أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العمل المشترك بين القوى اليسارية والعلمانية والديمقرطية - الفاضل ساسي - ورقات من خريف تونس والوضع الرّاهن















المزيد.....



ورقات من خريف تونس والوضع الرّاهن


الفاضل ساسي

الحوار المتمدن-العدد: 6789 - 2021 / 1 / 15 - 12:23
المحور: العمل المشترك بين القوى اليسارية والعلمانية والديمقرطية
    


تقــديــم :

بمناسبة مُرور عشر سنوات على إنتفاضة 17 ديسمبر2010 الشّعبية (14 جانفي 2011 عند القائلين بأن ثورة قد حدثت في تونس و المحتفلين سنويا بها ) و تزامنا مع ذكرى إستشهاد الرّفيق الوطني الدّيمقراطي "الفاضل ساسي" أثناء قيامه بواجبه النّضالي الوطني الثّوري من أجل حرّية شعبنا و إنعتاقه الإجتماعي خلال الإنتفاضة الشّعبية 4 جانفي 1984 ، ورفاق آخرون مروا مثله على نفس الدرب ... أنجزنا هذا الكرّاس المتواضع وقد تضمّن نقدا موجزا لواقع المجتمع ولخيارات نظام الحكم العميل القائم وسياسة الأحزاب الحاكمة المعبّرة على مصالح الإمبريالية و وكيلها الإئتلاف الطّبقي الرّجعي العميل دون أن ننسى تقديم تصوّر عام عن البديل الثّوري المطلوب في واقع متحرّك يحتاج فيه شعبنا أكثر من أي وقت مضى إلى بديل وطني ثوري منظم يضع برنامج وطني ثوري و يعمل على أساسه من أجل تحقيق طموحاته...مع ملاحضة أن ما ورد بهذا النّص جاء موجزا وقد حذفت من أصله فقرات و عناوين عديدة إخترنا إفرادها بنصوص خاصّة لطول وعمق البحث فيها ...

1 ــ أيّام قبل وبعد رحيل الدّكتاتور :

...كان البوعزيزي فردا عاديا من أبناء الشّعب الكادح يكسب قوّة يومه من بيع الخضروات والغلال. يدفع عربته الصّغيرة متنقّلا بين الاحياء الشّعبية في مدينة سيدي بوزيد... ولم يكن له أي إنتماء سياسي أو نقابي ولا يعنيه في الحياة سوى كسب رزقه بعرق جبينه بكرامة، وهو الّذي فقد الأمل كالملايين غيره من أبناء شعبه في ضمان عمل قارّ وعيش كريم ...وفي ذلك اليوم 17 ـ 12 ـ 2010 إضطُهد وعُنّف البوعزيزي وقُلبت عربته أرضا ومُنع عن نشاطه وسبيل الكسب ، فقرّر أن يكون شهيد الحرّية في مجتمع غير عادل في ظلّ نظام حكم الأقلّية ذات المال والنّفوذ والسلطة ...وأشعل البوعزيزي النّار في نفسه فإنتقل لهيبها إلى كافة مناطق البلاد فكانت إنتفاضة 17 ديسمبر الشّعبية و مرحلة جديدة في مسار ثوري مرتبط بما سجله شعبنا في مراحل سابقة من نضالات من أجل تحرّره وإنعتاقه من براثن حكم الإمبريالية وعملائها لعلّ أقربها من حيث الزّمان للحظة الإنتفاضة الأخيرة أحداث الحوض المنجمي (2008) ...
دخلت البلاد بعد ذلك في حالة فوضى عارمة وردّات فعل عفوية أحيانا ومنظّمة أحيانا أخرى ضد نظام الحكم ، حتّى جاء يوم رحيل "رأس النظام" إلى خارج البلاد في عملية هروب لا تزال تفاصيلها غامضة إلى حد الآن رغم ما قيل وكتب حولها ...
...وأيام قليلة بعد هروب الدّكتاتور (مُنفذّ انقلاب 7 نوفمبر العسكري سنة 1987 )الحاكم المطلق السّابق في البلاد وصاحب الحزب الواحد المهيمن على السلطة وأجهزة الدولة "حزب التّجمع" إلى السعودية. حاول الدّساترة لملمة أطرافهم وضمان بقائهم في سُدّة الحُكم تحت شعار "حكومة وحدة وطنية" شكّلها الوزير الأّول السّابق في آخر فترة حكم لبن علي هو العميل محمّد الغنّوشي وقد جمع حوله وزراء سابقون إحتفظو بأهم المواقع في تلك الحكومة. و في 7 مارس 2011 أعلن عن تسمية حكومة جديدة سُمّيت "مؤقّتة " تولّى تأليفها عميل آخر هو الباجي قايد السبسي الدّستوري البورقيبي المعروف .
كان محمّد الغنّوشي وزيرا أوّلا و عميلا ضعيف الشّخصية ومرتبك بحكم الواقع واللّحظة التّاريخية ، وقد إستغلّت حركة النهضة ذلك للتعاون معه و للضّغط عليه وعلى فؤاد المبزع البيدق الآخر الذي سكن متحف باردو من أجل إصدار العفو التّشريعي العام ،وهو مطلب من مطالب القوى الإصلاحية إلى جانب حركة النّهضة (مجموعة 18 أكتوبر...) قبل الإنتفاضة. وصدر المرسوم عدد 1 لسنة 2011 المؤرّخ في 19 فيفري 2011 والمتعلّق بالعفو العام والّذي إستفاد منه كما سيأتي بيان ذلك "النّهضاويون" ومجموعات وُصفت بالإرهابية ولم تكن بعيدة عن الحركة ، كما صدرت مراسيم أخرى من أهمّها بالّّنسبة للإئتلاف الطبقي الرّجعي العميل المرسوم المتعّلق بالتّعويض لأصحاب المؤسّسات الإقتصادية الّتي وُصفت بالمتضرّرة من أحداث 14 جانفي 2011 (أي من الإنتفاضة الشّعبية) وكانت بداية الغيث لأولائك صرف مبالغ قُدّرت بعشرات الملايين من الدّولارات لفائدة أصحاب تلك المؤسّسات عن الفترة التي حدّدها المرسوم بين 17 ديسمبر 2010 و 28 فيفري 2011 .
وفي تلك الأثناء ، كانت البلاد قد شهدت أحداث إعتصام القصبة 1 أواخر جانفي 2011 أمام قصرالحكومة تخّلله إضراب جوع أغلبية المعتصمين القادمين من مختلف أنحاءالبلاد ، من أولائك الّذين أشعلوا فتيل الإنتفاضة وواجهوا قمع البوليس و إرهاب أجهزته وتمرّدواعلى الجلاّد ونظام حكمه يوم سئموا إقصائهم وتهميشهم وإغترابهم في بلادهم ، فإنتفضواولم ينتابهم شعور آن ذاك بأنّ إنتفاضتهم ستُسرق منهم مرّة أخرى مثلما سُرقت إنتفاضات شعبنا السّابقة على مر تاريخ هذه البلاد قبل و بعد إمضاء بروتكول الخيانة والعمالة المسمّى "إستقلالا " سنة 1956 وما تلاه من بروتكولات وإتّفاقات إضافية مع الدول الإستعمارية وفي مقدمتها فرنسا ، لعل أخطرها وليس آخرها الإتّفاقيات المعقودة مع دولة الإستعمار الفرنسي في شهر جويلية من عام 1957 ، دون أن ننسى الإتّفاقيات السّرّية والمُعلنة اللاّحقة .
كان أمل المعتصمين بحضور وسائل الإعلام والصّحافة المحلّية والأجنبية وفي حضور منظّمات ما يُعرف بالمجتمع المدني وعدد كبير من الحقوقيين ، تحقيق بعض المطالب الإصلاحية المعيشيّة المُلحّة الشّرعية و رحيل الدّساترة نهائيا عن الحكم...و رفعوا مرارا شعار "الشّعب يريد إسقاط النظام" تعبيرا أيضا عن رفضهم لبقاء النّظام السّياسي الذي لم يخدم مصالح الجماهير الشّعبية قائما ...
وبعد أيّام قليلة ، هاجمتهم قواة البوليس بعنف شديد مسنودا بمليشية مُسلّحة بالهراواة والسّكاكين والكلاب البوليسيّة المُدرّبة . ووقع تفريق المعتصمين في أزقّة المدينة وُصولا إلى شوارعها الرّئسية ليعود أغلبهم ليلا إلى ديارهم بعد أن أعتقل الكثيرون منهم في محطّات النّقل وتمّ التّنكيل بهم .
ولئن كانت تداعيات هذا الحدث لاحقا إضرابات ومسيرات شعبية في المدن الكبرى و بيانات تنديد وتصريحات مساندة للتّحركات الإجتماعية من بعض المثقّفين والصّحافيين ، فإنّ ألأحداث الّتي شهدتها بلادنا في فترات لاحقة (القصبة 2...) كانت فوضوية عفوية في العاصمة كما في مدن اخرى ، واستفاد منها الدّساترة و النّهضاويون وقُطّاع الطّرق والمهرّبون والفارّون من السّجون ، وأفراد المليشيات الّذين لم يُفوّتوا فرصة لنهب الممتلكات وإثارة الرّعب في النّفوس بغاية إخماد نار تلك التّحرّكات وتشويهها حتى أن وزارة الدّاخلية نفسها و وزارات أخرى والمحاكم في ظلّ حكومة العمالة المؤقّتة قد شملتها الفوضى (أنظر مثلا ما كُتب حول ذلك في جريدة الصّبـــاح في العدد 19865 الصّــادر يوم الثلاثـــاء 1 فيفري 2011) .

2 ــ عجز وفشل اليسار التّونسي في إلتقاط اللّحظة :

كانت فصائل اليسار التّونسي والتّيار القومي العربي في طليعة الحشود الغاضبة المنتفضة ، وذلك بشهادة وسائل الإعلام المحلّية والأجنبية ، وكان لأولئك المناضلين سابقا في ظروف السّرّية وشبه العلنية دورا هامّا في التّصدي لأجهزة القمع وتنظيم وتوجيه الجماهير، حتّى إحتلال الشّوارع وحصار مدخل وزارة الدّاخلية يوم 14 جانفي 2014 ، إلاّ أن القوى السّياسية الرّافعة لراية الوطنية وقتها لم تُفلح في تنظيم وتوحيد صفوفها في جبهة وطنية عريضة تأخذ زمام المبادرة وتتولّى توجيه وتنظيم صفوف الجمـاهير لغاية إستمرار نضالهــا حتى إسقــاط نظــام الحكم العميل ، بل أنّ بعض مُكوّنات اليسار إنطلت عليها الكذبة ، فأصبحت تًنظّر لثورة لم تحدث ، و إنخرطت في تحالف سياسي ، وأمضت على إتفاق مع الأحزاب الرّجعية ومن بينها تلك المُعبّرة عن الدّساترة و الإخوان المسلمين ضمن ما عُرف بمبادرة الإتّحاد العام التونسي للشّغل وهيئة المحامين وعميدها الإخواني الرّجعي تحت عنوان "المجلس الوطني لحماية الثّورة" ...
ويعود إخفاق القوى الوطنية ومن ضمنها الوطد الماركسيون اللّينينيون ، في إنجاز المهام الوطنية التّاريخية العاجلة ، المُلقاة على كاهلها لأسباب هيكلية تنظيمية و أخرى سياسية ، ولأخطاء كثيرة إرتكبتها في الممارسة منها الخطأ في تقييم الوضع أثناء الإنتفاضة وبعدها ، وفي فهم ما يحدث ، وفي عقد تحالفاتها المرحلية ، وتردّدها بسبب تركيبتها الفئوية التّنظيمية البرجوازية الصّغيرة غير العمُّالية ، في وضع برنامج وطني ثوري يُمكّنها من إستقطاب العُمّال والفلاّحين وعُموم الكادحين والفئات البرجوازية الصّغيرة المُفقّرة المُنحدرة من أصول طبقية عُمّالية وفلاحية ، والدّفاع عن مصالحها والمُضي قُدُما بنضالاتها في المُقدّمة نحو تحقيق ثورة شاملة لإسقاط نظام الحكم اللاّوطني ، وإقامة نظام حكم جديد وطني وديمقراطي شعبي... ونتيجة هذا الإخفاق سوف لن تجني تلك القوى مُستقبلا ثمار نضالاتها ، وستكون نضلاتها معزُولة عن جماهير الشّعب ومطالبه المشروعة ، وفي مقدّمتها التّحرّر من سيطرة الإمبريالية وعملائها والإنعتاق الإجتماعي (يستوجب هذا الموضوع لأهمّيته الكبيرة صياغة كرّاس خاصّ به ) .

3 ــ بداية إلتفاف الإئتلاف الإمبريالي الدّستوري الإخواني الرّجعي على الإنتفاضة :

أمّا في الجانب الآخر ، فقد إستطاعت القوى الرّجعية المتكوّنة أساسا من شق كبير من التّجمعيين (الدّسـاترة) و الإخوان المسلمين (النّهضة) تُساندهم مجموعات " ليبرالية " وأخرى" إصلاحية " بعضها من "حركة 18 أكتوبر" المتحالفة مع النهضة تحت شعار الحد الأدنى الدّيمقراطي سنوات قبل الإنتفاضة(منذ 2005 ) أن تتوحّد حول ما سُمّي بمشروع الإصلاح الإداري والإقتصادي و السّياسي والإنتقال الديمقراطي السّلمي للسّلطة الّذي روّجت له هيئة تأسّست للغرض بعد 14 جانفي سُمّيت : " الهيئة العُليا لتحقيق أهداف الثّورة والإصلاح السّياسي والإنتقال الدّيمقراطي " ، وساندته ودعّمته عمليا القوى الإمبريالية بإعتباره نموذجا سياسيّا إتّبعته في أكثر من مكان في العالم وضخّت لأجله الأموال حتّى يُنجز هؤلاء مشروعها الّذي إنتظرت أن يفتح لها آفاقا لحلّ إزمتها الدّورية المُحتدّة خاصّة بعد عام 2008 ، وتغيير رُموز نظام الحكم العميل المفضوحة والّتي لم تعد الجماهير الشّعبية تقبل بها بوجوه جديدة ومنع سُقوط النّظام ...
و أعلنت دول الإتّحاد الأوروبي وفي مقدّمتها الدّولة البرجوازية الفرنسة تأييدها لـ"ربيع تونس" (وهي الّتي عبّرت في بداية الإنتفاضة عن مُساندتها لنظام الحكم ولبن علي وهدّدت بالتّدخل ضد الشّعب) ، حتّى أنّها موّلت تنظيم سهرة غنائية كُبرى تحت شعار " نشيد الحرّية " ، بتنشيط ومُشاركة فنّية تونسية فرنسية خلال شهر سبتمبر 2011 "إحتفالا بالرّبيع"... كما أعلنت دول إمبريالية أخرى تأييدها لما أسمته "بثورة الياسمين" وإستعدادها لدعم الجهود الرّامية لإعادة تنظيم وتسيير وتوجيه أجهزة نظام الحكم ، وإبتدعت لذلك صيغا وآليات وهيآت ، وفرضت إصدار مراسيم ، ووضعت "خارطة طريق" تعلم مُّسبقا ما ستؤدي إليه طًرقها وثناياها ومُنعرجاتها ، ومن هم أصدقاؤها الضّامنين لمصالحها بإتّباعها خطوة بخطوة ، وتوطيد الإرتباط والتّبعية للدّوائر الإستعمارية الرّأسمالية ومؤسّساتها .
وفي مُقابل بعض الدّعوات المُطالبة بمحاسبة ومحاكمة التّجمعيين ، وكلّ من كان له موقعا في السّلطة زمن "بن علي" وتغيير نظام الحكم ، ظهرت مطالب أخرى تدعو إلى عدم الإقصاء ، وإلى الوحدة ، وعدم التّشفي ، وواجب الإستفادة من كوادر النّظام الّذين أداروا شؤون البلاد حتّى عام 2011 ، مُقدّمين في ذلك التّبريرات... وإتّضح فيما بعد أنّ النّهضة وحُلفائها قد مدّوا جُسور التّواصل مع الدّساترة ومنهم التّجمعيون ، ونفضُوا الغُبار على كوادرهم ، ودعوهم إلى مواصلة تسيير مؤسّسات وإدارات الدّولة ، ومنع سُقوطها بعد أن هزّت الإنتفاضة أركانها ... وكان "الباجي قايد السّبسي" رئيس حكومة شهر مارس 2011 مُرشّح الإمبريالية الأوّل ووكيلها الّتي راهنت عليه لإخماد نار الإنتفاضة ، وهو الّذي يتمتّع بشُهرة قمع المُناوئين لنظام الحكم زمن العميل بورقيبة ، وكان مديرا للأمن بداية السّتينات من القرن الماضي ، ثمّ وزيرا للدّاخلية و وزيرا للدّفاع (1969 ــ 1970) ، وكان قُدماء المُناضلين من اليسار الوطني أكثر ضحاياه في تلك الفترة ... وكان وزيرا للخارجية في الثّمانينات...
وكانت من مهام "قايد السبسي"و "الحبيب الصيد" وزير الدّاخلية وآخرون من الكوادر الدّستورية ، تمهيد الطّريق للإخوان المسلمين و التّحالف معهم لكي يسيطروا على دواليب الدّولة والحكم ، والأداة في ذلك كيفما أملتها عليهم فرنسا وأمريكا وبريطانيا ودول رأسمالية إستعمارية أخرى بعد إعتصامي القصبة 1 و 2 ، ومثلما نظّرت إليها القوى الإصلاحية هي إنتخاب مجلس تأسيسي . كما إعتمدت تلك الدّول على شخصيات سياسية أخرى لتمرير مشروعها وتسهيل إنتقال السّلطة "للإخوانجية" ومن حالفهم مثل : "عياض بن عاشور" البرجوازي العميل و صديق الرّئيس الفرنسي "ساركوزي" ورئيس "الهيئة العليا لتحقيق اهداف الثّورة و الإصلاح السّياسي والإنتقال الدّيمقراطي". وكذلك "كمال الجندوبي" صاحب الجنسية الفرنسية التّونسية المُزدوجة ورئيس "الهيئة العليا المستقلّة للإنتخابات" والعضو المنتمي مثل من سبق ذكره إلى الشّبكة "الأورو متوسطية" لحقوق الإنسان ومشروع 5+5 المتوسّطي المُطبّع مع الكيان الصّهيوني الغاصب لأرض فلسطين .
وجاءت مسرحية الإنتخابات بعد إجتماعات مراطونية سرّية وعلنية ، جمعت قيادات "النّهضة" بباقي قيادات التّرويكا (المرزوقي وبن جعفر...) وجمعيات وشخصيات أمريكية لها علاقة بالصّهيونية وجهاز الإستخبارات الأمريكي .
وأورد "مدير منطقة شمال إفريقيا والشّرق الأوسط لمركز جينف للدّعم الدّيمقراطي للقوّات المُسلّحة ديكاف ــ DCAF ... أنّ المحادثات التي أجراها والوفد المرافق له مع ممثلي الحكومة والمجتمع المدني خلال زيارته إلى تونس ... شملت توظيف تجارب أكثر من ستّين دولة ديمقراطية عضوا في مركز جينف في جهود إصلاح قطاع الأمن و القوّات المُسلّحة في تونس ما بعد الثّورة و العلاقة بين الإصلاح الأمني و السّياسي و الإعلامي و تداخل جهود مُعالجة معضلة الفلتان الأمني و الفلتان الإعلامي ". ( نقلا عن جريدة الصباح العدد 19960 الصّادرة يوم الأحد 22 ماي 2011 ).

4 ــ أهمّ المطالب المعيشيّة المُلحّة للجماهير الشّعبية :

يُمكن تلخيص أهم مطالب أبناء شعبنا الكادح المُستغّل والمُضطهد والمُنتفض بحسب ما رُفع من شعارات وما كُتب من مقالات في الصّحف والمجلاّت ، وما صُرّح به بالإجتماعات العامّة والنّدوات والإضرابات والإعتصامات ، وفي بيانات الأحزاب والنّقابات والمُنظّمات الحرفيّة والمهنيّة في المسائل المُلحّة التّالية :
ــ فبالنّسبة للأجراء في المدن و الأرياف و الوظيفة العموميّة ، طالب العاملون والعاملات في المصانع والمعامل وعُمّال وعاملات الزّراعة ، والفلاّحون في الأرياف ومؤسّسات الإنتاج المختلفة الأخرى و الإدارات ، بتحسين ظروف العمل والإنتاج وإلغاء العمل بالمناولة (إلغاء الوسطاء في سوق العمل الّذين يُتاجرون بقوة عمل العمّال ويحقّقون أرباحا على حسابهم بفضل ذلك دون أن يكون لعملهم صفة الدّيمومة والإستمرار المُفضي لترسيمهم ، ليبقى عملهم مؤقّتا و ثماره تذهب لفائدة حفنة من مُستغلّيهم) . كما طالبوا بتثبيتهم في أماكن عملهم والتّرفيع في أجرتهم وتقوية القُدرة الشّرائية لديهم حتى يستطيعوا مُواجهة غلاء أسعار الغذاء والدّواء ، والمسكن واللّباس وغير ذلك من الحاجات للعيش الكريم . و طالبوا بتخفيف الضّرائب والأداءات المفروضة عليهم ، ومنع الإقتطاعات من أجورهم ، ووقف موجات الطّرد التّعسّفي الّتي يتعرّضون لها ، وتأمين فُرص العمل والوظيف القارّ للأجيال من أبنائهم في بلادهم بما فيهم أصحاب الشّهادات العُليا ، و ضمان الدّخل الكافي من تقاعدهم ، وإصلاح ما يُسمّى " بالبنية التّحتية "من الطّرقات و قنوات مياه الشّرب ، ومسالك تصريف المياه المُستعملة ، ومياه الأمطار ، والإنارة العمومية ، وتوسيع شبكتها حتى تصل إلى المناطق الرّيفية النّائية ، ووقف تعسّف وظُلم الإدارة والبوليس ، والتّصدّي للجريمة لضمان عيشهم في أمن وأمان ... وطالبوا أيضا بتوفير وتطوير النّقل العمومي وبعدم التّفريط في المؤسّسات العمومية ، ووقف بيع المزيد من المعامل والمصانع المحلّية للأجنبي ، وإستغلال الثّروات الطّبيعية في البلاد لمصلحة الشّعب . وكذلك ضمان الصّحة والعلاج لعموم النّاس ، وإصلاح وتطوير المنظومة الصّحيّة ، وتوفير المساكن الإجتماعية للفقراء ذوي الدّخل المحدود ، والحفاظ على مؤسّسات التّعليم العمومي وتطويرها ، ومُحاسبة كل من ساهم في ظُلم وإضطهاد الشّعب وحرمانه من حُرّيته وحُقوقه المشروعه...
ــ وبالنّسبة لأصحاب الملكية الصّغيرة و المتوسّطة من الفلاّحين وأصحاب الورشات و المعامل ، فإلى جانب تأييدهم لما سبق ذكره من مطالب ، فقد إنفردوا بطلب إلغاء ديونهم المُتخلّدة لفائدة البنوك ومؤسّسات أخرى ، والّتي تراكمت عليهم في شكل قروض كانوا مُضطّرين لإقتناءها لمُواصلة إستغلال أراضيهم ومشاريعهم ، بعد أن أدّت السّياسة المُعتمدة من الدّولة تُجاههم إلى إفلاس الكثيرين منهم ، وتحوّلهم إلى عُمّال أجراء أو عاطلين عن العمل، بعد بيعهم أو كراءهم لأراضيهم ومؤسّساتهم وورشهم بأبخس الأثمان . ومن مطالب بعضهم أيضا إسترجاع ملكية الأراضي التي إفتكها منهم " الطرّابلسية " وأتباعهم ...كما طالب الفلاّحون بتوفير الأسمدة و الأدوية الزّراعية والبُذور و المواد الأوّلية اللاّزمة لنشاطهم الإقتصادي بثمن مقبول ، وتوفير مسالك التّرويج لإنتاجهم داخليا ، وتصديره خارجيا ، والحدّ من تدخّل السّماسرة المُضاربين في ذلك ...
ــ وكانت للتّلاميذ والطّلبة من أبناء الشّعب الكادح مطالبهم ، وهم اللّذين ساهمو في أغلب التّحرّكات الشّعبية قبل وبعد 17 ديسمبر 2010 ، وفي النّضال الوطني ضد نظام الحكم العميل القائم ، إلى جانب مُساندتهم لمطالب شعبهم تمثلت أساسا في ضمان وإستمرار التّعليم المجاني ومؤسّساته العمومية ، وإلغاء سياسة الإنتقاء في كافّة مراحل التّعليم ، ووضع برامج تربوية ديمقراطية شعبية ، وإرساء ثقافة وطنية وحرّية العمل النّقابي الطّلابي (خاصّة مناضلي و مناضلات الإتحاد العام لطلبة تونس) ...

5 ــ إنتخابات " التّأسيسي " المهزلة أداة للإرشاء و للإلتفاف على الإنتفاضة ومطالب الشّعب :

صدر في 10 ماي 2011 المرسوم عدد 35 لسنة 2011 المتعلّق بإنتخاب " المجلس التّأسيسي " والّذي نصّت بعض فصوله على شروط التّرشّح لعضوية المجلس المذكور ، وعلى منع ترشّح كل من ناشد الرّئيس السّابق التّرشّح لمدّة رئاسية جديدة لسنة 2014 ( مناشدات 2009) حسب القائمة الّتي ضبطتها الهيئة المذكورة آنفا ، وكل من تحمّل مسؤولية صُلب الحكومة في عهد بن علي بإستثناء من لم ينتم من أعضائها إلى التّجمّع الدّستوري الدّيمقراطي ، ومن لم يتحمّل مسؤولية في هياكله ...
وفي 23 أكتوبر 2011 جرت الإنتخابات المهزلة الّتي قاطعتها فعليا القوى اليسارية الوطنية ، وفعّلت المقاطعة ميدانيا وبشكل واسع ، وإستجابت لها نسبة كبيرة جدّا من أبناء شعبنا . وجاءت نتيجة الإنتخاب الّتي شابها التّدليس وشراء الذّمم والأصوات بالمال السياسي الفاسد ، بخليط بين مجموعات من الدّساترة غير المعروفين أو غير البارزين ، أو اللّذين إعتبرتهم الإمبريالية كوادر مُحنّكة في الرّجعية ، وفي إدارة شؤون نظام الحكم ومؤسّسات الدولة لا يمكن للنّهضة وحلفائها الإستغناء عنهم ، وآخرون من الوشاة المتعاونين السّابقين مع "أمن الدولة" ، و البعض من ذوي السّوابق ، وزُمرة كبيرة من الإخوان المسلمين ، وبعض الإصلاحيين والانتهازيين المكشوفين بلغ عددهم 217 نائب .
وتمتّع كل عضو بالمجلس براتب شهري بلغ 2500 دينار مع الحقّ في سيّارة وسائق خاصّ وغرفة في نزل لكامل أيام الأسبوع . وبلغت تكلفة عُضويتهم من الخزينة العامّة أكثر من 4500 دينار شهريا لكلّ واحد فيهم ، أي أكثر من مليار في الشّهر بإعتبار أطباق الأكل الفاخرة و البنزين المجاني و إمتيازات أخرى .
وقد منح هؤلاء الثّقة لحكومة الجبالي أواخر شهر ديسمبر من عام 2011 ، الّتي ضمّت غالبية إخوانية مع التّوافق على تكليف أحد القريبين من حركة النهضة ومن الدول الاستعمارية ، برئاسة الجمهورية المؤقّتة (المرزوقي) ، فيما تبوّأت رئاسة المجلس التّأسيسي شخصية سياسية كرتونية عميلة ( بن جعفر صاحب حزب التكتل ) ، كانت في السّابق في أشدّ التّناغم مع بن علي وزمرته في الحكم ، إلى جانب أشخاص من أصحاب السّوابق العدلية...
ولم تمضي أشهر على قيام حكومة الجبالي إثر تلك الإنتخابات ، حتى أصدر هذا الأخير " الأمر عدد 833 لسنة 2012 المؤرخ في 20 جويلية 2012 المتعلّق بضبط كيفية تطبيق أحكام القانون عدد 4 لسنة 2012 المؤرخ في 22 جوان 2012 المتعلّق بأحكام إستثنائية للإنتداب في القطاع العمومي" . وصدر قراره المؤرّخ في 6 أوت 2012 المتعلّق بتحديد النّسب المُخصّصة للإنتدابات طبقا للأمر عدد 833 لسنة 2012 والقانون عدد 4 لسنة 2012 ثم قراره الصادر في 14 سبتمبر 2012 المتعلق بضبط تركيبة وتنظيم وسير عمل اللجنة المشتركة المُكلّفة بالنّظر في ملفات المترشّحين للإنتداب من عائلات شهداء ومُصابي "الثورة" ، والمنتفعين بالعفو التّشريعي العام . كما أصدر الأمر عدد 3256 لسنة 2012 المؤرخ في 13 ديسمبر 2012 المتعلّق بضبط إجراءات العودة إلى العمل وتسوية الوضعية الإدارية للأعوان العموميين المنتفعين بالعفو العام .
وجاءت بعد حكومة الجبالي حكومة ثانية إخوانية نهضاوية بالأساس تولّى رئيسها "علي العريض" إصدار أمر بإسمها للتّعويض للمنتفعين بالعفو العام ، وهو الأمر عدد 2799 لسنة 2013 المؤرّخ في 9 جويلية 2013 والمتعلّق بصيغ وإجراءات النّظر في مطالب التّعويض ذات الصّبغة الإستعجالية المُقدّمة من طرف الأشخاص المنتفعين بالعفو العام ، ونصّ ذلك الأمر على إحداث لجنة إستشارية لدى وزير حقوق الإنسان والعدالة الإنتقالية مُكلّفة بالنّظر في مطالب التّسبقة على التّعويض ، وإقترحت تلك اللّجنة مبلغ تسبقة سنوية يقع دفعه صبرة واحدة أو عبر دفوعات بحسب الصّيغ وقرار وزير حقوق الإنسان والعدالة الإنتقالية ، على أن تًراعي اللّجنة في ذلك حالة المعني بالأمر الإجتماعية والمدنية والصّحية ( يمكن مراجعة مقال جيّد حول "التّعويضات للمتمتّعين بالعفو التّشريعي العام : "الحقيقة الكاملة" بقلم الصحفي المعروف منجي الخضراوي بجريدة الشروق الصادرة في 7 نوفمبر 2016 ) .
وتطبيقا لما سبق ذكره من قوانين ، إنتفع أتباع النّهضة وأولئك اللّذين حسبوا عليها وصُنّفوا إرهابيين (مجموعة سليمان مثلا ) وعددهم 3646 ، من تسبقة على التّعويضات بلغت قرابة 22 مليار من الملّيمات ، أي بمعدّل ستّة آلاف دينار للفرد الواحد ، وذلك بين سنتي 2012 و2013 فقط ...وأوقفت إجراءات إسناد التّسبقة بعد ذلك تحت تأثير الأحداث السّياسية الّتي شهدتها البلاد ، ثم جُمّدت تلك الإجراءات في عهد حكومة "مهدي جمعة" ، لتعود بعدها حكومة الحبيب الصيد للإهتمام بالموضوع ، فأصدرت حكومته الأمر عدد : 446 لسنة 2016 المؤرخ في 8 أفريل 2016 والمنقح للأمر عدد 2799 لسنة 2016 السّابق الذّكر ، وأسندت اللّجنة الإستشارية المختصّة بالتّعويضات إلى وزارة الشّؤون الإجتماعية بدلا من وزارة حقوق الإنسان والعدالة الإنتقالية .
كما تمّ أثناء ذلك تسوية الوضعيات المهنية والوظيفية للبعض من المتمتّعين بالعفو العام ، والّ تي بلغت "منذ 2012 قرابة 200 ألف عون بالوظيفة العمومية إنتدابا وإندماجا " حسب تصريحات الوزير في حكومة يوسف الشّاهد "عبيد البريكي" ( الشروق ــ نفس المصدر السابق ذكره ) . أمّا في علاقة بالصّناديق الإجتماعية ، فلقد تمّ التّنصيص على تمكين المتمتّعين بالعفو العام من مُساهمات الأُجراء ، ومُساهمات الأجير فترة الإنقطاع ، وبلغت مبالغ التّسوية قرابة 120 مليارا ، وتمتّع بذلك الإخوان المسلمون في المقام الأوّل .
وبالنّسبة إلى الإنتداب بالوظيفة العمومية ، فلقد تمّ مثلا سنة 2012 فقط إنتداب زهاء ستّة آلاف منتفع من العفو العام ، أكثر من 85 بالمائة منهم من المحسوبين على حركة النّهضة ( الشروق ــ نفس المصدر السابق ذكره) .
وهكذا تسلمت "النّهضة" مقاليد الحكم متحالفة مع شقّ كبير من الدّساترة ، وأضحت البديل السّياسي الرّئيسي ، المُوجّه من طرف الإمبريالية في إتّجاه تحويل مسار الإنتفاضة الشّعبية وقمعها ، وإسكات صوت الجماهير الشّعبية الغاضبة ، وترميم أركان بيت الإئتلاف الطّبقي الرجعي العميل ونظام حكمه ، وفتح الآفاق من جديد للإمبريالية العالمية لتصدير سلعها و خاصّة رأس مالها المالي نحو بلادنا...

6 ــ هل تحقّق حلم "راشد الغنوشي" و إخوانه أم إتّفقت آماله و أهدافه مع الإمبريالية ؟

تقودنا مُراجعة تاريخ "حركة الإتّجاه الإسلامي" ــ أُسّست عام 1981ــ (النّهضة حاليا) في علاقة بنظام الحكم ، إلى التّذكير بأنّ تلك الحركة قد باركت الإنقلاب العسكري الّذي نفّذه العميل "بن علي" سنة 1987 ، والّذي حرمها من أن تنفّذ إنقلابا بواسطة الجيش يوم 8 نوفمبر من نفس العام . و تماهى راشد الغنوشي مع عميل الإمبريالية الجديد مُعوّض برقيبة المريض ، ودخل في لُعبة "التّحول الدّيمقراطي" والإنتخابات ، حتّى أنّه صرّح وقتها بأنّ "الله فوق وبن على تحت" . ولكنّ سرعان ما إختلف الحلفاء وحاول "الإخوان " الإنقلاب على "الدساترة" عام 1990ــ1991 ، فما كان من بن علي إلاّ أن يُعيد قيادات الحركة وكوادرها إلى السّجون ( بعد أن أخرجهم منها في السّابق ) ، ويخرج راشد الغنوشي ومن معه من المقرّبين خارج البلاد ( وقصّة هُروب من ذكرى متداولة بتفاصيلها بين الناس إلى يومنا هذا ) ...
كان رأي راشد الغنوشي في منفاه في بريطانيا في بداية التّسعينات من القرن المنقضي في الإسلام السّياسي ، أنه "تحوّل الإسلام من دين إلى إيديولوجيا للتّغيير و "الحكم" و" أمّا الدّيمقراطية فهي أدات للتّغيير السّلمي" و " إذا كانت الدّيمقراطية، جوهرها التّداول السّلمي على السّلطة ، عبر التّنافس الحرّ بين أحزاب سياسية تقبل الإحتكام إلى الشّعب ، تحتاج إلى أرضية إجماع ثقافي و حضاري حول خيار مجتمعي ، وكان الإسلام هو المكوّن الأساسي لهذا الإجماع ، يصبح تسليم الأطراف السّياسية بمرجعيته العليا ، وإن إختلفت التّأويلات و أساليب التّطبيق و مواقيتها عاملا مهمّ جدّا في عملية التّحول الدّيمقراطي و إستقرار الحكم ". ( من مقال لراشد الغنوشي تحت عنوان : الإسلاميون و الخيار الدّيمقراطي صدر بمجلة قراءات سياسية الصادرة منذ عام 1990 عن مركز دراسات الإسلام و العالم بولاية فلوريدا بالولايات المتحدة الأمريكية ــ العددان الثّالث و الرّابع 1993 صفحة 121) . كما إعتبرا الغنوشي أنّ "..الطّموح إلى إستخدام الدّيمقراطية أداة للتّغيير الثّوري طموح غير مشروع لأنّه غير ممكن ضمن موازين القوى القائمة...معنى ذلك أنّ الدّيمقراطية ليست أداة للوصول إلى الحكم الإسلامي ، وإنما تقدّم إطارا جيّدا للدّعوى و المشاركة و إنضاج البديل الإسلامي ". وفي تحليله للموقف "الغربي" من الحكم الإسلامي يرى الغنوشي أنّه " لا مانع أن يكون الإسلام جزءا من المعادلة إذا كان ضروريا لإستقرار الأوضاع بشرط عدم الإخلال بعلاقات التبعية ". (المصدر السّابق ذكره ص 123) مُعتبرا بعد تقسيم "أرض الإسلام" و مستويات تحرّك الإسلاميين في العالم إلى عدّة مستويات أنّ الدّيمقراطية في الأرض الّتي تصلح للدّعوى للإسلام و للمشاركة في السّلطة توفّر أرضية طيبة لذلك...معتبرا أنّ "معركة" الإسلاميين على السّلطة ، وهي في نظره معركة حضارية شاملة وحرب مصالح تحتاج من بين ما تحتاجه تأصيل موقف واضح إجابي من الدّيمقراطية ، فيستزرعونها في أرضهم مع مراعاة خصوصياتهم . وأن يجعلوا همّهم الأوّل المحافضة على مكاسبهم وتنميتها وضمان بقاء الأرض المحرّرة ...وأن يهتمّوا بالمجتمع أكثر من الدّولة و بالتّربية و الإعلام و الإقتصاد أكثر من السّياسة و القانون " ، وقد يكون شعار الحرّية و حقوق الإنسان مدخلا أنسب للتّغيير من شعار "الشّريعة"...
وفيما بعد كشفت وثيقة سرّية تعود إلى 12 أوت 2012 حقيقة العلاقة التي ربطت في السر إدارة الحكم الأمريكية الإمبريالية برئاسة "أوباما" بجماعة الإخوان المسلمين تعرف إختصارا بـ : " PSD11 " و ظهرت تقارير حول ذلك ومقالات في بعض الصحف منها صحيفة " الوطن المصرية الصادرة الخميس 18 جويلية 2013 " تحدثت على أن تلك الوثيقة تحولت لاحقا إلى ورقة توجيه سري لـ :" الإصلاح السياسي في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا "عن طريق حركة الإخوان المسلمين و إلى جانبها " ليبراليون جدد" و مجموعات " لائكية"أو" حدثية".
وما يؤكد صحة ما تسرب من معلومات حول علاقة حركة "الإخوان المسلمين" عامة ومن ضمنها "حركة النهضة" في تونس بالولايات المتّحدة الأمريكية ودول إمبريالية أخرى زيارة وفد تلك الحركة (النّهضة) في الفترة ما بين 9 و 15 ماي 2011 إلى كلّ من "الولايات المتّحدة الأمريكية" و "أنجلترا" و "ألمانيا"... وضم الوفد كلّ من حمادي الجبالي الأمين العام للحركة ، وفريدة العبيدي وسمير ديلو عضوي المكتب التّنفيذي ، والّتي قال عنها "الجبالي" في تصريح "لجريدة الفجر" أنّ الزّيارة تمّت بدعوة من وزارة الخارجية الأمريكية ، وأنّ حركة النّهضة لبّت الدعوة إنطلاقا من مسؤوليتها الوطنية ، ورغبتها في الحوار مع جميع مكونات المجتمع الدولي ، وقد إلتقى الوفد خلال زيارته بالسّيناتور "جوزيف ليبرمان" ، والسّيناتور "جون ماكين" ، والنّائب "قري أكرمان" ، و"مدير المغرب العربي الكبير " بوزارة الخارجية الأمريكية "وليام ريباك" ، وعدد من الخبراء والمستشارين من الكنغرس الأمريكي . وأضاف الجبالي : شاركنا في الكثير من النّدوات والّتي وصل عددها إلى أكثر من 12 ندوة ، بعضها كان مع مسؤولين في الإدارة الأمريكية ، وأخرى مع جمعيات المجتمع المدني والسّياسي".
وعن الهدف من هذه الزيارة ، قال الجبالي : الهدف بالنّسبة لنا هو التّعريف بحركة "النّهضة" ، ورؤيتها المستقبلية للوضع في تونس والمنطقة ، والتّباحث حول أفاق المستقبل بعد "الثّورة" ، والدفاع عن خياراتنا الوطنية و المستقبلية ، وقد لقينا إهتماما كبيرا من كلّ "الدوائر الأمريكية كل حسب إختصاصه". و بخصوص تفاعل الإدارة الأمريكية وممثلي الحكومة "الأنجليزية" مع تصورات حركة النهضة ومقترحاتها قال : " كان هناك إستجابة واضحة من الطرفين الأمريكي و الأنجليزي في دعم هذه التّجربة والحرص على نجاحها" ، وفي ردّه على سؤال للفجر حول موقف الحكومة الأمريكية من حركة النّهضة قال الجبالي : " كان موقفهم إيجابيا و أيّدوا تصوّراتنا فيما يخصّ حقوق الإنسان وحقوق المرأة ، وإحترام الحرّيات والتّفريق بين السّلط ، ودور الدّولة فيما يخصّ الدين ، وأنّ الدّولة هي الحكم بين كلّ مواطنيها بصرف النّظر عن معتقداتهم ، كما أكدنا أنّ الحركة كانت ولا زالت حركة سلمية ومدنية ومعتدلة ، وأنّ هذه الحركة لا بُدّ أن تأخذ موقعها في المنظومة السّياسية في البلاد و المنطقة" .
"كما لاحظنا إهتمامهم الكبير بتصوّرات الحركات الإسلامية المعتدلة للمستقبل ، وإعجابهم بتجربة "حزب العدالة والتّنمية" وهل أنّ حركة النّهضة ستكون رؤيتها وتصوّراتها قريبة من النّهج التركي" .
ومن جهته أكّد "سمير ديلو" أنّ الحوارات مع الإدارة الأمريكية وبقية الحكومات الغربية كانت مثمرة ومفيدة ووضّحت الكثير من نقاط الإستفهام ".
ولكن ما علاقة هذين الشّخصين ( جوزيف ليبرمان و جون ماكين) بالمجتمع المدني ؟ !! وهما اللّذان يعملان إلى جانب شخصيات أمريكية أخرى مثل "مارك زارتمان" في منظمة "نيد"(NED) الصّهيونية ، أحد أذرعة المخابرات الأمريكية ، وكان لهما دورا بارزا سابقا في تنفيذ مؤامرات الإستعمار المباشر و غير المباشر ، والحروب بالوكالة في كلّ من "العراق" و"سوريا" و"ليبيا" ؟ !! والسّؤال أيضا لماذا قابل الوفد "مدير المغرب العربي الكبير" في "الإدارة الأمريكية" ؟ !! ومن هم الخبراء المستشارين من الكنغرس اللّذين قابلهم الوفد ؟ !!... علما أنّ أحد أعضاء الوفد النّهضاوي كان زار سابقا أمريكا خلال فترة حكم التّجمع وبن علي ، مع وفد آخر بدعوة من إدارة الإستعلامات الأمريكية ، وضمّ الوفد وقتها 26 شخصا بقيادة شخصية حقوقية من "فريدوم هاوس" ، كان لها دور هي الأخرى في تنفيذ المشاريع الأمريكية والأورو متوسطية في تونس ...(أنظر في خصوص ما ذُكر عن زيارة الوفد النّهضاوي الصّفحة 5 من جريدة الفجرــ أسبوعية ــ الجمعة 20 ماي 2011).
ورغم الغموض والتّعتيم على تفاصيل كثيرة حول تلك الزيارة ، فإنّ العناوين العريضة كيفما صاغها كلّ من "الجبالي "و"ديلو" على نحو ما سبق ذكره ، يُستفاد منها أنّ القوى الإمبريالية وفي طليعتها الولايات المتّحدة الأمريكية ، قد راهنت على ما إصطلح على تسميته بــ "الإسلام المعتدل " ( Islam Light ) ، الّذي مدّت إليه الدّول الرّأسمالية الكبرى جسور التّواصل ، وإحتضنته خلال نهاية القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين تحت عنوان "الإسلام و الدّيمقراطية " ، والّذي راهنت عليه تلك الدّول لكي يكون بديلها السّياسي الرّئيسي في السّلطة في الكثير من المستعمرات و أشباه المستعمرات . وكانت في السّابق أيضا ، أي في السّبعينات والثّمانينات من القرن الماضي قد كلّفت " أحزابا ومجموعات دينية " بمهام سياسية و بخوض حروب بالوكالة عنها ، وجعلت منهم أداة في نفس الوقت للتّصدّي للمدّ الوطني الثّوري الإشتراكي بالخصوص ولما كان يُعرف بإسم "المعسكر الإشتراكي"...
كما أنّ زيارة وفد النّهضة كانت بدعوى من الإدارة الأمريكية ، وضمن مخطّطاتها الإستراتيجية للتّواجد بشمال إفريقيا ، بإعتباره بوابة للقارّة الإفريقية ، في إطار إعادة تقسيم العالم وضمان مصالحها ، على إثر الإزمة الرّأسمالية الإمبريالية الدّورية الّتي إنفجرت منذ نهاية تسعينات القرن الماضي ، و بلغت أوجها عام 2008 والّتي أدّت إلى إفلاس عديد البنوك ومؤسّسات التّمويل الأخرى ، وشركات التّأمين وعديد الشّركات الصّناعية الكبرى...
أعلن الجبالي بعد فوزه برئاسة الحكومة أنّ "الخلافة السّادسة الرّاشدة" ستبدأ من تونس ، فيما هلّل رجعيون عملاء آخرون من ممثلي الأحزاب الانتهازية "بالانتخابات الدّيمقراطية الأولى " والحكومة الشّرعية الأولى"...
ولم يتوقّف جميعهم عن الظّهور والبروز على المنابر ، للتّأكيد على أنّ ما حدث في بلادنا كان "ثورة" و"ربيعا" ، وأنّ شعبنا سيتحوّل نمط عيشه من الجهل والفقر والإستبداد الموروث وكبت الحرّيات ، إلى التّمتّع بالحرّيات العامّة والخاصّة وبحبوحة من العيش ، إذ ستنجز إصلاحات سياسية وأخرى إدارية ، وسيتمّ تحسين وتهيئة البنية التّحتية في الجهات المحرومة ، حتّى تكون جاهزة لاستقبال المستثمر الأجنبي والعربي وصاحب رأس المال المحلّي "كما روجت لذلك الدّعاية الإخوانية ، وسيتوفّر الاستقرار الأمني والاقتصادي والاجتماعي من خلال إيجاد أسواق جديدة ومستثمرين جدد... وسيتقلّص حجم البطالة المتزايدة بعد غلق العديد من المؤسّسات الإقتصادية ... وستهتم الحكومة بالصّناعات المعملية وبالفلاحة والفلاّحين ...والسّياحة الأثرية والصّحراوية... ولن تنسى تلك الحكومة "الفئات المحرومة " الّتي قرّرت أن تضع لها إجراءات عاجلة "وهي الّتي في أمسّ الحاجة للعمل والعلاج والتّعليم"... ومن المنتظر"إعادة النّظر في مقاييس السّكن الاجتماعي لفائدة العائلات المعوزة والّذي جُعل سابقا لهذه الفئة لكنّه أستغل من قبل ميسوري الحال وأصحاب الأموال" ، أمّا بخصوص الإنتداب في الإدارة والوظيفة ، فإنّه إذا ثبت أن هناك كفاءات قادرة على إنجاح البرنامج الحكومي حرمت من العمل الإداري ، فإنّه من المنطق والمعقول أن تسعى الحكومة إلى تشريكها لأنّ من بين أهداف هذه "الثورة" تجسيد الإنتقال من قاعدة الولاءات والانتماءات الحزبية إلى الإعتماد على الموضوعية والشّفافية في تعيينات المسولين والتّرقيات".
وحتّى "الفايس بوك" ، هذا الإخطبوط الإلكتروني لن يبقى حكرا على الولايات المتّحدة الأمريكية أو غيرها من البلدان ، بل سيتدعّم بموقع إلكتروني جديد أكثر تنافسية لبقية المواقع بإعتباره موقعا عربيا إسلاميا بأياد إسلامية وأفكار مسلمة وخبرات عربية إسلامية ...يوجد مقرّه الرئيسي بإسطنبول...والحكومة التركية وشخصيات عالمية ورجال أعمال من جنسيـات مختلفة من مسلمي آسيا الوسطى سيمولون هذا" الفايس بوك الإسلامي"...(أنظر جريدة الأسبوعي الصادرة بتاريخ الإثنين 19 ديسمبر 2011 صفحة 11و12و13 حول برنامج حكومة الجبالي ).
حتّى أنّ بعضهم أصبح يتحدّث عن معجزة تونسية سوف تجعل من بلادنا قطبا اقتصاديا عظيما...
وأكّد "شيخ النهضة " الغنوشي بمناسبة ذكرى 20 مارس 2011 في خطاب سياسي له في مدينة القيروان ، على أنّ " الدّولة التّونسية هي أصلا دولة إسلامية... يجب أن تُحكم بالشورة وليس بالإستفراد والإستبداد" (جريدة الشروق الثلاثاء 22 مارس 2011 ص5).
إلاّ أن واقع الحال فضح زيّف الوعود ، فالميزانية (ميزانية الدولة سنة 2012 ) الّتي بلغت نحو 22935 مليون دينار ، لم تختلف في جوهرها عن ميزانيات السّنوات السابقة وقد تجاهلت أغلب المطالب المُلحّة لأبناء الشّعب بطبقاته المستغلّة المسحوقة والفئات المُفقّرة منه فـ "..الميزان الإقتصادي لم يبرمج أي مشروع كبير ومهيكل لأي جهة داخلية ، وإذا دقّقنا في الإعتمادات الإضافية الّتي رُصدت للجهات الداخلية فنجدها تعنى فقط بتحسين شبكة الطرقات والمسالك الفلاحية والمياه ...وهذه هي نفس مجالات التّدخل القديمة زمن "بن علي"...
وفيما يتعلق بالتّشغيل ، فقد رصدت الحكومة وقتها من الأموال مالا يكفي حتّى لإحداث ثمانين ألف موطن شغل ، موزّعة على ولايات البلاد أي بمعدّل أقلّ من 300 موطن شغل تقريبا لكلّ ولاية ...وعلى مستوى الإرادات والمداخيل الخاصة فإنّ نفس هيكلة المداخيل ونفس هيكلة المصاريف مع إعتماد التّداين بشكل مفرط ، الأمر الّذي جعل المديونية العمومية سترهن البلاد و الأجيال القادمة لفائدة المقرضين الاجانب. " فعندما يقولون أنّ من المؤشّرات الطّيبة لا تتجاوز نسبة التّداين 40 %من النّاتج المحلّي الإجمالي ، فإنّ ذلك يُخفي أنّ الدّولة لم تعد تقوم بالإستثمارات الّتي تهيكل الإقتصاد لا سيما في القطاعات الإستراتيجية وأصبحت تعتمد على نظام اللّزمة مثلما فعلت في مطار النفيضة (لفائدة شركة تركية) فالتداين أصبح من أجل دفع خدمة الدّين وليس من أجل الإستثمار" . هكذا علق الخبير الإقتصادي سامي العوادي على الموازنة الإقتصادية لسنة 2012 (انظر جريدة الأسبوعي مصدر سابق ذكره ص13). وقد أضاف الخبير المذكور"أنه سنة 2010 بلغ مجموع الدين أكثر من 25 ألف مليون دينار منها 60% دين خارجي ..." وقد أشار خبراء إقتصاديون آخرون إلى أنّ القراءة العامّة في فصول ميزانية الدّولة لسنة 2012 تحت حكم التّرويكا بقيادة النهضة ، تثبت كسابقتها زمن حكم بن علي إنحياز لفائدة الميسورين المكوّنين للإئتلاف الطّبقي الرّجعي العميل من كبار السّماسرة البرجوازيين والملاكين العقاريين وأصحاب سلطة المكاتب والوظائف الكبرى ، مقابل إهمال للمطالب المُلحّة للجماهير الشّعبية المحرومة ( وكان هذا حال الميزانيات العامّة اللاّحقة ) ...
وفيما يتعلّق بالجباية ، فقد تم الرّفع في مساهمة الأجراء في الضّريبة العامّة لتصل إلى مستوى 16% من إرادات الميزانية مع الإقتطاع من أجورهم ، في ظلّ واقع إرتفعت وإنفلتت فيه اسعار المواد الضّرورية للعيش ، وتدهورت فيه المقدرة الشّرائية للكادحين . وفي مقابل كلّ ذلك الضّغط على الأجير الفقير المستغلّ ، إقترحت الميزانية إعفاء رجال الأعمال والمستثمرين من ديون الأداءات المتخلّدة بذمّتهم... رغم أن أغلبهم تمتّعوا بالإمتيازات والإعفاءات... ولم يؤدّوا الضّرائب المستوجبة ، بل زادوا في تكديس الأرباح ( راجع المصدرالسابق ذكره ص13).
وهكذا فإن الوضع العام في البلاد بعد هروب بن علي لم يتغيّر منه شيىء يذكر على المستوى الإقتصادي والإجتماعي ، وبقيت مكوّنات الإئتلاف الطّبقي الرجعي العميل الحاكم بعد تعديل موازين القوى الطّبقية بداخلها لفائدة بعض شقوقه ، هي المستفيدة من تداعيات الإنتفاضة الشّعبية ، والمتمتّعة بالإمتيازات وبالدّعم المالي والسّياسي الأجنبي ، فيما إزدادا حال الشّعب الكادح سوءا.
أمّا على المستوى السّياسي ، فلئن تغيّرت واجهة النّظام ، فإنّ دعائمه وهياكله بقيت قائمة ولم تسقط ، وأمّا الدّولة بمؤسّساتها ، فقد بدأ الشّروع في ترميمها من الداخل ، في إتجاه أكثر رجعية لتكون حسب الإتجاه السّياسي الدّيني الرّجعي الّذي تمثله حركة النهضة ، وتؤيّده أخواتها ، ويدعمه حلفائها . دولة تُوصف "بالمدنية" و"الدّيمقراطية" شكلا ، وبالدّينية الرّجعية حقيقة وواقع . ولذلك بشّر الإخوان المسلمون شعبنا بأنّ "الخلافة السّادسة الرّاشدة" ستولد في تونس ، ولم يُخفوا إرتباطاتهم الخارجية مع الولايات المتحدة الأمريكية و الإتّحاد الأوروبي وبعض دول "الشّرق الأوسط" ، كدولة قطر و تركيا الّتي عقد معها وزير الدّاخلية "علي العريض" في تركيا بالذّات إتفاقية تعاون أمنية ، و صرّح خلال مراسم التّوقيع بأنّ مزيدا من الإتفاقيات ستوقّع بين البلدين ، و أنّ الهدف منها تعزيز التّعاون مع أنقرة في ما يخصّ جهود إعادة تنظيم البلاد !! معبّرا عن ما أسماه حاجة تونس للتّعاون مع الدّول الصّديقة ، وخصوصا تركيا من أجل تحقيق أهداف الثّورة ، مضيفا أن بلاده تريد الإستفادة من خبرات أنقرة . (تراجع بخصوص ذلك جريدة الصريح الجمعة 27 أفريل 2012 ص6).
وتحت حكم "الترويكا" ، تواصلت في البلاد احتجاجات ومظاهرات ومسيرات الغضب ، مُطالبة الزّمرة الحاكمة بالتّنحّي عن الحكم . وقابل ذلك ظهور واضح لجناح ديني سياسي شبه عسكري محسوب على حركة النهضة (الحركة السّلفية) ، ومليشيات انتشرت في المدن الكبرى مثل تونس وسوسة وصفاقس وبنزرت ، تنشر الرّعب في صفوف السّكان وتتصدّى بالقمع إلى جانب قوات البوليس للتّحركات الشّعبية ، وتهاجم الأحزاب والعناصر اليسارية ، والّنقابات والنّقابيين . وحصلت في الأثناء موجة عنف ضد المعارضين للمشروع النّهضاوي السّلفي...
وقد بلغ الأمر خلال فترة حكم " الجبالي" و"العريض" ، أن تهيمن القوى الدّينية الرّجعية على الشّوارع والأحياء الشّعبية باللّيل والنّهار ، وتنصب خيامها ، وتوزّع منتوجها الثّقافي السّياسي الرّجعي ، وتعقد إجتماعاتها العامّة ، وتنظّم مسيراتها رافعة راياتها "البيضاء و السّوداء" ، داعية إلى دستور "إسلامي" وفرض "الشّريعة" وإقامة "دولة الخلافة". فيما تولّت روابطها (روابط حماية الثورة) إرهاب المعارضين وخاصّة اليساريين منهم والنّقابيين ، وإقتحام المقرّات النّقابية و الحزبية والمنازل ، والإعتداء على الذّوات البشرية ، والويل لمن تضعه تلك القوى في قائمتها وتكفّره ...كما حاولت تلك القوى فرض لبس الحجاب وحتى البُرقع على النّساء ، والكثيرات منهن أصبحن يتعرضن يوميا للإعتداء بالعنف داخل المنزل وخارجه . وحاولت القوى الرّجعية تعديل مجلّة الأحوال الشّخصية مطالبة بتعدّد الزّوجات ، و إبقاء النّساء بالمنازل (بيت الطّاعة !!) ، كما سعت لتمرير مشروع قانون الحبُسْ الدّينية الملغى منذ خمسينات القرن الماضي ، وقوانين اخرى ذات محتوى طبقي إقطاعي رجعي ...
وعرفت البلاد موجة إختطافات ، وغيابات مفاجأة لأشخاص لم يعثر عليهم إلى حد الآن . كما تمّ في عهد الترويكا تسفير الآلاف من الشّبان التّونسيين نحو سوريا و العراق للقتال مع "الدواعش" بواسطة عصابات مختصّة في تزوير جوازات السّفر وتهريب الأشخاص ومنهم نساء تحت عنوان "الجهاد " و " جهاد النكاح". وتم حرق وتخريب عديد المؤسّسات التّربوية العمومية ، و الإعتداء على التلاميذ فيها ، مقابل إنتشار " مدارس إسلامية !!" كتلك الّتي نظّر ودعى إليها في سبعينات و ثمانينات القرن الماضي قياديين إخوانيين معروفين من أمثال الباكستاني" أبو الأعلى المودودي" ، تلك المدارس الفوضوية الّتي اكْتُشف فيما بعد إضطهاد بعض المشرفين عليها للتّلاميذ القُصّر والإعتداء عليهم ، وهو موضوع تداولته الصّحافة وعرض على القضاء...كما عجّت أسواق البلاد بالسّلع المصنّعة في تركيا و أندونيسيا وبلدان أخرى توصف بالإسلامية والهند ، إلى جانب السّلع الواردة إلينا من البلدان الرّأسمالية الكبرى ، وسلع أخرى مجهولة المصدر يتسبّب إستعمالها و إستهلاكها في الإصابة بمرض السّرطان وأمراض أخرى ، قيل وقتها أنّ الكيان الصهيوني من بين مُصدّريها لبلادنا عبر الدّول الأجنبية المُطبّعة معه... وفي المقابل تكثّف تهريب مادّة النّحاس و نشارة الأليمنيوم و مواد أوّلية اخرى صالحة للصّناعات الإمبريالية ، كتهريب الذّهب و العملة و القطع الأثرية المنهوبة ذات القيمة العالية...
وبلغ الأمر سنة 2013 إلى حدّ اغتيال شخصية سياسية يسارية معروفة ــ الشّهيد شكري بلعيد يوم 6 فيفري 2013 ، لتتأجّج نيران الاحتجاجات الشّعبية وتعمّ البلاد وتطالب الجماهير بسقوط حكومة الإخوان العميلة .
وفي 19 فيفري من تلك السّنة قدّم حمادي الجبالي استقالته وأعلن فشله.
لكنّ الإخوان المسلمون لم يتركوا دُفّة الحكم ، إذ نالت حكومة القيادي الآخر في حركة النهضة " علي العريض " ( وزير الداخلية السابق في عهد حكومة أخيه الجبالي ) ثقة نفس المجلس التّأسيسي المهزلة والأحزاب والتّيارات السّياسية الإنتهازية .
وإستمرّت الأعمال الإرهابية ، فوقع إغتيال شخصية وطنية أخرى ــ الشّهيد محمد البراهمي في 25 جويلية 2013 تزامنا مع "عيد الجمهورية" ، ليواصل علي العريض في نهج سلفه على رأس حكومة نهضاوية أخرى .
ولازالت الذّاكرة الشّعبية تُخزّن ما حدث في "سليانة" على سبيل المثال من اعتداء بالهراوات والقنابل المسيلة للدّموع مُنتهية الصّلوحية و بالأسلحة النّارية (الرش منذ ليلة 27/11/2012 ) على المُحتجّين المتظاهرين ، وملاحقتهم حتّى في منازلهم وداخل المستشفى الجهوي .
وقد أسفرت الاعتداءات ( في إطار "جهود إعادة تنظيم البلاد" ) عن أضرار خطيرة ، لعلّ أخطرها حالات فقدان البصر والجروح والكسور البليغة والإختناق والّتي طالت حتّى السّكان المتواجدين داخل مساكنهم .
عرفت الجهات الدّاخلية تحرّكات احتجاجية مماثلة قبل وبعد أحداث سليانة (مثل سيدي بوزيد والقصرين والكاف) تمّ قمعها بالقوة والعنف الرّجعي ، وكُشف خلالها زيف الشّعارات و الوعود ونفاق المسؤولين السّياسيين الحاكمين العملاء الجدد الماسكين لزمام السّلطة . وعبّرت الأحداث عن نفاذ صبر أبناء الشّعب الكادح ويأسهم من الوعود السّياسية "الإخوانية" و"الإصلاحية الإنتهازية" الّتي تزعم تحسين أوضاعهم المعيشية وحفظ كرامتهم (المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية تقرير اللجنة المستقلة للتحقيق في أحداث سليانة مارس 2013) .
ولمّا احتدّ الصّراع بين عموم الجماهير الشّعبية الكادحة ، المُفقّرة المحرومة و المضطهدة من جهة ، ونظام حكم الائتلاف الطّبقي الرّجعي العميل والأحزاب السياسية المتنفّذة في أجهزة الدّولة المُعبّرة عن مصالحه والمدعومة من الدّوائر الرّأسمالية الاستعمارية الأجنبية صاحبة القرار الأوّل والأخير من جهة ثانية ، وأصبح من الممكن أن تؤول الأحداث إلى إسقاط النظام تكريسا للشعار الّذي رفعته الجماهير الشّعبية يوم 14 جانفي 2011 ، وتزامنا مع الحلّ الشّكلي الّذي تجّسم في "اعتصام الرحيل" وأعدّت له بالأساس الأحزاب والتّيارات والمنظّمات المنخرطة في لعبة "الانتقال الديمقراطي السّلمي للسّلطة" ، سعت بعض منظمات ما عُرف بالمجتمع المدني إلى جانب الإتّحاد العام التّونسي للشّغل والإتّحاد التّونسي للصّناعة والتّجارة والصّناعات التّقليدية (ممثل البرجوازية الكمبرادورية العميلة) إلى جانب الرّابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان وهيئة المحامين ، إلى إطفاء نار الصّراع الطّبقي الدائر ، وتحويل مجراه نحو وفاق طبقي تحت شعار "الحوار الوطني " ، ذاك الحوار الّذي أسماه أحد المتدخلين من الرّباعي المبادر في إحد جلساته بـ"الحمار الوطني"...لتنخفض وتيرة الصّراع الطّبقي و الوطني ضدّ اعداء الشّعب ، وتتّفق الأحزاب الرّجعية المتنفّذة في مواقع السُلطة مع "الرباعي الراعي للحوار" على صفقة حكومة جديدة سميت حكومة كفاءات برئاسة "مهدي جمعة" وزير الصناعة السابق في حكومة "علي العريض" ، والناشط السابق في أوساط الثمانينات من القرن الماضي في "حركة الإتجاه الإسلامي" ، الّذي إختارته فرنسا وشركة "طوطال"و"بوشماوي" و "رجال أعمال" ودعّمته البلدان الرّأسمالية الأوروبية والأمريكة وعديد الشّركات الإحتكارية العالمية ليكون وحكومته واجهة لها مُعبّرة عن مصالحها في تونس .
حصلت تلك الحكومة دون عناء على ثقة المجلس التأسيسي "المسخرة" في 29 جانفي 2014 ونال الرباعي الراعي للـ "حمار الوطني" مقابل ذلك جائزة نوبل " للسّلام" !!. ومن إنجازاتها لاحقا عقد عدد : 11 إتفاقية بين تونس وشركات رأسمالية إحتكارية أجنبية مختصّة في البترول... وكانت لـ " جمعة" ولأفراد من عائلته منافع من ذلك ، من صفقات جانبية منها صفقة مُنحت لأشقّائه الثّلاث قُدّرت مرابيحها الأوّلية بعشرات المليارات ، وتمثّلت في إستغلال مساحة 3600 هكتار في إستخراج الملح في ولاية صفاقس (يراجع الرائد الرسمي للجمهورية التونسية عدد 33 بتاريخ 23 أفريل 2013 وتحقيق منى البوعزيزي لجريدة الشروق الصادرة بتاريخ 21 جوان 2018 ) .
...تحدّث "مهدي جمعة" في خطاب له بتاريخ 3 مارس 2014 عن الوضع الإقتصادي في تونس ، وتعرّض إلى العجز الكبير الّذي عرفته ميزانية 2014 ، والّذي بلغ مايناهز 12 مليار دينار تونسي ، بالنّظر إلى حجم الدّيون التّونسية الّتي بلغت خلال السّنوات الأربع المنقضية 25 مليار دينار ، والّتي صارت تستنزف ما يُقارب 50% من النّاتج المحلّي الخام للبلاد ، وقد صُرفت معضمها بإعتراف رئيس الحكومة في الإستهلاك ومصاريف الإنفاق الّتي قفزت من 4,5 مليار دينار سنة 2011 إلى 11 مليار دينار سنة 2014...
وطرح " المهدي " حلاّ لذلك العجز ، تمثّل في الإقتراض الّداخلي وطلب المساعدة من "الأصدقاء والأشقاء" لإنقاذ الميزانية . وللحدّ من مصاريف الإنفاق ، إقترح الحد من الإحتجاجات المطلبية ، وإيقاف الإنتدابات في الوظيفة العمومية ، وعدم بعث مشاريع تنموية عاجلة... إلخ . وأعفى بذلك حكومته علنا من إنجاز المشاريع " الإقتصادية والتنموية " الموعود بها منذ عام 2011 ، مطالبا بضرورة إعادة هيكلة الإقتصاد التّونسي ، ومراجعة منظومة الدّعم ، والتّفريط في المؤسسات العمومية ، ومنح دور أكبر " لمنظّمة الأعراف " ( منظّمة الكمبرادور ) ، ومراجعة قوانين الإستثمار وخصوصا الإستثمارات الأجنبية ، في سبيل أن تكون أكثر مرونة تجاه المستثمر الأجنبي ، ( يقصد بذلك تقديم إمتيازات أكثر كيفما عبّرت على ذلك مجلّة الإستثمارات الجديدة ) ، وكلّ ذلك في تماهي واضح إلى حدّ كبير " مع رسائل البنك الدولي وصندوق النّقد وشروطهما الّتي يبدو مهدي جمعة رجل المرحلة المناسب الّذي سيعمل أخيرا على "تحرير الإقتصاد التونسي" وفقا لتلك الشّروط والإملاءات ". كما لاحظ ذلك صحفي مختصّ في الشّؤون الإقتصادية في مقال له بتاريخ 17 أفريل 2014 : "الخنوع أو الجوع" كيفما نُشر بالصّحيفة الإلكترونية لـ : نواة واصفا الوضع بما يلي : " عجز ، إفلاس ، إنخفاض الإحتياطي ، تدهور سعر صرف الدينار ، إرتفاع نسبة التضخم ، إرهاب ، فوضى ، إغتيالات ، إضرابات ... منذ ثلاث سنوات والشّعب التّونسي يخضع لعملية ترهيب حقيقية من مستقبل مجهول ومن جوع مرتقب ، وكأنّ هذا الشّعب يُعاقب على"جُرم" الرّفض ومقاومة الخنوع ... "و أضاف الصحفي المذكور " أنّ الإعلام وبعض الخبراء الإقتصاديون لعبوا دورا في التّرويج لخطاب مهدي جمعة وحكومته وتبرير مقترحات تلك الحكومة" ...
ثمّ تتالت الأحداث متشابهة ، وتوالى على الحكم الحزبين الحليفين النهضة والنداء ، متوافقين في خدمة مصالح الإمبريالية العالمية ووكيلها الائتلاف الطّبقي الرّجعي العميل ونظام حكمه .
ولم تحد حكومة الحبيب الصيد الّتي حصلت بعد إحداث ما سُمّي بمجلس "نواب الشّعب" على ثقة ذلك المجلس في 5 فيفري 2015 دون عناء . وهو دستوري سابق مجاز في العلوم الإقتصادية ومتحصّل على ماجستير في الإقتصاد الفلاحي من الولايات المتحدة الأمركية ...كُلّف بعدة مهام بيروقراطية ضمن إختصاصه خلال أواخر فترة حكم بورقيبة و في سنوات حكم بن علي ، قبل أن يُكلّف لاحقا عام 2011 بوزارة الداخلية ، ثم يصبح مكلفا بالملف الأمني لدى رئيس حكومة النهضة حمادي الجبالي في أفريل 2012 . لم تحد تلك الحكومة عن المسار المرسوم لها من خارج البلاد من طرف الدّوائر الرأّسمالية الإمبريالية.
وبعد إصدار "الدستور الجديد" في 27 جانفي 2014 في صيغته النهضاوية الرجعية على قياس توجيهات و إملاءات القوى الإمبريالية ، و الّتي كلفت الخزينة العامّة مائات المليارات ، صرّح رئيس حركة النهضة خلال زيارته غير المعلنة على رأس وفد الحركة الّتي تمت بتاريخ 22 افريل 2014 لتهنئة "آردوغان" وحزب العدالة والتنمية الإخواني التركي صديق أمريكا و الكيان الصّهيوني ، في الإنتخابات البلدية بأنّ " تونس نجحت في الوصول إلى تحقيق توافق وطني نتج عنه كتابة دستور عظيم يزاوج بين قيم الإسلام وقيم الديمقراطية "مظيفا أنّ "تونس ليست دولة مُفلسة كما يروّج البعض ولن تفلس بإذن الله" (نقلا عن جريدة الشروق الصادرة بتاريخ الجمعة 25 أفريل 2014 ص3). وكان حزب التحرير الّذي تحصل على تأشيرة نشاط قانونية قابلا بالشروط القانونية الوضعية الواردة بقانون الأحزاب والدستور النهضاوي !!؟ قد روّج خلال صيف 2014 إلى ما سماه مشروع دستور دولة الخلافة مما جاء فيه أنه : "...إذا قام متسلط وإستولى على الحكم بقوة فإنه لا يصبح بذلك خليفة ، ولو أعلن نفسه خليفة للمسلمين...إلاّ أنّ هذا المتسلّط إذا إستطاع أن يقنع الناس بأنّ مصلحة المسلمين في بيعته ، وأنّ إقامة أحكام الشّرع تحتم بيعته ، وقنعوا بذلك ورضوا ، ثم بايعوه عن رضاء و إختيار فإنّه يصبح خليفة منذ اللّحظة الّتي بُويع فيها عن رضاء وإختيار ، ولو كان أخذ السّلطان إبتداءا بالتسلّط والقوّة . فالشّرط هو حصول البيعة وأن يكون حصوله عن رضاء وإختيار ، سواء أكانت من حصلت له البيعة هو الحاكم والسلطان أو لم يكن." ولعل ما ذكرناه يغني القارئ عن أي تفسير حول مشروع حزب التحرير المنشق عام 1975 عن الجماعة الإسلامية بخصوص نظام حكم المتسلّطين العملاء على النّاس بالقوّة. فمعنى ذلك لو أنّ العميل "بن علي"الدكتاتور المتسلّط منفّذ الإنقلاب العسكري بتوجيه أمريكي فرنسي عام 1987 قد أعلن أنه يقيم أحكام الشرع فإن مبايعته تتم حتما و الأمر ذاته ينطبق على ورثة تركة بن علي... (أنظر جريدة التحرير من الإثنين 18 أوت إلى الأحد 14 أوت 2014 العدد 7 صفحة 2 ).
كانت الأغلبية في مجلس النواب من العناصر "النهضوية" و"الدستورية " والإنتهازية البرجوازية الصغيرة . ونجحت اللّعبة مرّة أخرى بإستعمال الحبر العجيب... حبر و طريقة إنتخاب إبتدعتها قوّات الإحتلال الأمريكية وأعتمدت في أوروبا الشرقية و جنوب إفريقيا والهايتي و أفغانستان والعراق بعد إحتلالها بداية الألفية الثالثة وفي مستعمرات وأشباه مستعمرات أخرى وجاءت بعملاء جدد أغلبهم عاشوا بالمنافي وتربوا في أروقة مقرّات أجهزة المخابرات الأمريكية والبريطانية والفرنسية...وكانت نتائجها كارثية على الشّعوب في البلدان المذكورة و بلدان كثيرة أخرى...
فتكوّنت حكومة الحبيب الصّيد في أغلبها من "وزراء وكتّاب دولة ينتمون لأحزاب نداء تونس والنهضة والوطني الحرّ و آفاق وآخرون من المنتمين للأحزاب الرّجعية .ومن الواضح من تركيبة الحكومة والتّعرّجات الّتي عرفها مسار تشكيلها أنّها حكومة قائمة عن المحاصصة والتّرضية بين الأحزاب..."(أنظر حول ذلك مثلا جريدة صوت الشعب العدد 162 الجمعة 6 فيفري 2015 ص5 ) و أنها ستنسج على منوال الحكومات السّابقة متبعة نفس الطريق محققة نفس النّتائج السّلبية على المستوى الإقتصادي و الإجتماعي ...
وقد تزامن ذلك مع إسقاط النهضة من القانون الإنتخابي لما يمنع أعضاء حكومة بن علي الأخيرة وقياديي التّجمع من التّرشح... كإسقاط السّن القصوى للتّرشح لرئاسة الجمهورية، وتمّ الإتّفاق بين النّداء والنهضة على منصبي رئيس مجلس النّواب ونائبه الأوّل و رئيس الجمهورية (تم ذلك تنفيذا للإتفاق السّري والمعلن في ذات الوقت الّذي عقد بين الغنوشي و الباجي و الرياحي في باريس منذ عام 2013 ) وهكذا فتحت النهضة الباب لتحالف علني مُقنّن بينها وبين الدّساترة و تشارك الجميع في إدارة شؤون الحكم بعد أن كان ذلك يتم في الكواليس المغلقة ...
...قيّم الحبيب الصيد الوضع الإجتماعي والإقتصادي في تونس بعد أربع سنوات منذ 14 جانفي 2011 كسابقه "جمعة"، واصفا إيّاه بالوضع الحرج الّذي يبعث على الإنشغال . وجاء في جريدة الشّروق الصادرة يوم الأحد 8 مارس 2015 ص 4 على لسان الحبيب الصيد أنّ : " نسبة نمو النّاتج المحلّي الإجمالي لسنة 2014 لا تتجاوز 2.3 % وتبقى نسبة البطالة من ناحيتها مرتفعة حيث تبلغ 15.2 % كمعدل عام و 31.4 % لدى حاملي الشهائد العليا كما أن معدل التضخم يبقى مرتفعا حيث لا يقل عن 5.5 % وبلغ عجز الميزان التجاري بـ 13.6 مليار دينار خلال سنة 2014 مقابل 11.44 مليار دينار سنة 2013 وتراجع الإستثمار الجملي سنة 2014 بما يفوق 21 % وشهدت الإستثمارات في الأنشطة الموجهة للتصدير إنحدارا خطيرا لتتراجع بنسبة 32 % في الصناعة و 65 % في الخدمات وذلك بالمقارنة مع سنة 2010 وشهدت مؤشرات المالية العمومية من ناحيتها تدهورا كبيرا تبعا لتعمق إنعدام التوازن...أما المديونية فإنها تناهز 53 % من الناتج المحلي الإجمالي مع الملاحظ أن المديونية العمومية تفاقمت خلال سنة 2014 بما يناهز خمسة مليارات دينار إضافية"...
ولم تقدّم حكومته المتوافق عليها برامج جدّية عملية لتحقيق المطالب الملحّة للجماهير الشّعبية على المستويين الإجتماعي و الإقتصادي و السياسي ، واتّبعت نفس الخيارات اللاّوطنية واللاّديمقراطية و اللاّشعبية السّابق اتّباعها من الحكومات السّابقة ، فاتحة المجال أوسع لفائدة المؤسّسات المالية المُقرضة كصندوق النّقد الدولي ، والبنك الدولي وغيرها من المؤسسات الإمبريالية ، حتّى تتولّى تصدير جزء كبير من فائض رأس مالها المالي نحو بلادنا مقابل فوائد مشطّة وخدمة دين أشطّ ، تُغرق البلاد أكثر بالمديونية إلى جانب تكبيلها بشروط عديدة تبقيها دائما في دائرة نفوذ الإستعمار الرّأسمالي وفي تبعية دائمة له...
أمّا على الصّعيد الأمني ، فإنّ تلك الحكومة ووزارة داخليتها لم تتصدّى للجريمة بأنواعها المستشرية في البلاد ، ولم تحمي الحدود من تسلّل الإرهابيين ومن تهريب السّلاح والجواسيس ، والمخدّرات والسّلع والمواد الملوّثة والفاسدة ، والمتسبّبة في أمراض كثيرة لأبناء شعبنا ، وإنّما أرهقت كاهل الفقراء بالضّرائب والأداءات وقمعت أصواتهم المنادية بتوفير ضروريات العيش الدنيا لهم ...
إلاّ أنّه أي الحبيب الصيد ، وفي إطار الصّراع الثانوي الدّائر بين الدّساترة ممثّلين أساسا في حزب النداء وبين حزب حركة النهضة على المواقع والتّوظيفات ، تولّى تغيير وجوه قيادية في وزارة الدّاخلية وأمر بتعيينات جديدة في بعض الإدارات لفائدة الدّساترة دون أن يأكل كلّ الكعكة...
وتعاقبت على الحكم بعد حكومة "الصيد !!" حكومات أخرى ، لعلّ أكثرها وضوحا في العمالة والّتي دام عمرها أكثر من سابقيها هي حكومة الشّاهد الأمريكي الخبير في الزّراعة المنشق عن "نداء تونس" ، والمنتمي إلى منظمة "فريدوم هاوس" ، و صاحب حزب "تحيا تونس" . ولقد كانت حكومته متكونة كالعادة من خليط حزبي من المتحاصصين على ، وأساسا من الدساترة و الإخوان ، وكانت خيارات تلك الحكومة هي نفس خيارات من سبقها من حكومات ، فاتّبعت مسار نفس "الإصلاحات الموجعة" الّتي اتّبعها رؤساء الحكومات السّابقون ، وإستشرى في ظلّها الفساد و المحسوبية وإستغلال النّفوذ من جانب أبناء الإئتلاف الطّبقي الرّجعي العميل وأتباعه و أذياله . كما إستشرت الجريمة بأنواعها و إزدادت المؤسّسات العمومية خرابا و عُرضت للبيع و سقطت قيمة الدينار سقطة مدوية وزادت قيمته إنحدارا.
وسجّلت فترة حكمه صراعا محتدما بين مكونات الإئتلاف الطّبقي الحاكم على المواقع والمراتب والإمتيازات وتصفية الحسابات لأجل ذلك . كما إرتفعت أسعار السّلع والمواد اللاّزمة لعيش غالبية السّكان الفقراء إرتفاعا جنونيا وفُقدت مواد كثيرة بفعل التّهريب الّذي شمل حتى تهريب الحيوانات و الأشخاص إلى خارج بلادنا .
وعقدت حكومته إتفاقيات إضافية مع دول الإتحاد الأوروبي وأمريكا وبنوك ومؤسّسات التّمويل الرّأسمالي الأجنبية ، وكذلك مع بلدان بنوك الخليج و الشّرق (تركيا و قطر ). وهي إتفاقيات لم تزد بلادنا سوى إنغماسا في المديونية وإرتباطا و تبعية بدوائر الإمبريالية وأوكار عملائها ، ومنهم "بريطانيا" الّتي دعّمت حملته الإنتخابية بالمليارات . ولم تسجّل فترة حكمه و حكم وزراءه تحقيق أي مطلب جدي من مطالب شعبنا المشروعة...
وأمّا من جاء بعده من رؤساء الحكومات ولم يعمر طويل ا، أو لا يزال في بداية إاّباع النّهج المٌسطّر له ولسابقيه من جانب القوى الإمبريالية ، فشأنه وحكمه لا يستحق الذّكر ، إذ لم يسجّل خلال فترته أمرا جديدا يحيد عن المعتاد...

7 ــ حصاد سنوات الكذب و النّفاق السّياسي والخيانة والتّبعية :

كانت الإمبريالية وفي مقدمتها دولة "العم صام" البرجوازية الأمريكية تقيّم الأوضاع في بلادنا على أنّها في تطوّر وإرتقاء في عهد بن علي إلى مراتب الدّول المتقدّمة وأنّها تعيش بالتالي في ظلّ "ربيع حقيقي" .
وخلال الثّلث الأوّل من شهر أفريل من عام 2010 ، نظّم معهد الشّرق الأوسط بوشنطن بالتّعاون مع (جمعية الصّداقة الأمريكية التّونسية) ندوة حول تونس تحت عنوان "تونس آفاق مستقبلية" ، تدخّل خلالها عضو جمعية الصّداقة الأمريكية التّونسية و رئيس شركة "تونس ـ الولايات المتحدة الأمريكية" المتخصّصة في تنظيم الأسفار ذات الطّابع الثّقافي و الآركيولوجي و إسمه "جيري سوركين" وهو شخصية أكادمية و سياسية معروفة بــ فيلادلفيا ، مُعطيا لمحة عن تونس متحدث عن محطات تاريخها وما إعتبره إنجازاتها خلال فترة ما بعد "الإستقلال" و "خاصّة المكاسب الّتي تحقّقت في عهد "التّغيير" ، والآفاق الواعدة بإرتقائها أعلى مراتب الدّول المتقدمة ، "و اعتبرها " نموذجا ناجحا في منطقتها ، إذ توفّقت بفضل "السّياسة الحكيمة و المتبصّرة للرّئيس زين العابدين بن علي حسب ذكره إلى تحقيق نقلة سياسية و إقتصادية و إجتماعية مكّنتها من دعم مقوّمات الإستقرار والإزدهار والرفاه مُبرزا موقعها الإستراتيجي الّذي جعل منها جسرا نحو القارّة الإفريقية مشيدا بدورها الإيجابي الذي إضطلعت به" دعما لمفاوضات السلام المتصلة بالصراع الإسرائيلي الفلسطيني. (أنظر جريدة الشروق الصادرة بتاريخ الجمعة 9 أفريل 2010 ــ ص 3 )
وصدرت تصريحات كثيرة وقتها عن ممثلين عن الإدارة الأمريكية تنسج على نفس المنوال وتمجّد وتشكر نظام الحكم العميل وعلى رأسه بن علي ، إلاّ أنّ قراءة البيت الأبيض السّرية عن تطوّرات الأوضاع في بلادنا وبلدان عربية أخرى ، وتنامي وتكثّف ردّات الفعل الشّعبية في مواجهة أنظمة الحكم العربية العميلة ، الّتي كان يترأس بعضها عسكريون إنقلابيون أصدقاء لها ، لم تعد الجماهير الشّعبية الغاضبة تقبل ببقائها بالحكم ، أفضت إلى البحث عن بديل مضمون ، فكان قرارها تمكين الإسلاميين بعد السّقوط المتوقّع لبعض رؤوس تلك الأنظمة ومنها نظام "مبارك" و نظام "بن علي" ، وتأمين مصالح أمريكا في الشّرق الأوسط و شمال إفريقيا ، وأعدّت الإمبريالية العُدّة ، واستقرّت على خياراتها الّتي كشفتها فيما بعد وثيقة " الإصلاح السّياسي في الشرق الأوسط و شمال إفريقيا " ، والمعروفة بــ " PSD11 " الّتي أعدّها البيت الأبيض بتوجيه مباشر من الرّئيس الأمريكي "باراك أوباما" . تلك الوثيقة الّتي كشفها مراسل صحيفة نيويورك تاميز "مارك لندر" في تقريره الّذي نشرته الصّحيفة الأمريكية في 16 فيفري 2011 ، والّتي سبق لنا أن أشرنا إليها في مطلع هذا النّص ، والّتي عبّرت على أنّ إمكانية أن تكون حركة الإخوان المسلمين الأداة و البديل "الإسلامي الديمقراطي" في الحكم إذا ما إلتزمت بقواعد اللّعبة ، أي أن يؤمّن الإخوان المسلمون مصالح الولايات المتحدة الإستراتيجية في المنطقة...وحماية مصالحها و حلفائها الغربيين في مصادر الطّاقة بالمنطقة ، في مقابل مساعدات مالية ودعم "الإخوان" بنفوذها بين المنظمات الدولية ، مثل صندوق النقد الدولي ، ودول مجلس التّعاون الخليجي...وصدرت حول ذلك بين عام 2011 و 2013 مقالات عديدة ، وتسريبات كثيرة في الصّحافة الأمريكية ، وصٌحف أخرى مصرية وغيرها حول وثيقة "أوباما السّرية" ، وصفقته ونظام حكمه الّتي عقدها مع التّيارات الإسلامية و تحديدا "الإخوان"...(يرجى العودة الى صحيفة الوطن المصرية الصادرة الخميس 18 يوليو 2018 ) . ولئن أخفت الحركات الإسلامية الّتي تسلّمت مقاليد الحكم في بعض البلدان العربية سرّ تلك الوثيقة ، وأسرار وثائق أخرى وإتفاقات مماثلة عقدتها مع دول الإتحاد الأوروبي ، فإنّ الأمر لم يبقى سرّا ، إذ تتالت التّسريبات حولها ، وأضافت وثائق "ويكليكس" وتقارير سياسية عديدة مزيدا من الوضوح عليها حتّى أصبحت عمالة "الإخوان" مكشوفة للجميع ...
عشر سنوات مضت حتى الآن تداولت خلالها سلميا على السلطة في بلادنا عشر حكومات ، وذلك تحت عنوان "الإنتقال الدّيمقراطي السّلمي للسّلطة " ، هذا الحلّ السّحري المُضلّل الّذي صدّرته الإمبريالية العالمية لعديد المستعمرات وأشباه المستعمرات .
سنوات عشر ذهبت ، تكرّرت خلالها عديد المشاهد والأحداث وتشابهت ملامح الأوضاع ، وتنافس خلالها طرفان على المواقع و كراسي السلطة ، فيما بقي طرف ثالث غير متجانس يتأرجح بينهم طمعا في تسلّق السّلم الطّبقي نحو الأعلى ، وبلوغ مراكز السّلطة والنّفوذ بفضل نفس اللّعبة ، ولكنّه لم يفلح كما فشل دائما في محاولته لإرساء علاقات إنتاج على هامش العلاقات السّائدة ، وفي إقناع الجماهير بإمكانية إصلاح نظام الحكم العميل القائم و مؤسّساته مع الإبقاء عليه قائما وعدم إسقاطه :
1 ــ الطّرف الأول يمثّله الدساترة ومن في جبتهم ، الحاكمون السّابقون في البلاد حتى شهر جانفي 2011 ، والّذين يسعون جاهدين بعد 2012إلى توحيد شقوقهم للعودة إلى الحكم تحت رايتهم بأغلبية كبيرة ، وهي الّتي كانت تشكّل التّعبيرة الحزبية السّياسية المهيمنة والمعبّرة على مصالح الإئتلاف الطّبقي الرّجعي العميل ، وتدعّمهم حاليا أغلب دول الإتّحاد الأوروبي الإمبريالية وبعض الأنظمة الخليجية العميلة .
2 ــ الطّرف الثّاني و يجسّده الإخوان المسلمون : النهضة وإخوتها وأخواتها ومن تحت جلبابهم من الأحزاب والمنظمات الدينية المعبّرة عن مصالح فئات من البرجوازية "التّجارية" العميلة ، وجزء من كبار الملاّكين العقاريين بما في ذلك بقايا الإقطاع أساسا ، وتدعّمهم الإمبريالية الأمريكية و البريطانية إلى جانب نظام الحكم التركي والقطري...
وهذان الطّرفان يشكّلان وجهان لعملة واحدة ، ويمثّلان مصالح الإمبريالية العالمية والصّهيونية في بلادنا وذلك بشكل معلن أحيانا وخفي أحيانا أخرى بحسب الظروف والأوضاع .
3 ــ الطّرف الثّالث الأحزاب والتّيارات والمنظّمات الإصلاحية والبيروقراطية النّقابية والمهنية والكثير من جمعيات ما يُعرف "بالمجتمع المدني" "الديمقراطية البرجوازية الصّغيرة" المعبّرة بالأساس على مصالح " فئات برجوازية صغيرة " .
وبين تلك الأطراف ، حدثت توافقات و تجاذبات وتقاطعات وتحالفات ومواقف ، في العديد من المناسبات و المحطّات الهامّة ، أثناء عملية تطوّر ونضج الصّراع الطّبقي والصّراع الوطني الّذي يخوضه شعبنا المضطهد وقواه الوطنية الديمقراطية كسائر شعوب العالم المضطهدة ضد الإمبريالية و الصّهيونية و العملاء ...

8 - ماذا حدث في النّهاية وما هو البديل ؟

لقد فشل مشروع الإنتقال الديمقراطي في تونس فشلا ذريعا ، و عجزت القوى الطّبقية الرجعية و أحزابها كما كان منتظرا بحكم طبيعتها وطبيعة نظام حكمها ،على حلّ الأزمة الخانقة الّتي تعيشها بلادنا و مجتمعنا ، بل أكثر من ذلك فقد عمّقت تلك القوى الأزمة و دفعت البلاد و الدولة و مؤسّساتها القائمة نحو الإفلاس ، ويُرجّح أن تعيش بلادنا في المستقبل أوضاعا شبيهة بتلك الّتي حدثت في اليونان أو لبنان ...أو أوضاع أسوء من ذلك .
لقد تعمّق بؤس الشّعب ، وإزداد وضعه سوءا منذ عام 2011 ، وبات أغلب السّكان وهم من العمّال وإلى جانبهم سائر الكادحين من فلاحين فقراء ومزارعين وموظفين صغار وغيرهم ، يعيشون في حالة فقر مدقع ، عاجزون على توفير الحدّ الأدنى للعيش ، وغير قادرين على دفع الضّرائب والأداءات المُشطّة ، الّتي تطالبهم بها أجهزة الدولة ، أوتوفير مستلزمات العلاج والدّواء لهم ولعائلاتهم... في ظلّ وضع عالمي ومحلّي متأزّم وموبوء .
أمّا أغنياء القوم ، تلك الاقلّية الحاكمة صاحبة الإمتيازات و الثّروة ، فإنّ ثروتهم في إزدياد بفضل الفساد و النّهب وإستغلال الإنسان لفائدتهم ، الّذين يُراكمون الثّروة بفضله و بفضل الإرتشاء و التّمتّع بعمولة الرّأسمالي الأجنبي جزاء خيانتهم للبلاد والشّعب ، ودفاعهم عن مصالح الإمبريالية والصّهيونية في بلادنا ، ولذلك سوف يواصلون نهج الخيانة و العمالة ، وإستغلال و إضطهاد الشّعب وقمعه ، وحرمانه من حقوقه المشروعة بنسائه ورجاله على حدّ سواء ومطالبه ، وفي مقدّمتها مطلبه في التّحرر الوطني و الإنعتاق الإجتماعي .
لقد إلتفّت الإمبريالية العالمية والإئتلاف الطّبقي الرّجعي العميل ، والأحزاب السّياسية المعبّرة عنه ، ومنها أساسا تلك الناطقة بإسم النهضة و الدساترة على إنتفاضة 17 ديسمبر ، كما إلتفّت من سابق على إنتفاضات شعبنا و كبحت مسارها الثّوري ، وحافظت على بقاء نظام الحكم المتعاون معها وخادم مصالحها قائما ، كما وطّدت من خلال رموز الحكم الجديدة سيطرتها على بلادنا وأغلب بلدان شمال إفريقيا شبه المستعمرة المتّصلة بها جغرافيا وتاريخيا و ثرواتها وأسواقها...وفي المقابل لم يتحقّق شيء يُذكر لشعبنا يُتوج نضالاته وتضحياته ، ويكرم شهدائه ، ويُعطي الأمل لجرحاه ، في غد أفضل ووطن حر.
ــ ولقد كانت موازين القوى ولا تزال إلى حد السّاعة في مصلحة الإمبريالية و وكلائها ، أمّا القوى الثّورية العالمية فهي في حالة ضعف شديد ، وتكاد تكون غائبة عن الفعل في أغلب محطّات نضال الطّبقة العاملة والشّعوب المُضطهدة المعادية للإستعمار الرّأسمالي الإمبريالي ، ّوالمؤسّسات و الأحزاب و المنظمات و الحركات الرجعية المتعاونة معه . وهذا الوضع ينطبق على حال ميزان القوى في بلادنا ، أين نجد الدساترة و الإخوان يتقاسمون السلطة والعمالة لرأس المال الأجنبي ، ويتنافسون حولها ويستندون إلى قاعدة كبيرة من "الأزلام" القدامى و اللاّحقين و" الإخوة " ، وعلى مفاصل ومواقع في الدولة القائمة ، يحتلونها و يؤثّرون فيها ومنها على سير الأحداث في بلادنا ، وكبح المسار الثّوري في كل لحظة صراع طبقي ووطني إن عجزوا عن صدّه مباشرة بالقوّة المنظّمة و العنف الرّجعي ...
وفي مقابل ذلك ، إقتصر دور القوى الوطنية الثّورية المعبّرة نظريا عن طموحات شعبنا وآماله ، بعمّاله وفلاّحيه وسائر كادحيه ومُفقّريه ، على التّحليل السّياسي للواقع (وفي ذلك نقد و إختلاف بين تلك القوى) قابله ضعف في الممارسة في إتجاه تغييره ، وغياب واضح للبوصلة التّّنظيمية ، الفكرية و السياسية في التوجيه والتّطبيق أغلب الأحيان . الأمر الّذي جعل بعض الفصائل "اليسارية" تنخرط بشكل مُعلن أو غير معلن في لعبة ومسار الإنتقال الديمقراطي السّلمي للسلطة ، وطموحها من ذلك رغم تقييمها الصّحيح النّظري لنظام الحكم كونه نظام عميل ، هو الحصول على مقعد في مواقع السّلطة ، وبعض الفتات على طاولة الإئتلاف الطّبقي الحاكم وموائد الإمبريالية ...
وكان التّشتّت التّنظيمي خلال العشر سنوات الفائتة يسم بوضوح "اليسار الوطني" ، والّذي رفضت "أجنحته" عمليا بشكل فعلي تجميع فصائله على قاعدة برنامج وطني ثوري محوره الرّئيسي المسألة الوطنية .إذ كان كل طرف يتمسّك بهويته السّياسية والتّنظيمية الضّيقة ، أو حزبه السّياسي المنعزل وفي إتّجاه عمودي، حركته بطيئة ، وغير فاعلة في الممارسة ، في مواجهة أزمة البلاد ، وهي أزمة مُعقّدة وحادّة ، تشمل الحاكم والمحكوم ، والمُسْتغَلّ والمُسْتغِل ، وتستوجب خوض الصّراع بين الأطراف اليسارية الوطنية المتباعدة حول أرضية عمل ثوري واضحة ، لأجل وحدة وطنية ثورية مبدئية حقيقية تخدم مصلحة شعبنا.
ولقد عجز الجميع في النهاية ، أو إمتنعوا عن تشكيل جبهة وطنية عريضة ، تقوّي ميزان القوى من جانبهم ، وتدعمهم في مواجهة الإمبريالية و عملائها ، و تجمعهم حول برنامج وطني ثوري عملي ، يعملون على قاعدته في إتجاه إنجاز الثّورة الوطنية الديمقراطية ذات الأفق الإشتراكي ، فأضرّ ذلك بالمسار الثّوري ومكّن أعداء الشّعب من إحتلال مساحات الممارسة .
ولا ننسى أنّ شقّا كبيرا ، أو فئة كبيرة من البرجوازية الصّغيرة ، الّتي كانت تعارض نظام " حكم بن علي " ، والّتي شاركت عمليا و ميدانيا في مناسبات و محطّات نضالية عديدة في مواجهة عملاء الإمبريالية ، وهو أمر سجّله التّاريخ ، قد إنقلب على ذاته و خان جماهير شعبنا الكادح و إنتفاضاته ...
كما لا ننسى دور القوى الإصلاحية وموقفها المتذبذب والمتأرجح ، بين تبنّي بعض مطالب الجماهير الشّعبية المعيشية الملحّة ( قفة الزوالي) ، والتّناغم في نفس الوقت مع مشروع الإنتقال الديمقراطي السّلمي للسّلطة ، الّذي وضعته وصدّرته الإمبريالية ، والتّعايش والتّناغم والتّنافس مع أعداء الشّعب المحلّيين ، من إخوان و دساترة ، والتّقاطع أو إعتبارهما أمرا واقعا يجب التعامل معه ، رافضين بذلك مبدأ حلّ المسالة الوطنية وفك الإرتباط بالإمبريالية، وإسقاط نظام الحكم العميل . وهو موقف "وسطي" أضرّ بالحركة الوطنية الثّورية .

9 - البديل الثّوري :

لقد أصبح الإئتلاف الطّبقي الرّجعي العميل ، والطّرفين السّياسيين الكبيرين المعبّرين عنه ، وهُما النهضة و الدساترة، عاجزا عن الحكم . كما لم يعد شعبنا بعمّاله و فلاّحيه و سائر الكادحين والمفقرين من أبنائه قادرا على العيش في ظلّ الأوضاع والظّروف الحالية ، وتحت سقف نظام حكم العمالة ، الّذي تتحكّم في دواليبه الأقلية الطّبقية الميسورة ، من البرجوازيين و كبار البيروقراطيين و الملاّكين العقاريين . وأصبح تأسيس الجبهة الوطنية العريضة على النّحو السّابق التّعرّض له ، أمرا تاريخيا ضروريا ، يحتاجه شعبنا في هذه اللّحظة بالذّات وهو أمر دعى إليه رفاقنا في السّابق ، وهاهم يكرّرون النّداء ، ويُبدون الإستعداد التّام لمناقشة كلّ المقترحات في شأنه لأجل أن يكون حقيقة واقعة في المستقبل القريب .
إنّ الإنتخابات والبرلمانات ، والحصول على بعض كراسي السّلطة تحت شعار "الإنتقال الديمقراطي السلمي للسلطة" ، لم تُحقّق للكادحين الفقراء لا الحرّية ، ولا "العدالة الإجتماعية " ، ولا المساواة الفعلية بين النّاس ، وذلك ما تؤكّده سجلاّت التّاريخ ، مادامت الدّيمقراطية كأدات للوصول إلى السّلطة وممارستها هي ديمقراطية برجوازية شكلية مُضلّلة ، لا تخدم إلاّ مصلحة الطّبقات المُسْتغِلّة ، المُسيطرة على المجتمع و طبقاته المُسْتغَلّة المُضطَهدة وعلى دواليب الحكم ، خاصّة إذا مورست تلك الديمقراطية في شكل نسخة مزيّفة و مشوّهة وغير مطابقة لأصلها في مستعمرة أو شبه مستعمرة ، و في ظلّ نظام حكم عميل و ظرف تاريخي انخرمت فيه موازين القوى بوضوح لصالح الإمبريالية وعملائها .
إنّ الطرّيق الوحيد لتخليص الشّعب من فقره وبؤسه ، ومن قيود العبودية الرّأسمالية الجديدة ، وتحرير بلادنا وشعبنا من سيطرة ودكتاتورية رأس المال ، هو طريق النّضال الوطني الثّوري بكلّ الوسائل الثّورية والإمكانيات المتاحة والممكنة ، حتّى إنجاز الثّورة الوطنية الدّيمقراطية ذات الأفق الإشتراكي .

فلنرفع عاليا راية تلك الثّورة ، راية العمّال وإلى جانبهم الفلاّحين الفقراء ، وسائر الكادحين من شعبنا.

ولنعمل جميعا نحن أبناء الشّعب المُضْطَهِد من أجل تجسيد شعار : الشّعب يريد إسقاط النظام ، على أرض الواقع.

الخزي و العار للخونة

والمجد و الخلود للشهداء

والنّصر قادم لامحال و لو طال إنتظاره


الوطنيون الدّيمقراطيون الماركسيون اللّينينيون

تونس في 14 جانفي 2021



#الفاضل_ساسي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- صدور أسبوعية المناضل-ة عدد 18 أبريل 2024
- الحوار الاجتماعي آلية برجوازية لتدبير المسألة العمالية
- الهجمة الإسرائيلية القادمة على إيران
- بلاغ صحفي حول اجتماع المكتب السياسي لحزب التقدم والاشتراكية ...
- من اشتوكة آيت باها: التنظيم النقابي يقابله الطرد والشغل يقاب ...
- الرئيس الجزائري يستقبل زعيم جبهة البوليساريو (فيديو)
- طريق الشعب.. الفلاح العراقي وعيده الاغر
- تراجع 2000 جنيه.. سعر الارز اليوم الثلاثاء 16 أبريل 2024 في ...
- عيدنا بانتصار المقاومة.. ومازال الحراك الشعبي الأردني مستمرً ...
- قول في الثقافة والمثقف


المزيد.....

- مَشْرُوع تَلْفَزِة يَسَارِيَة مُشْتَرَكَة / عبد الرحمان النوضة
- الحوكمة بين الفساد والاصلاح الاداري في الشركات الدولية رؤية ... / وليد محمد عبدالحليم محمد عاشور
- عندما لا تعمل السلطات على محاصرة الفساد الانتخابي تساهم في إ ... / محمد الحنفي
- الماركسية والتحالفات - قراءة تاريخية / مصطفى الدروبي
- جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية ودور الحزب الشيوعي اللبناني ... / محمد الخويلدي
- اليسار الجديد في تونس ومسألة الدولة بعد 1956 / خميس بن محمد عرفاوي
- من تجارب العمل الشيوعي في العراق 1963.......... / كريم الزكي
- مناقشة رفاقية للإعلان المشترك: -المقاومة العربية الشاملة- / حسان خالد شاتيلا
- التحالفات الطائفية ومخاطرها على الوحدة الوطنية / فلاح علي
- الانعطافة المفاجئة من “تحالف القوى الديمقراطية المدنية” الى ... / حسان عاكف


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العمل المشترك بين القوى اليسارية والعلمانية والديمقرطية - الفاضل ساسي - ورقات من خريف تونس والوضع الرّاهن