَعَق أوربا الحديثة وهي في بداياتها؟ ما الذي حفّز سبينوزا على كتابة رسالة حارِقة إلى هذه الدّرجة؟ ما هي ردّة الفعل عند نشر هذه الرّسالة، ولماذا كانت بمثل هذه الحدّة؟ ولماذا لا تزال الرّسالة، بعد مرور ثلاثة قرون ونصف من الزّمن تقريبا على نشرها، دائما ذات أهميّة كبيرة؟
وكتابي هذا لا يتناول بالدّرس فلسفة سبينوزا في مجملها. كما أنّه ليس دراسة لفلسفة سبينوزا الدّينيّة والسياسيّة؛ فلم أعالِج اللاّهوت الفلسفي والمواضيع السّياسيّة لكتاب "الأخلاق" وأيضا كتابه "رسالة في السياسة" المتأخِّر وغير المكتمِل، إلاّ بقدر ارتباطها بمشروعي المتمثِّل في توضيح ما جاء في كتابه "رسالة في اللاّهوت والسياسة". كما أنّني سأقتَصِر في تحليلي على ردود الفعل لمُعاِصريّ سبينوزا المباشرين، وأتركُ جانبا القبول العريض والهامّ جدّا للرّسالة فيما بعد. إنّ إرث الرّسالة، من سنة 1670 حتّى أيامنا هذه، هو موضوع ثريّ وشيّق يستحقّ عن جدارة دراسة معمّقة.
ما يهمّني حقيقة هو بكلّ بساطة فهم ما يقوله سبينوزا في رسالته ولماذا يقوله، وأيضا شرح أسباب ردّة الفعل بمثل ذلك القدر من الحدّة والعنف عند نشر الكتاب. إنّ سبينوزا يحظى بمكانة مشروعة بين كبار الفلاسفة عبر التّاريخ. لقد كان بلا شكّ المفكِّر الأكثر أصالة، والأكثر راديكاليّة، والأكثر إثارة للجدل في عصره؛ وأفكارُه الفلسفيّة، والسياسيّة، والدّينيّة أرست القواعد لجزء كبير لما نعتبره اليوم "حداثة". ولكن، إذا لم نولِ كتاب "رسالة في اللاّهوت والسياسة" الاهتمام الذي يستحقّه فإنّنا حينئذ نكون غير مدركين حقيقةً مَن هو سبينوزا.
الفصل الأوّل
توطئة

صبيحة 28 جويلية 1670، ودّع فيليب هويبرتز زوجته، إيفا جيلدوربيس، وغادر منزله الكائن بنهج نيوفندييك في أمستردام. ، في هذا اليوم من فصل الصّيف لن يسلك تاجر الحرير، البالغ من العمر 56 عاما، كعادته الطّريق المؤدّية إلى الدكّان الذي ورثه عن أبيه. فاليوم يوم أحد، ويتوجَّب عليه الاهتمام بالأمور الرّوحيّة الأكثر أهميّة، أمور جسيمة تتعلّق بالسّعادة الدينيّة والأخلاقيّة لطائفته وهنائها.
قبل أربعة أيّام، كان المجلس الكنسي للكنيسة البروتستانتيّة الإصلاحيّة في أمستردام قد كلّف الأخ هويبرتز وزميله، الأخ لوقاس فان دير هيدن، وهو أيضا تاجر حرير، لكي يممثِّلانه في الاجتماع القادم للقِسْم الجهوي في أمستردام. (كان قسم أمستردام هو أحد الأقسام الأربعة عشر لمقاطعة هولندة). وهو أكبرقسم في تلك الدّائرة يلتقي فيه بانتظام قساوسة الطوائف الكنسيّة المحليّة لأمستردام والقرى المجاورة لها وذلك للنّظر في المشاكل التي تتعرّض لها طوائفهم وإيجاد حلول لها. وقد أُوكِلت لفيليبس ولوقا مسؤوليّة ابلاغ أعضاء قسم الدّائرة الهواجس التي أفصح عنها مجلس أمستردام الكنسي في اجتماعه المنعقد في 30 جوان بخصوص بعض الكتب التي نُشِرت حديثا:
"بما أنّه من واجب كنيستنا أن تجابه عددا من الشّكاوى فقد وقع إجراء تحقيق قصد رفعها إلى عِلم قسم الدّائرة وبالتّالي إلى علم قسم المقاطعة إذا كان الأوّل قد وافق عليها... كنيستنا تطلب فقط أن تُعطى أهميّة خاصّة، من بين المنازعات القديمة، لتطاول البابويّة وصفاقتها وكذلك لما يُنشَر من الكتب السوسينيّة (نسبة لتيّار مسيحي ظهر في القرن السّامجلس كنسي بروتستنتي دس عشر طوّره الإيطالي فوستي سوسين Fauste Socin)،والكتب الفاسقة وبالأخصّ منها هذا الكتاب الضّار الذي يحمل عنوان "رسالة في اللاّهوت والسّياسة".
إنّ "المنازعات القديمة" التي يطلب المجلس الكنسي من قسم أمستردام أن يرجع إليها ويعتمدها للنّظر في هذه المنشورات الجديدة تتمثّل في مرسوم أصدرته ولايات هولنده، وهي أهمّ هيئة تشريعيّة في الجهة وبدون شكّ أقوى مؤسّسة وطنيّة، في سنة 1653 بهدف حظر طباعة وتوزيع بعض الكتب "المارقة عن الدّين". ولهذا فإنّ قدماء كنيسة أمستردام كانوا يودّون من القساوسة أعضاء قسم الدّائرة أن يطبِّقوا الحظر الذي جاء به مرسوم 1653 على هذه الكتاب الجديد.
لم تكن أمستردام أوّل مجلس كنسي بروتستنتي ينظر في "كتاب مُدنَّس وكافر عنوانه رسالة في اللاّهوت والسّياسة يتعلّق بحريّة التفلسف داخل الجمهوريّة". فقد سبق منذ ماي 1670 أن طلبت مجالس كنائس أوتريخت وليدن وهارليم من مجالس بلديّاتها حجز كلّ نسخة من الكتاب واتّخاذ الإجراءات اللاّزمة لمنع كلّ طباعة جديدة له أو توزيع. والكتاب لم يتمّ صدوره إلاّ في جانفي من تلك السّنة، فتكون أمستردام قد أخذت بعض الوقت لكي تتفاعل مع الحدث. غير أنّ نداء عاجلا يصدر عن قياداتها الدّينيّة البروتستنتينيّة، باعتبارها أهمّ مدينة في بلاد الأراضي المنخفضة، يكون له بكلّ تأكيد أكبر تأثير على دعاة ومبشّريّ مجالس الدّائرة والمقاطعة.
إنّ تكليف فيليب هويبرتزون بهذه المهمّة الديبلوماسيّة الهامّة قد يكون مردّه إلى أنّه كان يعتبر شخصا ثقة يحظى بسمعة حسنة بين أفراد طائفته؛ فقد لعب دور الكفيل قبل عشرين سنة أثناء عمليّة الإفراج عن مواطنين نييرلنديّين وقع اختطافهم وأسرهم في الخارج كعبيد مقابل فدية ماليّة كبيرة. أو قد يكون سبب تعيينه للقيام بهذه المهمّة لأنّه، باعتباره عضوا من قياديّي الكنيسة المحليّة، كان قد أظهر انشغاله بصفة خاصّة بمسألة الكتب قيد النّظر؟ لقد كان يعرف على الأقلّ جزءًا من محتوى الرّسالة في اللاّهوت والسّياسة التي يطلب المجلس الكنسي أخذها بعين الإعتبار. بعد وصوله بقليل في ذاك اليوم إلى نيوفا كيرك أين يعقد قسم أمستردام الكنسي اجتماعاته في نفس القاعة التي يجتمع فيها المجلس المحلّي، قرأ فيليب على زملائه بعضا من مقاطع الكتاب المسيئة للدّين بصفة خاصّة حتّى يعوا جيّدا الخطر الذي يتهدّدهم.
لقد أوفى هذا العرضُ الذي قدّمه فيليب الغرض المنشود. ففي عشيّة نفس اليوم توصّل مجلس دائرة آمستردام إلى نتيجة مفادها:
"[...] إنّ قضيّة نشر كتب إلحاد وكفر وبالخصوص الكتاب المؤذي الموسوم "رسالة في اللاّهوت والسّياسة" يجب معالجتها ضمن الشّكاوى القديمة [بمعنى آخر الشّكاوى التي أخذها بعين الاعتبار مرسوم 1653] [...]. إنّ القسم الكنسي، بعد ما استمع إلى ما أوردته هيئته من عديد الأمثلة الجسيمة والفضيعة التي يتضمّنها محتوى الكتاب، أعلن أنّ هذا الكتاب هو محض كفر وخطير".
ثمّ رفع القضيّة إلى مجلس هولندة الشّماليّة الذي يُفتَرض أن يجتمع بعد أسبوع. في 5 أوت، أصدرت الهيئة الجهويّة حكمها الخاصّ بها:
"لقد أبدى قسم آمستردام الكنسي رغبته [...] في أن يقع التّعامل مع نشر كتب الكفر وخاصّة الكتاب المؤذي الموسوم "رسالة في اللاّهوت والسّياسة" تحت خانة الشّكاوى القديمة [...]. فيما يخصّ الكتاب الكافر "رسالة في اللاّهوت والسّياسة"، فإنّ النوّاب اتّخذوا كلّ التّدابير اللاّزمه ضدّ هذا الكتاب في أوّل مجلس لمحكمة [محكمة هولندة]، وينتظرون ما تسفِر عنه هذه القضيّة.
إنّ المجلس الكنسي المسيحي، إذ يعبّر عن مقته التّام لهذا الكتاب الفاحش، يقدّم شكره للسّادة المحترمين من بينّيبروك الذين تعهّدوا له بالقضاء على هذا الكتاب ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، وإلى الإخوة من آمستردام لقراءتهم أمامه لمقاطع من الكتاب. شكرا أيضا للنّواب للخدمة التي قدّموها؛ يوكل لهم [المجلس] وكذلك لنوّاب هولندة الجنوبيّة تقديم هذه القضيّة برمّتها للقوّات المحترَمة [ولايات هولندة] بهدف إعانتها ضدّ [الكتاب] وذلك من خلال استأصاله استأصالا جذريّا، وأيضا من أجل البحث عن مرسوم يحجِّره هو وكلّ الكتب الكافرة الأخرى".
ذاك هو بالضّبط ما كان قد سعى إليه فيليب هويبرتزون وزملاؤه في مجلس آمستردام الكنسي.

****
في الوقت الذي كانت تحاك فيه كلّ هذه المكائد في آمستردام، كان مؤلِّف الكتاب الفضيحة، الذي أقضّ مضاجع المشرفين على كنيسة المدينة إلى هذا الحدّ، يُودِّع حياة هادئة في الرّيف لكي يستقرّ في مدينة لاهاي، العاصمة الإداريّة والتشريعيّة لجمهوريّة المقاطعات المتّحدة. ففي هذا المكان، وفي بعض غرف الطّابق العلويّ من منزل على ملك أرملة فان دير فيرف Van der Werve، الواقع على رصيف يُدعى De Stille Verkade (الرّصيف الهادئ)، سيواصل سبينوزا باحتراس وتكتّم كتاباته الفلسفيّة والسياسيّة.
وُلِد بينتو دي سبينوزا في 24 نوفمبر 1632 في عائلة مرموقة من اليهود البرتغاليّين في آمستردام. هذه الطّائفة من السفرديم أسّسها قدماء من "المسيحيّين الجدد" conversos من اليهود الذين كانوا قد اضطرّوا لاعتناق المسيحيّة في إسبانيا والبرتقال في نهاية القرن الخامس عشر وبداية القرن السّادس عشر ميلادي، وأحفادهم من بعدهم. فبعد أن فرّوا من هرسلة محاكم التّفتيش الإيبيريّة، التي كانت ترتاب في صدق تحوّلهم إلى المسيحيّة، استقرّ الكثير من هؤلاء المسيحيّين الجدد في نهاية المطاف، بداية القرن السّابع عشر، في آمستردام وبعض مدن الشّمال الأخرى. لقد كانت جمهوريّة المقاطعات المتّحدة، التي نالت استقلالها حديثا (وبالخصوص هولندة، أكبر مقاطعة فيها)، قد وفّرت لهؤلاء اللاّجئين فرصة لكي يعودوا إلى ديانة أجدادهم والعيش في كنف حياة يهوديّة، وذلك لأنّ هذه الجمهوريّة النّاشئة كانت قد وفّرت مناخا يغلب فيه التّسامح وكان اهتمامها منصبّا أكثر على الرّفاه الاقتصادي أكثر من الإنشغال بالانسجام الدّينيّ. هذا لا ينفي أنّ أطرافا محافظة من المجتمع النّيرلندي ما زالت متواجدة في ذلك الحين وتطالب بطرد "التجّار البرتغاليّين"؛ غير أنّ القادة اللّيبراليّين في أمستردام، دون الحديث عن الشّرائح المتنوِّرة من المجتمع النّيرلندي بشكل عام، كانوا يرفضون ارتكاب نفس الخطأ الذي ارتكبته إسبانيا قبل قرن من الزّمن والقيام بطرد جزء من شعبهم يمثّل ركيزة مهمّة من النّاحية الإقتصاديّة وتساهم انتاجيّته وشبكاته التجاريّة بقسط وافر في ازدهار ما يُعرَف بفترة القرن الذّهبي النّيرلندي.
لم تكن عائلة سبينوزا من بين أكبر الأثرياء اليهود السفرديم في المدينة والذين يملكون بدورهم ثروة أقلّ ممّا يمتلكه أكبر الميسورين من المواطنين النيرلنديّين. ومع ذلك، كان أبواه يتمتّعان بوضعيّة اقتصاديّة مريحة. فقد كان أبوه، ميگال، يستورد الفواكه الجافّة، خصوصا من المستعمرات الإسبانيّة والبرتغاليّة، ويبدو أنّه كان في فترة مّا رجل أعمال ناجح بدليل ما تكشف عنه حساباته وكذلك الاحترام الذي كان يكنّه له أقرانه من التجّار.
لا بدّ أنّ بينتو Bento (أو باروخ Baruch كما كانوا ينادونه في الكنيس اليهودي) كان طفلا له مؤهّلات ذهنيّة عالية وكان بدون شكّ قد أبهر أساتذته ومعلِّميه طيلة مسيرته في كنف مدرسة الطّائفة اليهوديّة. ويكون من المحتمل جدّا أنّه درس في فترة أو في أخرى مع أكبر حاخامات المحفل تلمود-توراة، من بينهم منسى بن إسرائيل Ménasseh ben Israël، الرّابي المسكوني الذي ربّما يكون اليهودي الأشهر في جميع أنحاء أوروبا، وكذلك Isaac Aboab da Fonseca، و Saul Levi Mortera، رابيّ الجاليّة الأكبر الذي كانت ميوله تنزع أكثر نحو الفلسفة العقليّة والذي كان يصطدم غالبا مع الرّابي Aboab بخصوص حجم الأهميّة التي يجب إعطاؤها للقبّاله التي هي شكل من اشكال الباطنيّة في التصوّف اليهودي.
إذا كان سبينوزا قد تألّق بالتّأكيد في تعليمه المدرسي، إلاّ أنّه، وخلافا لما أُشيع عنه لمدّة طويلة، لم يُوجِّه دراسته لكي يصبح رابيّ. في حقيقة الأمر، لم يرقَ على الإطلاق إلى الصّفوف العليا من البرنامج التّعليمي التي كانت تفرض دراسة معمّقة للتّلمود. تُوفِّي أخوه الأكبر، إسحاق، عام 1649، الذي كان قد قدّم يد العون لأبيه لكي يُدير الشّركة العائليّة ممّا اضطرّ سبينوزا إلى التخلّي عن الدّراسة ليأخذ مكانه. وعندما توفّي أخوه ميكال، عام 1654، وجد سبينوزا نفسه يكرّس كلّ وقته للتّجارة مع أخيه الآخر غبريال على رأس شركة تحمل اسم بينيتو وغبريال دي سبينوزا. يبدو مع ذلك أنّه لم يكن تاجرا ماهرا إذ أنّ الشّركة، المكبَّلة بالدّيون التي تركها أبوه، بدأت تتعثّر تحت إدارتهما.
على أيّة حال، لم يكن سبينوزا ميّالا لحياة التجارة والتجّار. فالنّجاح المالي، الذي يوفِّر لصاحبه احترام الجالية اليهوديّة البرتغاليّة ويعطيه مركزا محترما في صلبها، لم يستهوه إلاّ قليلا جدّا. في الوقت الذي استلم فيه هو وأخوه زمام الشّركة العائليّة كان سبينوزا قد أدار ظهره لأمور الدّنيا الماديّة وشرع في تكريس طاقته أكثر فأكثر للمسائل الفكريّة. وعندما يعود سبينوزا بعد بضع سنوات لاحقة للحديث عن انخراطه في الحياة الفلسفيّة فإنّه يشرح لنا تنامي وَعْيه المطّرِد بتفاهة المشاغِل التي ينصرف لها غالبيّة النّاس ويتفرّغون لها (بمَن فيهم هو) في حين أنّهم لا يعطون إلاّ قيمة ضئيلة للشّيء الذي يستميتون بشدّة لبلوغه:
"بعدما علّمتني التّجربة أنّ كلّ الأحداث العاديّة التي تعترضنا في الحياة الجماعيّة هي أشياء عقيمة لا طائل من ورائها، وأنّ كلّ أسباب تخوّفاتنا ليست في حدّ ذاتها حسنة ولا سيّئة بل تأخذ هذا الطّابع أو ذاك بمقدار ما تمسّ النَّفْس [animus]، اتّخذتُ في نهاية الأمر هذا القرارا بالبحث فيما إذا كان هناك متاع حقيقيّ ونكون قادرين على إيصالها للنّاس،متاع باستطاعته أن يملأ بمفرده النّفس بأكملها بعد أن نبذت كلّ متاع آخر؛ بعبارة أخرى متاع يُعطي النّفس السّعادة الكبرى الأبديّة إذا وجدت لها سبيلا وامتلكتها".
لم يكن سبينوزا يجهل المخاطر المتعلّقة بتخلّيه عن ارتباطاته السّابقة والتوجّه نحو تحقيق مشروعه الجديد:
"أقول: "اتّخذت في نهاية الأمر هذا القرار" وذلك لأنّه يبدو لي منذ الوهلة الأولى أنّ فيه مجازفة بالتخلّي عن الأشياء اليقينيّة للجري وراء شيء ليس مأكّدا بعد. لأنّني بالفعل كنت قد أخذت بعين الاعتبار المنافع التي نحصل عليها من خلال المكانة [الاجتماعية] والثروات والتي يجب التخلّي عن كلّ ذلك إذا ما أردتُ أن اهتمّ اهتماما جديّا بشيء آخر. فإذا افترضنا أنّ السّعادة القصوى تتمثّل بمحض الصّدفة في امتلاك هذه المنافع، فإنّني سأراها تبتعد عنّي بالضّرورة؛ وإذا كانت بالعكس من ذلك تتمثّل في أشياء أخرى، في حين أنّني أبحث عنها في مكان آخر، فسأراها أيضا تفلت منّي".
بين بداية عام 1650 ومنتصفه أقرّ سبينوزا العزم على وضع مستقبله بين يديّ الفلسفة، في البحث عن المعرفة والسّعادة الحقيقيّة، وليس بين يديّ توريد الفواكه الجافّة.
وبالتّزامن تقريبا مع تطليقه للتّجارة وجمع المال، شرع سبينوزا في تعلُّم اللّغة اللاّتينيّة والآداب الكلاسيكيّة. كانت اللاّتينيّة لا تزال بعد لغة التّداول بالنّسبة لأغلب الخطابات الأكاديميّة والفكريّة في عموم أوروبا، وكان في حاجة لمعرفة هذه اللّغة لدروسه في الفلسفة، خاصّة إذا كان ينوي متابعة المحاضرات الجامعيّة. لذلك اضطرّ سبينوزا لمغادرة الجالية اليهوديّة حتّى يتلقّى تعليما في هذه المواد وحتّى يجد ما كان يبحث عنه تحت إشراف فرانسيسكوس فان دان آندن Franciscus van den Enden، يسوعي قديم وسياسي راديكالي يبدو أنّ منزله كان عبارة على صالون يجتمع فيه الإنسانيون اللاّئكيون، ومناصرو الدّيمقراطيّة، والمفكِّرون الأحرار.
(فان دان آندن نفسه أُعدِم لاحقا في فرنسا بسبب مشاركته في المؤامرة الجمهوريّة ضدّ الملك لويس الرّابع عشر وضدّ الملكيّة). من المرجّح أن يكون فان دان آندن هو أوّل من قدّم لسبينوزا أعمال المفكِّرين المعاصرين، وعلى رأسهم ديكارت، والتي ستكون مهمّة جدّا في تطوّره الفلسفي. إلى جانب متابعته لهذه التربيّة اللاّئكيّة في الفلسفة، والأدب والفكر السّياسي التي يقدّمها له معلِّمه في اللّغة اللاّتينيّة، يبدو أنّ سبينوزا كان يواصل تلقُّنه للتّعاليم اليهوديّة في أكاديميّة Keter Torah (تاج الشّريعة)، التي كان يديرها الرّابي مورتيرا. دراسة سبينوزا لموسى بن ميمون وفلاسفة يهود آخرين ربّما كانت قد تمّت قبل كلّ شيئ تحت إشراف هذا الرّابي.
وبالرّغم من أنّ دراسته الفلسفيّة واحساسه بضعف إيمانه بالعقيدة اليهوديّة ضعفا جديّا قد صرفاه عن شؤون التّجارة، وذلك كلّما كان يتقدّم في معرفته بالآداب الوثنيّة وآداب الأمم الأخرى، فإنّ سبينوزا حافظ على التزامه بالمظاهر وواصل انتماءه كعضو مواظِب في جمعيّة "تلمود توراه" حتّى منتصف سنة 1650. فقد كان يدفع معاليم انخراطه فيها والضّرائب البلديّة، ويتبرَّع حتّى لبعض الصناديق الخيريّة.
ثمّ كانت المفاجأة؛ ففي سنة 1656 قرئ الإعلان التّالي بالعبريّة أمام "التّابوت المقدّس" "ʼārōn qodeš" [أي الغرفة أو الصّندوق أين تُحفظ لفائف التّوراة] في الكنيس المكتظّ المحاذي لقناة Houtgracht:
إنّ السّادَة أعضاء مجلس إدارة الطّائفة (ma’amad)، يعلنون من خلال هذا البلاغ أنّهم ومنذ زمن طويل على علم بالآراء والأعمال الخاطئة لباروخ دي سبينوزا وأنّهم حاولوا بشتّى الطرق والتعهّدات إثناءه عن هذا السّلوك الخاطئ. ولكنّهم أصبحوا مقتنعين بجديّة هذا الأمر وحقيقته بعد أن فشلوا في صرفه [أي سبينوزا] عن هذه الممارسات السيِّئة؛ بل بالعكس فهم يتلقَّون يوميّا أخبارا جدّية أكثر فأكثر بخصوص الزّندقات الفظيعة التي يمارسها ويُدرِّسها، وأفعاله الشّنيعة، ونظرا أيضا لعديد الشّهادات الموثوق بها التي وقع الإدلاء بها وسماعها بحضور المدعو سبينوزا الذي ثبُتت إدانته".
بعد استشارة الرّابيّين [الحاخامات]، قرّر المجلس إذن إقصاء سبينوزا، الذي كان حينئذ يبلغ من العمر ثلاثة وعشرين عاما، وطرده من شعب إسرائيل:
"بعون القدّيسين والملائكة وهَدْيِهم، فإنّنا نُقصي باروخ دي سبينوزا، ونطرده من الطّائفة، ونلعنُه وننبُذه بمشيئة الرّب، تبارك هو، وموافقة المجمَع المقدَّس بأكمله، وفي حضرة كتبنا المقدَّسة والتّعاليم الستّ مائة وثلاثة عشر المكتوبة فيها؛ إنّنا نضع هذا التّحريم ["حِرم" herem في العبريّة] كالتّحريم الذي وضعه يشوع ضدّ مدينة أرِيحَا [هنا إشارة إلى فتوحات مدن جنوب كنعان من طرف يشوع الذي جعلها مدنا محرّمة على ساكنيها]، ونلعَنه كما لعن أَلِيشاع الصّبية الصّغار [سفر الملوك الثّاني: 23-24]، ونلعنه بكلّ اللّعنات المكتوبة في كتاب الشّريعة. فلِيَكُن ملعونًا هو في النّهار وملعونا هو في اللّيل؛ ملعونا هو حين ينام وملعونا هو حين يصحو؛ ملعونا هو حين يخرج وملعونا هو حين يدخل. إنّ الرّبَّ الأزليّ لن يغفِر له أبدا بمشيئته، وسيصبّ عليه الرّب الأزليّ نارغضبه، ويهيل عليه كلّ اللّعنات المدوَّنة في هذا الكتاب؛ فلِيُمحَى إسمُه في هذه الدّنيا وإلى أبد الآبدين. وليَقْطَعه الرّب بمشيئة عن كلّ أسباط إسرائيل وأن يُلحِق به كلّ اللّعنات الواردة في كتاب الشّريعة. أمّا أنتم المتمسِّكون بربِّكم الأزليّ، فليحفظ حياة كلّ فرد منكم بمشيئته".
وتختم الوثيقة بالتّحذير التّالي: "لا يحقّ لأي شخص منكم أن يتواصل معه، شفهيًّا أو كِتابيًّا، أو يقدِّم له أيّ خدمة، أو يجتمع به تحت سقف واحد، أو يقترب من محيطه أقلّ من أربعة أذرع، أو يقرأ له كتابا من تأليفه أو بخطّ يده". (لقد فُقِد النّص العبري، بقيت فقط النّسخة البرتغاليّة، وهي موجودة في كتاب المراسيم (Livro dos Acordos de Naçao e Ascamot)، بأرشيفات بلديّة آمستردام، أرشيف الجالية البرتغاليّة بآمستردام، أرشيف 334، رقم 19، ورقة 408).
لقد كان هذا العقاب يُسمّى "الحِرْم" (harem)، [كان هناك حِرم أكبر وحِرم أصغر] وهو عبارة عن إقصاء اجتماعي ودينيّ، وهو عقاب لم يُسلَّط أبدا على أي عضو من أعضاء الطّائفة اليهوديّة البرتغاليّة في آمستردام. إنّ القائمين على الطّائفة اليهوديّة البرتغاليّة وهم يجتمعون بصفتهم مجلسا أعلى (ma’amad) في تلك السّنة، كانوا قد بحثوا بكلّ دقّة في كتبهم بغية العثور على الألفاظ الأكثر ملاءمة للوضعيّة محلّ الدّرس. وخلافا للكثير من العقوبات التكفيريّة الأخرى التي صدرت في تلك الفترة، فإنّ هذه الأخيرة لم يقع إلغاؤها أبدا. (النّص الذي استُخدِم في التّحريم (حِرم) كان قد جاء به الرّابي شاؤول لاوي مورتيرا من البندقيّة إلى آمستردام قبل ذلك بأربعين سنة وذلك بغية استعماله في حالة نزاع داخلي كما حدث عام 1619 بين طوائف دينيّة يهوديّة ولم يكن من الممكن حلّه بطريقة وديّة).
نحن لا نعرف لماذا عُوقِب سبينوزا بمثل هذا العقاب الشديد [الحِرم الأكبر]. وأن تتمّ معاقبته من طرف ملّته هو بالذّات، أي الملّة التي رعته وربّته والتي كانت تكنّ لعائلته إحتراما كبير، فذلك ممّا يعمّق غموض هذه المسألة. فلا وثيقة الطّرد من الملّة، الحِرم، ولا أي وثيقة أخرى من تلك الفترة تقول لنا بالضّبط ما يختفي وراء هذه "الآراء والممارسات السيِّئة"، وهذه "الزّندقات الفظيعة" أو "الأفعال الشّنيعة" التي ظُنَّ أنّه كان يمارسها ويُدرِّسها؛ فسبينوزا لم يكن قد نشر بعدُ شيئا يُذكَر، حتّى ولو كتابة رسالة. وسبينوزا لا يشير إلى هذه الفترة من حياته في أيّ رسالة من رسائله التي وصلتنا، وبذلك فهو لا يقدّم لمن كان يتراسَل معهم (ولا لنا نحن أيضا) أي مؤشِّر يمكنه أن يلقي الضّوء على السّبب الذي بموجبه تمّ إقصاؤه من الملّة. كلّ ما نعرفه عن يقين هو أنّ قادة الجالية اليهودية أصدروا في حقّ سبينوزا، سنة 1656، "حِرْم" لم يصدر ضدّ أحد أبدا في نفس تلك الفترة.
ومع كلّ هذا، لدينا ثلاثة مصادر موثوقة نسبيّا تسمح لنا بتكوين فكرة على طبيعة الذّنْب الذي اقترفه سبينوزا. فإذا ما أخذنا بعين الاعتبار تسلسل الأحداث التي سبقت التّحريم [التكفير] كما دوّنها جون مكسيميليان لوقس (Jean Maximilien Lucas)، وهو أوّل مَن كتب سيرة سبينوزا بعد موته بقليل، نلاحظ أنّ مفاهيمه كانت محلّ مناقشة شديدة داخل الطّائفة. لقد كان فضول الرابِّنيّين بالخصوص يدفعهم إلى معرفة فيما يمكن أنّ يفكِّر فيه هذا الرّجل الشّاب المعروف بذكائه. كما قال لوقس: "من بين أولئك الذين كانوا أكثر حماسة واندفاعا لإقامة علاقة معه، هناك بعض من الشّباب، الذين يدّعون أنّهم أكثر أصدقائه حميميّة، كانوا قد توسّلوا له أن يُفصِح لهم عن مشاعره الحقيقيّة، وذلك مهما كانت طبيعة هذه المشاعر. فقد كانوا يحاولون إقناعه بأنّه لن يخشى منهم شيئا مهما كانت طبيعة هذه المشاعر لأنّ غايتهم الوحيدة لا هدف من ورائها سوى رفع الاتباس عندهم وتبديد شكوكهم". وحتّى يطمئن سبينوزا لهم ويُفصِح لهم عن بنات أفكاره، قاموا باستدراجه فتصنَّعوا ريبتَهم في مضمون تراثهم الدّيني مشيرين إلى أنّه عندما نقرأ عن قرب أكثر ما جاء به موسى والأنبياء يمكن أن نفضي إلى نتيجة مفادها أنّ الرّوح ليست خالدة وأنّ الرّب ذو طبيعة ماديّة، ووجّهوا الأسئلة التّالية لسبينوزا: "كيف يبدو لك الأمر؟ هل للرّب جسد؟ هل توجد ملائكة؟ هل الرّوح خالدة؟". بعد هنيهة من التردّد، وقع سبينوزا في الفخّ ولم يقوَ على السّكوت، فأجابهم:
"أعْترفُ، بما أنّني لم أجد شيئا في البيْبل لامادّي أو لاجسدي، فإنّه لا غروَ أبدا الاعتقاد أنّ يكون الرّب جسدا؛ وبما أنّ الرّب كبير، كما تكلّم بذلك الملك-النبيّ، فإنّه من المستحيل أن نُدرِك حجْما بدون أن يكون له اتّساع، وبالتّالي لا يكون جسْما. بالنّسبة للأرواح، من المؤكّد أنّ الكتب المقدَّسة لا تتحدّث البتّة عن ماهيات حقيقيّة ودائمة، ولكنّها تتحدّث ببساطة عن أشباح سُمِّيت ملائكة لأنّ الرّب يسخِّرها لإظهار مشيئته، بحيث أنّ الملائكة وكلّ نوع آخر من أنواع الأرواح لا تكون غير مرئيّة إلاّ بسبب مادّتها الرّقيقة للغاية والشفّافة التي لا يمكن أن تُرى إلاّ كما نرى الأشباح في المرآة، أو في الحُلْم أو في الظّلام".
أمّا بخصوص الرّوح البشريّة، قيل أنّ ردّ سبينوزا كان: "أينما تحدّثت الكتابات المقدّسة عنها فإنّ هذا اللّفظ [روح] كان يُستَعمل فقط للتّعبير عن الحياة، أو عن كلّ ما هو حيّ. ولذلك من غير المجدي أن نبحث فيه عن أي معنى يُفيد خلود الرّوح. والعكس من ذلك [أي فناء الكائن الحيّ] فهو ظاهر أينما وجّهنا أبصارنا وليس هناك أيّ صعوبة في البرهة على ذلك".
لم يثِق سبينوزا، وكان على حقّ في ذلك، بالتِعلاّت التي ادّعى "أصدقاؤه" أنّها كانت سبب فضولهم فأقفل باب النّقاش معهم في أوّل فرصة سنحت له. في بداية الأمر، كان محاوروه هؤلاء يعتقدون بكلّ بساطة أنّه كان بصدد ممازحتهم أو يريد أن يصدمهم بالإفصاح عن أفكار استفزازيّة فاضحة. إلاّ أنّهم، عندما أيقنوا أنّه كان جادّا في كلامه شرعوا في إشاعة ذلك حولهم: "بدأوا في الاستخفاف به أمام الرّأي الشّعبي. ثمّ أذاعوا أنّه من غير المقبول الاعتقاد بأنّ هذا الشّاب كان في يوم من الأيّام قد إعتُبر من أعمِدة الكّنيس [اليهودي]، بل يجب الاعتقاد أنّه كان على ما يظهر ممّن يريدون تخريبه نظرا لما يحمله في طيّاته من كراهيّة وازدراء لشريعة موسى". يذكر لوقس أنّ سبينوزا عندما دُعِي أمام قُضاته [لمحاكمته وإقصائه]، أدلى هؤلاء [الأصدقاء] بشهادات ضدّه مدّعين أنّهم سمعوه "يتهكَّم على اليهود، ويعتبرهم أناسا يؤمنون بالخرافات، وُلِدوا وترعرعوا في الجهل، وهم لا يعرفون ما هو الرّب، ومع ذلك فهم لا يتورّعون عن القول بأنّهم شعبُه [المختار] في تغييب صارخ لبقيّة الأمم الأخرى".
(يتبع)



#ناصر_بن_رجب (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رَبُّ القَبائل، إسلام محمّد
- قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (14)
- قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (13)
- قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (12)
- قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (11)
- قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (10)
- قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (9)
- قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (8)
- قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (7)
- قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (6)
- قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (5)
- قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (4)
- قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (3)
- قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (2)
- قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (1)
- سورة الفيل والتّفسير المستحيل!
- مَكّابِيُّون وليسَ مكّة: الخلفيّة التوراتيّة لسورة الفيل(2)
- مَكّابِيُّون وليسَ مكّة: الخلفيّة التوراتيّة لسورة الفيل(1)
- سورة الفاتحة: هل هي مدخَل شعائري لصلاة الجَماعة؟ (2)
- سورة الفاتحة: هل هي مدخَل شعائري لصلاة الجَماعة؟ (1)


المزيد.....




- يهود متشددون يفحصون حطام صاروخ أرض-أرض إيراني
- “متع أطفالك ونمي أفكارهم” تردد قناة طيور الجنة الجديد 2024 ب ...
- لولو يا لولو ” اظبطي تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات ...
- شاهد: عائلات يهودية تتفقد حطام صاروخ إيراني تم اعتراضه في مد ...
- أمين عام -الجماعة الإسلامية- في لبنان: غزة لن تبقى وحدها توا ...
- وزيرة الداخلية الألمانية: الخطوط الحمراء واضحة.. لا دعاية لد ...
- لجنة وزارية عربية إسلامية تشدد على فرض عقوبات فاعلة على إسرا ...
- اللجنة العربية الإسلامية المشتركة تصدر بيانا بشأن -اسرائيل- ...
- إلهي صغارك عنك وثبتِ تردد قناة طيور الجنة الجديد 2024 لمتابع ...
- اختفاء مظاهر الفرح خلال احتفالات الكنائس الفلسطينية في بيت ل ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - ناصر بن رجب - كتاب صُنِع في الجحيم (1)