أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - المجتمع المدني - غازي الصوراني - تطور مفهوم المجتمع المدني وأزمة المجتمع العربي وغياب الأسس المادية لمفهوم المجتمع المدني وآفاق المستقبل (ج4)















المزيد.....


تطور مفهوم المجتمع المدني وأزمة المجتمع العربي وغياب الأسس المادية لمفهوم المجتمع المدني وآفاق المستقبل (ج4)


غازي الصوراني
مفكر وباحث فلسطيني


الحوار المتمدن-العدد: 6949 - 2021 / 7 / 5 - 09:53
المحور: المجتمع المدني
    



ثانياً: الأزمة الاجتماعية في بلدان الوطن العربي وغياب الأسس المادية لمفهوم المجتمع المدني وآفاق المستقبل:
في مقدمة الطبعة الأولى من »رأس المال«، كتب ماركس في عام 1867 يقول: »إلى جانب الشرور الحديثة، أو الآلام في العهد الحالي، علينا أن نتحمل سلسلة طويلة من الأمراض الوراثية الناتجة عن بقاء أساليب إنتاج بالية، تخطاها الزمن، مع ما يتبعها من علاقات سياسية واجتماعية أضحت في غير محلها زمنياً، والتي تولدها تلك الأساليب، ففي مثل هذه الأحوال، ليس علينا أن نعاني فقط الآلام بسبب الأحياء، وإنما بسبب الموتى أيضاً: فالميت يكبل الحي«(47)، هذا التحليل الذي قصد به ماركس الدولة الألمانية آنذاك، ينطبق على الوضع العربي الداخلي عموماً، وعلى جوهر الأزمة الاجتماعية فيه بشكل خاص.
والإشكالية الكبرى أن المجتمع العربي يتعرض اليوم لهذه الأحوال المأزومة بكل أبعادها، في اللحظة التي انتقل فيها العالم من مرحلة تاريخية سابقة، الى المرحلة الجديدة أو العولمة، بتسارع غير مسبوق، وبمتغيرات نوعية تحمل في طياتها، في الحاضر والمستقبل تحديات غير اعتيادية، لا يمكن امتلاك القدرة على مواجهتها إلا بامتلاك أدواتها العلمية والمعرفية أولاً عبر أحكام سيطرة الحي (المدينة) على الميت (الصحراء)، »فالاستلاب الأيديولوجي بشكليه السلفي والاغترابي هو أبرز الآليات الداخلية التي تعيد إنتاج التأخر، وتعيد إنتاج الاستبداد، وتحافظ على البنى والعلاقات والتشكيلات القديمة ما قبل القومية، فالعلاقة بين المستوى الأيديولوجي السياسي، والمستوى الاجتماعي الاقتصادي، هي علاقة جدلية، تُحوِّل كلاً منهما الى الآخر في الاتجاهين، آخذين بالحسبان أيضاً أن المستوى السياسي محدد ومحكوم بطابع الوعي الاجتماعي السائد«(48).
بهذا المدخل، نبدأ في الحديث عن أزمة المجتمع العربي، التي نرى أنها تعود في جوهرها إلى أن البلدان العربية عموماً لا تعيش زمناً حداثياً أو حضارياً، ولا تنتسب له جوهرياً، وذلك بسبب فقدانها، بحكم تبعيتها البنيوية، للبوصلة من جهة، وللأدوات الحداثية، الحضارية والمعرفية الداخلية التي يمكن أن تحدد طبيعة التطور المجتمعي العربي ومساره وعلاقته الجدلية بالحداثة والحضارة العالمية أو الإنسانية.
فعلى الرغم من دخولنا القرن الحادي والعشرين،إلا أننا –في البلدان العربية- ما زلنا في زمان القرن الخامس عشر قبل عصر النهضة، أو في زمان »ما قبل الرأسمالية« وبالتالي ما قبل المجتمع المدني، على الرغم من تغلغل العلاقات الرأسمالية في بلادنا، والشواهد على ذلك كثيرة، فالمجتمع العربي لم يستوعب السمات الأساسية للثقافة العقلانية أو ثقافة التنوير، بمنطلقاتها العلمية وروحها النقدية التغييرية، وإبداعها واستكشافها المتواصل في مناخ من الحرية والديمقراطية، ففي غياب هذه السمات يصعب إدراك الوجود المادي والوجود الاجتماعي والدور التاريخي الموضوعي للقومية أو الذات العربية في وحدة شعوبها، ووحدة مسارها ومصيرها، إدراكاً ذاتياً جمعياً يلبي احتياجات التطور السياسي والاجتماعي والاقتصادي العربي.
و لعلنا نتفق أن السبب الرئيس لهذه الإشكالية الكبرى، لا يكمن في ضعف الوعي بأهمية التنوير العقلاني، أو ضعف الإدراك الجماعي بالدور التاريخي للذات العربية، فهذه وغيرها من أشكال الوعي، هي انعكاس لواقع ملموس يحدد وجودها أو تبلورها، كما يحدد قوةَ أو ضعفَ انتشارِها في أوساط الجماهير، وبالتالي فإن الواقع العربي الراهن، بكل مفرداته وأجزائه ومكوناته الاجتماعية وأنماطه التاريخية والحديثة والمعاصرة، هو المرجعية الأولى والأساسية في تفسير مظاهر الضعف والتخلف السائدة بل والمتجددة في مجتمعاتنا، إذ أن دراسة هذا الواقع، الحي، بمكوناته الاجتماعية والاقتصادية تشير بوضوح إلى أن العلاقات الإنتاجية والاجتماعية السائدة اليوم في بلداننا العربية هي نتاج لأنماط اقتصادية /اجتماعية من رواسب قبلية وعشائرية وشبه إقطاعية، وشبه رأسمالية، تداخلت عضوياً وتشابكت بصورة غير طبيعية، وأنتجت هذه الحالة الاجتماعية /الاقتصادية المعاصرة، المشوهة، فكيف يمكن أن نطلق على هذا الواقع صفة المجتمع المدني؟
فالمعروف أنه على الرغم من تطور بعض أشكال العلاقات ذات الطابع الرأسمالي في بعض المجتمعات العربية، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر عموماً، وبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى بشكل خاص، إلا أن هذه العلاقات الرأسمالية الجديدة لم تستطع إزاحة العلاقات شبه الإقطاعية، والقبلية السائدة، والمسيطرة، وبقيت حيازة وامتلاك الأراضي الزراعية، مصدراً أساسياً للوجاهة والمكانة الاجتماعية والسلطة السياسية في بلدان الوطن العربي حتى منتصف القرن العشرين، حيث »تدنت هذه المكانة، بتدني أهمية ملكية وحيازة الأرض باعتبارها العمود الفقري للتكوينة الطبقية، وذلك بسبب تتابع الانقلابات العسكرية (وأهمها حركة 23 يوليو 1952 في مصر) في العديد من البلدان العربية … وقيام الأنظمة الوطنية وما تبع ذلك من تصفية للإقطاع، وتطبيق الإصلاح الزراعي من ناحية، وبسبب اكتشاف النفط وبروز أهمية رأس المال (التجاري والخدمي) في التكوين الطبقي«(49)، من ناحية ثانية وأشكاله الجديدة التي تداخلت بدورها مع الأنماط القبلية، شبه الإقطاعية السابقة، بل إننا لا نبالغ في القول إن هذه الأشكال أو التكوينات الطبقية شبه الرأسمالية الجديدة، انبثقت في جزء هام منها من رحم التكوينات الاجتماعية القديمة، وهذه بدورها استطاعت التكيف مصلحيا مع »العلاقات الرأسمالية الجديدة«، من حيث الشكل أو التراكم الكمي الرأسمالي فقط، من دون أن تقطع علاقاتها مع جوهر التشكيلات الاجتماعية القديمة، وموروثاته القيمية والمعرفية المتخلفة، التي وجد فيها الاستعمار الغربي، مناخاً مهيَّأً وجاهزاً لتحقيق أهدافه ومصالحه في بلادنا، فلم يتعرض لأي من هذه الموروثات ورموزها الطبقية، التي شكلت في معظمها سنداً للظاهرة الاستعمارية ولرأس المال الأجنبي في عملية دمج بلداننا العربية وتكريس تبعيتها للنظام الرأسمالي العالمي، خلالَ الحربِ العالمية الثانية وبعدها وإلى اليوم، دون أن نغفل بالطبع، مرحلة النهوض الوطني والقومي في خمسينات وستينات القرن الماضي، التي قادها الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، منفرداً عبر شخصيته ودوره الكاريزمي وإيمانه الشديد بالمبادئ التحررية، والقومية، ولاحقاً بالاشتراكية، دون الاستعانة بالمؤسسات الديمقراطية، والتعددية الحزبية، وتفعيل العمل السياسي في أوساط الجماهير التي وقف حياته من أجلها، ولذلك كانت هزيمة حزيران 1967 بداية النهاية لمرحلة التحرر القومي الديمقراطي، خلقت المناخ العام، والمقومات اللازمة لإعادة إحياء التشكيلات والتكوينات الاجتماعية الطبقية القديمة والمستحدثة، بصور وأشكال معاصرة، تتوافق مع شروط الانفتاح والتحالفات السياسية العربية الرسمية التي تولت قيادتها أو توجيهها الأنظمة الأكثر رجعية وتخلفاً وتبعية في بلادنا، وبالتالي يصعب في بلادنا -إن لم يكن متعذرا-تلمس أو إدراك الوجود المادي والدور الموضوعي التاريخي للطبقة البرجوازية عموما، والبرجوازية الوطنية خصوصاً(*).
و اليوم ونحن في مطلع الألفية الثالثة، تتعرض مجتمعاتنا العربية، من جديد، لمرحلة انتقالية لم تتحدد أهدافها النهائية بعد، على الرغم من مظاهر الهيمنة الواسعة للشرائح والفئات الرأسمالية العليا، بكل أشكالها التقليدية والحديثة، التجارية والصناعية والزراعية، والكومبرادورية والبيروقراطية الطفيلية، التي باتت تستحوذ على النظام السياسي، وتعوق أيَّ تحول ديمقراطي حقيقي في مساره، عبر اندماجها الذيلي التابع للنظام الرأسمالي المعولم الجديد من جهة، وتكريسها لمظاهر التبعية والتخلف والاستبداد الأبوي على الصعيد المجتمعي بأشكاله المتنوعة من جهة أخرى، من خلال التكيف والتفاعل بين النمط شبه الرأسمالي الذي تطور عبر عملية الانفتاح والخصخصة خلال العقود الثلاثة الماضية، وبين النمط القبلي /العائلي، شبه الإقطاعي، الريعي، الذي ما زال سائداً برواسبه وأدواته الحاكمة أو رموزه الاجتماعية ذات الطابع التراثي التقليدي الموروث.
إن مخاطر هذا النمط المشوه من العلاقات الاقتصادية تنعكس بالضرورة على العلاقات الاجتماعية العربية بما يعمق الأزمة الاجتماعية، واتساعها الأفقي والعامودي معاً، خاصة مع استشراء تراكم الثروات غير المشروعة، وأشكال »الثراء السريع« كنتيجة مباشرة لسياسات الانفتاح والخصخصة، والهبوط بالثوابت السياسية والاجتماعية الوطنية، التي وفرت مقومات ازدهار اقتصاد المحاسيب وأهل الثقة، القائم على الصفقات والرشوة والعمولات بأنواعها، حيث يتحول الفرد العادي الفقير إلى مليونير في زمن قياسي، وهذه الظاهرة شكلت بدورها، المدخل الرئيسي لتضخم ظاهرة الفساد بكل أنواعه، في السياسة والاقتصاد والإدارة والعلاقات الاجتماعية الداخلية، بحيث تصبح الوسائل غير المشروعة، هي القاعدة في التعامل ضمن إطار أهل الثقة أو المحاسيب، بعيداً عن أهل الكفاءة والخبرة، ودونما أي اعتبار هام للقانون العام والمصالح الوطنية، مما يحول دون ممارسة الحد الأدنى من مفهوم المجتمع المدني أو تطبيقاته السياسية بحكم استعمال الاستبداد الناجم عن استفحال الفساد.
و مما هو جدير بالحس بالمسؤولية، أو بالتأمل –كحد أدنى- ليس الخطر الناجم عن هذه الظواهر فحسب، بل أن تصبح هي القاعدة التي تحكم أو تحدد مسارَ العلاقات الاجتماعية والسياسية في مجتمعاتنا العربية وطبيعتها، حينئذ تصبح »مؤسسة« الفساد هي التي تملك السيطرة على دفة القيادة في هذا البلد أو ذاك، وتوجيهها وفق قواعد إدارة الأزمة بالأزمة، وهنا ينتقل الحس بالمسؤولية، إلى ضرورات التغيير الديمقراطي المطلوب في مواجهة هذا الوضع المأزوم، الذي تفرضه طبيعة أزمة التحرر الوطني والقومي، بحكم أنها تعبير عن أزمة هذا التطور المشوه الذي فرضته حالة التبعية البنيوية للإمبريالية، حسب تعبير المفكر الشهيد مهدي عامل –بحيث »تصبح الطبقة المسيطرة أو نظامها في تناقض بين السير في منطق الحركة التحررية الديمقراطية، وهو منطق معادٍ لها، وبين السير ضده (و النتيجة واحدة)، حيث بات السير في منطق التحرر يضع هذه الطبقة (أو التحالف أو النظام) في تناقض مع مصالحها الطبقية، فيقتضى بالتالي بضرورة زوال سيطرتها الطبقية، وكذلك الأمر بالنسبة لسيرها ضد منطق الحركة التحررية حيث تفقد هذه الطبقة التي هي البورجوازية الكولونيالية كل مبرر لوجودها في موقع القيادة«(50).
ولكن الإشكالية الكبرى، أنه في موازاة هذه الأحوال والمتغيرات الاقتصادية والاجتماعية المحلية الداخلية المأزومة، تراجعت أحزاب وقوى التغيير الديمقراطي في بلداننا (وهي أهم مكونات المجتمع المدني)، إلى الخلف بصورة مريعة، وبخاصة القوى القومية واليسارية منها، التي لم تستطع –حتى اللحظة- بلورة أو إنتاج صيغة معرفية، سياسية اقتصادية اجتماعية، علمية وواقعية، قادرة على رسم مستقبل المجتمع العربي والخروج من أزمته، وقد ترك هذا التراجع آثاره الضارة في أوساط الجماهير ووعيها العفوي، التي وجدت في الحركات السياسية الدينية ملاذاً وملجأ يكاد يكون وحيداً، يدفعها الى ذلك نزوعها الى النضال ضد العدو الرئيسي إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية من جهة، والنضال من أجل الخلاص من كل مظاهر المعاناة والحرمان والفقر ومواجهة الظلم الطبقي والاستبداد السياسي الداخلي من جهة أخرى.
ففي هذا الزمن الذي يعيش فيه العالم، زمن الحداثة والعولمة وثورة العلم والمعلومات والاتصال، يشهد مجتمعنا العربي عودة الى الماضي عبر تجديد عوامل التخلف فيه، لم يعرف مثيلاً لها في تاريخه الحديث منذ مائة عام أو يزيد، فهو الى جانب ترعرع الأنماط القديمة القبلية والحمائلية والطائفية، والأصولية والتعصب الديني، يوصف اليوم بحق على أنه »مجتمع شديد التنوع في بنيته وانتماءاته الاجتماعية، أبوي، يعاني النزعة الاستبدادية على مختلف الصعد، مرحلي، انتقالي، تراثي، تتجاذبه الحداثة والسلفية، شخصاني في علاقاته الاجتماعية يعيش حتى الوقت الحاضر مرحلة ما قبل المرحلة الصناعية والتكنولوجية، وبالتالي مرحلة ما قبل الحداثة«(51).
أما على الصعيد الداخلي الاجتماعي، فإن »الفجوات بين الطبقات الثرية والميسورة والمحرومة، تزداد اتساعا وعمقا، وفي ظل هذه البنية الطبقية الهرمية التي تحتكر فيها القلة السلطة وثروات البلاد، وتشغل الطبقة الوسطى وسط الهرم، وتتكون القاعدة من غالبية السكان (الجماهير الشعبية الفقيرة)، يعاني الشعب حالة تبعية داخلية شبيهه بالتبعية الخارجية ومتممة لها، فتمارس عليه وضده مختلف أنواع الاستغلال والهيمنة والقهر والإذلال اليومي«(52).
وفي ظل هذه الأوضاع أو السمات الاجتماعية »يعيش الإنسان في المجتمع العربي على هامش الوجود والأحداث لا في الصميم، مستباحاً معرضاً لمختلف المخاطر والاعتداءات، قلقاً حذراً باستمرار من احتمالات السقوط والفشل والمخاطر، تحتل السلع والمقتنيات والاهتمامات السطحية روحه وفكره، يفكر، لكن ليس بقضاياه الأساسية أو العامة، ينفعل بالواقع والتاريخ أكثر مما يعمل على تغييرهما، إنه إنسان مغَّرب ومغترب عن ذاته، ولأن إمكانات المشاركة نادرة وضيقة، فهو لا يجد مخرجاً سوى الخضوعِ أو الامتثالِ القسريِّ أو الهرب«(53).
هذا التعميم في وصف حياة الإنسان العربي، والقريب من الواقع الى درجة كبيرة، تكمن قيمته –من وجهة نظر موضوعية- في تحفيز القوى القومية التقدمية العربية لدراسة واقعها الاجتماعي ومسار تطوره الاجتماعي وخصوصياته التي اختلفت من حيث النشوء التاريخي للشرائح والفئات الرأسمالية بين هذا ال قطر أو ذاك، ولكن هذا الاختلاف في ظروف النشأة لهذه الشرائح ومنابعها وجذورها، لم يعد قائما في لحظة معينة من التطور المعاصر للبلدان العربية، الذي بات متشابها الى حد كبير في هذه البلدان كافةً.
فعلى الرغم من الاختلاف في ظروف النشأة التاريخية للشرائح الرأسمالية العربية العليا وتباين أشكالها كما يقول د.محمود عبد الفضيل »حيث نشأت في مصر من أصول زراعية وإقطاعية واضحة، بينما نشأت في سوريا عبر ارتباطها أساسا بالتجارة في المناطق الحضرية والمدن الكبرى، وفي السودان ارتبطت نشأتها بنمو التجارة القافلية البعيدة المدى في أفريقيا، ونشأت في العراق من تداخل التجارة والإقطاع معاً«(54)، إلا أن »تزاوج رأس المال الأجنبي مع الدولة الكولونيالية، وكذلك مع دولة »ما بعد الاستقلال«، لعب أدواراً مهمة في تسهيل عمليةِ نموِّ البورجوازيات المحلية في معظم البلدان العربية وتوسّعِها، الى جانب الدور الهام الذي لعبه رأس المال الأجنبي تاريخياً، »ورأس المال الدولي« حديثاً، خاصة فيما يعرف بحقبة البترودولار، التي شكلت العنوان الأبرز لتبلور العلاقات البرجوازية المشوهة، وكل هذه العوامل هيأت الظروف الموضوعية لنشأة جناح مهم (وخطير) من أجنحة الرأسمالية العربية، المعروف بجناح »البورجوازية الكومبرادورية«(55) التي بات التداخل بينها وبين أجهزة الدولة البيروقراطية –في كل بلدان النظام العربي-، وثيقاً وعضوياً الى درجة أن بعض التحليلات تقول بظهور »الدولة الكومبرادورية«، التي تحكمها »بورجوازية الصفقات« أو اقتصاد المحاسيب والأقارب أو ما أطلق عليه الاقتصادي الإنجليزي المعروف »جون ماينارد كينز« »اقتصاد الكازينو« في إشارته الى الفساد الذي ساهم في تفجير الأزمة الرأسمالية العالمية عام 1929.
إن ظهور هيمنة البورجوازية الكومبرادورية والطفيلية وتحالفها مع البيروقراطية المدنية والعسكرية الحاكمة، ورموز الأنماط القبلية وشبه الإقطاعية في بلادنا العربية، في الظروف الراهنة، يشير الى الدور الثانوي للاختلاف التاريخي في نشأة الشرائح الرأسمالية العربية العليا، التي توحدت اليوم في شكلها ومضمونها العام وأهدافها المنسجمة مع مصالحها الأنانية الضارة، عبر نظام استبدادي، تابع، ومتخلف، يسود ويتحكم في مجمل الحياة السياسية والاجتماعية، كظاهرة عامة، تتجلى فيها بوضوح، الأزمة الاجتماعية العربية الراهنة، بتأثير هذا التداخل العميق والمعقد لرموز الأنماط القديمة والحديثة، ومصالحهم المتشابكة في إطار من العلاقات الاجتماعية الفريدة التي تمتزج فيها أشكال الحداثة وأدواتها مع قيم التخلف وأدواته، ساهمت في إضفاء شكلٍ ومضمونٍ خاصٍ ومتميز للواقع الاجتماعي العربي وتركيبته وخارطته الطبقية، بحيث بات من المفيد مراجعة استخدامنا للمصطلحات الغربية، مراجعة موضوعية ونقدية كي لا نعيد تطبيقها على واقعنا بصورة ميكانيكية، كما فعلنا في المرحلة السابقة، خاصة مصطلح »البورجوازية«، عند تناول الشرائح والفئات الرأسمالية العربية التي تشكلت تاريخياً –و إلى الآن- من هذا المزيج أو التنوع الاجتماعي غير المتجانس أو الموحد سواء في جذوره ومنابعه القديمة، أو في حاضره ومستقبله، فمصطلح »البورجوازية« وغيره من المصطلحات التي تحدثت عن تطور التشكيلات الاجتماعية الاقتصادية وتسلسلها من المشاعية الى العبودية الى الإقطاع الى الرأسمالية، والتي تطابقت مع مضمون التطور الرأسمالي في البلدان الصناعية الغربية، تكاد تكون مصطلحات غريبة في واقعنا وشكل تطوره المشوه، خاصة وأنها لم تتغلغل في الوعي العفوي أو الاعتيادي للجماهير، وكذلك في صفوف القواعد الحزبية العربية كمفاهيم تحفيزية أو رافعة للوعي السياسي والطبقي، لكون هذا المصطلح أو المفهوم مصطلحاً يكاد يكون وافداً، غريباً، نظراً لعدم تبلور الإطار أو الطبقة في بلادنا بصورة محددة، التي يمكن أن يجسدها أو يعبر عنها أو يشير إليها ذلك المصطلح من جهة، ونظراً لما ينطوي عليه أو يتضمنه هذا المفهوم من إعلان ولادة وتشكل طبقة جديدة هي »البورجوازية« كطبقة قائدة لمرحلة جديدة، حملت معها مشروعاً نهضوياً حضارياً عقلانياً تطورياً مادياً هائلاً، عجّل في توليد التشكيلة الاجتماعية الرأسمالية ومفاهيمها المتطابقة معها من جهة أخرى، وفي هذا السياق نؤكد أن المطالبة بمراجعة المصطلحات ذات الطابع التطبيقي لا يعني مطلقا التطرق الى النظرية الماركسية ومنهجها، والتي نشعر بالحاجة الماسة الى إعادة دراستها وتعميق الالتزام بها في هذه المرحلة وفي المستقبل!!....يتبع
الهوامش
(47) كارل ماركس-رأس المال –الجزء الأول –ترجمة محمد عيتاني-مكتبة المعارف-بيروت –1975 –ص7.
(48) جاد الجباعي –التبعية وإشكالية التأخر التاريخي- كتاب جدل – العدد الثالث-مؤسسة عيبال-قبرص-1992 –ص145.

(49) د. محمود عبد الفضيل –التشكيلات الاجتماعية والطبقية في الوطن العربي- مركز دراسات الوحدة- بيروت-1988 - ص99.
(*) المعروف أن »مصطلح البرجوازية« هو مصطلح له دلالة اجتماعية-سياسية-ثقافية، إذ أن كلمة برجوازية -كما يقول د.محمود عبد الفضيل- تفيد معنى »التمدن« في نمط وأسلوب الحياة والأفكار والنظرة، (محمود عبد الفضيل -مصدر سبق ذكره- ص144) فعلى سبيل المثال: إن مفهوم »البرجوازية« أو البرجوازي لا ينطوي في بلادنا عموما على ذات المعنى الذي ينطوي عليه ضمن سياق أوروبي، إذ يستخدم هذا المصطلح في سياق الكتابات العربية حول الأوضاع والعلاقات الطبقية، ليعني طبقة تتطلع الى القيام بالدور نفسه الذي قامت به نظيرتها الأوروبية ولكن من دون أن يكون لديها نفس القدر من السلطات الاقتصادية والنظرة الاجتماعية.
(50) مهدي عامل –النظرية في الممارسة السياسية-دار الفارابي-الطبعة الثالثة-بيروت-1990-ص356.
(51) د. حليم بركات –المجتمع العربي في القرن العشرين –مركز دراسات الوحدة العربية –بيروت-تموز 2000-ص19.
(52) د.حليم بركات –المصدر السابق- ص24.
(53) د. هشام شرابي-البنية البطريركية-سلسلة السياسة والمجتمع-دار الطليعة-بيروت-1987-ص30.
(54) د.محمود عبد الفضيل –مصدر سبق ذكره- ص137/138.
(55) المصدر السابق – ص140.



#غازي_الصوراني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حول مفهوم المجتمع المدني وتطوره (ج3)
- حول مفهوم المجتمع المدني وتطوره (ج2)
- حول مفهوم المجتمع المدني وتطوره (ج1)
- عن المنظمات الغير حكومية: -NGO,S- دعوة إلى البديل........
- السؤال المحوري الكبير امام كافة الوطنيين التقدميين في الوطن ...
- 54 عاماً على هزيمة حزيران
- مقومات التنظيم الثوري ودورها في استنهاض اليسار الماركسي العر ...
- عن الاقتصاد العالمي وتَوَحُّش الامبرياليةالأمريكية
- حول اللحظة الراهنة للعولمة الامبريالية وبشاعة تركز الثروات ا ...
- ميشال أونفراي (1959 - )
- لمحة : فلسطين عبر التاريخ.....
- جوديث بتلر (1956 - )
- لوك فيري (1952 -  )
- أكسل هونيث (1949 -   )
- سلافوي جيجك (1949 - )
- إتيين باليبار (1942 - )
- آلان باديو (1937 -  )
- باختصار ...عن اليسار والعولمة والعرب والحزب الثوري
- جياني فاتيمو (1936 -  )
- كولن ولسون (1931 - 2013)


المزيد.....




- بوريل يرحب بتقرير خبراء الأمم المتحدة حول الاتهامات الإسرائي ...
- صحيفة: سلطات فنلندا تؤجل إعداد مشروع القانون حول ترحيل المها ...
- إعادة اعتقال أحد أكثر المجرمين المطلوبين في الإكوادور
- اعتقال نائب وزير الدفاع الروسي للاشتباه في تقاضيه رشوة
- مفوض الأونروا يتحدث للجزيرة عن تقرير لجنة التحقيق وأسباب است ...
- الأردن يحذر من تراجع الدعم الدولي للاجئين السوريين على أراضي ...
- إعدام مُعلمة وابنها الطبيب.. تفاصيل حكاية كتبت برصاص إسرائيل ...
- الأونروا: ما الذي سيتغير بعد تقرير الأمم المتحدة؟
- اعتقال نائب وزير الدفاع الروسي بشبهة -رشوة-
- قناة -12-: الجنائية ما كانت لتصدر أوامر اعتقال ضد مسؤولين إس ...


المزيد.....

- أية رسالة للتنشيط السوسيوثقافي في تكوين شخصية المرء -الأطفال ... / موافق محمد
- بيداغوجيا البُرْهانِ فِي فَضاءِ الثَوْرَةِ الرَقْمِيَّةِ / علي أسعد وطفة
- مأزق الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية: مقاربة نقدية / علي أسعد وطفة
- العدوانية الإنسانية في سيكولوجيا فرويد / علي أسعد وطفة
- الاتصالات الخاصة بالراديو البحري باللغتين العربية والانكليزي ... / محمد عبد الكريم يوسف
- التونسيات واستفتاء 25 جويلية :2022 إلى المقاطعة لا مصلحة للن ... / حمه الهمامي
- تحليل الاستغلال بين العمل الشاق والتطفل الضار / زهير الخويلدي
- منظمات المجتمع المدني في سوريا بعد العام 2011 .. سياسة اللاس ... / رامي نصرالله
- من أجل السلام الدائم، عمونيال كانط / زهير الخويلدي
- فراعنة فى الدنمارك / محيى الدين غريب


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - المجتمع المدني - غازي الصوراني - تطور مفهوم المجتمع المدني وأزمة المجتمع العربي وغياب الأسس المادية لمفهوم المجتمع المدني وآفاق المستقبل (ج4)