أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - الياس خليل نصرالله - خطبة قس بن ساعدة الايادي















المزيد.....

خطبة قس بن ساعدة الايادي


الياس خليل نصرالله

الحوار المتمدن-العدد: 6789 - 2021 / 1 / 15 - 19:32
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


الابعاد الميتافيزيقية والاجتماعية السياسية
التعريف بقس بن ساعدة : هو من قبيلة إياد، أحد حكماء العرب، ومن كبار خطبائهم، قبل الاسلام. لم تصلنا معلومات عن حياته الشخصية، ويٌذكر أنه مات في بداية القرن السابع ميلادي. حضوره في كتب التاريخ القديمة يكاد أن يكون نادرا. إلا أننا نلحظ بعض الاهتمام به في دائرة كتب التراجم مثل كتاب "الاصابة "لابن حجر"، و"اسد الغاب" لابن الاثير (والذي اكتفى بذكره بسطر واحد قام بنقله المعلومات من كتب الجاحظ).

كما نلمس بعض الاهتمام بشأنه في المصادر ذات الطبيعة الإخبارية مثل مُصنفات ابن قتيبة، ابي هلال العسكري، المسعودي، ابن حبيب، ابن الكلبي، وابن سعيد الاندلسي. فاهتمام ابن قتيبة انحصر بالأساس في فقرة عنه في موضوع الحديث والصلة بينه وبين الرسول محمد. اما اليعقوبي فتتطرق اليه بإشارة عابرة بأنه كان من حكماء العرب. إن هذا التهميش في المصادر القديمة، لم يكن محض صدفة انما ارتبط بأسبابٍ ومحركاتٍ تحتاج دراسةً موضوعيةً ومتعمقةً.
تذكر الاخبار أنه كان خطيبًا بارعًا، ومن حكماء العرب وشاعرًا. ولقد خصص الأب لويس شيخو فصلاً عنه في كتابه "شعراء النصرانية" قبل الاسلام، جمع فيه بعض اخباره وشعره. وذكره في قصائدهم كل: من لبيد، طرفة والاعشى حيث اشادوا فيها بحكمته. و تؤكد المصادر، أنه كان قارئًا كاتبًا مطلعًا على كتب اهل الكتاب. ويذكُر كل من المؤرخين، احمد امين و محمد حسين هيكل، أن ادباء العرب ذكروا أنه كان نصرانيًا وقس نجران، في حين أشار المستشرق الفرنسي "بلاشير" أنه كان حنيفيًا. وتذكر الاخبار أنه كان يذهب إلى قيصر الروم زائرًا في قصره، فيحترمه ويعظمه. كما شاهده الرسول محمد وهو يخطب في سوق عكاظ.
ونسبوا له أنه أول من خطب متكئًا على عصا أو سيف، وأول من كتب عبارة من "فلان إلى فلان" وعبارة" و "أما بعد"، وأول من قال: "البينة على من ادعى واليمين على من أنكر". ونسبوا إليه أيضًا قوله: "كلا، بل هو الله الواحد المعبود، ليس بوالد ولا مولود". ومن مقولاته الحكيمة: "إذا خاصمت فاعدل، وإذا قلت فاصدق، ولا تستودعن سرك أحدًا، فإنك إن فعلت لم تزل وجِلاً".. و "من عيرك شيئًا ففيه مثله ومن ظلمك وجد من يظلمه، واذا أنهيت عن شيء فإبدا بنفسك، ولا تشاور مشغولاً، ولو كان حازمًا، ولا جائعًا إن كان فهيمًا، ولا مذعورًا إن كان ناصحًا".

يستهل القس خطبته بعبارة المشهورة "ايها الناس اسمعوا ووعوا". والوعي هي كلمةٌ تعبّر عن حالة العقل خلال عملية الإدراك، وتواصله المباشر مع المحيط الخارجي عن طريق نوافذ الوعي المتمثلة بشكل عام بحواس الإنسان الخمس. كما أن الوعي بالعقل والحالة العقليّة للإنسان، تتميز بملكات المحاكمة المنطقيّة الذاتيّة، والقدرة على الإدراك الحسّي للعلاقة التي تربط الكيان الشخصي بمحيطه الطبيعي. فقد استهل قس خطبته بتوظيف هذه العناصر، بدعوةِ سامعيه إلى الاتعاظ والأخذ بسبل العقل والتأمل إن استهلال خطابه بالصيغة الادراكية الطلبية والأمرية، جاءت مؤسسة ومتناسقة وفق ترتيب منطقي، حيث يطالب فيه أولاً بالسمع، ثم الانتباه والاعتبار، وبعدها وجوب التأمل، وبعدها التأرجح بين الشك واليقين، ليليها الوعي والادراك والاستيعاب، المقارنة والاستدلال، ليصل المتلقي بعدها إلى حقائق أساسية جوهرية، والتماهي مع قيم ومفاهيم انسانية تبشر بفجر جديد، بل بعضها قد يكون سابقًا لعصره. يطرح في بداية خطبته الاشكالية الميتافيزيقية للحياة والموت، ولغز مصير الانسان بعد الموت. ولاشّك أن حيرة العقل الإنساني أمام الموت فكرة قديمة.
فعليه تكون مناقشاته المتسائلة والحائرة لهذه المعضلة هي قضية انسانية اونيفرسالية، شغلت الفكر البشري منذ فجر التاريخ، وما زالت موضع التأرجح بين الشك واليقين حتى يومنا هذا، بل ستبقى موضوع توتر وارتباك، بشكل خاص في منظور العلمانيين إلى دهر الدهور. ومما يستحق التطرق له في هذا الشأن، بأن كل انجازات البشرية الزخمة والهائلة والمُذهِلة في كافة حقول المعرفة والابحاث، في العقدين الاخيرين لم تنجح بتوفير الحل المقنع للعلمانيين، وخاصة للغُز المصير بعد الموت. إن هذا الموضوع كما طرحه في خطبته "ان من عاش مات ومن ماتَ فات، وكل ما هو أتٍ ات.. ما لي أرى الناس يذهبون ولا يرجعون، أرَضَوّا بالمقام فأقاموا..." هي تساؤلات شرعية، كانت وما زالت وستبقى قضية آنية ساخنة ومقلقة وبدون حلْ لدى الكثيرين في عالمنا المعاصر. إنها برأيي ستبقى الشيفرة اللامُفسرة بشكل قاطع لدى الكثير من للبشر. ولقد تتطرق وعالج افلاطون هذه القضية في فلسفته بفرضية منطقية تقول: "إن القوة الالهية هي العقل الاكبر والانسان هو العقل الأصغر،" وبرأيه "من المستحيل أن يتمكن العقل الأصغر معرفة كل شيء عن العقل الأكبر"، فاذا اقتنعنا بفرضيته هذه سنسلم جدلاً، أننا لن نتمكن إلى الأبد من معرفة كُنْه مصير الانسان بعد موته.
أما البُعد الاجتماعي - السياسي في خطبته، والذي يتطرق فيه لقضايا كانت وما زالت موضوع تصدع وصراع مرير بين الظالمين والمظلومين. وقس في خطابه يناصر ويدعم قضايا العدل، والمسحوقين والمقهورين، ومقارعة وتذكير كل جبار متغطرس، جشِّع، مهما تمادى في جبروته وطغيانه، فلن يمنع ذلك حتمية ارادة الموت والفناء، من قهره والانتصار عليه. وتعكس مواقفه الانسانية والاخلاقية في توجهه هذا، بديهية راسخة لكل زمان ومكان، أن كل انسان مهما تمادى في جبروته ورفل في ثروته، وبالغ في التفاخر والاستعلاء وتبخيس الأخر، فمصيره الموت والفناء. ولذا يطالبه قبل فوات الأوان أن يتعظ ويتحلى بالقيم الانسانية السامية. وينقل لنا موقفه هذا في خطبته عندما يتوجه إلى جمهور سامعيه "أين الفراعنة الشداد؟ أين من بنى وشيد وزخرف وغرَّه المال والولد؟ أين من بغى وطغى وجمع؟ وقال: أنا ربكم الأعلى، ألم يكونوا أكثر منكم أموالاً وأطول منكم آجالاً وأبعد منكم آمالاً؟ طحنهم الثرى بكلكله..." اذًا تؤكد هذه العبارات والمضامين رسالة خطبته، وهي التزامه الراسخ والصادق بهموم مجتمعه وتبليغه الصريح لمجتمعه بوجوب الاتعاظ والوعي والصحوة لواقعهم الأليم. إن فساد وتدهور مجتمعه كان له التأثير القاطع في بلورة وتشكيل وجدانه وفلسفته الحياتية، الأمر الذي ساهم في تحويله إلى شخصية مٌتمرِدة على هذا الواقع المأساوي المُفجِع، داعيًا لطرح وتطبيق منظومة بديلة لمسيرة التغيير. فنجده يحض افراد مجتمعه على الاتعاظ "بالسیر في الفلوات والنظر في القبور لكي يدركوا ما سيؤولون اليه"، هادفًا بذلك ايقاظ كل نفس مُغفلَة أو اسيرة غطرستها لمراجعة ذاتها وعزفها عن المعاصي ودروب الشر والإثم، محذرًا من سوء المصير إذا لم ترتدع عن غييها.
كان اسلوبه لتعصيف العقل بالتأمل والتفكير العميق، الاعتماد والانطلاق من عنصر التناقض والتضاد، وهذا ما تتطرق له قوانين جدلية الحياة بكل تناقضاتها، تراكماتها وتحولاتها وانتقالها نحو الافضل. وينجح قس بن ساعدة بتوظيف صراع الاضداد، بتأكيده صيرورة الحياة والموت، النور والظلمة...
وهذا يُثبت أن عقلية قس كانت تتسم بتكامليتها واستيفائها، بنجاحها إحضار الشيء ونقيضه لكي تكتمل الصورة أمام أبصار سامعيه.
وعلينا أن نتساءل! ماهي العوامل التي أدت لتميز فكره، بالشك، والبحث الدؤوب عن جوهر العدل والاستقامة? يربط الكثير من المحللين ذلك بفعل تأثير معايشته مرحلة اتسمت بالحيرة والبحث، والتي عكست واقعًا تقّلصت فيه إمكانية "اعتناق توحيد جاهز" في أشكاله المتداولة والمعروفة في بلاد الشام، ومناطق من شبه الجزيرة العربية، كرد فِعُل لمرارة الخيبة من فشل التجارب مع العرب، الفرس، بيزنطية واليهودية.. لتجاوز ازمات التحولات في المجتمع، بل دفعت لزيادتها تعقيدًا وتأزمًا. فكان من الحتمي أن يفرز هذا الواقع المأزوم براعم تغيرات في دائرة الانتماء للقبيلة، في القرن السادس الميلادي. وكان من أبرز مظاهرها الإرهاصات لمشروع سياسي / اجتماعي، يمكِّن الفرد أن يحيا فيه باعتباره فردًا وليس جزءًا من مجموعة قبيلته. ولقد نجح قس بفكره الحصيف وبتحليله العميق، أن يبلور مواقفه الحائرة والمتأرجحة بين الشك واليقين، ليستوعب وينقل بدايات هذا التحول والحِراك. ولذا علينا تحليل فكره كتعبير صادق لتفاعله مع متطلبات التغيير في عصره، وأن ننبذ مواقف التحيز ضده والتغييب القصدي للدور التاريخي لفكره. وأن نرفض كل توجه مقولب، مُشكِك ومؤدلج حول مصداقية مسيرته، أقواله وافعاله. ومن الادلة لصدق ما ينسب اليه، أن إيمانه بالله لم يكن إيمانًا يقينيا، بل مصحوبًا بحيرة وتساؤلات كبيرة حول الموت والعالم الآخر. لا يمكن في نظري أن يكون هذا العنصر، المتمثل في الطابع المتأرجح والحائر ليقينه، مفتعلاً ومنسوبًا إليه. لأن الرواية لو كانت مفتعلة أو منحولة لأخذت اتجاه التأكيد بوجود الله. وتأكيد آخر لأصالة ما ابدعه. إن الافكار المنسوبة له افرزتها النزعة نحو الفردية في عصره، لأننا نجد أحد محاور ما أكده وشدد عليه في دعوته، هو مناشدة وحث الفرد ليعي ويدرك مسؤوليته ومصيره الشخصي.
وفي الختام نقلت لنا خطبته الخالدة في سوق عكاظ، والتي هناك إجماع بأنها من روائع الخطب العالمية، فلسفة حياتية ستبقى معانيها ومدلولاتها واسقاطاتها، لغزًا لكل انسان على وجه البسيطة في كل زمان ومكان. وتستمد اهميتها لكونها بوصلةً ومِعْيارًا لترشيدنا لنبذ كل تصرف غير انساني و اخلاقي. ولأن سطورها مشحونة بعُصارة فلسفة حياتية يُسلم بها المؤمن والُملحد، لتأكيده فيها بديهيات أزلية الوجود، وميتافيزيقية ما بعد الموت، بكل تناقضاته وتعقيداته، والتي كانت وستبقى لشرائح مختلفة لغزًا، يستحيل سبر أغواره وتفكيك وكشف مكنوناته. كما تطرح فكرًا انسانيًا تقَدميًا وثوريًا، يدعو إلى نبذ الغطرسة السلطوية والجشع اللامحدود لتكديس الثروات، والذي من المؤسف أنه ما زال في طليعة من تتنكر له انظمتنا العربية.
شفاعمرو 15.01.2021



#الياس_خليل_نصرالله (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- جذور الفردانية في الولايات المتحدة ودورها في تحديد سياستها ا ...
- الدين والحداثة وبناء المجتمع الإنساني في فكر سلامة موسى!


المزيد.....




- مسجد وكنيسة ومعبد يهودي بمنطقة واحدة..رحلة روحية محملة بعبق ...
- الاحتلال يقتحم المغير شرق رام الله ويعتقل شابا شمال سلفيت
- قوى عسكرية وأمنية واجتماعية بمدينة الزنتان تدعم ترشح سيف الإ ...
- أول رد من سيف الإسلام القذافي على بيان الزنتان حول ترشحه لرئ ...
- قوى عسكرية وأمنية واجتماعية بمدينة الزنتان تدعم ترشح سيف الإ ...
- صالة رياضية -وفق الشريعة- في بريطانيا.. القصة الحقيقية
- تمهيدا لبناء الهيكل المزعوم.. خطة إسرائيلية لتغيير الواقع با ...
- السلطات الفرنسية تتعهد بالتصدي للحروب الدينية في المدارس
- -الإسلام انتشر في روسيا بجهود الصحابة-.. معرض روسي مصري في د ...
- منظمة يهودية تستخدم تصنيف -معاداة السامية- للضغط على الجامعا ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - الياس خليل نصرالله - خطبة قس بن ساعدة الايادي