أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - السعيد السخيري - هواء














المزيد.....

هواء


السعيد السخيري

الحوار المتمدن-العدد: 7076 - 2021 / 11 / 13 - 07:53
المحور: الادب والفن
    


.. اِبْتَسَمَ في وجهي و قالَ:
- مِثْلَ الْهَوَاء.
لَمْ أُعِرْهُ انتباهاً، بقيَ ينظُرُ إليَّ مبتسماً ابتسامةً ذَكَّرَتْنِي "بالموناليزا". يَبْدُو أنَّ هذا العجوز الذي يُجَاورُ مقعدُهُ مقعدي قدْ رأى كُلَّ شيءٍ .. رآني وَأَنَا أَذُوبُ وَسَطَ الأجساد المُنْصَهِرَة على الرصيف، قبلَ أن أصلَ إلى "التيرمينوس" حيث أَنْتَظْرُ حافلتي..
- عفوا يا سيدي ، هل قُلْتَ شيئاً؟
سألتُهُ ، مُحاولاً أنْ أرسُمَ على شَفَتَيَّ ابتسامةً صفراءَ.. صَفْراءَ مثلَ خَوْفٍ يسكُنُ في أعيُنِ فَتىً صغير يَنْفُثُ دُخَانَ سيجارةٍ لا يعرفُ لها اسْماً.. كنتُ قُرْبَ شجرة النَّارنج حينَ أَعْطَتْهُ سيجارةً ، بعدَ أَنْ أَلَحَّ في طلبِها بلُغةٍ فرنسيَّةٍ يُغطِّيها العَفَنُ الَّذي يلتصقُ بشفتَيْهِ.. لم ينظرِ العجوز إليَّ مَرَّةً أُخرى ، بَقِيَ على حاله ، يَنْظُرُ إلى مَكانٍ بَعيد ، بِالْأَحْرَى ينظرُ إلى اللاَّمَكان، وأجابني:
- قُلْتُ لَكَ، مِثْلَ الْهَوَاء.
اَلهواءُ الَّذِي أستنشقُهُ الآنَ أَرْمِيهِ خارجَ صدري.. صَدَقَ العجوزُ ، اَلحُبُّ والهَوَاءُ شيءٌ واحد ، والصَّحراء الصفراء والخوفُ شيءٌ واحد.. كنتُ أنظرُ للفتى الذي يُلَوِّثُ الهواءَ مع كل نفثةٍ يدفعُ فيها الدُّخان بعيدا.. فجأةً رأيتُهَا. لم تتغيَّرْ كثيراً. لا تزالُ نسمةً منْ نَسَمَاتِ الشِّتاء. تَابَعْتُهَا بذُهُول وهي تَخْطُو بِاتِّجَاهي، مُمسكةً بِيَدِ صَبِيٍّ لَمْ يَتَعَدَّ عِقْدَهُ الأوَّل، لباسُها العَصْرِيُّ الضَّيِّقُ وَمِشْيَتُها التي تدغدغُ الرَّصيفَ دَفعَاني لِسَفَرٍ بعيدٍ في الزَّمن.
في أحد الأيَّام افترقْنَا. كانَتْ تَبْكِي في صمت بين ذراعيَّ. وَجْهُهَا مدفونٌ في صدري، ولهبُ زَفَرَاتها يخترقُ أَضْلُعي ليستقرَّ في قلبي. ثُمَّ رَكِبَتْ حافلةً أخذتها بعيدا وغابت في نَهْرِ الْإِسْفَلْتِ الْمُلْتَوي ..
بَعْدَ تَحَرُّك الحافلة منْ مكانها، كان الفتى الصغيرُ ينتظِرُ، رُبَّما تَأْتِي نَصْرَانِيَّةٌ أُخْرَى أكثرُ سخاءً، لِتُعْطِيَهُ بَدَلَ السيجارة لَوْناً آخَرَ لِيُلَوِّنَ نَظْرَتَهُ الصَّفراء.. هي كانت هناك ، قُرْبَ شَجَرة النَّارَنْج تَتَّبِعُ الْحَافلةَ بعينين حزينتين .. العجوزُ الذي يُكَلِّمُنِي دونَ سَابق معرفة فيلسوفٌ ، رُبَّما هوَ ساحرٌ يقرأُ أفكارَ الآخرين.. سَأَلْتُهُ:
- ما هذا الَّذي يُشْبِهُ الهواء؟
أشكُّ في أنَّهُ رآني حينَ وَدَّعْتُهَا، هذه المرةَ دونَ دُموع ، دونَ عناقٍ طويل.. حَدَّثَتْنِي عَنْ زَوْجِها وَقَدَّمَتْ لِي ابْنَهَا الصَّغير. أنَا أيضاً أخبرتُهَا عن زوجَتي الجميلة.. قالتْ إِنَّنِي تَغَيَّرْتُ كثيراً.. أجبتُها وأنا أنظُرُ إلى الفتَى المُتَّسخ الذي لا يَمَلُّ الاِنتظار :
- كُلُّ شيءٍ يَتَغَيَّرُ معَ الزَّمن.
وصلَتْ حافلتي .. وَدَّعْتُهَا بِبُرُودَةٍ. كُنَّا هَادِئَيْنِ. لَمْ أُخْبِرْهَا أَنَّنِي انْتَظَرْتُها عَشْرَ سَنَوات. لَمْ أُخْبِرْهَا بِأنَّنِي تَزَوَّجْتُ بَعْدَ أَنْ تَأَكَّدْتُ مِنْ نَبَأِ زَواجها. لمْ أَقُلْ لَها أَنَّ زَفَرَاتِهَا السَّاخِنَةَ لا تَزالُ تَسْكُنُ في مكانٍ ما منْ قَلبي، وَدَّعْتُها وَتَمَنَّيْتُ لها التَّوفيق.. أَصَرَّتْ أَنْ أَزُورَهَا أَنا وَزَوْجَتِي.. وَافَقْتُ وَانْصَرَفْتُ.

تَلَعْثَمَ العجُوزُ :
- إِنَّهَا مَحَطَّتِي ، سَوْفَ أَنْزِلُ بَعْدَ أَمْتارٍ معدودة.. يا بُنَيَّ ، أشياءٌ كثيرةٌ تُشْبِهُ الهواءَ.. الإنسانُ يُشبه الهواء، والحافلةُ تُشْبِهُ الرِّئَةَ وَكِلاهُمَا يُمَثِّلَانِ الحياةَ.. أَتَعْرِفُ مَا الحياةُ؟
بِاسْتِغْرَابٍ سَأَلْتُهُ :
- ما الحياةُ؟
أجابَنِي وَهُوَ يَقِفُ اسْتِعْداداً لِلنُّزُول:
- الحياةُ لقاءٌ سريعٌ، دُخولٌ وخُروجٌ، شَهيقٌ وزفيرٌ.
بهذه الكلمات أنهى العجوزُ حديثَهُ.. بعد لحظاتٍ سأَكُونُ في مَحطَّتِي، سأدلفُ إلى البيت مُسرعاً لِأُخْبِرَ زَوْجَتِي بِأَنَّنَا سَنَزُورُ صديقةً قديمةً..
لا، لَنْ أُخْبِرَهاَ ، وَلَنْ نَزُورَهَا ، نَسِيتُ أَنْ أَسْأَلَهَا عَنْ عُنْوَانِها.. !



#السعيد_السخيري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نافذة الجنون


المزيد.....




- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
- منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا ...
- قيامة عثمان حلقة 157 مترجمة: تردد قناة الفجر الجزائرية الجدي ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - السعيد السخيري - هواء