أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - رشيد غويلب - العصا الغليظة / موضوعات عن منهجية الإمبريالية الأمريكية في أمريكا اللاتينية الأمس واليوم ب















المزيد.....


العصا الغليظة / موضوعات عن منهجية الإمبريالية الأمريكية في أمريكا اللاتينية الأمس واليوم ب


رشيد غويلب

الحوار المتمدن-العدد: 7115 - 2021 / 12 / 23 - 12:03
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


بقلم: انغار سولتي ترجمة: رشيد غويلب

النص التالي هو في الأصل محاضرة ألقاها إنغار سولتي في مؤتمر نظمته مجموعة التضامن مع كوبا في قيادة الحزب الشيوعي الألماني في 23 تشرين الأول 2021.

1
عندما نتحدث عن سياسات الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي الواقع تحت هيمنتها، ازاء أمريكا اللاتينية، علينا أن نتحدث عن ماهية الإمبريالية وما هو ليس إمبريالية. فما هي الإمبريالية؟ لطالما تم اشباع الإمبريالية في النقاش الماركسي. وأصبح تمييزها عن مصطلح الرأسمالية غير واضح بشكل متزايد. لذلك يبدو أن تحديد المفهوم الضيق للإمبريالية مهم حتى لا نقع في فخ التعسف.
في العلوم السياسية، يمكن تعريف الإمبريالية على أنها "سياسة العنف المفتوحة أو المخفية لتأمين نظام داخلي من خارجه.
العامل المقرر هو لحظة السياسة. أي أن الدول التي تتعامل بأساليب إمبريالية. والمقرر أيضا لحظة عنف دولة ما عادة ما تكون قوية ضد دولة أخرى عادة ما تكون ضعيفة أو أكثر ضعفا. وفي نهاية المطاف، المقرر هو العلاقات الخارجية -الداخلية، لأن الإمبريالية هي الحل للتناقضات الداخلية للرأسمالية كما تجسدها دولتها القومية.

2

وعلى هذا الأساس، يُبين تحليل الإمبريالية كيف تصبح التناقضات المجتمعية، لمجتمع ما ذات تأثير إقليمي خارجي، وهذا يعني كيف يحمي مجمع الدولة والمجتمع المدني نفسه بواسطة سياساته خارجيا، وكيف يجعل علاقاته الداخلية وسياسته الخارجية مستقرة، ويعيد انتاجها، ويتطور ويعالج، على الأقل مؤقتًا، تناقضاته الداخلية.

هذه التناقضات هي نتيجة لمنطق وتاريخ النظام الرأسمالي. وبالملموس: الرأسمالية هو نظام عالمي، منظم باعتباره نظاما دوليا عالميا. في الدولة، يتم إضفاء الطابع المؤسسي على توازن القوى بين الطبقات. في جهاز الدولة، تتشكل كتلة سلطة، مع كتل رأسمالية تجمع المصالح المهيمنة المختلفة في مشروع مشترك. واعتمادًا على كتلة السلطة والمشروع، وشكل الحكومة (الديمقراطية ليبرالية، بونابرتية، فاشية.. إلخ)، وافضلية مؤسسات الدولة (كما هو الحال في الرأسمالية العالمية اليوم، فان المكانة البارزة جدا، هي لوزارات المالية والبنوك المركزية، والتي يتم تفريغها من آليات الرقابة الديمقراطية، وخفض أهمية وزارات العمل، وما إلى ذلك). الرأسمالية كنظام منظم من مجموع دول قومية، والميل نحو العولمة متأصل فيه. ولذلك، فإن مصالح كتلة السلطة المعنية لها بالضرورة بعد خارجي. وتشمل هذه المجالات المختلفة للسياسة الاقتصادية، مثل تصدير السلع ورأس المال وكذلك استيراد الموارد، وصولا الى تأمين سلطتها الداخلية بواسطة حروب خارجية، التي يكون لها على الأقل في مراحلها الأولى وفي حالة ارتفاع ملحوظ لمستوى التهديد، تأثير داخلي (إعادة استقرار)، إلخ. لكنه يشمل أيضًا السياسة السكانية، ولان فرض الملكية الرأسمالية والعلاقات الاجتماعية يسير دائمًا جنبًا إلى جنب مع فائض سكاني، مما يجعل تصدير (المستعمر الاستيطاني) لهؤلاء المواطنين الفائضين والفقراء ضروريًا. قامت إنكلترا، على سبيل المثال، بتصدير فائض سكانها، والذي ظهر على أنه "طبقات خطرة" (فقراء، متشردون، مجرمون، ثوريون محتملون، إلخ) إلى أمريكا الشمالية وبعد ذلك إلى إفريقيا وأستراليا وآسيا.

يتم فرض مصالح كتلة السلطة والكتل الرأسمالية التي تهيمن عليها من خلال السياسة الخارجية. هذه الوسائل متنوعة. والعنف المفتوح هو وسيلة مهمة للسلطة السياسية. والدولة، على الأقل، منذ صلح وستفاليا (معاهدتا السلام اللتان انهتا حرب الثلاثين عاما في عام 1648 - المترجم)، هي وسيلة مثالية للاحتكار الشرعي لسلطة الدولة (الجيش والشرطة). وعلى حد تعبير المنظر العسكري البروسي كارل فون كلاوزفيتز (1780-1831)، فإن الحرب هي "استمرار السياسة بوسائل أخرى". هي تمكن - باعتبارها Ultima ratio" " (آخر وسيلة مناسبة) [قد يقول مناهضو الحرب: ممارسة الإكراه المباشر كوسيلة لفرض المصالح]: توظف الدولة (أ) العنف المباشر لإجبار الدولة (ب) على الخضوع لشروطها.
لذلك فإن الإمبريالية هي سياسة عنف، ومع بيرتولت بريشت نحن نعرف "صعوبات الاعتراف بالعنف". علينا أن نميز بين العنف المباشر والهيكلي، والمفتوح والكامن. الإمبريالية العسكرية هي في نهاية المطاف الشكل الأضعف، لأنها بوضوح وحشية، وبالتالي أكثر الاشكال تناقضًا. ومع ذلك، فإن ترسانة الإمبريالية مليئة بالأساليب الأخرى، التي غالبًا ما تكون أكثر فاعلية ودهاء في فرض المصالح، لكنها ليست أقل عنفًا، بل لا تبدو بالضرورة كذلك.

3
كان مشروع الولايات المتحدة، الذي انبثق عن مشروع الاستعمار الإنكليزي في أواخر القرن السادس عشر وأوائل القرن السابع عشر، منذ البداية، مشروعًا توسعيًا: تبع توسع "أمريكا الشمالية الداخلي" الاستعماري الاستيطاني إلى الغرب والجنوب نتيجة "صفقة لويزيانا" 1803 (شراء لوزينا الفرنسية مساحة 15 ولاية امريكية ومقاطعتين كنديتين – المترجم)، التي انتهت بثبيت "الحدود الأمريكية" في تسعينيات القرن التاسع عشر، تلاها توسع خارج هذه الحدود "الداخلية" للولايات المتحدة.

4

كان المشروع الاستيطاني الاستعماري الأمريكي عدوانيًا منذ البداية، وهذا يعني عسكريا عنيفا. شمل الحرب ضد المكسيك من أجل السيطرة على تكساس (1846-1848). وشمل ايضا الإبادة الجماعية لسكان البلاد الأصليين (الهنود الحمر). وفي نهاية المطاف شمل الحرب الأهلية الأمريكية في سنوات 1861 -1865. وفي الأخيرة، تم استخدام العنف لتحديد أي نمط إنتاج - صناعي رأسمالي في الشمال، وإنتاج زراعي قائم على عمل العبيد في الجنوب، الذي ينبغي أن يمتد في منطقة الغرب الأوسط حتى سلسلة جبال روكي.

5

كانت الظروف الاجتماعية في أمريكا الوسطى والجنوبية أصلا نتيجة للسياسات الإمبريالية والاستعمارية، بدءًا من ما بعد انهاء السيطرة العربية على منطقة البحر المتوسط عام 1492، و"فتح" منطقة البحر الكاريبي وأمريكا الوسطى وأمريكا الجنوبية من قبل الإسبان، ولاحقا البرتغاليين. لذلك، هناك ضرورة لتوضيح أسباب لعب الولايات المتحدة الدور الذي تلعبه اليوم في نصف الكرة الغربي وليس البرازيل، على سبيل المثال، البلد الكبير والغني بالموارد، والذي تأسس مثل معظم بلدان الأمريكية الجنوبية في عام 1822، أي بعد وقت قصير من نيل الولايات المتحدة استقلالها الرسمي في عام 1776. والأمر ذاته ينطبق على المكسيك، التي انفصلت عن إسبانيا بعد حرب الاستقلال من عام 1810 إلى عام 1822.

أصبحت الولايات المتحدة "كولوسو ديل نورتي" (عملاق الشمال)، كما أسماها خوسيه مارتيه، كاتب ومفكر كوبي ومن رموز الوطنية الكوبية - المترجم) لأن نموذج التطوير المطبق هناك كان النموذج الإنكليزي، في حين أن النموذج الذي تم بناءه في أمريكا الجنوبية كان نموذجا إسبانيا.
في وقت استعمارها لأمريكا الشمالية، كانت إنكلترا بالفعل بلدًا رأسماليًا، وظهرت الرأسمالية هناك في وقت مبكر من نهاية القرن السادس عشر، ليس في المدن، بل في الريف، وفي سياق الاحتواء الكبير وخصخصة. المشاعات، والأرض المشتركة السابقة، وظهور طبقة العمال الأجراء (كارل ماركس).
وبالمقابل، كان الهيكل الاقتصادي لإسبانيا والبرتغال لا يزال إقطاعيًا ابان توسعهما في أمريكا الوسطى والجنوبية. في الوقت الذي صدّر فيه الإنكليز إلى المستعمرات نظامًا رأسماليًا يمتلك قاعدة تراكمية خاصة به ، والتي احتوت على الشروط الأساسية للاستقلال الاقتصادي، الذي أدى إلى حرب الاستقلال ضد إنكلترا بين 1775 - 1783 (تلتها انتفاضة اجتماعية ديمقراطية للتمرد شيز (نسبة لاحد قادة التمرد- المترجم)، وما نتج عنها من عملية دستورية محافظة موجهة ضده)، استخدمت إسبانيا والبرتغال القارة الأمريكية فقط كمنطقة استغلال من أجل تثبيت حكمهما، ولرفاهية الطبقة الأرستقراطية الطفيلية وتمويل الجيوش لغرض المزيد الفتوحات الاستعمارية. ويمكن في هذا التناقض العثور على جذور التبعية والتهميش في أمريكا اللاتينية بين الاستعمار الرأسمالي الإنكليزي، والاستعمار والإسباني-البرتغالي الاقطاعي.
6
بدأت ممهدات لتاريخ الإمبريالية الأمريكية في أمريكا اللاتينية بتطبيق عقيدة جميس مونرو، الرئيس الخامس للولايات المتحدة في عام 1823، كانت مخططًا لفرض مصالح الولايات المتحدة في نصف الكرة الغربي. وتمت صياغته في البداية بشكل دفاعي. وبطرحه عملت الولايات المتحدة على فرض "قانون دولي بصلاحيات واسعة مع حظر تدخل القوى الأجنبية"، كما صاغه لاحقا خبير القانون الدستوري والدولي كارل شميت، "القانوني الأول للرايخ الثالث "، عندما قال إن ادعاء ألمانيا النازية بالتفوق في أوروبا الشرقية سعى للتأكيد تفوقها ولإضفاء الشرعية عليه.
7
لقد جاء إعلان عقيدة مونرو، في اجواء حروب الاستقلال الأمريكية الجنوبية في سنوات 1809 -1825، ونتيجة لذلك ظهرت الدول ذات السيادة في القارة والتي لا تزال قائمة حتى اليوم. والولايات المتحدة، التي صاغت منذ إعلان استقلالها عام 1776 ادعاءً مناهضًا للاستعمار والملكية لا يزال يتردد في عبارة "(جعلوا العالم مستعدًا) للحرية والديمقراطية" المعروف في عقود الحرب الباردة، ربطت مصالحها الخاصة في أمريكا الجنوبية والوسطى مع إيديولوجيا مناهضة الاستعمار، وإظهار قوتها ضد إسبانيا والبرتغال، وانحازت على ما يبدو إلى جانب الجمهوريات المستقلة حديثًا في أمريكا اللاتينية حينها.
8
وكان للإمبريالية الأمريكية، على أساس هذه الخلفية، شكلها الخاص. لقد طورت الولايات المتحدة نوعًا جديدًا من الإمبريالية، أطلق عليها ليو بانيتش (أكاديمي ماركسي كندي) "إمبراطورية غير رسمية بدون مستعمرات". وهذا النوع هو النموذج السائد للإمبريالية اليوم. إن هيمنتها هي السبب الذي يجعل مناقشة الأشكال المختلفة للسياسات الإمبريالية للعنف المباشر وهيكلي، عسكري وغير عسكري، إلخ -أمرًا بالغ الأهمية. وبخلاف ذلك، هناك خطر الوقوع في خطأ اعتبار الإمبريالية حقبة تاريخية بدأت في سبعينيات القرن التاسع عشر، وانتهت انتصار الحلفاء على دول المحور (الفاشية الألمانية وحلفائها إيطاليا واليابان، إلخ.)، لكن الإمبريالية ما زالت حية ومعافاة؛ لقد غيرت جزئيًا شكلها الكلاسيكي فقط.
9
تتمثل طريقة عمل "الإمبريالية الجديدة" و "الإمبراطورية الأمريكية" في ترسيخ التبعية للبلدان والمجتمعات الأخرى دون احتلالها بشكل دائم، واستعمارها بواسطة المستوطنين، كما كان معتادًا حتى عام 1945، او كما فعلت فرنسا الثورية، في هايتي، عندما دمجت سكانها، بدون حقوق المواطنة، في دولتها. ولكن كيف يكون ذلك ممكنا؟ كيف يمكن السيطرة على مناطق جغرافية دون ممارسة سلطة الدولة فعلية فيها؟ ماذا لو أجريت "انتخابات حرة" في هذه الدول الأجنبية وكان بالإمكان انتخاب حكومات جديدة ذات سيادة فيها؟ ولفهم ذلك، يجب على المرء أن يتفحص عملية نشوء الإمبريالية الأمريكية.
10

لم تكن الإمبريالية الأمريكية دائمًا غير رسمية تمامًا. كانت هناك مرحلة إمبريالية كلاسيكية في الولايات المتحدة، بدأت عندما تم "إغلاق الحدود" في منتصف تسعينيات القرن التاسع عشر، بتجاوز الحدود "الداخلية" للاستعمار. جسدت ذلك حكومتا ويليام ماكينلي (1897–1901) وثيودور روزفلت (1901–1909) هذا الأمر بشكل خاص. كان روزفلت نائب وزير البحرية في عهد ماكينلي وحل محله كرئيس بعد اغتيال ماكينلي. وفقًا لخطط روزفلت، شنت الولايات المتحدة حربًا بين عامي 1898 و1900 ضد إسبانيا، التي وقفت ضد تطلعات كوبا للاستقلال. روزفلت نفسه قاد ما يسمى بـ "الفرسان القساة". أدى الانتصار في الحرب على إسبانيا باستعمار جزئي. لقد ضمت الولايات المحتدة الفلبين، التي كانت حتى ذلك الحين مستعمرة إسبانية، كما قاموا أيضًا بتأمين مستعمرات التي لا تزال موجودة حتى اليوم. ويشمل ذلك غوانتانامو في كوبا، التي استخدمت كمركز تعذيب خارج الحدود الإقليمية في حروب الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. ويشمل ذلك جزيرة غوام الواقعة في غرب المحيط الهادئ، والتي لا تزال تلعب دورًا مهمًا استراتيجيًا لمصالح الولايات المتحدة اليوم كمستعمرة، وتحديداً كقاعدة انتشار عسكرية في سياق سياسة الاحتواء ضد الصين منافستها عالية التقنية.
11
كرئيس، وسع روزفلت مذهب مونرو لعام 1823 ليشمل تدابير لسياسات مصالح هجومية في أمريكا اللاتينية. وهذا ما عكسته عبارة روزفلت عام 1904 Corollary، التي اختصرت فكرة: "تحدث بهدوء واحمل عصا غليظة؛ سوف تذهب بعيدا ". بواسطة هذه الإضافة إلى مبدأ مونرو، ردت الولايات المتحدة على الحصار العسكري الذي فرضته بريطانيا العظمى وألمانيا وإيطاليا على فنزويلا من كانون الأول 1902 الى شباط 1903. أرادت القوى الأوروبية الرأسمالية إجبار فنزويلا على سداد الديون الخارجية. ووضع تعامل واشنطن مع ما يسمى بأزمة فنزويلا الأساس للإمبريالية الأمريكية غير الرسمية. من ناحية، صاغوا الادعاء بأنهم الأهم، بحكم الأمر الواقع، "قوة النظام" العسكرية الوحيدة في نصف الكرة الغربي (وأحالوا القوى الأوروبية في النهاية إلى القارة الأفريقية، التي وزوعها بعد مؤتمر الكونغو في برلين. عام 1884/85 فيما بينهم، ومن ناحية أخرى، فرض المصالح المالية للقوى الرأسمالية الأخرى عسكريًا إذا تطلب الأمر. ومنذ ذلك الحين، على أبعد تقدير، اعتبرت الولايات المتحدة أمريكا اللاتينية "حديقتها الخلفية".
12
على عكس سلوك الإنكليز والفرنسيين والبلجيكيين والهولنديين والبرتغاليين والألمان في إفريقيا، تغير النموذج الأمريكي للإمبريالية. لم تكن إمبرياليتهم في نصف الكرة الغربي تهدف إلى الاخضاع الاستعماري الرسمي، بل إلى الحكم غير الرسمي (الهيمنة). لقد فهم هذا أيضًا كارل شميت، الذي كتب عن "الأشكال القانونية الدولية للإمبريالية الحديثة" عام 1933، في إشارة إلى الولايات المتحدة. بصفته قاضيا دستوريًا في خدمة الفاشية الألمانية، التي كانت تستعد للحرب والغزو، كان لدى شميت فهم واقعي لأهمية هذه الأشكال الجديدة: لقد كانت إمبريالية دستورية. لقد ارادت الولايات المتحدة الأمريكية تهديد أو إخضاع دول أمريكا الوسطى والجنوبية عسكريًا، لكنهم لم "يأتوا للبقاء"، وعندما انسحبوا، وكقاعدة عامة، قاموا بتغيير دساتير البلدان المعنية، وفق مصالحهم السياسية، والمصالح الاقتصادية في المركز منها. وشمل ذلك على وجه الخصوص إنشاء اقتصاد مفتوح بغرض تدفق رأس المال الأمريكي المتراكم واستثماره. ولم يتغير شيء يذكر، بهذا الخصوص، حتى يومنا هذا.

13
يتضح الانتقال إلى هذا الشكل من السياسة من خلال مثال قناة بنما، التي لم تكلف فقط حياة عشرات الآلاف من عمال الشركة فرنسية المساهمة، التي قامت ببنائها في البداية، ولكن أيضًا باعتبارها أهم طريق مائي داخلي. بعد قناة السويس، انخفضت تكلفة نقل البضائع عن طريق البحر، على الأقل، من الساحل الشرقي إلى الساحل الغربي في الولايات المتحدة انخفاضًا كبيرًا. وبعد إفلاس الشركة الفرنسية، منح الكونغرس الأمريكي عام 1902 الرئيس روزفلت حق شراء قناة بنما. لقد قرر برلمان كولومبيا، الذي كانت المنطقة تابعة له في ذلك الوقت، عدم البيع للولايات المتحدة الأمريكية، ونتيجة لذلك، رأت واشنطن، التي كانت تفضل نيكاراغوا كموقع لبناء القناة لأسباب مفهومة، طريقتين للخروج من الإشكال: اندلاع حرب في نيكاراغوا لتنفيذ الخطة فيها، أو تمرد في كولومبيا، على غرر انقلاب في هاواي لتأمين تفوق البيض قبل عشر سنوات مضت، وبالتالي تمكنت الولايات المتحدة، بالتعاون مع برجوازية كومبرادور محلية، من دفع عملية بناء قناة بنما الى الأمام، بما يتفق مع مصالحها. قامت الانتفاضة، وأعلن الانقلابيون، القلقين بشأن خطة نيكاراغوا البديلة، استقلال منطقتهم. وبهذا ولدت دولة جديدة: أرسلت بنما والولايات المتحدة قوات عسكرية لمنع الحكومة الكولومبية من استعادة المنطقة التي تم اقتطاعها. حصلت الولايات المتحدة على قناتها، وتمت مكافأة مدبري الانقلاب على خدماتهم بمناصب السفراء وغيرها، وتنازلت الدولة الجديدة تعاقديًا عن جميع الحقوق السيادية تقريبًا: الضرائب، والرسوم، وحتى السيطرة على الأراضي، لأن الولايات المتحدة أمنت 22 ميلاً كممر على طول القناة، كمنطقة سيادية لها، وكذلك الحق في توسيع هذه المنطقة وفقًا لتقديراتها الخاصة، وبدا ذلك معقولا وفق مصالحها المرتبطة بالقناة. بالإضافة إلى ذلك، كان لها الحق في غزو بنما في أي وقت، ونص دستور الدولة الجديدة على ذلك من أجل استعادة "الهدوء العام والنظام الدستوري"، وهذا يعني ان الولايات المتحدة الأمريكية ضمنت وضع دولة تابعة ذات سيادة محدودة للغاية بموجب قانون أبدى. وجاء ذلك على غرار الدستور الكوبي على خلفية الحرب الأمريكية – الإسبانية. وأخيرًا، قامت الولايات المتحدة بتكييف دولتها التابعة -على غرار نهجها في كوبا والفلبين مع الاقتصاد الأمريكي من خلال فرض إصلاح مالي ربط هذه الدول بمعيار الذهب وفتح اقتصاداتها أمام رأس المال الأمريكي الساعي للاستثمار وبالتالي تعتمد هذه الدول على الولايات المتحدة الأمريكية. وسمي هذا "دبلوماسية الدولار".

14

لم يتغير شيء يذكر بشأن طريقة العمل هذه: الغزوات والحروب قصيرة المدى، والانقلابات، وإعادة الهيكلة الدستورية. الأنماط الكامنة وراء كوبا 1961 وما بعدها، تشيلي 1973، غرينادا 1983، قضية إيران كونترا 1985-1987 حتى انقلاب وخطط الغزو في فنزويلا، حيث تم إعلان خوان غوايدو الرئيس الشرعي لفنزويلا، لا تزال هي نفسها كما تمت دراستها في بنما. وعلى الرغم من الأهمية البالغة، في العلاقة بين الولايات المتحدة وحديقتها الخلفية، فإن سياسة العنف ليست مفتوحة، بل كامنة وخفية.

15

غالبًا ما تعمل الإمبريالية الأمريكية بشكل غير رسمي، ولكن ليس أقل عنفًا. إذا كانت برامج التكييف الهيكلي التي تقوم بها المؤسسات المالية العالمية التي تهيمن عليها الولايات المتحدة، صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، تعزز تحرير التجارة بشروط الولايات المتحدة ووفقًا لمصالح رأس المال الزراعي والصناعي للولايات المتحدة، وخصخصة ممتلكات الدولة لصالح الولايات المتحدة الساعية للاستثمار. رأس المال ورفع القيود عن أسواق العمل، واللوائح البيئية، وما إلى ذلك لصالح الشركات العابرة للحدود الوطنية الموجودة في الولايات المتحدة (أو أوروبا) (باسم "القدرة التنافسية")، فهذا كله ليس مجرد شكل من أشكال إمبريالية الديون. أنه عنف مباشر ضد شعوب أمريكا اللاتينية. وحرب المخدرات هي أفضل مثال على ذلك: لقد "دمرت" اتفاقات التجارة الحرة لأمريكا الشمالية والوسطى عشرات الملايين من صغار المزارعين الذين يعيشون على الكفاف، وهذا يعني. تحول صغار الملاك إلى بروليتاريين يعتمدون على العمل المأجور ولكنهم لا يجدونه أبدًا، خاصة وأن تقليص العمالة العامة باسم القدرة التنافسية يغلق هذا المسار أيضًا. وعندما يُخير الناس بين العمل في القطاع غير الرسمي (غير القانوني)، المخدرات، الأسلحة، الاتجار بالبشر، أو الفرار من العنف المروع في هذا القطاع في بلدان أمريكا الوسطى بحثًا عن عمل، ليموتوا على حدود الولايات المتحدة الأمريكية، او ينفصلون عن عوائلهم، وفي الولايات المتحدة يوضعون في أقفاص ثم يرحلون بشكل قسري، أو يستغلون بشكل مفرط بأعمال "غير قانونية" في القطاع الزراعي في الولايات المتحدة، فهذا لا يقل فظاعة وعنفا من الشكل المباشر للحرب المفتوحة. الأمر نفسه ينطبق على سياسات العقوبات والحصار التي تفرضها الولايات المتحدة على كوبا وفنزويلا، والتي تؤدي الى ارتفاع أسعار المواد الغذائية أو حظر ايصال الأدوية لفنزويلا، وهذا يعني أن عددًا لا يحصى من الناس يفقدون حياتهم نتيجة لذلك. ويعد رفض العقوبات، باعتبارها عملا من أعمال الحرب، مهمة رئيسية لحركة السلام اليوم. ان سياسة العنف غير المباشرة هذه في نصف الكرة الغربي لها أصل واحد فقط: العملاق القادم من الشمال.

16
إن تاريخ مقاومة الإمبريالية الأمريكية والنضال من أجل الاستقلال الاقتصادي والعدالة الاجتماعية في أمريكا اللاتينية طويل. بعد انتصار الثورة الكوبية عام 1959، بدأت دورة طويلة من حركات التحرر الوطني، التي اعتمدت الكفاح المسلح. مع الانتصارات الانتخابية للتحالفات اليسارية في نهاية التسعينيات، انتصار حركة من اجل الاشتراكية في بوليفيا، وانتصار الثورة البوليفارية في فنزويلا، وانتصار رافائيل كوريا في الإكوادور وتأسيس منظمة دول" ألبا"، تم استبدال هذه الدورة على ما يبدو بدورة جديدة، هي دورة الحكومات اليسارية. يظهر مثال كولومبيا استنفاد إمكانيات حرب العصابات. ومحدودية نموذج التنمية الإضافية وفشل فترة الحكومات اليسارية، سواء حكومات يسار الوسط المعتدلة، او الثورية منها، أدى إلى دخول حركات التحرير في أمريكا اللاتينية في أزمة عميقة. وتجد قوى اليسار نفسها اليوم في عملية محاولة جديدة، خصوصا بعد فشل اليمين الذريع في التعامل مع أزمة وباء كورونا، كما هو الحال مع حكومة جايير بولسونارو في البرازيل. وفي هذه الاثناء ظهرت حركات اجتماعية قوية جديدة، ونجحت حكومات يسارية جديدة في الوصول الى السلطة. وينال نجاح اليسار التشيلي في انتخابات الجمعية التأسيسية اهتمام خاصا.


انغار سولتي: كاتب وعالم اجتماع ألماني وتشمل اهتماماته البحثية الاقتصاد السياسي العالمي، وعلم الاجتماع السياسي، والنظرية السياسية، وعلم الجمال. ومنذ حزيران 2016 يعمل استشاريا لسياسة السلام والأمن في معهد التحليل الاجتماعي في مؤسسة روزا لوكسمبورغ، التابعة لحزب اليسار الألماني. له العديد من المؤلفات والبحوث في مجالات اهتماماته المختلفة.



#رشيد_غويلب (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- من ساحات الاحتجاج إلى القصر الجمهوري / في تشيلي انتصار حاسم ...
- بعد شكوى لمناهضين للفاشية / المحكمة الاتحادية الدستورية تقاض ...
- القمة الأمريكية الروسية / اقتراب من صراع مفتوح ومخاوف من الا ...
- مؤتمر حزب العمل البلجيكي: عملية تجديد متواصلة
- بعد 12 عاما من حكم اليمين وسلسلة مؤامرات أمريكية / اليسارية ...
- على الرغم من تراجع حكومة اليمين الهندوسي العنصري / فلاحو اله ...
- امريكا اللاتينية تنتخب / انتصار في فنزويلا وانتخابات في تشيل ...
- تحقيق البديل ليس حلما طوباويا/ أول عمدة شيوعية في غراتس النم ...
- استراتيجيات عسكرية جديدة للاتحاد الأوربي
- شيء عن مسودة التقرير السياسي
- الاكثرية صوتت /استمرار العمليات العسكرية في العراق وسوريا / ...
- جسدت انسجاما شكليا قمة مجموعة العشرين.. اتحاد غربي ضد الصين ...
- بعد الهجوم على مقرات النقابات العمالية في ايطاليا / 200 ألف ...
- يهدف للوصول إلى أدوات الدولة / التمرد الراهن لليمين الاستبدا ...
- حول أزمة الديمقراطية وآلياتها / هل تعيش فرنسا لحظة ما قبل ال ...
- في رسالته الى المؤتمر الرابع للحركات الشعبية / البابا يواصل ...
- بعد الهزيمة في الانتخابات البرلمانية الأخيرة ما هو المسار ال ...
- قراءة مختلفة لسنوات الكومنترن الثورية*
- قوى التغيير ونتائج الانتخابات العراقية
- بعد 20 عامًا من الاحتلال الغربي / الاقتصاد الأفغاني .. أزمة ...


المزيد.....




- الشرطة الإسرائيلية تفرق متظاهرين عند معبر -إيرز- شمال غزة يط ...
- وزير الخارجية البولندي: كالينينغراد هي -طراد صواريخ روسي غير ...
- “الفراخ والبيض بكام النهاردة؟” .. أسعار بورصة الدواجن اليوم ...
- مصدر التهديد بحرب شاملة: سياسة إسرائيل الإجرامية وإفلاتها من ...
- م.م.ن.ص// تصريح بنشوة الفرح
- م.م.ن.ص// طبول الحرب العالمية تتصاعد، امريكا تزيد الزيت في ...
- ضد تصعيد القمع، وتضامناً مع فلسطين، دعونا نقف معاً الآن!
- التضامن مع الشعب الفلسطيني، وضد التطبيع بالمغرب
- شاهد.. مبادرة طبية لمعالجة الفقراء في جنوب غرب إيران
- بالفيديو.. اتساع نطاق التظاهرات المطالبة بوقف العدوان على غز ...


المزيد.....

- مساهمة في تقييم التجربة الاشتراكية السوفياتية (حوصلة كتاب صا ... / جيلاني الهمامي
- كراسات شيوعية:الفاشية منذ النشأة إلى تأسيس النظام (الذراع ال ... / عبدالرؤوف بطيخ
- lمواجهة الشيوعيّين الحقيقيّين عالميّا الإنقلاب التحريفي و إع ... / شادي الشماوي
- حول الجوهري والثانوي في دراسة الدين / مالك ابوعليا
- بيان الأممية الشيوعية الثورية / التيار الماركسي الأممي
- بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة ف. آي. لينين (النص كاملا) / مرتضى العبيدي
- من خيمة النزوح ، حديث حول مفهوم الأخلاق وتطوره الفلسفي والتا ... / غازي الصوراني
- لينين، الشيوعية وتحرر النساء / ماري فريدريكسن
- تحديد اضطهادي: النيوليبرالية ومطالب الضحية / تشي-تشي شي
- مقالات بوب أفاكيان 2022 – الجزء الأوّل من كتاب : مقالات بوب ... / شادي الشماوي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - رشيد غويلب - العصا الغليظة / موضوعات عن منهجية الإمبريالية الأمريكية في أمريكا اللاتينية الأمس واليوم ب