أحمد محمد النهير
الحوار المتمدن-العدد: 1655 - 2006 / 8 / 27 - 02:40
المحور:
الادب والفن
تدلت الشمس فوق الحافات الناهضة على نهاية ملمح الأفق، فاستيقظت نسمات ( زوزانية ) رقيقة منعشة ، هببت تواً ، من غفوة استمرت نهاراً صيفياً كاملاً ، خبن يوسف ثوبه بإزاره المشدود بقوة، كاشفا عن ساقين سمراوين ، كثرت عليهما تخرشات قصب العشب اليابس ، وخدوش شوك ( الخرنوب) البري ، والحرشف المتخشب ، واللزيق ذي الأنياب الابرية الجارحة .
تمددت ( البرنو ) فوق كتفيه ، مفرداً عليها ذراعيه القويتين ، وكأنهما جناحا نسر عملاق ، أرخى رأسه إلى الأمام بطأطأة مائلة ، بينما كان قطيعه راتعاً ، ينفش بشراهة ورغبة في النبت المتشابك على كتف ( خنيز ) المنسلّ خلسة من الإبط الغربي لمدينة القامشلي الفاتنة ، منساباً إلى الجنوب ببطيء شديد ، يحاذيه سهل فسيح خصب ، ثلثه بالتعاضد مع نهر جغجغ قبل أن يلتقي معه ويحتضنه بحب لاينته . مختبئاً وراء تل الحاج بدر بحياء وقور .
هدير( الو شاش ) يرتفع صخب ماؤه من بعيد ، وكأنما هو في حالة اعتراك دائمة مع الصخور المتسمرة على عتبة قاع النهر المنخفضة قليلاً عمّا قبلها من المجرى ، ثغاء قطيع النعاج ، وإيقاعات صوت الحداء البدوي ، وزقزقة العصافير المتطايرة بحثاً عن قوت يشبعها ، وهدير الو شاش ، عناصر متناغمة ، تصدح فوق مسرح رائع وفرته الطبيعة الخلابة ، لوحته الخلفية نبت زاهي الألوان ، وتضاريس حنونة تضم المشهد برضا تام .
فتوة يوسف تشرق من عينيه قوية كالشمس ، وشبابه يصهل عنفواناً ورجولة وكبرياء ، تزيده ( البرنو) المسترخية على كتفيه صلابة وقوة ، يحلم بالعشق ، ويتوق إلى رائحة الحليب الشائط ، وإلى عبق شواء الرغيف فوق الصاج الملتهب ، يذوب وجداً كلّما لمع في ذهنه هودج الزفاف ، ويهيم مع زغاريد الصبايا في حلقة الدبكة ، حلمه الدائم في ليلة العرس المنتظرة ،يحلق به بعيداً خارج المكان ، مخترقا دائرة وجوده .
صهيل حصان متردد ، أيقظ يوسف من حلمه الجميل ، جفل في البدء ، خفق قلبه من المفاجئة غيرا لمتوقعة ، حاول الفرار من أمام الحصان المتقدم نحوه ، ركض قليلاً فلم يستطع المتابعة ، ارتعدت أطرافه هلعاً قبل أن تعود إليه رباطة جأشه ويتماسك ، أطرق لثوان قليلة ، عيناه تتأملان المشهد ، وتستقرئان الحدث بدهشة وارتباك ، يتحرر وعيه من صدمة المفاجئة ويعود إليه متحفزاً كما كان ، بدأ يدرك العناصر ويعي التفاصيل : انه حصان ... نعم انه حصان أسود معفرا بالتراب ، يعاند اللجام ،ويأبى التقدم إلى الأمام ، يمتطيه دركي فرنسي ، متنكباً بندقيته ،يعارك الحصان ، محاولاً دفعه إلى الأمام ، فلا يفلح ، وقد أربكه الموقف . ( البرنو) تحركت مع سرعة الحدث وكأنها فهمت ما يدور في ذهن يوسف ، فأصبحت بين يديه القويتين جاهزة لكل احتمال ...
صرخ الدركي بنزق فظ ، آمراً يوسف : ولك ... ، هات البارودة...
تأمل يوسف بندقيته المحشوة ، تأملها بعينين ممتلئتين بالدموع ، همس لها قائلاً : أنت أغلى ما أملك ، حبيبتي الدائمة ، تعانقيني في فراشي ليلاً ،تضمينني وأضمك بشغف وحنان ،يجافيني النوم إذا كنت بعيدة عني ، تلازمينني كظلي طول النهار ، تعرفين أسراري وخفاياي ، أبثك شجوني ، وأحدثك عن مغامراتي ، تشاركيني أفراحي وأحزاني ، تطردين الخوف عني وتحميني من كل وغد وجبان ، لولاك لم أشعر برجولتي ، أنت سند شجاعتي ، أنت الكرامة ... وأنت الكبرياء ...
اشتد صراخ الدركي ، وازداد حنقه على يوسف ، وتابع آمراً : ولك ... ، ولك هات البارودة .... ألا تسمع ...؟
أجابه يوسف : بتلعثم شديد : لا ... لا .. . ، لم يفهم الدركي رد يوسف . تابع إصراره في طلب البارودة ، وتابع دفع الحصان نحوه ، فازداد الموقف خطورة ، وازداد حرجاً ، أدخل يوسف في جدل داخلي باحثاعن قرار ، فما أصعب الحوار الداخلي ، وما أشد وطأته على النفس ،لم يفلح العرق المتصبب في تخفيف النار المضطرمة في العقل وفي المشاعر ،ولم تفلح الخيارات المطروحة في إيجاد حل مريح . تحرض الدركي غطرسة عمياء ،يستمدها من قوة استعمارية لا ترحم ، فيمعن في إصراره ، ورعونته ، غير عابيء بما يلحق يوسف من عار دائم يلاحقه مدى الحياة ، وما سيصيب كرامته وكبريائه من أذى إذا سلم البارودة بمثل هذه الطريقة الجبانة . يصرخ الدركي مرة أخرى مصمماً على أخذ البارودة من يوسف : ولك يا ... ولك هات البارودة وإلاّ ... ، يحاول دفع الحصان إلى الأمام ليقترب أكثر ... لكنه يأبى ويحرن ... ، يعود يوسف إلى حواره الداخلي : كيف أعطيه بارودتي وأصبح جباناً في نظر أمي وأبي ، بأي وجه أقابل أخوتي وأهلي وعشيرتي ، ماذا أقول للناس إذا سألوني أين بارودتك .....؟ أأقول لهم أخذها مني دركي ...! ، يا للعار ، لا ولله ، لا يحلم بها وأنا حي .... ! ينتفض يوسف حازما أمره ، وقد اتخذ قراره النهائي بعدم تسليم بارودته مهما كلّفه ذلك من ثمن . صاح بأعلى صوته : اسمع جيدا أيها الدركي ، دعني واذهب بعيدا ، والله العظيم إذا تقدمت سأقتلك ، أنا لا أعطي بارودتي لأحد . وضع رصاصة في بيت النار، وجثا على ركبته ، صوب البارودة إلى صدر الدركي ، وتهيأ للإطلاق . أصر الدركي على التقدم ، أعماه الغرور ، وحب الإهانة ، والاستخفاف بالآخرين، والنيل من كرامتهم . هذا هو نمط التفكير الاستعماري ، ونظرته الاستعلائية المهينة ... ضغط يوسف على الزناد بقوة ، انطلق دوي هائل ، اخترقت الرصاصة صدر الدركي . ترنح قليلاً ثم سقط على الأرض ، وسال الدم من الجرح الكبير .... تدحرجت عمرته فوق التراب ، تعلن عن نهاية الغرور ... سقطت البارودة وتمددت إلى جانب الجثة الهامدة ،
مرت لحظات خرساء ثقيلة ، قيدت التفكير المتجلد كقطعة ثلج ، ومنعت حركة التنفس في الصدر المهموم ، وألقت القبض على الذهن المتشتت ، وساقته مخفورا إلى زنزانات الألم . يا الله ... ارحمني لقد قتلت نفساً ، يا الله... ارحمني . قالها يوسف ، والحسرة تمزق صدره ، وعيناه قطعتا حجر ، تتأملا الجسد المسجى بأسى وحيرة . يتمتم في داخله : لقد أجبرني على قتله ... لم يكن ذلك خياري ... وأجهش في بكاء صامت حتى تذوق طعم الدمع المالح ... !!! .استولى على بارودة الدركي وعمرته ، رجع مسرعا إلى الأهل ، ناداهم ... تراكضوا إليه ، تجمعوا مستطلعين .. قال لهم : يا أهلي ... صمت قليلا ، وتابع بصوت أجش : يا أهلي ... كنت أغني ، وأحلم . أراد اغتيال غنائي ... أراد قتل حلمي . .. أراد جرح كبريائي ، فلم أقبل .... !
صرخت أم يوسف بخبل : يا ويلي ... يا ويلي ... يا ناس ، ركض الصوت مسرعا ، تردد صداه في كل مكان . استغاثت نجمة الصبح بالفجر ، وتوسلت إليه أن يوقظ العصافير والقبرات . الجيش الأسود قادم كالسيل الجارف لا يرحم : حراب وأعقاب بنادق ، وهراوات ، وأحذية الدرك مثل الصخر، وصوت لجوج شرس يصرخ حانقاً : أين يوسف .... ها توه ...؟ . جاء الأمر جدياً ، وحازما .
أخته الصغيرة نجود تعرف المكان ، لكنها لم تكن تعرف معنى الاختباء ، ولا معنى القبض عليه ، فأشارت لهم إلى قمة التل .... أم يوسف تبكي وتندب ، دموعها نهراً حزيناً لا ينضب ، والأب الشجاع واجم ، جفت الحياة في عروقه ، ميت وهو واقف ، لاشيء يتحرك فيه سوى عينين حزينتين مكسورتين ...
هيأ صاحب الصوت اللجوج الشرس مسدسه الأسود ، أدخله في فم يوسف ، وضغط على الزناد ... !
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ـ زوزانية . زوزان : تسمية محلية لنسيم صيفي بارد ، يهب من الغرب ليلاً .
ـ الخرنوب : تسمية محلية لشوك قصير، له ثمر ، لا يزال ينمو في المنطقة .
ـ البرنو : تسمية محلية لبندقية كانت رائجة في الثلاثينيات والأربعينيات ، وربما ظلت معروفة إلى عهد قريب .
ـ خنيز : اسم لنهر كان ثم جف الآن ،ولا يزال معروفاً .
ـ الوشاش : صوت شلال الماء المنحدر على نهر جغجغ ، لا يزال معروفا مكانه حتى الآن .
ـ استخدمت كلمات : بارودة ، ودركي ، للدلالة على الحقبة التي كانت متداولة بها .
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟