أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - خالد رشيد رشيد - مساهمة نقدية حول كتاب (نقض أوهام المادية الجدلية)















المزيد.....



مساهمة نقدية حول كتاب (نقض أوهام المادية الجدلية)


خالد رشيد رشيد

الحوار المتمدن-العدد: 6783 - 2021 / 1 / 9 - 10:20
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


مقدمة
سأتناول كتاب الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي بالنقد. وأقصد كتابه المعنون " نقض أوهام المادية الجدلية ". ويعود السبب في ذلك إلى اعتقادي بأن الشيخ البوطي رحمه الله قد انتقل من مجال نقد الفلسفة والعقائد إلى مجال إنكار نظرية علمية. وحتى أزيل هذا الاختلاط الذي يحرم كثيراً من شبابنا سلاحاً هامّاً يساعدهم في أداء رسالة " النهضة" لن أهدف إلى الدفاع عن الماركسية كفلسفة؛ أي عن المادية الجدلية، بل سأهدف إلى بيان أمر، هو:
إما أن أوضح أن الاختلاف بالعقيدة يجب أن لا يقود إلى إنكار فضل العالم وإدارة الظهر للعلم، وبالتالي الاصطفاف مع الرجعية ضد التقدم (المرتبط بالأخذ بالعلم) ، أو أن أثبت – في حال امتناع ما سبق – أن العقيدة التي تتلاءم مع العلم هي العقيدة الصحيحة، وبالتالي نكون كمن أثبت المقدمة من صحة النتيجة.
وكم أرجو أن يكون الشيخ محمد سعيد البوطي رحمه الله مفرقاً بين التصورات الفلسفية والنظريات العلمية، غير آبه بخلفيات العالم العقائدية والاجتماعية والأخلاقية. فيكون معتدلاً بحق.
ولا بد أن أشير أنه لا مشكلة عند كثير من مثقفينا بالأخذ بنظرية علمية من مجال العلوم الطبيعية والرياضية بغض النظر عن مكتشف هذه النظرية كشخصٍ، ولكنهم يقفون ضدّ العلم في العلوم الإنسانية إذا خالفوا العالم بالعقيدة لارتباطها بالمصالح الطبقية في المجتمع، فيستحقون وصف الرجعيين لوقوفهم ضدّ أهم عوامل التقدم؛ أي ضدّ العلم.
الكتاب الذي سأتناوله بالنقد هو:
البوطي: الدكتور محمد سعيد رمضان ، نقض أوهام الماديّة الجدليّة ، دار الفكر ، الطبعة الثالثة ، دمشق: سوريا ، 1985.
ولذلك سأكتفي عند الاقتباس الحرفي بذكر الصفحة فتكون من هذا الكتاب، إلا إذا ورد خلاف ذلك.
إن القراءة النقدية لأي فكر خير طريقة للوصول إلى هدف من يطرح هذا الفكر، والأخذ الأعمى بأي فكر إهانة لصاحبه، وأرجو التوفيق بعملي هذا لما فيه من خدمة لسبيل النهضة.

ميزان الحكم على الماديّة الجدليّة عند الدكتور البوطي
يحدّد المؤلف أهداف بحثه ومنهجه بما يلي:
1- توضيح ما في المذهب الشيوعي (تحديدا مذهب الماديّة الجدليّة) من أوهام، أي ما يخالف المنطق والعلم.
2- استخدام البحث الموضوعي للتثبت من أحكام هذا المذهب.
3- إثبات أن من يقتنع بالمذهب الشيوعي إنما هو كذلك لأن ثقافته محدودة، وهو واقع تحت تأثير الانبهار والوهم. والثقافة هنا هي المنطق والعلم.
4- الأفكار الاجتماعية والاقتصادية للماديّة الجدليّة هي تطبيقات للمذهب الفلسفي الشيوعي.
5- اعتناق ما يثبت أنه حق بميزان المنطق والعلم ونبذ ما يثبت أنّه باطل بنفس الميزان.
(من مقدمة الكتاب المعنونة " بين يدي هذا الكتاب " الصفحة 7)
تطور الديالكتيك منذ نشوئه وحتى ماركس وإنجلز
الديالكتيك منذ ظهوره حتى هيجل
تدقيق هذا العرض التاريخي ليس متاح أمامي الآن، ولا أهمية كبيرة له بالنسبة لغرض البحث. ولكن لا بأس من العودة إليه لاحقا إن أمكن.
الديالكتيك من منظور الماركسية
يرى الدكتور البوطي أن خلاصة ما أدخلته الماركسية من تطور على الديالكتيك الهيجلي يمكن تلخيصه بما يلي: " إن هيجل وضع الديالكتيك ، ولكن منكساً على رأسه ، فجاءت الماركسية وأقامته منتصباً على قدميه! .. " (ص 30)
ثم يذكر في موضعين قريبين ما يلي: " الخط العريض الهام الذي سارت في داخله عمليات التطوير الجزئية، لنظرية هيجل هو ما يلي: ... " (ص 30) والتأكيد لي.
" انطلاقاً من الخط العريض الذي قلنا عنه إنه يوجز التغييرات الجزئية المختلفة التي أدخلت على أفكار هيجل في هذا الموضوع ... " (ص 31) والتأكيد لي.
تطوير الماركسية للجدل الهيجلي
1- الديالكتيك هو شكل وجود العالم المادّي وليس شكل تطور الفكر (الأفضل أن يقول الفكر المطلق)
2- الحركة هي شكل لوجود العالم المادّي وهي مستقلة عن الوعي وحتمية، وتأثير الوعي فيها ثانوي.
3- يمكن للفكر الإنساني معرفة الحركة بدقة.
4- الماركسية تنكر وجود الله، أي إلحاديّة، أما فلسفة هيجل تعترف بوجود الله على نحو خاصّ بها.
5- قوانين الديالكتيك الثلاثة: قانون تحول التغيرات الكمية إلى تغيرات كيفية (يسميه خطأً قانون تحول الكم إلى كيف!) وقانون وحدة الأضداد وصراعها وقانون نفي النفي (ويفضل البوطي أن يسميه قانون نفي النافي). ويقوم بشرح هذه القوانين، وسأعود لتبيان مدى دقّته في ذلك.
6- المقولات والمستلزمات المرتبطة بالقوانين الديالكتيكية. (المادة والحركة وسرمدية العالم ووحدته والوعي كوظيفة للدماغ واللغة وتفاعل السبب والمسبب والحرية والضرورة والمعرفة والحقيقة الموضوعية والمادية التاريخية).
تفتقر تعابير البوطي لكثير من الدقة، فمثلاً يقول: " الديالكتيك الكامن في المادّة والباعث لحركتها وتطورها، في نظر الفلسفة الماركسية " (ص 34) وكأن الديالكتيك قوة داخل المادة، ولكن الديالكتيك هو الشكل الذي تظهر فيه الحركة، أما الحركة فهي شكل وجود المادة.

وبعرض هذه المقولات والقوانين يكون الدكتور البوطي قد قدّم عرضه للماركسية والشيوعية ليبدأ عملية النقد. وذلك على خمسين صفحة من الكتاب.
طبعاً سأعود لهذا العرض بالنقد والتمحيص، وسأدوّن ما أصل إليه في هذا المكان ثم لاحقاً أقوم بالترتيب.
1- يقع البوطي في تناقض في الصفحة 43 عندما يدّعي أن الإنسان يفقد حريته بنظر الماركسية عندما يريد أن يقارع بها قوانين الطبيعة وأحكامها الحتمية، ثم يورد اقتباساً عن إنجلز يوضّح فيه إنجلز عكس هذا الادّعاء، مما يدلّ على عدم فهم البوطي لحقيقة الكثير من قضايا الماركسية.
2- عرض المادية التاريخية سيء وفيه خلط بين مفاهيم وسائل الإنتاج وأسلوب الإنتاج ومراحل تطور المجتمعات.
نقد البوطي لأصول النظرية الماركسية وقوانينها
هنا يبدأ الدكتور البوطي بنقد النظرية الماركسية (والشيوعية – حيث لا يفرق بين الاثنتين) على أساس ما عرضه في الصفحات الخمسين الأولى من كتابه المكرّس لـ " نقض أوهام المادية الجدلية ".
نقده لقانون وحدة الأضداد وصراعها
يكتب البوطي: يقرّر قانون وحدة الأضداد وصراعها أمرين اثنين:
" 1-وجود الأضداد في وحدة ذاتية، ضمن المادّة وأجزاء المادة. 2-تصارع هذه الأضداد فيما بينها على نحو يسيّر المادة نحو نهجها الديالكتيكي أي على نحو يجعلها تتطور من كيفية بدائية بسيطة إلى كيفية أخرى معقّدة، ثم إلى أخرى أشدّ تعقيداً .. وهكذا " (ص 57) والتأكيد لي.
ما المقصود بتعبير " وحدة ذاتية "؟ الجواب: الشيء أو الظاهرة. فإن كل شيء، وكل ظاهرة، هو وحدة ذاتية بالنسبة إلى باقي الأشياء، له وظائف معينة.
وبالتالي تكوّن الأرض وحدة ذاتية، وكذلك الكتاب أمامي والكأس والمجتمع الرأسمالي والبطالة .... إلخ.
وحتى لا يُفهم كلامنا بشكل ميتافيزيقي لا بدّ من الإشارة إلى أن كل ظاهرة تشكّل وحدة ذاتية تنقسم بدورها إلى أشياء وظواهر لكل منها كيانه. وهذا سيفيدنا لاحقاً في توضيح علاقة الداخل بالخارج والفرق بين الصراع بين الأضداد وبين التأثير الخارجي على الظاهرة.
أما تعبيره " ضمن المادّة وأجزاء المادّة " فإنه تعبير يحتاج إلى توضيح. حيث أن (المادّة) مقولة فلسفية تشير إلى الوجود الموضوعي عند الماركسية. أما أجزاء المادّة فيُفهم منها عناصر المادّة، كالحديد والنحاس واليورانيوم والصوديوم ... إلخ، مما ورد في جدول مندلييف وقِس على ذلك. أو يُفهم منها جُزيئات المادّة كجزيء الماء ( H2O ) ... إلخ. وهنات يغيب عن البوطي أن يقول إن وجود الأضداد يكون أيضاً ضمن الظواهر المادّيّة. فالمادّة مقولة فلسفية ولكنها في الواقع ليست إلا ظواهر متنوعة.
لذلك عندما نقول إن الأضداد موجودة في المادّة فلا يمكن أن نفهم من ذلك سوى أن هذه الأضداد موجودة في العالم المادي، في الواقع.
ما هما الضدّان؟
يقدّم البوطي شرحاً في تقابل الحدود، فيبيّن معنى التضادّ والفرق بينه وبين التناقض.
ويقول: " كلّ متعدّد " و " المتخالفان " و " المتضادّان " و " المتناقضان " ... إلخ. ولكنّه لا يقول عن ماذا يتكلم! فهل المقصود شيئان متناقضان مثلاً أم صفتان متناقضتان للشيء الواحد أم صفتان متناقضتان لشيئين في ظاهرة واحدة.
ثمّ يردف قائلاً: " فالضدّان إذا، كلّ صفتين لا تشتركان في أي من أجزاء الماهية مطلقاً ... بحيث يكون كل منهما سلباً للثاني. " (ص 58) التأكيد لي.
وهكذا فالأمر يتعلق بنظر البوطي بصفات الأشياء، وبالطبع هنا يبدو الأمر واضحاّ. فالبوطي ينكر أن العلاقة بين الأشياء تؤدي إلى نشوء الظواهر، وكأن الأشياء منعزلة عن بعضها البعض وتتبادل التأثير فتتغير. هذه هي النظرة الميتافيزيقية للوجود.
لنأخذ مثالاً؛ يتكون جسم الإنسان من أجهزة وأعضاء وأنسجة، تعود بمجملها إلى وحدةٍ هي الخلية. بعض الخلايا يصل إلى مرحلة التلف والخروج عن العمل (هدم) وبعضها ينمو ويتكوّن معوّضاً الخلايا التالفة (بناء). وطبعاً لا يمكن أن نقول عن خليّة بعينها إنها تتلف وتتكوّن معاً في نفس اللّحظة، ولكن نستطيع أن نقول: إنّ جسم الإنسان يتّصف بأنّه يتهدّم ويُبنى معاً وفي نفس اللّحظة؛ أي أنّ جسم الإنسان يتّصف بالصفة ونقيضها معاً في نفس المكان والزمان.
إذاً، أين ينزلق البوطي إلى الخطأ؟
لم يستطع البوطي التخلّص من تصوّراته المثاليّة، فالعالم لديه مادّة مجرّدة وليس ظاهرات واقعيّة، هذا أولاً، وثانياً يرى أن جميع العلاقات بين الأشياء هي تأثير متبادَل وليس علاقات ضرورية جوهرية تكوّن الظواهر وماهياتها. لذلك هو يعجز عن تصور الحركة الديالكتيكية في الظواهر، ويُعيد الماهية إلى طبيعة ماورائية غامضة.
ولذلك تشوّهت الصورة عند البوطي وأرجع التناقضات إلى المادّة وليس إلى الوجود المادّي، حيث لم يفهم الفرق بين المادّة كمقولة فلسفية (عقلية) وبين الوجود المادّي الواقعي الذي يتجلى عبر ظاهرات.
إن كلّ ظاهرة في الوجود تتألّف من مكونات متعدّدة، وتتصف بعض هذه المكوّنات بصفات متناقضة تؤدّي إلى نشوء علاقات من الصراع. وعلاقات الصراع هذه تؤدّي إلى محصّلة مؤقّتة تعطي للظاهرة شكل وصفات واتّجاه التطوّر. وعندما نتبنّى النظرة الميتافيزيقيّة، كما يفعل البوطي، فلن نلاحظ سوى هذه الصفات الظّاهرية والشكل والاتّجاه النهائي للتطور، والذي هو مُحصّلة للصراعات الجوهرية ضمن الظّاهرة وللتأثيرات الخارجيّة أيضاً.
الطّفل ينمو لأن صفة البناء في جسمه هي السّائدة، ولكنّ هذا لا ينفي وجود صفة الهدم في جسمه، فيصبح البناء أسرع وأشمل، فيبدو الطّفل وكأنه ينمو فقط. والعكس بالعكس عند الهرِم. فهل يستطيع عاقل إنكار هذا؟ أليست عمليّة نمو العضويّة الإنسانية نتاجٌ للصّراع بين الأضداد؟ هل يمكن أن نقول إن الطّفل ينمو بالمطلق أو أن نقول إن الهرِم يهرُم بالمطلق؟ طبعاً سيكون الجواب أن صراع الأضداد ضمن الوحدة الذّاتية للظّاهرة هو قانون التّطوّر.
ومن هنا تنتج لدينا نتيجة هامّة، وهي أن الظّاهرة التي لا تتّصف بالصّفة وضدّها ليست ظاهرة، أي ليست موجودة. وبالتالي لا وجود لجسم بسيط لا يتجزّأ، فالمادّة لا تُستنفد. وإن التطور المحيط بنا دليلٌ على لا نهائية المادّة.
النتيجة الثانية الهامّة هي أن المنطق الذي يتبناه البوطي يناقض حقائق العلم. وبالتالي يرتدّ عليه اتّهامه لبعض الماركسيين بمحدوديّة الثقافة في مطلع مقدّمة كتابه. فعندما قال إن المنطق والعلم هما الحكم لتبين أوهام المادّية الجدلية ظهر أن هذا الميزان معوجّ، فالمنطق الذي قصده عفا عليه الزّمان، والعلم لا يُثبت سوى أن قانون وحدة الأضداد وصراعها هو القانون الذي تخضع له كلّ الظاهرات. وأنصح كلّ من لا يزال يتبنّى رأيه أن يوسّع من مداركه الثّقافية، فلا تبقى محدودة بالمنطق التقليديّ المحدود.
وإليكم مثالاً عن الفهم العلمي الذي يتمتّع به البوطي. حيث يقول: " إذا عرفت الفرق العلمي بين الضدّين والنقيضين: أمكنك أن تُلاحِظ التخبّط الذي وقع فيه دُعاة الفلسفة الماركسيّة عندما يتحدّثون عن هذا القانون ويفرّقون بين التضادّ والتناقض. يقول مؤلّفو المادّية الديالكتيكية: ( . . فحيثما تصطدم الأضداد: وحيثما تقوم بينهما علاقات، تبرز هناك على الدّوام تناقضات. ذلك لأنّ التي تتصادم هي اتّجاهات وقوى مُتضادّة. ولذا كان التّناقض هو العلاقة بين الأضداد أمّا الأضداد فهي جوانب التناقض) والتّشديد في هذه العبارة الأخيرة من مؤلّفي الكتاب. إنّه كما تُلاحظ اصطلاح لا يعرفه علماء المنطق والفلسفة وتفريق عجيب لم يقل به أحد " (هامش الصفحة 58)
أوّلاً لا يوجد توثيق علميّ هنا لهذا الكلام، وعلى الأغلب قصد البوطي كتاب المادّية الديالكتيكيّة لمجموعة من الأساتذة السوفييت. وثانياً يبدو أن البوطي لم يلاحظ أن وجه الشّبه بين المتضادين والمتناقضين هو أنّه لا يمكن إثباتهما على نفس الظّاهرة معاً، وبالتالي لا فرق بينهما من حيث الصّراع إن توافرا ضمن ظاهرة واحدة، بحيث تصبح علاقة المتضادّين كعلاقة المتناقضين. لكن الفرق بينهما في أن المتناقضين يستنفدان كلّ الوجود وبالتالي لا بد أن يسود أحدهما، في حين قد تنتقل الظاهرة إلى كيفيّة جديدة يزول فيها الضّدّان معاً. وثالثاً فإنّ التّخبط نجده عند البوطي عندما يقول في تعريف المتضادّين بأنّهما لا يمكن أن يُنسبا إلى نفس الموضوع في نفس الزّمان والمكان ثمّ يستغرب أن يدخلا في علاقة تناقض عندما يتّصلان بموضوعٍ واحد.
وفي معرض نقده لقانون وحدة الأضداد وصراعها يُتحفنا البوطي بحجج قديمة تعكس آراء النظرة الميتافيزيقيّة. حيث يرى الأشياء موجودة بشكل متباعد في الزمان والمكان، أي أن الأشياء توجد إلى جانب بعضها البعض. ويكون التّناقض قائماً بين هذه الأشياء وليس داخلها!
يقول البوطي: " الكون الذي نعيش فيه، مسرح ولا ريب، لشتّى صنوف الأضداد والمتناقضات. ولكنها مُنبسطة فيه على أبعاد زمانية ومكانية وموضوعيّة شتى .. هذه الأضداد والمتناقضات قد يؤثّر البعض منها في بعض، فينقدح فيما بينهما ردود الفعل، وتسري عوامل التأثير بين الأشياء المختلفة والمترابطة، مما يدفع بها إلى التطوّر والتغير الدائبين بقطع النّظر عن سبيل هذا التطور ومصيره." (ص 59) التأكيد لي.
ثم يدّعي أن هذه معرفة بسيطة لا تحتاج إلى فلسفة جديدة ولا إلى مقولات " الفلسفة المادية التي نحن بصددها " (ص 59). بالتأكيد هذه النظرات التي يكرّرها البوطي معروفة وبسيطة. ولكنها ليست صحيحة لأنها تُهمل الترابطات " الجوهرية " داخل كل ظاهرة والتي تعطي الظّاهرة شكلها وسماتها. وينكر وجود الظّاهرات الاجتماعيّة والكونيّة. بل يجعلنا جاهلين بـ " سبيل التطوّر ومصيره " الذي هو أعظم اكتشاف ترتّب على علم الديالكتيك. ولذلك كانت البشرية بحاجة ماسّة لفلسفة جديدة ولـ " الفلسفة المادّية التي نحن بصددها ".
وللمناسبة لا بدّ أن أوضّح مدى سذاجة تصوّرات البوطي وأمثاله لمعنى التّضاد والتّناقض. فعندما يضرب الأمثال نراه يقول أنّ الأبيض والأسود متضادّان. ويبدو أنّ الأمر واضح لا لبس فيه، وهذا المثال بسيط يستعين فيه أي مدرّس لتوضيح الفكرة للأطفال. ولكنّ التّضاد الذي ينكره البوطي هو التضادّ الجوهريّ في الأشياء والذي يعطي الأشياء والظواهر جوهرها وبالتالي أعراضها (أي سطحها) وما الأعراض إلا جنب من جوانب الجوهر. لكن الأعراض ما هي إلا محصلة نهائية يظهر بها الشّي ولذلك لا يمكن أن يتّصف الشيء بصفة عَرَضيّة وبنقيضها أو ضدّها في نفس اللحظة وفي نفس المكان. ومن هنا جاء الالتباس في فهم البوطي لقانون " وحدة الأضداد وصراعها ".
فمثلا، من التناقض في القول إنّ الكائن الحي المعيّن في مرحلة نموّ وفي مرحلة هرَم معاً. لأن محصّلة البناء والهدم فيه إما أن يسود فيه البناء فيبدو في حالة نمو فقط، فنحكم بما هو سائد ونقول إنّ هذا الكائن الحيّ في مرحلة النموّ، أو أن يسود الهرم على البناء فيبدو في مرحلة الهَرَم فقط، فنحكم بما هو سائد ونقول إنّ هذا الكائن الحي في مرحلة الهرم.
لذلك أقول: إنّ المنطق القديم، الذي يعتبره البوطي ميزاناً للحكم على المادّيّة الجدليّة، هو ميزان فاسد؛ لأنّه يُهمل الترابطات الجوهرية للظواهر ويكتفي بترابطاتها العرَضيّة. ولذلك لم يبقَ من ميزان يدّعيه سوى العلم. طبعاً تبين الأمثلة التي ذكرتها مدى بُعد نظرات البوطي عن العلم، وسأبيّن لا حقاً أن الميزان الحقيقي الذي لا يُصرّح به البوطي، والذي يقف على أساسه موقف العداء من الماركسيّة ومن العلم والمنطق، إنّما هو ميزان العقائد المُسبقة بعيداً عن البحث الموضوعي. وطبعاً العقيدة التي توجّهه هي عقيدة الرّجعية التي تستند إلى مصالح طواغيت المال، فبئس عبد الطّاغوت.
وبعد أن يحصر البوطي معنى التضاد والتناقض في العلاقات بين الأشياء المتمثلة بالفعل وردّ الفعل، أي بالعلاقات الخارجية بين الأشياء – رغم نسبية مفهوم الدّاخل والخارج – فإنه يعرض فكرةً عجيبة وسخيفة، يريد بها تشويه الماركسية وتحريف كلام لينين!
حيث يقول: " ولكن أئمّة الماركسية يصرّون على أن أصغر جزيئات المادّة في أضيق وحدات الزّمان، ليس إلا مُلتقى للأضداد المتراكمة المتصارعة! .. وذلك هو المعنى المراد بكلمة: " وحدة الأضداد " ويقول لينين " الديالكتيك هو دراسة التناقض في جوهر الأشياء عينه " فهل يصدق الواقع ذلك؟ " (ص 59) التأكيد لي.
وهكذا فإننا نلاحظ أن البوطي يفهم من كلمة " جوهر " الشيء أصغر جزيئات المادّة. ولكن المفهوم الماركسي لجوهر الشيء ليس هذا، كما يدّعي البوطي. فجوهر كلّ شيء هو العلاقات الضروريّة في الشّيء، بحيث تكون محصّلة هذه العلاقات هي ما يكوّن الظّاهرة، أي يجعلها تبدو على ما هي عليه وتفعل ما تفعله من وظائف تجاه باقي الأشياء. وليس جوهر الشّيء هو أجزاء صغير جدّاً موجودة داخله كما يتصور الأطفال في المرحلة الابتدائية، وكما يتصوّر ذلك البوطي. ولذلك ليس " أصغر جزيئات المادة في أضيق وحدات الزّمان " هي جوهر الشّي وبالتالي هي " ملتقى الأضداد ". بل كلّ شيء، سواء كان متناهيا في الصغر أم متناهيا في الكبر هو ملتقى صراع الأضداد ومحصّلتها، وذلك ضمن زمان معيّن ومكان محدّد.
وهكذا فإن الفهم الخاطئ، وتشويه حقيقة أفكار الماركسيّة، تشكّل لدينا هنا مقدّمة لـ " انتقادات البوطي ". فلنتابع هذا " النقد " الـ "المنطقي والعلمي والموضوعي ".
يتابع البوطي تفنيده لقانون وحدة الأضداد وصراعها بأن يقول: " عقدة التّضاد إنّما تتحقق عند انضباطها بوحدات الزّمان والمكان والموضوع والمحمول .. إلخ. فأين هي وحدة المكان في مثال الحركة، وقد علمت بأنّ قوام الحركة، في جوهرها الأساسيّ إنما هو الحيّزات المتواصلة. " (ص 61)
إذاً، بما أن الحركة متواصلة، على حيزات متواصلة فإن الجرم المتحرك لا يوجد في مكان محدّد، وبالتالي لا يحقّق وحدة المكان! وهذا أعجب نقدٍ سمعته. إذ يكشف لنا أن البوطي يتخيّل المكان حيزات فارغة تتوالى عليها الأشياء، فكأن المكان وعاء يفرغ من شيء ليمتلئ بآخر!
إنّ المكان مرتبط بالأشياء، فلا نستطيع تحديد مكان شيء إلا بالنسبة إلى أشياء أخرى. ولا يبقى شيء في مكانٍ مُطلق، بل إنّ الثّبات والسّكون نسبيان بالنّسبة إلى باقي الأشياء. ومهما تحرّك الجسم بالنسبة إلى جسم آخر فإنّه سيبقى يشغل مكاناً، وبالتالي لا علاقة لتغيّر مكان الشيء بوجود تناقضات داخله. وقول البوطي حول وحدات الزّمان والمكان والموضوع والمحمول كلام فارغ.
أمّا أن نتخيّل جسما ثابتا تماماً ومستقرّاً، فإن هذا لا يكون إلا في الخيال، فكل جسم يبدو مُستقرّاً بسبب تذبذبه حول قيمة معينة، فيبدو لحواسّنا، التي تعمل ضمن حدودها، ثابتاً عند هذه القيمة.
ولكن هذه النقطة تحتاج إلى توضيح أكبر لي أولاً، ولا بد من الرجوع إلى المصدرين الذين اعتمدهما البوطي، أي (ضد دوهرينغ لإنجلز) و (الدّفاتر الفلسفيّة للينين) بالإضافة إلى (القضايا الأساسيّة في الفلسفة الماركسية لبليخانوف) حتى نتبيّن على وجه الدّقة الأمثلة التي " يدحضها " البوطي.
نقده لقانون تحوّل التغيّرات الكمّيّة إلى تغيّرات كيفيّة
ما معنى التطوّر النّوعي أو التّحوّل في الكيف؟ وما علاقته بمفهوم الزّمان؟
يُقاس الزّمن بوحداتٍ تُناسب الظّاهرة المعنيّة. فنحن لا نقيس عمر الإنسان بالثّواني، بل العامّ أنّ نقيسه بالسّنين. ولذلك عندما نراقب تطوّرات السلوك الإنساني فإنّنا ننظر إلى التّغيّرات الحاصلة من عام إلى آخر. فإذا اختفى سلوك ما يناسب مرحلةً عمرية (شائع ضمنها) وظهر سلوك يناسب مرحلة عمرية أخرى نقول إنّ تطوّراً نوعيّاً طرأ على هذا الفرد. ويجب أن تتمّ مراقبة السلوك للتأكّد من أنّه أصبح ملازماً للفرد وليس عَرَضيّاً.
ولن يسعنا أن نكتشف التطوّرات النّوعيّة (الكيفيّة) للكائنات الحيّة والأرض والكواكب إن اعتمدنا على مقارنة حالة الظّاهرة بين وحدات زمنية صغيرة. وسيبدو لنا كلّ هذا التطوّر كأنّه تراكم كمّي لا كيفيّة جديدة فيه! ويصبح نموّ الإنسان مجرد زيادة في الكميّة دون ملاحظة الفرق بين الطّفل والرّاشد والكهل ... إلخ.
لكنّ الإنسان بما هو نوعٌ يتجاوز مشكلة التّعامل مع الحركة البطيئة جدّاً، أي التي تناسبها وحدات زمنية تتجاوز عمر أجيالٍ إنسانيّة لقياس التغيّرات الكيفيّة فيها، وذلك من خلال مراكمة ملاحظاته وعلومه بواسطة اللّغة. وبالتّالي يستطيع أن يكتشف سير قوانين تطوّر هذه الظّواهر.
والمشكلة الأكبر هي في الحركة السّريعة جداً، أي تلك التي تناسبها وحدات زمنية صغيرة جدّاً تسبق سرعة الملاحظة البشريّة، فهنا لا يفيد تراكم الملاحظات الجزئية وتركيبها؛ حيث تتغيّر كيفيّات الأجسام المتناهية بالصّغر أثناء ملاحظتها. ولذلك لا نستغرب أن جسيماً متناهياً في الصّغر يتّصف بالصّفة ونقيضها في نفس اللّحظة، ويوجد في مكانين في نفس اللّحظة.
أقول: يستطيع الإنسان تجاوز هذه المشكلة بأن يعترف بالمنطق الديالكتيكي كميزان صحيح للحقيقة والعلم. ويفهم أن الزّمان نسبيٌ، وليس مُطلقاً.
تحوّل التغيّرات الكمّيّة إلى تغيّرات كيفيّة
إن صياغة البوطي للقانون غير أمينة؛ لأنّه يُسمّي القانون "تحوّل الكمّ إلى كيف" والأصحّ أن يقول "تحوّل التغيرات الكمّية إلى تغيّرات كيفيّة".
إليكم ما يقوله كتاب "المادّيّة الدّيالكتيكيّة" لمجموعة من المفكرين السوفييت (دار الجماهير 1973) كما نقله غازي الصّوراني في كتابه "مدخل إلى الفلسفة الماركسي":
" يصاغ هذا القانون وفق الأسس التالية:
1. إن كل ظاهرة أو عملية هي عبارة عن وحدة كمية وكيفية، بعبارة أخرى، أنـها تتسم بتعين كيفي وكمي يميزها هي وحدها.
2. إن التغيرات الكمية تجرى بصورة تدريجية، رتيبة متواصلة إلى حد معين، وفي نطاق هذا الحد لا تسبب تغيرات في الكيفية المعنية، كما أن التغيرات الكمية تتسم بالحجم والدرجة والكثافة ويمكن قياسها والتعبير عنها برقم معين بواسطة وحدات قياس مناسبة.
3. عند وصول التغيرات الكمية إلى حدها الأقصى (ويسمى حد القطع)، فإنـها تؤدي إلى تغيرات وتحولات كيفية/نوعية جذرية تفضي إلى تشكل كيفية جديد.
4. تجرى التغيرات الكيفية بشكل قفزه أي انقطاع في التدرج وليس لزاماً أن تجرى القفزات بشكل انقطاع خطي بل يمكن أن تستغرق فترة زمنية طويلة أو قصيرة (حسب الحالة في المجتمع أو الطبيعة أو الإنسان).
5. تتسم الكيفية الجديد الناشئة نتيجة القفزة بخواص أو ثوابت كمية جديدة، وكذلك بحد جديد من وحدة الكمية والكيفية.
6. إن مصدر تحول التغيرات الكمية إلى كيفية والكيفية إلى كمية هو وحدة وصراع المتناقضات أو الاضداد وتنامي التناقضات وحلها. " (الصّوراني: غازي، مدخل إلى الفلسفة الماركسيّة: المادّيّة الجدلية والتّاريخيّة، 2013، ص 42)

وفي نقده لهذا القانون يعاني البوطي صعوبات كثيرة. فبغضّ النّظر عن عرضه الخاطئ للقانون في البداية، فإنّه يضطّرّ إلى أن يعترف بصحّة هذا القانون في ما يتعلّق بالكمّ المنفصل بعد أن أنكر ذلك، فهو يقول: "وأقول: كيفية ذات أهمية، احترازاً عن الكيفيّات الميّتة ... فمن المعروف أنّ كلّاً من الزّوجيّة والفرديّة كيفية تنبثق من الزّيادة الطّارئة على الكمّ المنفصل، وأنّ كيفيّات هندسيّة قد تنبثق من الزّيادة ذاتها، ولكنّ شيئاً من ذلك لا يمكن أن يستتبع أيّ فائدة تصلح لما يتطلّع إليه الماركسيّون" (ص 68) التأكيد لي.
وأيضاً يتابع: "غير أنّا نستثني حالتين اثنتين من عموم هذه الحقيقة:
الحالة الأولى أن تتعلّق خصائص الجزئيّات في الكمّ المنفصل بكُلّ واحد، بحيث تتشابك فاعليّاتها المتناثرة ضمن وعاء جامع. فقد تنبثق كيفيّة حيّة عندئذ من هذا التّشابك، ويصدُق أنّ تبدّل الكيفيّة ملازم لهبوط أو تصاعد الكميّة.
الحالة الثاّنية: أن يتدخّل الوعي، فيؤلّف بين أشتات هذه الوحدات .. " (ص 69) والتّأكيد لي.
ما يقرّره هذا الكلام هو أنّ التّغيّرات الكمّيّة المنفصلة لا تتحوّل إلى تغيّرات كيفيّة إلّا إذا توافرت شروط مُعيّنة هي:
1- وصول الكمّيّة إلى حدّ تؤلّف فيه كُلّاً واحداً له كيفيّة خاصّة.
2- توافر ظروف مُحيطة تسمح بالانتقال النوعي، من حالة كيفيّة إلى أخرى، كالوعي.
الماركسيّة ترى أن التغيّرات الكمّيّة تصل إلى درجة تسمح بتأليف كُلٍّ جديد، فإذا توافرت الظّروف المناسبة تحوّلت الظّاهرة إلى كيفيّة أخرى؛ أي إلى ظاهرة جديدة مختلفة.
ولكن يجب أن نلاحظ خُبث البوطي حين أدخل في الاستثناء الثّاني الوعي كعامل استثنائي في صدق القانون. ولكنّ الحقيقة هي أن الماء قد لا يتبخّر عند مئة درجة مئويّة، بل لا بدّ من توافر عوامل الضّغط الجوّي النّظامي ونقاء الماء، وإلّا تغيّرت درجة الغليان.
طبعاً هنا نلاحظ أن البوطي لا يفهم سوى أنّ كلّ تغيّر كمّيّ يجب أن يؤدّي إلى تغيّر كيفيّ بنظر الماركسيّة التي فهمها أو أراد عرضها. والحقيقة أنّ البوطيّ لا يفعل إلّا أن يُقرّ بالقانون الذي يسعى لإثبات بُطلانه.
يقول البوطيّ: " أي تزايد أو نقص فيه (أي في الكم المتّصل) يسري تأثيره على جميع أجزائه، فتتحقّق من ذلك كيفيّة جديدة " (ص 70) والتّأكيد لي. يتّضح من هذه العبارة أنّ البوطيّ يفهم هذا القانون بشكل خاطئ، أو على الأقل ينقله بشكل مُشوّه. إذ ليست أي زيادة أو نقص إلى كيفيّة جديدة، بل تلك الزيادة أو النّقص الذي يصل درجةً مٌعيّنة وضمن شروط مُعيّنة. وإلّا لن تنتقل الظاهرة إلى كيفيّة جديدة. وهذا لا يٌلغي أنّ أي تغيّر يؤثّر في الظّاهرة، ولكن شتّان بين حدوث تأثير وتغيّر وبين انتقال من كيفيّة إلى أخرى. ولا يخفى على أيّ مُطَّلع أنّ الماركسيّة تريد بالتّغيّرات الكيفيّة تلك التّغيّرات النّوعيّة. ولكنّ البوطيّ يميّز بين التّغيّر الكيفيّ والتّغيّر النّوعي على أنّ الأخير هو ما يحدث كنتيجة للقفزات.
ومن خلال العرض لمفهوم هذا القانون في الصفحة 70 نجد أن البوطي يسيء الفهم مرّة أخرى. حيث يزعم أن الماركسيّة تقول إنّ كلّ ظاهرة تخضع لهذا القانون حتماً وتتطوّر نحو الأرقى. وهنا يتجلّى سوء فهم البوطيّ لقانون تحوّل التّغيّرات الكمّيّة إلى تغيّرات كيفيّة من ناحيتين:
1- لا تدّعي الماركسية أن كلّ ظّاهرة تتطوّر نحو الأرقى بفعل هذا القانون، بل تقول بالتقدّم والتّراجع. أي أنّ بعض الظّواهر تتراجع وتنهار بفعل التّطوّر، لكنّ مُحصّلة التّطوّر تكون للأرقى دائماً. وهذا ما تثبته التجربة العلمية والتّاريخية.
2- لا يلحظ البوطيّ ترابط الظّواهر مع بعضها وتأثير ذلك في منحى التّطوّر.
يُتحفنا البوطيّ هنا بمثال: " فالماء الذي يتحوّل بخاراً فوق سطح البحار، وتحمله السُّحُب (لاحظوا أنّ السحب تحمل بخار الماء!) ليس حتماً أن تحوِّله السُّحُب إلى ماءٍ هاطل، ما دام الجوّ يبث كمّيّة من الحرارة تتّفق واحتفاظ هذه السُّحُب بأبخرتها، غير أنّها سرعان ما تتحوّل إلى ماء إذا هبطت درجة الحرارة فيها إلى مستوى يسمح لها بأن تُحيل تلك الأبخرة إلى أمطار هاطلة " (ص 71)
إنّ هذا المثال يثبت عكس ما يدّعيه البوطيّ! ذلك أن بخار الماء، الذي هو ما نسميه سُحُباً، يحتاج إلى أن يفقد حرارة إلى حدّ معيّن حتى يتحوّل إلى ماء، وإذا كان الجوّ المحيط حارّاً فلن يفقد بخار الماء أيّ حرارة، وبالتالي لا يحدث نقصان في حرارته أي لا يحدث تراكم كمّيّ وبالتالي لن يحدث تغيّر نوعي وكيفي ولن يهطل المطر. فارتفاع الحرارة أو هبوطها شرط لتغيّر الكيف.
تتزايد كمّيّة السّخافة والسّطحية كلّما تابعنا أفكار رجل الدّين هذا! فإنّه مثلاً يٌعيد سبب تبخّر الماء إلى " غليان الماء " وليس إلى ارتفاع درجة حرارة الماء! مما يُثبت أن الماركسيّة على خطأ ، كما يزعم. (ص 72)
واللافت للنّظر أنّ البوطيّ يعرض الأفكار الماركسيّة بشكل غير موضوعيّ، أي يقوم بتشويهها، ثمّ يتنقد الأفكار التي عرضها، فيصل إلى نتائج يقول بها العلم، ثمّ يدّعي أن الماركسيّة تُخالف العلم. ولكنّ الحقيقة هي أنّ العلم يُخالف مفهوم البوطيّ عن الماركسيّة ويثبت صحّة الماركسيّة. طبعاً هنا يتخلّى البوطيّ عن مبدئه بشأن البحث الموضوعيّ.
توضيح مفهومي ( الكمّ والكيف ). فالكمّ هو المقدار القابل للقياس بواسطة وحدات قياس مُتعارَف عليها. والمقدار هو كلّ ما يتبدّل من حال إلى آخر،
نقده لقانون نفي النفي
يقول البوطيّ: " نفي النفي وهو الذي يُعبَّر عنه أيضاً بالتّركيب. وهو ثالث النّقلات في الحركة الدّيالكتيكيّة كما يتخيّله أصحاب هذا الرّأي " (ص 74).
الحقيقة أنّ قانون نفي النّفي يشير إلى اتّجاه تطوّر الظّاهرة. ويشمل على ثلاث مراحل، وليس كما يتخيّل البوطيّ من أنّ القانون يشير فقط إلى المرحلة الثّالثة من التّطوّر. (ومن هنا جاء تخبّط البوطيّ في تسمية القانون بـ "نفي النّافي" )
في الصفحة 75 وما يليها يزعم البوطيّ أن أئمّة الماركسيّة أخرجوا الحركة الدّيالكتيكيّة من نطاق الوعي أو الذّهن. وأنّهم أنكروا العلّة الغائيّة للحركة.
وللتّوضيح، فإن الماركسيّة لا تعتبر الوعي خارج التّطور، بل هو أعلى مراحل تطوّر المادّة، والوعي في الماركسيّة خاصّة لأرقى تنظيم للمادّة وصلت إليه. ويلعب الوعي البشري دوراً هامّاً في تطوّر كثير من الظّواهر. ويزداد هذا الدّور بتزايد التّطوّر العلميّ وبالتّالي بزيادة قدرة الإنسان على التّحكّم بظواهر الطّبيعة والمجتمع. ولكنّ الماركسيّة ترفض اعتبار الوعي مبدأً للتّطوّر ومُحدّداً له. حيث ترفض الماركسيّة اعتبار أنّ كلّ ظاهرة لها غاية موضوعة من قبل، وقد وضعتها إرادة ما.
أمّا عن السؤال الذي لم يجد البوطيّ جواباً عليه في "طول الكتب الماركسيّة وعرضها" والذي هو: بأي دفع يتم التطوّر اللولبيّ للظّواهر؟ يجيب هيجل: بواسطة الوعي. أما البوطيّ فلا يجد جواباً عند أئمّة الماركسيّة. ولكنّه نسي أنه ساق الجواب بنفسه عندما عرض قانون وحدة الأضداد وصراعها. إن طبيعة الظّاهرات من حيث هي وحدة ناشئة من محصّلة صراع بين الأضداد تتطوّر بفعل هذا الصّراع. هذا هو الجواب، وليس بالضّرورة أن يكون هناك غاية مرسومة في الوعي حتّى تتطوّر الظّاهرة.
في الصّفحات التّالية تظهر سخافة البوطيّ بكلّ جلاء، باعتباره مُمثّلاً للتفكير الميتافيزيقي المثاليّ. والمشكلة هي في سطحيّة تفكيره التي لا تدعو إلى تصنيفه إلا ضمن المُجادلين التّافهين.
حيث يبدأ بطرح الأمثلة "العلميّة" عن تخامد الطّاقة مُستدلّاً بمثال عن المجموعة الشّمسيّة التي يعتبرها كلّ العالم. بل يرى أن موت الشّخص دليل على الفناء وليس دليلاً على التّطوّر! والمضحك أنّه يعتبر أنّ حبّات الشعير نفسها منذ الأزل ، لم تتطوّر كمّاً ولا كيفاً. ويمدّ عنقه ليسخر من إنجلز فلا يصل إلى أعلى من قدم ذلك الإنسان العظيم. إنجلز ذلك الإمام للحقّ يفتري عليه صعلوك تافه كالبوطيّ.
لا حاجة لتفنيد آراء البوطيّ الباقية لأنّها مضيعة للوقت. وكم كنت أتمنّى أن يكون نقده أعمق لنطوّر فلسفتنا، لكن للأسف خاب أملي حتى هذه الصّفحة. وسأكتفي بالملاحظات المهمّة. ولكي أكون مُنصفاً فإنّ الفائدة الوحيدة حتّى الآن هي ما حرّض ذهني حول فكرة نسبية الزّمان، وحول ما وجدته من ضرورة إعادة عرض الماركسيّة بطريقة جديدة تنطلق من تفنيد آراء مناوئيها من ممثّلي الطّبقات الرّجعيّة والتّابعة.
يقول البوطيّ في معرض نقده لنظريّة دارون: " من ذا الذي رصد السّاعة التي قفز فيها الكائن الذي غدا اليوم إنساناً من حلقة إلى أخرى؟ " (ص 83) التأكيد لي.
الجواب: علم الأحياء والمستحاثّات هو من رصد تلك السّاعة. وهذا العلم هو علم الإنسان، وبالتالي فالإنسان اكتشف ذلك. وبمقارنة ما كانت عليه الكائنات بين ساعة وأخرى، أي بين حقبة وأخرى، نرى كيف حدث تطوّر نوعيّ أوجد هذا التنوّع الحيويّ. ولكن يجب أن يلاحظ البوطيّ وأمثاله أن تطوّر الأحياء نوعيّاً لا يحصل بالسّاعة التي يعدّونها، بل بساعة تناسب هذا التّطوّر. وقد سبق وبيّنت ذلك أعلاه. أمّا التدرّج في التّطوّر فيشير إلى أنّه لا انقطاع في الوجود، ويشير إلى وهم فكرة الكمّ المنفصل التي استخدمها البوطيّ ليثبت أنّ قانون تحوّل التّغيّرات الكمّيّة إلى تغيّرات كيفيّة خاطئ. فالتدرّج في التطوّر يشير إلى أن كلّ انقطاع يكون نسبيّاً.
لا أعرف كيف ينكر إنسان عاقل تنوّع الوجود وتطوّره! هل يجب أن نعاني دائماً من قوى "الأحزاب" التي تتمسّك بما ورثته من علم وتصوّرات وتمنع الحقّ من الظّهور، وتقتل العلماء والأئمّة والنبيّين؟
ويورد البوطيّ دائماً مثاله المُفضّل حول الإنسان الذي يسير إلى الغرب فوق سفينة تتّجه إلى الشّرق ليدحض قوانين الدّيالكتيك! إن القوانين البسيطة في الميكانيك توضح اتجاه حركة الرّاكب من خلال حساب الفرق بين سرعتي الجسمين؛ السفينة والرّاكب. إنّ طالب المدرسة الإعداديّة سيسخر من مثال كهذا.
حتّى هذه اللّحظة فإنّنا نرى نفس التّصور الأخرق: عالم لا روابط فيه وظواهر ثابتة جوهرها منفصل عن سطحها. إذاً، لا جديد.
وينتهي "العلّامة" إلى نقد رائع للماركسيّة: فبما أنّ هناك ظواهر لم تتطوّر بعد أو لم يسجل أحد تطوّرها فالتطوّر الديالكتيكيّ غير موجود. إنّه يذكرني بمن قالوا لموسى أرنا الله جهراُ حتّى نؤمن به، ولم يستخدموا عقلهم فكانوا في ضلالٍ.
نقد البوطيّ لمقولات المادّيّة الجدليّة
يعتقد البوطي أنّ المقولات الفلسفيّة للماركسيّة ناشئة عن الاعتقاد بقوانين الدّيالكتيك. وأنّه يكفي إثبات وهم القوانين حتّى نستنتج وهم المقولات!
ولو مشيت معه في هذا القول للزم أن أقول إنّ نقد البوطيّ لقوانين الدّيالكتيك باطلٌ، كما أثبتّ أعلاه، وبالتالي فإنّ القوانين حقيقةٌ، وليست وهماً. وبالتالي فالمقولات الفلسفيّة الماركسيّة صحيحة، ولا داعي للبحث في انتقاداته لها. لكن، بما أنّه يتابع النّقد فلا بدّ أن نضيّع بعض الوقت في ما يطرحه هذا النّاقد الصّعلوك للماركسيّة.
نقده لمقولة الوجود المادّي
يدّعي البوطيّ أنّ برهان الماركسيّة على قدم المادّة وأسبقيتها على الرّوح يقوم على المعادلة الآتية (حركة +حرارة = حياة) ولا أدري من أين جاء بهذا البرهان! فالماركسيّة تعتمد على معطيات العلوم الطبيعية والإنسانيّة التي أثبتت أنّ وجود الأرض والعناصر المادّيّة سبق ظهور الكائنات الحيّة.
ويُقرّ البوطيّ بأنّنا (أي البشر) لا نعرف حقيقة الحياة، وبالتالي لا نستطيع أن نقول بأنّها نتاج لتطوّر المادّة. وإذا جمعنا بين الفكرتين السّابقتين؛ أي الفكرة التي أثبتها العلم والتي تقول إنّ وجود الموادّ في كوكب الأرض سبق وجود الحياة في هذا الكوكب، والفكرة التي يدّعيها البوطيّ بأنّ الحياة لا يمكن أن تنتج عن تفاعل الموادّ (طبعاً البرهان الذي يسوقه البوطي على ذلك هو جهلنا بماهيّة الحياة واجتماع خمسة علماء في باريس عام 1959 ، وبما أنّنا نجهل ماهيّة الحياة نستطيع أن نؤكّد أنّ ماهيّتها ليست مادّيّة! فأيّ منطق "سليم" هذا وأيّ ذكاء وقّاد؟) ينتج لدينا أنّ الحياة أتت من خارج الأرض أي من الله. ولكن لماذا يستبعد البوطيّ أن تكون إرادة الله شاءت أن تُخلَق الحياة من تفاعل عوامل مادّية؟ وما يضير اللهَ ذلك. ولماذا لا يكون الله قد جعل المادّة أساساً للحياة ووضع لها قوانينها؟ الجواب: لأنّ البوطيّ يريد التّنصّل من فكرة وجود قوانين مُطردة للوجود (كحال جميع الميتافيزيقيّين) وليست القضيّة لها علاقة بالعلم، بل بأفكار مُسبقة ترفض أيّ فكر تحرّري.
وإليكم حجّة أظرف من سابقتها. بما أنّ الرّوح ثمرة من ثمار تطوّر المادّة، وبما أنّ الإنسان فهم حقيقة المادّة، وبما أنّ الإنسان (من أمثال البوطي) لا زال جاهلاً لحقيقة الرّوح، فإنّ الرّوح أسبق من المادّة! (ص 99) فالفرع أسهل فهماً من الأصل.
الجواب: إنّ المعرفة عمليّة مستمرّة متطوّرة، والإنسان يتقدّم في فهم الظّواهر المادّيّة والروحيّة على السّواء. ولا يوجد شيء اسمه حقيقة أو ماهيّة ثابتة للمادّة أو الرّوح يمكن فهمها والذّهاب إلى المنزل. هذا تفكير ميتافيزيقيّ وليس ديالكتيكيّاً. وليست الرّوح ماهيّة منفصلة عن المادّة.
ثمّ يدّعي أنّ الماركسيّة تقول إنّها لا تفهم شيئاً عن الرّوح! والدّليل برأيه ما قاله إنجلز من أن العلوم الطبيعيّة لم تستطع حتّى الآن من تأكيد آليّة تكوّن الحياة. (ص 100) فهل يصدّق أيّ عاقل أنّ كل ما نعرفه عن الشّمس ،مثلاً، ليس حقيقة لمجرّد أنّنا لا تعرف بالضّبط آليّة نشوء الشّمس؟ فعدم توصّل العلم حتّى الآن لتركيب المادّة الحيّة لا يعني أنّنا لا تعرف شيئاً عن المادّة الحيّة. وعدم قدرتنا حتّى الآن على تركيب جهاز عصبي لا يعني أنّنا لا نعرف كيف تحدث الرؤية أو الذّاكرة.
يعترف البوطي مشكوراً أنّ الوعي البشريّ لا يوجد دون بشر! ولكن لا ينفي ذلك وجود وعي آخر! ويعترف أن البشر جاؤوا بعد وجود الأرض. ولكنه يرفض أن يكون وعي البشر ناتج عن تطوّر المادّة. وحجّته في ذلك أنّ العلم لم يكتشف ذلك. ولكنّه يتجاهل أنّ العلم أيضاً لم يكتشف أنّ الوعي الملازم للكائن البشريّ ليس من نتائج تطوّر المادّة.
خلاصة القول: تُعتبر الفرضيّة من مكوّنات أي علم، وهي تسبق اكتشاف القانون. وعندما تكون الظّاهرة قيد البحث العلمي يضع العلماء فرضيات لتفسير الظّاهرة وتوجيه التّجربة والبحث، وتكون هذه الفرضيّات مُعتمِدة على المعطيات السّابقة والملاحظات المجمَّعة والمنطق. (وقد أوضح إنجلز في المثال المذكور أنّ تفسير أصل الحياة يعتمد على الفلسفة الواقعيّة) وبالتالي توضع الفرضيات بناء على ما يتبنّاه الشّخص من منطق ومعلومات عن الظّاهرة، ولا يعني عدم تأكيد الظّاهرة حتّى الآن أنّ الفرضيّة باطلة وأنّ نقيضها هو الصّحيح. ولا يكون اعتراف إنجلز بواقع علميّ ما أن الفرضيّة التي يتبنّاها باطلة، كما يدّعي البوطيّ. بل يعني أنّ إنجلز يتّبع المنهج العلمي والأمانة العلميّة، وأنّه يستخدم المنطق الدّيالكتيكي الذي أثبتت الاكتشافات العلميّة صحّته. كما أنّ انتقاد البوطي لأفكار إنجلز بهذه الطريقة يعني أنّه يُخالف المنهج العلمي – الذي يدّعي أنّه يلتزم به – وأنّ البوطيّ يضع فرضياته عن أنّ أصل الحياة ليس هو المادّة على المنطق الميتافيزيقي، الذي أثبتت الاكتشافات العلميّة خطأه.
ويهزأ البوطيّ من العظيم إنجلز، ولكنه لا يصل في انتقاده إلى أعلى من سفح الجبل الذي يتربّع عليه المعلّم إنجلز.
نقده لمقولة الحركة المطلقة والسّكون النسبي
يُسمّي البوطي هذه المقولة بـ "ملازمة المادّة للحركة والتّغيّر" وتبدو هذه التّسمية غير دقيقة. ولكن البوطيّ يرفض أن تكون الحركة "شكلاً لوجود المادّة" كما تُقرّر الماركسيّة. بل يعتبر أنّه لا يمكن تعميم الحكم بالحركة على كلّ الأشياء والمواد.
يقول البوطيّ: "وأمّا القول بأنّ كلّ شيء يتحرّك ويتغيّر، فهو تعميم خاطئ ينأى عنه الواقع العلمي ... المادّة كلّها تتحرّك وتتغيّر؟ هذا ما لا نملك أي دليل علمي عليه. بل الدّليل العلمي ينقض ذلك ... هذا إلى جانب دليل آخر، لا يمكن دحضه بحال ما، ألا وهو انفصال جواهر الأشياء وماهيّاتها عن بعضها ... فبين الحجر والشّجر والإنسان والحديد تغاير باقٍ مستمرّ على مرّ الأزمنة والدّهور ... إنّ هذا التّغاير الملموس بين ماهيّات هذه الأشياء، ليس إلّا أثراً لما هو ساكن في بنية هذه الأشياء وذرّاتها، فهذا السّكون هو الذي أكسب كلّ شيء من أشياء المادّة المتخالفة جوهره الخاصّ به" (ص 109 و ص 110)
الآن نكتشف لماذا أعطى البوطي تسمية خاطئة للمقولة. فلا يذكر السّكون لأنّه يريد أن يقول إنّ الماركسيّة ترفض وجود السّكون، لكنّ الحقيقة أنّ الماركسيّة ترى في تمايز الأشياء أمراً ناشئاً كمحصّلة للحركة، فهو سكون نسبي وليس مطلقاُ.
أمّا القول بوجود ماهيّات مطلقة للأشياء على مرّ الأزمنة والدّهور فهو تصوّر يتناقض مع واقع التّطور ومع التّفكير العلمي.
وبالنسبة للمثال الذي يذكره البوطي يتوضّح لنا أنّ البوطيّ يفهم من مفهوم الحركة أمرين، الحركة الميكانيكيّة والحركة الجزيئيّة (التفاعلات الكيميائيّة). ولكن للحركة ستّة أشكال مختلفة (كالحركة الاجتماعيّة) وبالتالي يظهر لنا مدى سخافة هذا النّقد. وتُصبح هذه الحجّة "الدّامغة" حول وجود ماهيّات للأشياء غباء ما بعده غباء، إذ فيه إنكار للتّطوّر، وكأنّ أشياء العالم أنواع ثابتة ومحصورة. فلا تظهر أنواع جديدة ولا تفنى أنواع، وأي طالب في الصّفوف الابتدائيّة سيسخر من هذا القول.
ثمّ ينتقل لـ"نقد" لينين! وبنفس الذّكاء يدحض البوطي لينين. لنر هذه التحف البوطيّة.
يقتبس البوطي من لينين فقرة يشير فيها إلى أنّ الأشياء لا تمتلك جواهر ثابتة. وقد فات البوطيَّ أنّ لينين ينكر وجود "جواهر ثابتة" ولكنّه يرى أنّ العالم ينعكس في ذهن البشر على شكل أشياء لها جواهر ثابتة. وما يريد لينين أن يؤكده هو أنّ الانعكاسات في الذّهن تجعل الجهلاء بالعلم يعتقدون أن العالم الحقيقي هو هذه الانعكاسات. ولا ينكر لينين أنّ الأشياء لها جواهر، بل ينكر الجواهر الثّابتة. بمعنى أن الظّواهر تمتلك ماهيّات تميّز بعضها عن بعضها الآخر، لكن هذه الماهيّات هي أوّلاً محصّلة للتّناقضات في جوهر الشيء، وثانياً لن تبقى على "مرّ الدهور والأزمان على حالها".
وعندما يشير لينين إلى أنّ التناقض يحصل في جوهر الأشياء فإنّه يُقرّ بوجود جوهر للشّيء ولكنّه ليس ثابتاً. إذاً التّناقض ليس عند لينين بل في فهم البوطيّ. ويثبت البوطيّ مرّة أخرى أنّه في قاع الجبل الذي يتربّع عليه المعلّم العظيم لينين.
وأنا مضطرّ أن أقتبس طويلاً هنا حتّى يفهم القارئ مدى ضعف ملكة الاستنتاج عند البوطيّ، وبالتالي ليفهم كم ابتعد عن المنطق في نقده، بالإضافة إلى جهله بمعطيات العلم. وأحبّ أن أذكّر أنّ البوطيّ افتتح نقده هذا بالقول إنّ ميزان الحكم لديه هو العلم والمنطق. ولكن كيف سنصل إلى حكم صائب معه وهو لا يعرف كيفيّة استخدام هذا الميزان.
يكتب البوطيّ: " إلى أن يقول (أي لينين) (فوراء تنوّع الظّاهرات العديدة يكمن الجوهر. أي صلتها الدّاخليّة: أساسها وسنّة تطوّرها ... وهكذا ترون أنّ الجوهر تعبير عن الصّلة الدّاخليّة للعالم الموضوعيّ، وأنّه أساس تنوّع الظّاهرات. أمّا الظّاهرات فهي مظهر للجوهر، الشّكل الخارجيّ لتجلّيه.. إنّ معرفة الجوهر يقتضي عملاً كبيراً ومُعقّداً يبذله العلماء .. إنّ اكتشاف الجوهر يتطلّب دراسة علمية على أساس النّشاط العمليّ.) ... فإذا أردنا أن نقف قليلاً عند هذا الكلام الثاني، فإنّنا سنصل بلا ريب إلى النتائج التّالية:
أولاً- في دنيا المادّة التي نقلّبها وندرسها، جانب خفيّ عنّا، لم ندرك شيئاً منه بعد. " (ص 113)
أنا أقول أنّه في دنيا المنطق لا يمكن أن نستنتج من كلام لينين أعلاه أنّ هناك شيء خفيّ لم ندرك شيئاً منه بعد. بل يؤكّد لينين أنّ الإنسان (العلماء) يستطيع أن يعرف جواهر الظّاهرات إذا استخدم العلم على أساس النّشاط العمليّ. بل إنّ كلّ ما توصّل إليه العلم من اكتشافات كثيرة يقوم على هذا الأساس، ويكشف لنا "الجانب الخفيّ" للظواهر، أي أنّ النتيجة المنطقيّة هي عكس ما استنتجه الفقيه البوطيّ.
ويتابع البوطيّ: " يعترف هذا الكلام ... بأنّ معرفتنا نسبيّة تتطلّب مزيداً من البحث والتعمّق"(ص 114) والتّأكيد لي.
لا شك أن كلّ معرفة علميّة هي معرفة نسبيّة؛ أي مطلقة ضمن ظروف مُعيّنة، ولا يمكن تعميمها على كلّ الظواهر في جميع الظّروف. فهناك دائماُ شروط لحدوث الظّاهرة يجب أخذها بالحسبان. هذا معنى النسبيّ والمطلق. لكنّ البوطي يضيف بشطارة عبارة "تتطلّب مزيداً من البحث والتعمّق" ليوهمنا بأن المعرفة النسبيّة تعني المعرفة غير اليقينيّة. وهذه مغالطة لا تنطلي على عاقل.
ويكرّر البوطيّ نفس الخطأ بأكثر من مكان، أي اتّهام لينين بأنّه ينكر الجوهر والماهيّة، وقد تبيّن لنا أنّ لينين يعترف بوجود جوهر للأشياء (صلات داخليّة) ولكنّه ينكر وجود جوهر ثابت بالمطلق.
وأنا أقول: لماذا يرفض مُعظم الفلاسفة البرجوازيّين ورجال الدّين فكرة التّطوّر، أي الانتقال من نوع إلى آخر؟ هل تتنافى هذه الفكرة مع الإرادة الإلهية حتّى ينكرها المتديّنون؟
الجواب: لا تتناقض فكرة التّطوّر مع وجود خالق للكون ذي إرادة مُطلقة. فما الذي يمنع مشيئة الله أن تخلق ظروفاً مناسبة لنشوء الحياة من وحيدات الخليّة؟ لا شيء. فيمكن لله أن يخلق تلك الظّروف لتتطوّر المادّة وفق قوانين الدّيالكتيك. وليس بالضرورة أن يبدع الله ماهيّة ثابتة لكلّ نوع. ولكنّ الاعتراض على نظريّة التّطوّر – وهو اعتراض عبثي لأنّ البشر يتزايدون اقتناعاً بصحّته – ناجم عن الخوف من الاعتراف بهذه النّظريّة في العلاقات الاجتماعيّة. عندئذٍ لن تبقى مراتب البرجوازيّين وخدمهم ثابتة، بل سيتزعزع هذا الموقع الذي يسمح لهم باستغلال ملايين النّاس. ولا يمكن لهم أن يتصوّروا أنفسهم بنفس السّويّة مع الحثالة الفقراء. لذلك يفترون على إرادة الله لتقديس الواقع الطبقيّ القائم.
إنّ المادّيّة الجدليّة أمضى سلاح بيد الفقراء والمُضطّهَدين لبناء مجتمع تسوده العدالة الاجتماعيّة، وتنتهي فيه الصّراعات بين البشر.
نقده لمقولة سرمدية العالم ووحدته
العلاقة بين المتناهي واللامتناهي، كما أراها، هي أنّ المتناهي يشير إلى الحدود المكانيّة والزّمانيّة للظّاهرة بواسطة علاقاتها بالظّواهر الأخرى.
فانتهاء ظاهرة المجتمع الإقطاعيّ في أوروبّا تعني بداية ظاهرة المجتمع الرّأسمالي فيها، فالنهاية هي البداية. ولا يمكننا تحديد هذه اللّحظة إلّا اصطلاحاً؛ لأن المقياس الزّمني الصّالح لتمييز الحُقب التّاريخية يُقاس بالعقود.
فاللّامتناهي يُعبّر عن التتابع المستمرّ للظّواهر، إذ لا يمكن أن تنتهي ظاهرة إلّا ببدء ظاهرة أخرى. وطالما أنّ وجود ظاهرة ما ليس وجوداً بذاتها، بل إنّ ماهيّة الظّاهرة تتحقّق بغيرها من الظّواهر.
بالنّسبة للعالم ككلّ، فإن العقل يستطيع أن يسلم بأنّ أوّل جوهر كان موجوداً هو الرّوح، الفكر المُطلق، الله. وأنّ العالم المادّي بدأ من حيث انتهت إليه هذه الرّوح. ويمكننا هنا أن نسير بطريقين:
الأوّل- هو أنّ المادّة جاءت كنهاية للرّوح، وبدأت تتطوّر كظاهرة لها قوانينها الخاصّة، دون تبادل التأثير مع الرّوح، لأنّ الروح نُفيت وانتهت. وهذا الافتراض يُشكِّل أساس المذاهب التّوفيقيّة.
كما تُشكّل أساس نظرات هيجل إذا افترضنا أنّ للعالم المادّي نهاية تبدأها الرّوح من جديد.
الثّاني- هو أنّ المادّة بدأت من الرّوح كنتيجة لها، لكنّها ليست نتيجة ناجزة، بل تبقى تحت سيطرة الرّوح وتأثيرها. وهذا أساس المذاهب المثاليّة التي تجعل للعالم المادّي ككلّ بداية، ولا تجعل له نهاية. وهنا تكون الرّوح جوهر الوجود، وتكون المادّة ظاهر الوجود.
كما يستطيع العقل أن يُسلّم بانّ أوّل جوهر كان موجوداً هو المادّة، وبفعل تطوّرها – الذي يشكل أحد خصائصها الجوهريّة – وصلت إلى درجة أصبحت لها وظائف عالية التّطوّر، وجملة هذه الوظائف وما ينتج عنها هو الروح عموماً أو الفكر. وأنّ هذه الرّوح أصبح لها قوانين تطوّر خاصّة وتتبادل التأثير مع المادّة. وهذا أساس المذاهب المادّيّة.
كما يستطيع العقل أن يُسلّم بأنّ أوّل جوهر كان موجوداً هو جوهران؛ المادّة والرّوح. وأنّ ثمّة تبادل للتّأثير بينهما، ولكنّهما جوهران مُستقِلّان. وهذا أساس المذاهب الثّنيويّة.
إذاً، يستطيع العقل أن يسلّم بما يشاء من التّصوّرات عن أصل العالم وطبيعته. ولكنّه يصبح مُلزماً باستخراج التّفسيرات المنطقيّة التي تستند إلى هذه التّصوّرات بغية فهم الواقع الذي يحيط به، والمستقبل الذي ينتظره. فإذا كان النّشاط العمليّ للإنسان مُؤيّداً لها فهذا يعني أنّها تفسيرات صحيحة، وأنّ المُسلَّمات التي تستند إليها علميّة وليست وهماً. وذلك بشرط استخدام التّفكير بشكل صحيح.
وبالتّالي تُصبح الادّعاءات حول أنّ العلم لم يُثبت صحّة مُسلّمة ما، لذلك يجب عدم الأخذ بها، كلاماً فارغاً، وعدمُ فهمٍ للمنهج العلميّ. فالعبرة في النّظريّات المبنيّة على هذه المسلّمات، وفي مدى تطابقها مع الخبرة العمليّة، وعندئذٍ نستطيع أن نحكم على المسلّمات.
لننتقل الآن إلى ما قاله البوطيّ في نقده الموجّه إلى الماركسيّة في ما يخصّ "سرمديّة العالم ووحدته":
ينسب البوطي إلى الماركسية الكلام الآتي: "دليلهم الأوّل (يقصد دعاة الديالكتيك، وكان الأحرى أن يقول: الديالكتيك المادّي، حتى لا نسيء فهمه) أنّ المكان لا نهاية له ولا حدود، والزمان سرمديّ لا أوّل له ولا نهاية. لذا كان العالم أيضاً مثل المكان والزّمان سرمديّا لا أوّل له ولانهاية." (ص 116)
من أين استقى البوطي هذا الدّليل؟ نعود إلى قصّة إهمال التّوثيق العلميّ هنا!
فهل صحيح أنّ الماركسيّة تنتقل من إثبات لانهائيّة الزّمان والمكان إلى استنتاج لانهائيّة المادّة؟ بحيث يكفي دحض المقدّمة لإثبات بطلان النّتيجة؟
أولاً- كلّ "أئمّة" الماركسيّة يقولون إنّ الزّمان والمكان شرطان لوجود المادّة. وهذا يعني أنّ المادّة لا يمكن أن تكون بلا مكان ولا زمان، وأيضاً لا يوجد زمان ولا مكان خاليان من المادّة.
أقول: إذا توافر المكان والزّمان فالمادّة تكون موجودة لتوفّر شرطيها، وإذا وُجدت المادّة فالزّمان والمكان موجودان حُكماً؛ لأنّهما شرطان أساسيّان لوجود المادّة.
وعندما يتحدّث إنجلز عن "الزّمان المحض" فإنّه يتحدّث عن مفهوم نحصل عليه بالتّجريد. ولا يقصد وجود زمان مستقلّ عن وجود المادّة. ولتوضيح ذلك نأخذ المثال الآتي:
مفهوم "الإنسان" هو مفهوم مُجرّد يحصل عن قيام الشّخص باستبعاد كلّ الصّفات المتباينة بين النّاس والإبقاء على الصّفات المشتركة بين النّاس، فتحصل على المفهوم العامّ للإنسان. وهذا لا يعني أنّ في الواقع شخصاً مُجرّداً، عامّاً؛ ولا يعني أنّ المفهوم الذي حصلنا عليه يتألف من عناصر خياليّة. فالخصائص العامّة للإنسان موجودة بشكل موضوعي في جميع النّاس، لكنّها لا تظهر لنا لوحدها في شخص ما واقعي، بل تظهر مع الصّفات الخاصّة بهذا الشّخص أيضاً.
فمفهوم "الإنسان" المحض ليس مُستقلّاً عن النّاس، لكنّه لا نجد في الواقع فرداً إنساناً محضاً. وإذا طبّقنا ذلك على مفهوم "الزّمان" سنحصل على مفهوم عامّ يشمل كلّ الموجودات، وبالتّالي هو مفهوم عامّ بالمطلق، فنقول إنّ هذا المفهوم يشير إلى الزّمان المطلق، المحض. وهو مفهوم له ما يقابله في الواقع الموضوعيّ؛ لأنّنا جرّدناه من هذا الواقع.
وعندما يستطيع شخص ما أن يشير إلى كائنٍ ما يتّصف بالوجود خارج الزّمان، يصبح مفهوم الزّمان ليس مفهوماً مًطلقاً!
الزّمان يشير إلى تتابع الحوادث، فنقول إنّ محمّداً وُلِد بعد وفاة عيسى. ونقيسُ الزّمان بالتّغيّر، فاليوم تعبير عن انقضاء دورة كاملة للأرض حول نفسها ... إلخ. وإنّ إنكار الوجود الموضوعيّ للزّمان يعني إنكار تتابع الحوادث، وهذا لا ينكره عاقل.
والمكان يشير إلى وجود الأشياء بمحاذاة بعضها، ونقيس المكان، كالحجم والطّول والمحيط، بواسطة مقارنة الأشياء ببعضها، ثمّ اتّخاذ وحدات اصطلاحيّة للتّفاهم بين النّاس.
فتلاحظ أنّ الارتباط وثيق بين الزّمان والمادّة، وبين المكان والمادّة. ولا يصحّ القول بأنّ الماركسيّة تجعل انفصالاً بين الزّمان والمكان من جهة والمادّة من جهة أخرى. وممّا سبق نستنتج أنّ الماركسيّة لا تعتبر الزّمان والمكان جوهران مستقلّان عن المادّة. ويتضح، إذاً، بطلان ادّعاء البوطي بأنّ الماركسيّة أثبتت لانهائيّة المكان والزّمان ثُمّ استنتجت لانهائيّة المادّة.
ثم يتابع البوطي القول: "دليلهم الثّاني (يقصد دعاة الدّيالكتيك) ... إذا كان العالم بهذا الاتّساع الكبير فذلك يعني أنّ الكون ليس له حدّ أو نهاية أو تخوم!!" (ص 116 -117)
هنا يستخدم البوطي (موجز المادّيّة الديالكتيكيّة) كمرجع لاستقاء هذا الدّليل، ولا أعرف لماذا تخلّى عن مصادر المادّية الدّيالكتيكيّة لـ "أئمّة" الماركسيّة.
أقول: كل النتائج التي توصّل إليها العلم حتّى الآن تشير إلى عدم وجود نهاية للكون، كما تشير إلى عدم وجود جزء لا يتجزّأ للموادّ. فما يُقرّره العلم حتّى الآن أن الإنسان لم يصل إلى إثبات نهائيّة الكون. وبالتّالي لا يوجد أيّ شيء يُلزم النّاس بالقول أنّ الكون متناهٍ. فيحقّ لأيّ شخص أن يفترض لا نهائيّة الكون ويبني على هذا الافتراض تصوّراته عن العالم.
وبالنّسبة لمثال (النّمل) الذي يورده البوطي، ويقول أنّ النّمل ينبهر بحجم الجبل الذي يعيش فيه، ويتوهّم بأنّ الجبل لا نهاية له، ولكنّ الحقيقة أنّ الجبل له نهاية. فإنّ هذا المثال غير موفَّق؛ لأنّ وجود نهاية للجبل لا تنفي وجود جبال أخرى وأودية ومدن ودكاترة جامعات وناقدين للماركسيّة.
وإذا عدنا إلى عقدة البوطيّ نفسها، أي إلى القرآن الكريم، سنجد ما يلي:
النّاس بعد يوم القيامة يعيشون حياة خالدة، لانهاية لها، بعضهم في النّعيم وبعضهم في الجحيم. فالمادّة لن تتحوّل إلى العدم، والزّمان لا نهائيّ.
وفي أكثر من مكان يشير البوطيّ إلى أنّ الزّمان والمكان ملازمين للمادّة في الوجود، (وهو يعتقد أنّه اكتشف شيئاً جديداً يخالف الماركسيّة، ولكن أثبتّ أنّ هذا لا يخالف الماركسيّة؛ بل يخالف الأفكار التي شوّهها البوطي ثمّ نسبها إلى الماركسيّة) وعندما نعود إلى القرآن الكريم سنجد أنّ الملائكة، المخلوقة من "نار"، تُسبّح لله وتتناقش معه. وهذا معناه أنّ وجود مخلوقات تقوم بفعل ما لا بدّ أنّها تستغرق زمناً فيه، وبالتّالي فالنّار مادّة موجودة قبل خلق الإنسان والسماوات والأرض.
ثمّ يتابع البوطيّ: "أرأيت إلى هذا الدّليل الطّريف! .. إنّه ينتمي إلى ذلك النّوع من الأدلّة التي تكون جاهزة عند بعضهم ليواجهوا بها أنصاف المُثقّفين والمُتعلِّمين، أولئك الذين قد يجرفهم منطق التّهويل وإثارة الغرائب، فينسون موازين العلم ومقاييس المنطق" (ص 123)
إذاً، ما يُقدّمه العلم من اكتشافات تُثبت أنّه لا دليل على نهائيّة الكون والمادّة، بل كلّ الدّلائل تُشير إلى لانهائيّة الكون والمادّة، وهذا منطق العلم، "دليل طريف" .. "نوع من الأدلّة الجاهزة" .. "منطق التّهويل وإثارة الغرائب" وبالتّالي يصبح منطق العلم مُخالفاً لـ "موازين العلم ومقاييس المنطق" ، فيا له من "نقض" طريف!
يتابع البوطيّ: "في المنطق قاعدة .. تقضي ببطلان قياس الغائب على الشّاهد ... (وهي) تهدي الإنسان العاقل إلى الحواجز الخطيرة التي من شأنها أن تقف بين حدود المعلوم والمجهول. ثمّ من شأنها أن تدفعه إلى اقتحام تلك الحواجز بالدّراسة والبحث ما أمكنه ذلك. " (ص 124)
الشّاهد في هذا الدّليل هو ما اكتشفه العلم من عدم وصولنا إلى نهاية للكون والمادّة. والغائب هو ما إذا كانت هناك نهاية للكون والمادّة أم لانهاية لهما. ولسوف نتابع نتائج "الدّراسة والبحث" لنصل إلى هذا المجهول. لكنّ المفاجأة أنّ البوطيّ ينهي كلامه هنا دون أن يفيدنا بما وصلت إليه دراسته وبحثه، بل يكتفي بالقول "فهذا الدّليل الثّاني أوضح في بطلانه من الدّليل الأوّل" (ص 124)
يقول البوطيّ: " دليلهم الثّالث أنّ العالم لو قُدّر أنّ له أوّلاً ابتدأ منه، لكان ذلك خدشاً في بناء الدّيالكتيك الذي يجب ألّا يُخدَش، ولرأينا أنفسنا ملجئين إلى الإيمان بضرورة وجود الخالق الذي يجب (من وجهة نظرهم) عدم صرف الفكر إليه سلفاً" (ص 117)
ما هو الدّيالكتيك؟ هو المنطق الذي يعكس التّطوّرات الحقيقيّة للعالم. الدّيالكتيك هو ذروة تطوّر المنطق والوعي البشريّ. وعندما ترفض الماركسيّة حُكماً ما لأنّه يُخالف المنطق، فهذا أمر طبيعي؛ إذ كيف تطلب من شخص عاقل التّخلّي عن عقله، والاعتراف بأمرٍ يُخالف قوانين العقل، التي هي انعكاس لقوانين الواقع.
لكن البوطيّ يريد أن يصوّر الأمر على النّحو الآتي:
لقد وضع ماركس نظريّة سمّاها المادّيّة الدّيالكتيكيّة، وقرّر ماركس أنّ هذه النّظريّة صحيحة وكلّ ما يخالفها باطل! وتجاهل البوطيّ أنّ هذه النّظريّة جاءت امتداداً لآخر ما توصّل إليه العلم والفلسفة والتّجربة العمليّة للبشريّة. وبالتالي هي المنطلق لفهم أي موضوع أو ظاهرة.
يتابع: "وهكذا فإنّ أيّ برهان – مهما كان في نصاعته وقوّته العلميّة – يتحوّل إلى هباء ... إذا تبيّن أنّه يؤيّد فكرة وجود خالق" (ص 127)
الماركسيّة اعتمدت على العلم في بناء منطقها، واستنتجت من هذا المنطق أنّ الوجود لم يكن ساكناً يوماً، ولا يمكن الانتقال من السّكون (الافتراضي) إلى الحركة، لذلك تُصبح فكرة وجود كائن يُحرّك الوجود ويعطيه الدّفعة الأولى غير منطقيّة. ولم تفترض عدم وجود خالق أوّلاً ثم بنت منطقها، هذا فهم مقلوب للماركسيّة. أمّا الادّعاء بأنّ الماركسيّة ترفض أيّ برهان "مهما كان في نصاعته وقوّته العلميّ .. إذا تبيّن أنّه يؤيّد فكرة الخالق" فهو ادّعاء باطل؛ لأنّ الماركسيّة تجعل من العلم معياراً وحيداً لصحّة الأفكار. ولكن لا يوجد دليل علميّ على ذلك.
والآن سيعطينا البوطيّ برهاناً على نهائيّة العالم. حيث يقول: "إنّ تسلسل العلل المتوالدة من بعضها إلى ما لانهاية أمر باطل مستحيل. تجلّى ذلك في الأرقام الرّياضيّة، وقضايا المنطق والمعرفة، وسنن الكون والطّبيعة" (ص 129)
وهذا هو البرهان على ما سبق:
1- في مجال الرّياضيّات: مهما وضعنا أصفاراً على السّبّورة فلا قيمة لها إلّا إذا وضعنا رقماً ذا قيمة على يسارها، وتنتهي السّلسلة إلى قيمة مُحدّدة. وأقول: يستطيع الشّخص أن يُنهي أيّ سلسلة رياضيّة عند القيمة التي يختارها. ولكن هذا لا يعني أنّ السّلسلة انتهت. فكلّ ما فعله ذلك الشّخص الذي جعله البوطيّ يكتب أصفاراً كثيرة على السّبّورة، ثُمّ أجبره على أن يضع الرّقم واحد على اليسار، هو أنّه كتب رقم مليون على السّبّورة. لكنّ الرّياضيّات تقول أنّنا عندما نختار أيّ قيمة كبداية للعدّ فإنّها تُعتبر بداية اصطلاحيّة تلحقها قيم لانهائيّة وتسبقها قيم لانهائيّة. وعلى كلّ حال فقد ردّ إنجلز على حجّة دوهرنغ هذه بما فيه الكفاية، والبوطيّ يُكرّر الحجّة فقط (والبوطي معجب بدوهرنغ الثّائر على الماركسيّة، ولا يأخذ عليه سوى نقطة "ضعف واحدة، وهي ... إنكار وجود الله!)
2- في مجال المنطق ومنهج المعرفة: يرى البوطيّ أنّ المعرفة لا بدّ أن تبدأ من بديهيات أو براهين يقينيّة، فكلّ نظريّة نطرحها لا بدّ أن نعيدها إلى بديهيّات أوّليّة. وبالتّالي فلكل شيء بداية في مجال المنطق ومنهج المعرفة. لكنّ البديهيّات نفسها ثمرة تطوّر طويل للمعرفة، وليست حقائق فطريّة في العقل. وكلّ معرفة تتكوّن من اتّصال مستمرّ للطّفل بالواقع المحيط به حتّى يكتسب تلك البديهيّات والأفكار التي يعتمد عليها في تطوير معرفته. وإذا عدنا بالسلسلة إلى الماضي نصل إلى الإنسان الذي لم يكن يمتلك سوى معرفة حسّيّة، وكان أساس البرهان لديه الخبرة المفيدة فقط، وليس البديهيّات.
3- في مجال المادّة والطّبيعة: لا توجد أشياء ذات قيمة في عبارات البوطيّ، مجرد هجوم تافه على إنجلز. ويكفي أن نقرأ كتاب إنجلز (ضدّ دوهرنغ) حتى نضحك على البوطيّ كثيراً. ولكنّه يذكر أمراً يتعلّق بالعلم! يقول بأنّ العلم يؤكّد أنّ الطّاقة تتلاشى، وهذا دليل علميّ على أنّ الكون يتلاشى، وسيصل إلى نهايته. هنا لا بدّ أن نتابع ما قاله العلم. فالذي يتلاشى هو الطّاقة في المجموعة الشّمسيّة، وبالتّالي فهذه المجموعة لها عمر، وليست أبديّة. هذا إثبات لقانون الدّيالكتيك، فكلّ شيء يتغيّر. ولكنّ الطّقة تذهب في الفضاء الواسع لتزداد في مجموعة أخرى.
يختتم البوطيّ هذا القسم بالقول: "إنّ كل ما نملكه في جعبتنا عن الماضي السّحيق الذي لا أوّل له والمستقبل اللّانهائي، هو "الجهل" .. أجل، هو الجهل. وما كان الجهل يوماً ما دليلاً علميّاً على شيء. " (ص 135)
وأقول: الماركسيّة تنطلق من العلم، وتعكس في المنطق قوانين العلم، ثمّ تحكم بموجب هذا المنطق على المجهول. أليست مهمّة المنطق الانتقال من المعلوم إلى المجهول بواسطة قواعد معيّنة؟ أمّا الانطلاق من دعوى الجهل وعدم قياس الغائب على الشّاهد فهي إنكار للعلم والمنطق اللّذان ثقب بهما البوطيُّ آذانَنا منذ بداية كتابه.
ملاحظة: عندما لا يجد البوطي ما يريده عند "أئمّة" الماركسيّة يلجأ فوراً إلى موجز المادّية الديالكتيكيّة أو بليخانوف أو كاسالابوف. وآراء هؤلاء ليست مُلزمة لماركس وإنجلز، لأنهم أتوا بعد وفاة المعلِّمين العظيمين. ثمّ لا ننسى أنّ لينين انتقد انحراف بليخانوف عن الماركسيّة في مجالات محدّدة.
نقده لمقولة "الوعي وظيفة الدّماغ"
ترى الماركسيّة أنّ الدّماغ البشريّ يمتلك خصائص تجعله قادراً على القيام بوظائفه المختلفة، كالذّاكرة والتّخيّل والتّفكير والإدراك ... إلخ، وهذه الوظائف تكوّن الوعي. والعلم يؤكّد هذا الرّأي. وهكذا نجد أنّ الوعي لا يتكوّن دون وجود دماغ يقوم بوظائفه الطّبيعيّة.
لكنّ الوعي الذي يتوصّل إليه كلّ شخصٍ يعتمد على بيئته، أي على ظروف المجتمع الذي يعيش فيه هذا الشّخص، مستخدماً ملكاته الحسّيّة والعقليّة، ومعتمداً على اللّغة في التّواصل مع الآخرين. ويصبح هذا الوعي الحاصل أساساً لسلوك الشّخص. ويؤثّر الشّخص باستمرارٍ على بيئته.
نعود إلى ما يقوله البوطيّ، حيث يكتب: "القاعدة العلمية المتّفق عليها تقول: عدم الوجدان لشيء لا يستلزم عدم وجوده في واقع الأمر" (ص 137). وهو يقصد أنّ عدم معرفة شيء ما لا يعني أنّ هذا الشّيء غير موجود، وهذا صحيح ولكنّه نصف الحقيقة! فعدم معرفتنا لشيء لا يعني أنّه موجود أيضاً. أي من الممكن أن يكون موجوداً أو غير موجود.
ولكن، توجد قاعدة في المنهج العلمي تقول: يمكن تعميم القوانين العلميّة على جميع الظّواهر المماثلة لعيّنة البحث.
مثال: عند دراسة أحد أنواع الأشجار تبيّن أنّ شكل أوراقه إبريّة، فأطلقنا على هذه الشّجرات اسم (الصّنوبر). وبالتّالي نقول إنّ كل شجرة لها أوراق إبريّة اسمها شجرة صنوبر، حتّى لو كانت بعيدة عنّا ولم ندرسها. وهذه قاعدة في العلم نُسمّيها قاعدة التّعميم. فقد نقلتنا هذه القاعدة من معرفة (الشّاهد) إلى الحكم على الغائب، سواءً كان موجوداً هذا الغائب أم لا.
وكذلك الحال بالنّسبة للإنسان، فالوعي لا يكون إلّا بوجود إنسان يحمل هذا الوعي. وسواء افترضنا وجود كائنات واعية أخرى أم لا، فهي كائنات بشريّة. وحتّى لو حملت صفات أخرى – كأن تكون بعين واحدة وآذان طويلة – فهي كائنات مادّية أوّلاً، وهي كائنات واعية من نوع الإنسان ثانياً.
ولكن هل نستطيع القول بوجود كائنات واعية غير مادّيّة؟ هذا الافتراض لا أساس له في العلم. فالعلم لم يكتشف أيّ كائن واعٍ لا مادّيّ حتّى اليوم، ولذلك لا نستطيع تطبيق قاعدة التّعميم العلميّة.
لاحظوا منطق البوطيّ. يقول، بما معناه، أنّه بما أنّنا لم نكتشف وجود كائنات غير مادّية وغير واعية حتّى الآن فإنّنا لا نستطيع أن ننفي وجود كائنات غير مادّيّة وغير واعية! ولكن، هل نستطيع أن نُثبت وجود هكذا كائنات في الحقيقة؟ فالنّتيجة المنطقيّة التي لا بُدّ أن نصل إليها هي أنّنا لا نستطيع الحكم على وجود الوعي منفصلاً عن المادّة، ولا نستطيع أن ننفيه. وهذا ما يُقرّ به البوطيّ حين يستأنف كلامه بالقول: "وهكذا، فمعلوماتنا لا تعطينا إلّا أدلّة تتعلّق بالرقعة التي تمتدّ إليها درايتنا عن طريق التّجربة والتّطبيق، ولكنّها لا تُعطي أيّ دليل سلبي أو إيجابيّ فيما وراء ذلك النّطاق، وهو ما نسمّيه بساحة المجهول" (ص 137).
كلّ هذه المحاكمات لا تُثبت خطأ المقولة الماركسيّة حول ارتباط الوعي بالدّماغ. ولكن لا يحقّ للبوطيّ أن يهزأ من التّعميم العلمي بدعوى بطلان قياس الغائب على الشّاهد، بل يحقّ لنا أن نهزأ من القاعدة الجديدة التي اخترعها البوطيّ، وهي قياس الغائب على الغائب لعدم اكتشاف الغائب من الشّاهد!
ويعطينا البوطيّ طريقة جديدة في قياس الذّكاء والوعي، لا يطرحها أيّ عالم أو طالب علم، حيث يقيس الذّكاء والوعي بـ ... وزن المخّ. حيث يكتب: "من المعلوم أنّ كمّيّة المخّ "الدّماغ" في كثير من الحيتان مثلاً، قد تربو على خمسة كيلو غرامات. على حين لا تتعدّى في النّملة جزءاً من خمسة وعشرين ألفاً من الغرام. وليس من إنسان يُصدّق أنّ الحوت أذكى من النّمل بما يبلغ 125 مليون مرّة" (ص 138).
ويتابع القول بأنّ قانون انتقال التّغيّرات الكمّيّة إلى تغيّرات كيفيّة يقتضي بـ "أن يكون الدّماغ كلّما ازدادت كمّيّته، ذا كيفيّة إنتاجيّة أرقى، ذلك لأنّ زيادة الكمّ تستلزم تطوّراً إيجابيّاً في الكيف. ومن هنا كان من المفروض أن يتمتّع الحوت بذكاء يفوق ذكاء النّمل بملايين المرّات، ويفوق ذكاء الإنسان بآلاف المرّات. وهو ما يُكذّبه الواقع المحسوس" (ص 138).
وبغضّ النّظر عن دقّة المعلومات التي قدّمها البوطي عن أوزان المخّ عند الحوت والنّمل والإنسان، فإنّه يجب أن نلاحظ أنّ المخّ ليس هو نفسه الدّماغ، بل هو جزء من الدّماغ. بل المقصود بالدّماغ خصوصاً هو قشرة الدّماغ، التي تتألف من خلايا عصبيّة تتركّز فيها وظائف الدّماغ. وعندما نقارن الدّماغ عند نوعين من الحيوانات من النّاحية الكمّيّة يجب أن نستخدم عدد الخلايا كمعيار للمقارنة وليس وزن الدّماغ. والعلم يوضّح الفرق الهائل بين عدد خلايا دماغ الإنسان وعدد خلايا الحيوانات الأخرى. وهذا ما يُفسّر "الواقع المحسوس" الذي يشير إلى تفوّق الإنسان على باقي الحيوانات بالوظائف العقليّة، وبالتالي اختلافه النّوعيّ عنهم.
هل يصحّ، مثلاً، أن نقارن بين عمر زيد وعمر عبيد بالوزن، أم يجب أن نستخدم الزّمن منذ تاريخيّ ولادتيهما؟ طبعاً نستخدم الزّمن. وكذلك يجب أن نستخدم عدد الخلايا في الدّماغ للمقارنة بين درجة تطوّر الدّماغ عند نوع من الحيوانات ودرجة تطوّرها عند نوع آخر؛ لأنّ الخليّة العصبيّة هي أساس العمل العصبيّ وليس وزن المخّ بالغرام.
ثمّ يطرح البوطيّ سؤالاً عن معنى "مادّة عالية التّنظيم". حيث أنّ التّنظيم موجود في كلّ أجهزة الجسم وبشكل عالٍ جدّاً أيضاًن فلماذا ينتج الوعيُ عن الدّماغ فقط؟
لا ترتبط الوظائف العصبيّة بدرجة تنظيم الجهاز العصبيّ فقط، بل بطبيعة الخلايا العصبيّة أيضاً. فطبيعة الخلايا العصبيّة تختلف عن طبيعة باقي خلايا الجسم، كالخلايا العظميّة والدّمويّة والعضليّة ... إلخ. ولكنّ التّنظيم الأكثر رقيّاً للدّماغ يظهر في أنّ عدد خلايا دماغ الإنسان أكبر بكثير من عدد الخلايا العصبيّة عند باقي الحيوانات. وهذا يجعل العلاقات بينها أكثر بكثير، وبالتّالي يعطينا ذلك بنية أكثر رقيّاً وتعقيداً، وهذا ما يؤكّده "الواقع المحسوس".
ويعتقد البوطيّ، مخطئاً، أنّ التّفكير ونشاط الدّماغ كلّه لا يستنفذ أيّ طاقة، معتمداً على قول أحد العلماء (كوريل). ولكنّنا نعرف بأنّ الإنسان يستهلك طاقةً أثناء التّفكير. ولا يمكن إذاً الاعتماد على هذه المقدّمة الخاطئة للادّعاء ببطلان ارتباط الوعي بالدّماغ!
والحقيقة أنّ البوطيّ يظلّ منسجماً مع وجهة النّظر الميتافيزيقيّة. فهو يتصوّر العالم كأشياء منعزلة تتبادل التّأثير فيما بينها، ولا يعترف بوجود علاقات وروابط في الواقع الموضوعيّ! والدّليل على ذلك ما يقوله فيما يلي: "ما هي حصيلة الفكر والوعي؟ ... تصوّرات وتصديقات. أمّا التّصوّرات فهي ما ينطبق عليها أنّها انعكاس و نُسخ .. فما هي التّصديقات؟ ... إدراك العلاقات الدّقيقة بين الأشياء ... هذا شيء آخر غير مجرّد التصوّر للشيء كما هو، بل هو يعتمد على قوّة أخرى غير القوّة التي تتمّ بها التّصوّرات" (ص 141).
طبعاً لا نجد شيئاً مهمّاً في هذه المحاكمة، فهي مجرّد اعتراف بأنّ المعرفة هي انعكاس لأشياء العالم الخارجيّ وروابطها، وهذا ما تقوله الماركسيّة. ولكنّ فاعليّة العقل ليست مجرّد انعكاس للواقع بشكل آلي، بل هي فاعلية قد تُركّب أفكار خياليّة، وقد تفترض أشياء جديدة ... إلخ. لكنّ البوطيّ يفهم من نظريّة المعرفة الماركسيّة أنّ الانعكاس هو تصوير و"نسخ" للواقع، ولا دور للعقل في المعرفة، وهذه صورة غير سليمة للماركسيّة.
والنتيجة هي " إذاً، فما هي النّتيجة التي نصل إليها؟ .. النّتيجة هي أنّ الدّماغ منفعل بالوعي وليس فاعلاً له ... فسرّ الوعي آتٍ من خارج الدّماغ ولا ريب ... لكنّ تجلّياته تظهر على الدّماغ على نحو لا يعلمه أحد من النّاس إلى اليوم" !!! (ص 144).
وأقف الآن باستغراب أمام هذه النّتيجة التي تفتقد للمقدّمات والمنطق، لنصل إلى تقرير أمرٍ "لا يعلمه أحد من النّاس إلى اليوم".
أليس من حقّنا أن نسأل البوطيّ: لماذا وُضع الوعيُ في الدّماغ وليس في الكبد أو الخصيتين؟ ردّاً على سؤاله الموجَّه للماركسيّة: "ما الذي قصر هذا الشّرف (أي الوعي) على الدّماغ وحده؟" (ص 143).
كلّما تقدّمت بقراءة "نقض" البوطيّ للمادّيّة الجدليّة اكتشفت زيادة في الفهم الخاطئ والتّشويه للماركسيّة، فضلاً عن ضعف متزايد في الحجج، بحيث بدأت أشعر بأنّني أضيّع وقتي في قراءة هذا الكتاب.
نقده لمقولة "اللّغة وعلاقتها بالفكر"
اللّغة مرتبطة بالوعي، وتقوم بوظائف التّواصل والتّعبير والتّفكير. ولا يُسمّى التّواصل بين الحيوانات لغةً؛ لأنّه تواصل غريزيّ وغير واعٍ.
وقد تعدّدت الآراء حول مسألة علاقة اللّغة بالتّفكير.
فبعض العلماء رأى أنّ التّفكير يسبق اللّغة، مثل (بياجيه) الذي يرى أنّ الطّفل يتعلّم التّفكير قبل أن يكتسب اللّغة. والبعض الآخر من العلماء (واطسن) يرى أنّ اللّغة والفكر شيء واحد، فإذا ظهر التّفكير إلى الخارج بواسطة الرّموز فهو لغة، وإذا كان التّفكير داخليّاً – حتّى لو استخدم الرّموز – فهو تفكير. ورأى البعض الآخر أنّ التّفكير أساس اللّغة؛ إذ يمكن التّفكير دون لغة ولا يمكن استخدام اللّغة دون تفكير.
نجد أنّ القاسم المشترك بين كلّ العلماء، بمختلف اتّجاهاتهم، هو الارتباط الوثيق بين اللّغة والتّفكير. وجميعهم يميلون إلى اعتبار التّفكير سابقاً على اللّغة أو أساساً لها.
ينقل البوطيّ عن الماركسيّة رأياً حول علاقة اللّغة بالفكر، ولكنّه رأي غير موضوعي. فهو ينقل جانباً واحداً من علاقة اللّغة بالتفكير، ويُشوّه الماركسيّة إلى درجة كبيرة ومفضوحة. حتّى أنّه ينسب إلى الماركسيّة القول بأنّ الإنسان اكتسب اللّغة والعلاقات الاجتماعيّة قبل أن يمتلك التّفكير والوعي! (ص 146 – ص147)
طبعاً، لا يصدّق أحد هذا الكلام المنسوب إلى الماركسيّة؛ لأنّ أيّ كتاب بسيط عن الماركسيّة، فضلاً عن كُتُب معلِّمِيّ الماركسيّة، توضّح خطأ هذا الكلام وبعده عن الماركسيّة. ولكنّ البوطي يختصر رأي الماركسيّة بعلاقة اللّغة بالتّفكير ببضعة سطور لا تمتّ إلى الماركسيّة والعلم بصلة، ثمّ يوجّه نقده إلى هذه السّطور التي كتبها. لذلك أجد نفسي معفيّاً من الرّدّ على هذا النّقد. ويكفينا أن نبيّن رأي العلم، وبالتّالي رأي الماركسيّة والأمران سيان، حتّى يتبيّن تشويه البوطيّ للماركسيّة من جهة، وبطلان رأيه في هذه القضيّة من جهة أخرى.
رحم الله الغزاليّ، فقد أجهر بمعاداة الفلسفة والفلاسفة، واستخدم الفلسفة والمنطق لمواجهتهما. لكنّ الغزالي لم يدّع بأنّه من أنصار الفلسفة ويريد نقض أوهام الفلاسفة الآخرين، لقد كان صادقاً في ما يريد. ولكنّ البوطيّ ادّعى بأنّه من أنصار العلم ويريد دحض المادّيّة الجدليّة استناداً إلى العلم. ثمّ لم يستخدم منهج العلم في شيء، ونقل المادّيّة الجدليّة بشكل خاطئ إلى قرّائه متجاهلاً الأمانة العلميّة وأصول البحث.
ينسب البوطي إلى الماركسيّة أنّ سبب نشأة اللّغة عند الإنسان هو الفعل المنعكس الشّرطيّ الذي اكتشفه بافلوف. ويعترض على ما نسبه هو إلى الماركسيّة بالقول إنّ هذا الفعل المنعكس الشّرطيّ موجود عند الحيوانات "العجماء" ، فلماذا لم تكتسب اللّغة.
سؤال: إذا وضعنا قليلاً من حمض الكبريت على قطعة زنك، ووضعنا نفس الكمّيّة وفي نفس الشّروط على قطعة من الفولاذ، فهل تتأثّر القطعتان بنفس الطّريقة؟ طبعاً لا. لماذا؟ لأنّ خواصّ الزنك الكيميائيّة (المادّيّة) تختلف عن خواصّ الفولاذ الكيميائيّة (المادّيّة). وكذلك أقولك إنّ تركيب الجهاز العصبيّ للإنسان يختلف عن تركيب الجهاز العصبيّ للحيوانات، ولذلك يتأثّر بشكل مختلف.
أمّا السّؤال الذي لا يفتأ البوطيّ يكرّره، وهو: لماذا تطوّر الجهاز العصبيّ لبعض القردة ولم يتطور عند القردة الآخرين؟ فجوابه أنّ الاختلافات الفرديّة النّاشئة عن تفاعل الوراثة والبيئة تجعل من تفاعل الأفراد مع البيئة متبايناً، وبالتّالي تصبح الاستعدادات مختلفة بين الأفراد. وبتغيّر ظروف البيئة يبقى الأصلح ويفنى غير الصّالح للتّكيّف مع البيئة الجديدة. ولأنّ الصّفات المكتسبة تتحوّل في بعض الأحيان إلى صفات وراثيّة، فإنّ هؤلاء الأفراد يورّثون صفاتهم الجديدة لأبنائهم. ومع تراكم هذا التّطوّر الكمّيّ في الصّفات يحصل نوعٌ جديد. أمّا عن القردة والقطط الذين لم يتطوّروا، فلأنّهم ما زالوا يستطيعون التّكيّف مع بيئتهم.
إنّ الفرق بين رجل دين وآخر نشاهده في الفرق بين الدّكتور عدنان ابراهيم والدّكتور محمّد سعيد البوطيّ، حيث يدرس عدنان ابراهيم النّظريّات العلميّة بدقّة، ولا يشوّهها متعمّداً، ثم يحاول أن يدعّم الدّين الإسلامي بالعلم. أمّا البوطيّ فإنّه يثبت عدم قدرته على فهم النّظريّات العلميّة، فيشوّهها ويمنع العلم عن مريديه الذين وثقوا به، فجهّلهم وخوّفهم. ولا يخفى على أحد تأثير المجتمع الأوروبّي المتقدّم على ابراهيم وتأثير المجتمع السّوري المتخلّف – والذي تسيطر عليه عقول متخلّفة تريد إبقاء النّهب والاستغلال – على البوطيّ.
العلاقة بين التّفكير واللّغة في النّظريّة الماركسيّة
لاحقاً
نقده لمقولة "السّبب والنّتيجة"
يعرض البوطيّ ثلاثة نقاط يرى أنّها تُلخّص وجهة نظر المادّيّة الجدليّة إلى مقولة السّبب والنّتيجة. وهي، باختصار:
1- تفاعل السّبب والنّتيجة، وتبادل الأدوار بينهما.
2- تخضع علاقة الأسباب بالنّتائج لقوانين الطّبيعة، ولا وجود للصّدفة.
3- ترفض الماركسيّةُ العلّةَ الغائيّة.
بالنّسبة للنّقطة الأولى فهي صحيحة، ولا يعترض البوطيّ عليها. أمّا بالنّسبة للنّقطة الثّانية فهي منقولة بشكل غير صحيح. فالماركسيّة ترى أنّ الصّدفة موجودة، ولكنّ وجودها لا يتعارض مع قوانين الطّبيعة؛ بل إنّ هذه القوانين محصّلة لتقاطع مصادفات كثيرة. وإليكم ما ورد في إحدى محاضرات المدرسة الحزبية لحزب الإرادة الشّعبية، وهو حزب ملتزم بالعلم، أي بالماركسيّة:
" الضرورة والمصادفة
الضروري هو ما ينشأ من جوهر الشيء، من علاقاته الداخلية، ولا بد له أن يحدث.
الصدفة: هي شكل تحقق الظواهر. وهي غير ثابتة وغير مرتبطة بجوهر الشيء نفسه، ويمكن أن يحدث أو لا يحدث، يحدث بشكل أو بشكل آخر.
إذا كانت الضرورة لها سببها في ذاتها، فإنّ المصادفة لها سبب أيضاً ولكن في غير ذاتها.
الضرورة ذاتها تتبدى عبر مصادفات لا حصر لها، مثلما يتبدى العام عبر الظواهر الوحيدة. ومهمة العلم البحث والكشف عن الضرورة والقوننة في فوضى المصادفات التي تتبدى لنا.
المصادفة هي شكل ظهور الضرورة، وهي تكملة لها..
إنجلز: «الشيء الذي يتأكد أنه ضرورة يتألف من مصادفات محضة، وما يدعى مصادفة إنما هو شكل تختفي وراءه الضرورة».
المصادفة تبرز في نقطة تلاقي عدد من الظواهر المشروطة سببياً. ولكن تلاقي هذه الظواهر في هذه النقطة بالذات ليس أمراً إجبارياً، بل هو نتيجة تجمع كثير من الشروط، وانعدام واحد منها قد يمنع حدوث تلك الإمكانية (المصادفة).

أمثلة الضرورة والمصادفة:
1- حادث السير كمصادفة قد يكون له أسبابه المتعلقة بحالة يقظة السائق وإرهاقه، خبرته في القيادة، سلامة المكابح في السيارة ..إلخ
لكن لنأخذ مجموعة حوادث سير (مصادفات) وقعت خلال فترة زمنية معينة على طريق سريع ما.. نجد أنه تتجلى من خلال هذه المصادفات ضرورة تتعلق بعلاقة داخلية في الطريق نفسه، مشاكل في مطبات هذا الطريق وتعبيده وانعطافاته وتقاطعاته إلخ.
2- مصادفات إفلاس هذا أو ذاك من التجار الصغار والحرفيين والفلاحين في بلد رأسمالي، إنما تخفي وراءها ضرورة اقتصادية هي أحد قوانين الرأسمالية في ميل البرجوازيين الصغار عموماً نحو الإفلاس بشكل متزايد.
سبب هذه الضرورة قائم في ذاتها، في جوهر الرأسمالية
أسباب المصادفات الفردية قائم خارج الظاهرة بالذات، أي في الشروط الخاصة والملابسات المحيطة بكل تاجر صغير أفلس، قد يكون بسبب افتتاح متجر كبير جوار محله يبيع بسعر أرخص...إلخ.
3- الوفاة الضرورية بسبب الشيخوخة، والموت العرضي التصادفي بسبب حادث..

التحول من مصادفة إلى ضرورة:
4- كان يجري تحويل الأسير إلى عبد قبل وجود نظام الرق، وهذه الحوادث كانت تجري عرضياً وتنجم عن الحاجة الداخلية لنظام القبائل، ثم تحولت تلك الحالات إلى ضرورة في زمن نظام الرق في سياق التطور التاريخي."
يتّضح مما سبق خطأ الرّأي الذي عرضه البوطيّ ثمّ نسبه للماركسيّ في النّقطة الثّانية، ولذلك لا أجد مبرّراً لتفنيد رأيه هنا.
أمّا النّقطة الثّالثة فهي صحيحة بالمعنى الكلّيّ، أي بالنّسبة لعالم الطّبيعة المادّيّة الكلّيّة كما يقول لينين، ولكنّنا نجد أفعال الإنسان تبدأ انطلاقاً من غايات يتصوّرها في ذهنه، وليس بالضّرورة أن تتحقّق كما تصوّرها، وهذا يدلّ على أنّ العمل الحاسم في تحقّق ظاهرة يقع خارج مجال الغايات.
وعندما لا يجد البوطيّ ما ينتقده بالنّسبة للنّقطة الأولى يلجأ إلى تشويه رأي الخصم كعادته، حيث ينسب إلى الماركسيّة أنّها تقول بوجود تناقض بين السّبب والنّتيجة، وهما في حالة صراع، ثمّ "يصحّح" الماركسيّة بالقول إنّ العلاقة بين السّبب والنّتيجة هي علاقة تضايف!
يقول: "يجب أن نلاحظ المضمون العلميّ الدّقيق لهذا الشّيء الّذي نتّفق عليه، حتّى لا يتوهّم المفكّر تفكيراً سطحيّاً، أنّ تضادّاً يوجد في جوهر السّبب والمسبّب، كما توحي بذلك تعابير الماركسيّين." (ص 156) التّأكيد لي.
ممّا سبق نستنتج أنّ نقد البوطيّ ليس له قيمة، وأنّه يدلّ على استمراره التّزييف والدّجل، وليس أحقّ بصفة المفكّر تفكيراً سطحيّاً أحد أكثر منه.
وإليكم الاكتشاف العظيم للبوطيّ: "إنّنا (البوطيّون = الميتافيزيقيّون) ننكر القول بحتميّة هذا الّذي نسمّيه بقوانين الطّبيعة أو نظامها ... لا نملك أيّ دليل علميّ يقضي بأنّ هذا التّعاقب الّذي لا زلنا نراه مستمرّاً بين الظّواهر والأشياء، تعاقب حتميّ .." (ص 159) التّأكيد لي.
فهل يبقى بعد هذا الكلام مكان للعلم كميزان للحكم على الماركسيّة؟ إذا كان البوطيّ وأضرابه لا يملكون أيّ دليل علميّ على وجود قوانين في الطّبيعة فهذا ذنبهم، إذ ما عليهم إلّا أن يقرأوا الكتب العلميّة حتّى يمتلكوا هذا الدّليل، فهل يجوز أن نحكم على مذهب فلسفي كالماركسيّة ونحن لا نفقه شيئاً من العلم؟
هذا اللّغز يمكن حلّه بعد سطرين، حيث لا يكفي الاقتران بين الأسباب والنّتائج حتّى نعتبر العلاقة بينهما حتميّة، فكلّ سبب له سبب آخر وليس سبباً لذاته، لذلك "لا بدّ من البحث عن المُسبِّب الحقيقيّ الّذي فاضت الفاعليّة والقدرة من ذاته وكينونته هو." (ص 159).
الآن يتّضح معنا ما يريده البوطيّ من نقد المادّيّة الجدليّة، فهو يريد إثبات أنّ سبب التّغيّرات والتّطوّرات في الطّبيعة موجود خارج الطّبيعة، بعكس ما تقوله الماركسيّة. ومن نتائج هذا أنّ الفقراء عليهم أن ينتظروا سبباً من خارج المجتمع ليحرّرهم من استغلال الأغنياء، وليس سبباً من داخل المجتمع يقومون به! وأنّ المراحل الاجتماعيّة مجرّد حالات تنتهي بمشيئة الله.
ولكن العلم هنا لا يخدم هذه الأهداف، فلماذا يتلطّى البوطيّ المؤمن بالعلم، ولا يكون جريئاً، كالغزالي، فيرفض العلم علناً؟ السّبب هو أنّك لن تجد عندئذٍ من يُصدّق البوطيّ في هذا الزّمان سوى "قليلي الثّقافة" و "المفكّرين تفكيراً سطحيّاً" والبُسطاء المخدوعين برجال الدّين.
ما البرهان على أنّ العلاقات السّببيّة في الطّبيعة ليست حتميّة؟ يجيب البوطيّ: "لا بدّ أن أذكّرك بالقاعدة المنطقيّة الّتي تقول: العلم يتبع المعلوم، وليس المعلوم هو الّذي يتبع العلم." (ص 160) ... "علمُنا يجب أن يقف عند الملاحظة الّتي أخذت بأمانة من الواقع، ألا وهي: أنّ بين كذا وكذا، صلة اقتران وتعاقب ثابتين. هذا هو العلم الّذي لا ريب فيه" ولا يمكن استنتاج الحتميّة من ذلك. (ص 161) التأكيد لي.
ولا أعرف لماذا "يجب" أن يقف علمنا عند الملاحظة ولا يتعدّاها إلى الاستنتاج والتّجربة! يجيب البوطيّ بأنّ المنطق "السّليم" لا يسمح لنا باستنتاج الحتميّة من السّببيّة! فأيّ منطق هذا الّذي يخالف التّجربة العلميّة والملاحظة العلميّة؟
نلاحظ في هذا المكان من كتاب البوطيّ أنّه يكرّر حجج (هيوم) من جديد، ولا يعبأ بكلّ الانتقادات الّتي تدحض آراء (برغسون). كما أنّ البوطيّ يعترف أنّ المادّة أسبق بالوجود من الفكر الإنسانيّ، وأنّ الفكر الإنساني انعكاس للواقع المادّيّ "العلم يتبع المعلوم"
طرفة أخرى، يقول البوطيّ: "التّعامل مع ظواهر الكون والموجودات، لا يحتاج إلى ... (يقين عقلي) بل يكفي في ذلك اليقين الآخر الّذي يُسمَّى "اليقين التّدريبيّ" " (ص 165).
يقول أيضاً: "هذه العلاقات الّتي نشأنا على ملاحظتها على حالة من الاستقرار والثّبات، تعطينا طمأنينة كافية للوثوق بسنن الكون ونظامه ..." (ص 165) التّأكيد لي.
حسناً، لنكتفِ باليقين "التّدريبيّ" لفهم "سنن الكون ونظامه" للتّعامل مع "ظواهر الكون والموجودات" لأنّها تعطينا "طمأنينة كافية" ولنترك اليقين "الآخر" ، العقليّ للسّادة الهيوميّين والبوطيّين!
ما معنى إنكار "قوانين الطّبيعة" والاعتراف بـ "سنن الكون ونظامه"؟ وما معنى الاعتراف باليقين "التّدريبيّ" الكافي للتّعامل مع ظواهر الكون والوجود، وعدم الاعتراف بالحتميّة؟ إنّ هذا لا يعني أكثر من الجهل.
أمّا بالنّسبة للنّقطة الثالثة، فيضرب البوطيّ الأمثلة عن أفعال الإنسان الاختياريّة لإثبات وجود العلّة الغائيّة. ثمّ يدّعي، دون وجه حقّ، أنّ الماركسيّة تنكر دور الإرادة الإنسانيّة في توجيه أفعال الإنسان.
ولتوضيح بطلان هذا الادّعاء أذكر ما يلي:
1- ترى الماركسيّة أنّ الإنسان هو الّذي يصنع التّاريخ، ولكنّه لا يصنعه على هواه؛ بل ضمن ظروف تاريخيّة مادّيّة معطاة. أي أنّ إرادة الإنسان ليست هي نقطة البداية في أفعاله؛ بل تتشكّل ضمن ظروف المجتمع المادّيّة.
2- الإرادة الإنسانيّة، من وجهة نظر المادّيّة العلميّة، ليست إرادة الأفراد فقط؛ بل هي إرادة تظهر في المجتمع ومؤسّساته. ومن هنا تتحدّث الماركسيّة عن وعي طبقيّ وإرادة طبقة اجتماعيّة.
3- ترى الماركسيّة أنّ الإنسان يحقّق حريّته من خلال وعي الضّرورة، ومن الممارسة القائمة على هذا الوعي. لكنّ هذا الوعي لا يأتي من الفراغ؛ بل من نضج الظّروف التّاريخيّة، الّتي تعتبر الشّرط الحاسم في تجسيد هذا الوعي. وليست الأفكار إنتاجاً لأفراد عباقرة يمكن أن يظهروا في أي مرحلة تاريخيّة، بل هي نتاج لأفكار أفراد عباقرة أنتجتهم ظروف حياتهم المادّية والثّقافيّة؛ الّتي هي بدورها نتاج ظروف المجتمع المادّيّة.
وبناءً على ذلك، لا يمكن القول إنّ الإرادة هي الّتي تنتج الواقع الإنسانيّ. ويتّضح أن عرض البوطيّ لآراء الماركسيّة يفتقد إلى المصداقيّة والأمانة العلميّة.
أمّا بالنّسبة للحجج الّتي يوردها البوطيّ في الصفحة 75 وما بعدها من كتابه، فإنّها تشير إلى وجود تنظيم كونيّ يدلّ على وجود منظِّم. فالماركسيّة تقول بانتظام العلم وفق قوانين‘ لكنّنا وجدنا البوطيّ سابقاً يُنكر وجود هذه القوانين الطّبيعيّة! ثمّ يعود هنا ليبني على وجود هذه القوانين فكرة وجود إرادة تقوم بوضع هذه القوانين، فهل من تناقض بعد هذا التّناقض؟
الماركسيّ تقول بانتظام كونيّ موجود، هذا صحيح، ولكن هذا لا يعني أنّ هذا التّنظيم ناشئ عن إرادة خارجة عن هذا الكون، وسبقته.
لقد استدلّ البوطيّ على أنّ هناك إرادة سابقة على الوجود تقوم بتنظيمه من خلال ملاحظة أنّ الإنسان ينتج الحضارة وفق ما يريد! ولكن بيّنت سابقاً أنّ إرادة الإنسان ناتجة عن وجود ظروف مُعطاة أوّلاً، وأنّها لا تتحقّق إلّا إذا توافرت ظروف مادّيّة لتحقّقها، وبالتّالي يصبح القياس على ذلك معناه أنّ تلك الإرادة الّتي أنشأت الكون تكوّنت وفق ظروف كانت مُعطاة سابقاً، وأنّ تحقّق هذه الإرادة، إن وُجدت، راجع إلى توافر ظروف مناسبة لتحقّقها. وبالتّالي نستنتج أنّ قياس وجود إرادة إلهيّة على وجود إرادة بشريّة يستتبع القول إنّ هذا الإرادة ليست مُطلقة؛ وإلّا كان القياس فاسداً.
كما أنّ إرادة الإنسان نتيجة لتطوّر العالم المادّي، ولذلك يجب أن تكون الإرادة الإلهيّة أيضاً نتيجة لتطوّر العالم المادّي.
ونرى البوطيّ يستشهد بالمادّي (بوكنز) في الصّفحة 177، متخلّياً عن آراء أئمّة الماركسيّة، ليهزأ من الرّأي القائل بأنّ تلاقي الأحرف بشكل عشوائيّ قد يؤدّي إلى تأليف ديوان شعر!
أوّلاً، إنّ هذا الاحتمال وارد إذا توافر عدد الأحرف الكافي؛ لكنّه احتمال ضعيف. وهذا ما يقوله علم الرّياضيّات (الاحتمالات). وثانياً، إنّ دواوين الشّعر ظاهرة ثقافيّة لا تتكوّن من الأحرف فقط، بل هي نتاج عوامل كثيرة. وهذا تسخيف للماركسيّة يتناسب مع مستوى فهم البوطيّ
طرفة أخرى، يقول البوطيّ: "إن كانوا يقصدون بالتّدرّج، الإنسان ذاته، لا سيّما مزيّة الوعي والتّفكير فيه، فمن ذا الّذي قرّر تدرّج ظهور الوعي فيه على امتداد الأحقاب، غير المادّيّين أنفسهم؟ .." (ص 179).
الجواب: الّذي قرّر ذلك هو العلم، فلماذا تنكر العلم وأنت قلت أنّ العلم هو ميزان الحكم على الماركسيّة؟
وينعت البوطيّ إنجلز بالجهل في أكثر من مكان! لكنّ الحقيقة تشير إلى أنّ إنجلز يتفوّق علميّاً على البوطيّ، الّذي يدّعي العلم، بدرجة كبيرة، فما عسانا نصف البوطيّ والحال هذه؟
وإليكم النّتيجة الّتي يصل البوطيّ إليها بعد كلّ السّطور الحمقاء الّتي أتعبنا بتحمّل تفاهتها: "لم يعد ثمّة معنى للتّفريق بين ما يُسمّى الضّرورة والمصادفة. فلا ضرورة خارج نطاق ما يقضي به مسبّب الأسباب" (ص 183) وهذا معناه إقراره بالتّرابط الوثيق بين الضّرورة والمصادفة، ولكن مع إضافة وجود الله!
نقده لمقولة الحرّيّة والضّرورة
لنقارن بين المفهوم العلمي للضّرورة والمفهوم الدّيني للضّرورة. ثمّ لنستنتج من ذلك معنى الحرّيّة العلميّ ومعنى الحرّيّة الدّيني.
بما أنّ المادّيّة الجدليّة ترفض أسبقيّة الوعي على المادّة في الوجود، فإنّها ترفض أن تكون صورة الشّيء سابقة على وجوده. ولذلك لا تعني الضّرورةُ، من وجهة نظر المادّيّة الجدليّة، أنّ القوانين الّتي تتحكّم بالظّواهر موجودة قبل وجود الظّواهر. بل معنى الضّرورة هو أنّه كلّما توافرت الظّروف والعوامل نفسها ستتكرّر النتيجة نفسها. وهذا ما يقرّره العلم.
نستنتج ممّا سبق أنّ دور الإنسان، أي حرّيّته، تتجلّى في تغيير الظّروف للوصول إلى نتائج جديدة.
مثال: لنفترض أنّ ثمار التّفّاح في بستان ما نضجت بحجم صغير، لا يتناسب مع المجهود والتّكلفة الّتي بُذلت على إنتاجه. عندئذٍ، يقوم المزارع بالبحث عن المشكلة، فإذا تبيّن له أنّ فقر التّربة بعنصر معيّن، له دور في نموّ الثّمار، يقوم بوضع الأسمدة والموادّ المناسبة. وبالتّالي يكون المزارع قد غيّر من الظّروف الّتي تحيط بعمليّة نموّ التّفّاح، للوصول إلى نتيجة جديدة مختلفة. وهكذا نلاحظ أنّ للإنسان حرّيّة في تحسين النّاتج من التّفّاح أو عدم تحسينه؛ لكنّه لا يستطيع فعل ذلك إلّا بالخضوع لقوانين نموّ ثمار التّفاح.
وبناءً على ذلك نرى أنّ المادّيّة الجدليّة لا تفرض حتميّة مُسبقة على الظّواهر، بل تُعمّم الحتميّة الّتي تخضع لها الظّواهر.
لننتقل إلى مفهوم الضّرورة الدّيني. حيث نرى مفهوم (القضاء والقدر) ركناً أساسيّاً في الدّين الإسلاميّ. ومعنى القضاء أنّ الإرادة الإلهيّة قضت بوجود الظّاهرة على نحو معيّن قبل وجود هذه الظّاهرة، ولذلك سيكون قدر هذه الظّاهرة مطابقاً لقضاء الله. فالضّرورة هنا تظهر كحتميّة سابقة لوجود الظّاهرة، كفكرة سابقة لا رادّ لها، بحيث لا بدّ أن تحدث الظّاهرة على نحو معيَّن.
لكنّنا نجد آراء متباينة على نحو قد يصل إلى حدّ التّناقض بين مذاهب مفكّري الإسلام وفقهائه. فمنهم من قال بالجبريّة منكراً حرّيّة الإنسان، ومنهم من قال بأنّ الإنسان حرّ في أفعاله، مستندين إلى مبدأ العدالة الإلهيّة، ومنهم من حاول التّوفيق بين التّسيير والتّخيير. ولست هنا بصدد المفاضلة بين هذه الآراء، واستنباط "نزعات" علميّة من ذلك؛ لأنّ المبدأ الّذي يقوم عليه الدّين ينكر أيّ حرّيّة للإنسان!
وإليكم بيان ذلك. يرى الدّين الإسلاميّ أنّ الله حدّد للإنسان الطّريق الصّحيح لسلوكه، وبلّغه للنّاس بواسطة الأنبياء. وترك الله للإنسان حرّيّة اختيار سلوكه بواسطة العقل الّذي أودعه الله في الإنسان. وهذا العقل كامل منذ وجود الإنسان، وما عليه سوى استخدامه بشكل سليم! ولكنّ الله حدّد للإنسان احتمالين، إمّا أن يلتزم بالسّراط المستقيم فينال الجنّة، وإمّا أن يحيد عن هذا السّراط فيدخل النّار. وبالتّالي تصبح حرّيّة الإنسان في اختيار أفعاله كلاماً فارغاً. فالمطلوب من الإنسان الالتزام بسلوك معيّن، وحرّيّته محدودة جدّاً.
أمّا الماركسيّة، فقد انطلقت من فهم علميّ للمجتمع الّذي نعيش فيه، ووضّحت قوانينه الأساسيّة، ثمّ أقرّت بحرّيّة الفرد المطلقة، ولكنّ هذه الحرّيّة لا تفعل سوى أن توفّر الظّروف المادّيّة للانتقال؛ إمّا إلى مجتمع تسوده العدالة الاجتماعيّة أو إلى فناء النّوع البشريّ.
نستنتج ممّا سبق أنّ الماركسيّة اكتشفت طريق تحرّر الإنسان من سلطان الطّبيعة والمجتمع الرّأسماليّ، في حين سلب الدّين الحرّيّة من الإنسان في بناء مستقبل البشريّة.
يقتبس البوطيّ عن إنجلز مقطعين، ويعتقد أنّهما متناقضان! وذلك في الصّفحتين 185 و 186. ولتوضيح وجهة نظر إنجلز عن الحرّيّة في المجتمع الرّأسمالي والحرّيّة في المجتمع الشّيوعيّ أضرب مثال بستان التّفّاح السّابق.
فإذا كانت ظروف نموّ التّفّاح مواتية لظهور ثمار مرغوبة فلا ضرورة لتدخّل الإنسان في تغيير ظروف نموّ هذا النّبات. وهذا حال علاقات الإنتاج الشّيوعيّة، حيث يصبح الخضوع للضّرورة مطابقاً للحرّيّة، وبذلك يكون الإنسان قد انتقل من مملكة الضّرورة إلى مملكة الحرّيّة. أمّا إذا كانت الظّروف غير مواتية لظهور ثمار مرغوبة فلدينا احتمالين:
1- يقوم الإنسان بالتّدخّل اعتماداً على العلم (فهم الضّرورة) للتّحكّم بثمار التّفاح كما يرغب. وهذا يعتمد على درجة تطوّر العلم المعنيّ؛ أي على درجة وعي الضّرورة. وعندئذٍ يكون الإنسان قد تحرّر من ظروف الطّبيعة بوعيها ثمّ بتغييرها بناءً على هذا الوعي. وهذا حال الإنسان في المجتمع الاشتراكي، بالنّسبة للمجتمع.
2- لا يستطيع الإنسان تغيير ظروف نموّ التّفّاح لأنّه يجهل الظّروف الّتي تجعله يعطي ثماراً غير مرغوبة، وبالتّالي لا يعرف ماذا يجب أن يفعل، ويبقى خاضعاً للصّدفة العمياء. عندئذٍ يكون الإنسان أسيراً لظروف الطّبيعة، فاقداً لحرّيّته. وهذا حال الإنسان قبل ظهور الوعي الطّبقي البروليتاريّ، حيث يبقى أسيراً لإرادة الطّبقة البرجوازيّة.
يتّضح ممّا سبق أنّ البوطيّ لم يفهم العلاقة بين الحرّيّة والضّرورة، بل بقي أسير مفهوم الضّرورة الدّينيّ، الّذي يسلب الإنسان وسائله للتّحرّر، بأن يجعل طريق الوعي باتّجاه فهم النّصوص الدّينيّة لتنفيذ ما يجب أن يفعله بناءً عليها، بدل توجيه الوعي باتّجاه فهم قوانين المجتمع والتّحكّم بها.
نقده لمقولة "الحقيقة الموضوعيّة والمطلقة"
يوافق البوطيّ الماركسيّة بوجود حقيقة موضوعيّة، أي حقيقة لا يتوقّف وجودها على الذّات. حيث يكتب: "إذن، فنحن نُقرّر بأنّ الحقيقة الموضوعيّة موجودة. وليست متوقّفة في ذاتها على وجود فكر يحضنها أو يرعاها" (ص 192).
ولكن أذكّر بأنّ الحقيقة الموضوعيّة هي العالم المادّي، من وجهة نظر الماركسيّة والمادّيّة عموماً. أمّا المثاليّون فنجد منهم من يقول بوجود الرّوح أو كائنات لا مادّيّة وتتمتّع بوجود موضوعيّ بالنّسبة للإنسان! حتّى أنّ بعض المذاهب تفترض وجوداً موضوعيّاً للأفكار.
ويبقى أن نتعرّف على وجهة نظر البوطيّ حول الحقيقة المطلقة والحقيقة النّسبيّة. وأشير قبل ذلك إلى ما يلي:
1- ترى الماركسيّة أنّ معرفة حقائق مطلقة، أي مُطابقة للواقع في جميع الظّروف، أمر ممكن. لكنّ الماركسيّة لا تدّعي امتلاكها هذه الحقيقة، بل لا أحد يملكها حتّى الآن. إنّها مُجرّد إمكانية قد تتضافر عليها جهود الإنسان عبر التّاريخ لتحقيقها. لذلك لا صحّة لقول البعض بأنّ الماركسيّة تدّعي امتلاك الحقيقة المطلقة. كقول البوطيّ: "المادّيّة الديالكتيكيّة، الّتي استوعبت قصّة الكون منذ فجره الّذي لا فجر له، إلى النّهاية الّتي لا وجود لها!!." (ص 201)
اليقين العلميّ يعني أنّ القضيّة العلميّة المطروحة تفرض نفسها على جميع العقول، ولا يوجد تجربة تنفيها. وكلّ ما ينفيها يبقى مجرّد افتراضات غير ثابتة، ولكن من الممكن لاحقاً تعميقها في ظروف أخرى.
2- أشار البوطيّ إلى نقطة هامّة في نقده لمفهوم الحقيقة المطلقة؛ وهي أنّ امتلاك الإنسان لحقيقة مطلقة ليس سوى افتراض لم يؤيّده العلم.
3- يجب التّفريق بين المعرفة الصّحيحة، اليقينيّة، الّتي يقرّرها العلم والتّجربة، وبين المعرفة المطلقة. فالقوانين العلميّة الّتي يجمع العلماء على أنّها صحيحة ضمن شروط معيّنة هي قوانين صحيحة بالمطلق بالنّسبة إلى شروطها.
الحقيقة المطلقة عند البوطيّ هي: "اليد الّتي دبّرت .. فصنعت .. فأحكمت الصّنع." (ص 202) كيف يُثبت ذلك؟ من خلال القول إنّ المادّة تُمثّل كثرة لا حصر لها، وبالتّالي لا يمكن أن تحتوي على الحقيقة المطلقة الواحدة، فالحقيقة المطلقة توجد خارج المادّة، وهي الّتي تُنظّم المادّة. فالتّرابط يأتي من خارج المادّة، من الخالق؛ الله.
وهذا تقرير لا يستند إلى العلم، بل يستند إلى مصادرة منطقيّة. تقابلها مصادرة منطقيّة تقول بأنّ المادّة، أي الوجود الموضوعيّ، مترابط لا نهائيّ. وما يضمن هذا التّرابط وجود قوانين عامّة يمكن معرفتها؛ لكنّها مصادرة يؤيّدها العلم.
يختتم البوطيّ كلامه حول الحقيقة المطلقة بالقول: "على أنّنا لا نقرّ بأنّ الإنسان لم يعثر بعد على الحقيقة المطلقة" (ص 205).
وهذا معناه أنّ الحقيقة المطلقة هي وجود خالق للكون، هو الله، وما يكتشفه الإنسان بواسطة العلم هو حقائق نسبيّة.
نقد البوطيّ للمادّيّة التّاريخيّة
النّقد الأوّل: يعتبر الماركسيّون أنّ المادّيّة التّاريخيّة نظريّة مستقلّة عن المادّيّة الدّيالكتيكيّة. لكنّها مفهوم أو مُستلزم من مستلزمات المادّيّة الدّيالكتيكيّة؛ أي مقولة من مقولاتها.
حيث يكتب البوطيّ: "غير أنّ الماركسيّين دأبوا على إعطاء المادّيّة التّاريخيّة أهميّة مستقلّة، وعلى فصلها عن مقولات المادّيّة الدّيالكتيكيّة ومستَلزماتها، والتّركيز عليها بشكل أكثر عناية وشرحاً. فأنت عندما تقرؤها في كتبهم، يخيَّل إليك أنّها كشفٌ أو نظريّة مستقلّة، تقف جنباً إلى جنب مع المادّيّة الدّيالكتيكيّة ... على الرّغم من أنّها ليست، كما قلنا، إلّا واحدة من المقولات اللّاحقة بالمادّيّة الدّيالكتيكيّة" (ص 209).
النّقد الثّاني: كوّن ماركس نظرته إلى المجتمع أوّلاً ثمّ اتّخذ من ديالكتيك هيجل كساءً (ذريعة) لتبرير هذه النّظرة.
حيث يكتب البوطيّ: "ولقد كان كنزاً ثميناً ذلك الذّخر الّذي عثر عليه ماركس، عند هيجل، أثناء انهماكه في البحث عن صيغة منطقيّة وفلسفيّة شاملة، يغرس فيها أفكاره الاقتصاديّة والاجتماعيّة، لأسباب أخرى، بعيدة كلّ البعد، عمّا قد يتصوّره الباحث السّطحيّ، من الإخلاص لمقتضيات المادّيّة الجدليّة بحدّ ذاتها ...إذن فلقد كان المضمون الّذي أَطلق عليه فيما بعد اسم المادّيّة التّاريخيّة، هو قطب الرّحى الثّابت، أمّا كلّ هذا الّذي سلف الحديث عنه من الجدليّة المادّيّة وأحكامها وذيولها، فلم يكن في مجموعه إلّا كسوة كُسيت بها مضامين المادّيّة التّاريخيّة، لتبرز أمام النّاس في كسوة علميّة، تتمكّن بها من الدّفاع عن نفسها ... لن نحاول نقد شيء من النّظريّات الاجتماعيّة أو الاقتصاديّة الكامنة في تضاعيف المادّيّة التّاريخيّة ... ولكنّا سننظر إليها من حيث هي فرع من فروع المادّيّة الدّيالكتيكيّة، تخضع لسلطانه، وتتفاعل مع قوانينه" (ص 209 – ص 210).
إنّ النّقد الثّاني يشكّل ردّاً قاصماً للنّقد الأوّل! حيث يعترف البوطيّ بحقيقة أنّ ماركس درس المجتمع دراسة اقتصاديّة واجتماعيّة، وهذا مضمون الماركسيّة. ثمّ وجد ماركس أنّ منطق هيجل؛ أي الدّيالكتيك، هو منطق تطوّر المجتمع، لذلك، ومن منطلق أمانة ماركس العلميّة، قال ماركس إنّ ما قدّمه هيجل صحيح إذا طُبِّق على الواقع المادّيّ. وبهذا يكون البوطيّ، صاحب النّقد الثّاني، قد دحض البوطيّ صاحب النّقد الأوّل؛ فليست المادّيّة التّاريخيّة مقولة ومستلزم عن المادّيّة الدّيالكتيكيّة، بل إنّ المادّيّة الدّيالكتيكيّة تستمدّ صحّتها من المادّيّة التّاريخيّة.
وليس ذنب ماركس أنّ المجتمع يتّبع في تطوّره قوانين الدّيالكتيك، وأنّ هيجل كان من كشف عن هذا الدّيالكتيك. وبما أنّ ماركس فيلسوف يعطي العلم مكانته العالية، فقد انطلق من دراسة المجتمع الموجود أمامه، ثمّ اكتشف قوانينه، ثمّ أقرّ بصحّة المنطق الدّيالكتيكيّ.
ولماذا يرفض البوطيّ تناول النّظريّة الاجتماعيّة والاقتصاديّة (مضمون الماركسيّة) ويتوجّه لنقد المادّيّة الجدليّة (الكسوة = الشّكل = القشرة)؟
الجواب على هذا السّؤال هو أنّ البوطيّ يريد أن يوهم القارئ بأنّ ماركس أخذ ديالكتيك هيجل وطبّقه على آرائه الاجتماعية، لكي يقنع النّاس بأنّ آراءه صحيحة؛ أي طبّق الفكر على الواقع ليجعل الواقع يتناسب مع الأفكار المسبقة (الكافرة) الّتي لديه.
لكنّ هذه الطّريقة هي طريقة المثاليّين، مثل البوطيّ، وهي طريقة خاطئة. ثم ألم يعترف البوطيّ، وهو بكامل قواه العقليّة بأنّ ماركس درس الواقع أوّلاً ثمّ بحث عن الفلسفة الّتي تؤيّد ما وصل إليه من نتائج، ويصل إلى أنّ هذه الفلسفة صحيحة وباقي الفلسفات كلام فارغ؟
أيّ تناقض في النّقد هذا؟ إنّه تناقض يدلّ على غياب المنطق عن فكر البوطيّ، بسبب غمامة البغض للكافر ماركس. ولهذا تُصبح الأفكار المُسبقة عند البوطيّ حاكماً وميزاناً لبحثه، بعيداً عن العلم والمنطق اللّذين ثقب آذاننا بهما على طول كتابه وعرضه!
ويستنتج البوطيّ أنّ الجسر مقطوع بين المادّيّة التّاريخيّة والمادّيّة الدّيالكتيكيّة؛ أي بين علم الاجتماع الماركسيّ والفلسفة الماركسيّة، وهذا ما سيتّضح من سياق انتقاداته اللّاحقة في هذا الكتاب.
نقده للعلاقة بين المادّيّة الدّيالكتيكيّة والمادّيّة التّاريخيّة
الجسر المقطوع
النّقد الثّالث: يمكن أن نعترف بالحتميّة في مجال المادّة الجامدة – يقصد البوطيّ مجال الأشياء غير الحيّة – ولكنّ الحتميّة لا تشمل الإنسان؛ لأنّه يمتلك الوعي، ويمتلك كامل الحرّية في اختيار أفعاله. وما يحرّك سلوك الإنسان هو الرّغبات والأهداف، وليس عوامل قسريّة.
حيث يقول البوطيّ: "إنّني قد أفهم هذه الضّرورة وأتصوّرها، تماماً بالنّسبة لمادّة جامدة خاضعة لسنّة كونيّة أو لحتميّة ديالكتيكيّة، هذه الضّرورة تقوم في المادّة الجامدة مقام ما نسمّيه بالرّغبة أو الإرادة في حياة الإنسان، وإنّني قد أفهم مثل هذه الضّرورة ذاتها بالنّسبة للحركات والتّقلّبات القسريّة الّتي يخضع لها الإنسان – أمّا أن أفهم وجود ضرورة داخليّة تنبثق من الكينونة الإنسانيّة، تحمله على سلوك ما، ممّا من شأنه أن ينضبط بسائق الإرادة والرّغبة، دون أن يكون لإرادته الحقيقيّة عليها من سلطان، فذلك ما لا يستطيع أحد من النّاس أن يورّثني مثل هذا التّصوّر أو الفهم، بل لا أظنّ أنّ أئمّة المادّيّة الجدليّة أنفسهم يملكون أيّ تصوّر حقيقي لذلك." (ص 215).
كانت رغبة مروان الحمار، آخر الملوك الأمويّين، المحافظة على المُلك في الأسرة الأمويّة. ورغم حنكته وصبره لم يستطع تحقيق رغبته هذه. وكانت رغبة بني العبّاس الاستيلاء على الملك من بني أميّة. فلماذا تحقّقت رغبة العباّسيّين، ولم تتحقّق رغبة الأمويّ الحمار؟
يجيب على هذا السّؤال فيلسوف مسلم، هو ابن خلدون. حيث يبيّن ابن خلدون أنّ قوانين التّاريخ تفعل فعلها من خلال تصارع الرّغبات والأهداف المتناقضة، الّتي تعبّر عن انعكاس للتّناقضات الاجتماعيّة القائمة. وهذه القوانين تتحقّق من خلال هذه الإرادات المتصارعة و .... رغماً عنها.
ولقد كانت إرادة قيصر روسيا، ومن معه من النّبلاء والرأسماليّين الرّوس، الإبقاء على استعباد ملايين العمّال الرّوس، لكنّ إرادة العمّال والفلّاحين الرّوس تغلّبت على إرادة القيصر. لماذا حدث ذلك؟ لأنّ إرادة القيصر و(النّبلاء) تُمثّل إرادة لا تتناسب مع الواقع الرّوسيّ الجديد؛ وهو نموّ وعي الطّبقة العاملة لواقعها وتطوّر قوى الإنتاج، حيث امتلكت الطّبقة العاملة إرادة تعكس قوّة جديدة تتناسب مع مستوى تطوّر المجتمع الرّوسيّ.
ممّا سبق نستنتج أنّ إرادة الإنسان الفرد انعكاس لواقعه الطّبقيّ، وله الحريّة في أن يختار ما يشاء من أفعاله، لكنّ هذه الإرادة لا يمكن أن تتحقّق إن لم تتوفّر لها الظّروف المادّية المناسبة لتحقيقها. فظروف تطوّر المجتمع المادّيّة هي الّتي تتحكّم بتطوّر الواقع الاجتماعي، وذلك من خلال حرّيّة اختيار النّاس لأفعالهم.
وكم كانت رغبة المرحوم البوطيّ قويّة في تطهير سوريا من الماركسيّين الكفّار، وكان يمتلك كامل الحرّيّة في اختيار أفعاله، لكنّ راية الماركسيّة بقيت خفّاقة في سماء سوريا؛ لأنّ الضّرورة التّاريخيّة تفرض ذلك، وليست رغبة مروان الحمار ولا رغبة الدّكتور البوطيّ.
ما هي الحتميّة؟ عندما تتوافر الأسباب ذاتها والظروف ذاتها تتكرّر النتائج ذاتها حتماً. وبما أنّ الظواهر الإنسانية تتكوّن من احتمالات هائلة من الظروف والأسباب، فتكرارها أمر نادر الحدوث. لكن، هل ثمة عاقل ينكر أنّ الظواهر الإنسانية تحدث كنتيجة لأسباب معينة؟
إنّ زعم البوطيّ، غير الموثّق علميّاً، بأنّ الماركسية تقول أنّ الظواهر الإنسانية تخضع لمبدأ الحتمية هو زعم يدل على تشويه وقح للماركسيّة، لا يقوم به سوى جاهل أو مفترٍ. فالقول بالحتميّة التّاريخيّة، أي قراءة مآل الظروف الراهنة، لا يعني القول بحتميّة تشمل كلّ ظاهرة فردية إنسانيّة.
النّقد الرّابع: بما أنّ الضّرورة التّاريخيّة حقيقة لا مراء فيها، لماذا تشعر بها طبقة ولا تشعر بها طبقة أخرى؟ ولماذا تخضع لها طبقة ما ولا تخضع لها طبقة أخرى؟
يقول البوطيّ في ذلك: "فإنّ حتميّة هذا الخضوع يجب أن تكون شاملة بمعنى واحد لفئات النّاس وطبقاتهم جميعاً. أي (لاحظوا) لا بدّ أن يستشعر هذه الضّرورة ويوقن بها، بطريقة واحدة، كلّ من طبقة الكادحين والبرجوازيّين والرّأسماليّن والإقطاعيّين، على حدّ سواء! .." (ص 216).
الجواب على هذا هو أنّ بعض النّاس تدرس المجتمع بطريقة علميّة، كماركس، وتتبنّى نتائج العلم؛ لأنّ هذه النّتائج تمثّل طموحاتها ومصالحها، ولا تُحجب عنه الحقيقة. والبعض الآخر يدرس المجتمع بطريقة ميتافيزيقيّة، كالبوطيّ، ولا يفهم الضّرورة – أي القوانين الاجتماعيّة – لأنّ هذه القوانين تتناقض مع طموحاته ومصالحه، أو مصالح أسياده، وبالتّالي تحجب مصالحه الشّخصيّ والطّبقيّة الحقيقة.
وما يؤلم هو تلك النّعوت السّيّئة الّتي يوجّهها البوطيّ إلى منتجي الخيرات والكادحين؛ حيث يصفهم بـ "الدّهماء" والـ "الرّعاع" و "النّاهبين" ، في حين يصف الرّأسماليّين بأصحاب الملكيّة المدافعين عن ما يملكون. ويتّهم دعاة الثّورة الاشتراكيّة بأنّهم يطلبون المال والسّلطة والسّرقة، ليطردوا الرّأسماليّين المساكين إلى "قارعة الطّريق".
النّقد الخامس: التطوّر من الأدنى إلى الأعلى قد يصدق على ظواهر الطّبيعة الجامدة، لكنّه لا يصدق على ظواهر المجتمع والتّاريخ.
يقول البوطيّ: "والمؤشّر الّذي يكشف فعلاً عن صعود المادّة من طورها، وهي أطروحة، إلى طورها الثّاني وهي طباق، إلى طورها الثّالث وهي تركيب، يكاد يختفي كلّ الاختفاء هنا، أي في مجال المادّية التّاريخيّة." (ص 220).
ويتساءل البوطيّ: "ترى متى وأين قرّر التّاريخ الإنسانيّ أجمع، أنّ تلك العلاقات الاقتصاديّة الّتي يهيمن فيها سلطان رأس المال، أعلى درجة وشأناً من العلاقات الاقتصاديّة الأخرى الّتي يهيمن فيها سلطان الإقطاع؟ وأين ومتى قرّر التّاريخ الإنسانيّ أنّ الملكيّة الجماعيّة، حتّى في أطوارها البدائيّة الأولى، أدنى شأناً من ملكيّة الإقطاع الّتي تلتها فيما بعد؟ .." (ص 221).
وهذا النّقد هامّ للغاية، إذ يجب توضيح المعايير الّتي نحكم على أساسها بأنّ تشكيلة تاريخيّة معيّنة أرقى من سابقتها؟
ويترك البوطيّ هذا السّؤال دون جواب، لكنّه يكتفي بالتأكيد على أنّ التّطوّر الاجتماعيّ الّذي اكتشفته الماركسيّة ليس حتميّاً، لأنّ الإنسان يمتلك الوعي والحرّيّة!
توجد معايير كثيرة توضّح أنّ المراحل التّطوّريّة الكبرى للمجتمع؛ أي التّشكيلات الاقتصاديّة – الاجتماعيّة، المتعاقبة زمنيّاً تنتقل من الأدنى إلى الأرقى. فمثلاً، إذا قارنّا النّمط التكنلوجي الّذي يلازم كلّ تشكيلة نجد أنّ هذه الأنماط تتطوّر من الأدنى إلى الأعلى؛ من الأدوات الحجريّة إلى الأدوات المعدنيّة، إلى المحراث ... وصولاً غلى الآلات والمعلوماتيّة. ولا شكّ أنّ أحداً لا ينفي أنّ الآلة أرقى من الفأس الحجريّ. وتُشكّل درجة سيطرة الإنسان على موضوعات الطّبيعة معياراً آخر. كما أنّ درجة تحرّر الإنسان معيار مهمّ؛ من خاضع لظروف الطّبيعة العمياء إلى عبد إلى قنّ إلى بروليتاريّ إلى عامل حرّ في المجتمع الشّيوعيّ، معيار واضح.
أمّا التّشدّق حول اعتبار مرحلة جديدة مُتخلّفة عن سابقتها بدعوى أنّ الرأسماليّة تشكّل تراجعاً بالنّسبة لطبقة الإقطاعيّين، فهذا معناه أنّنا لا نتحدّث عن الإنسان هنا بوصفه كلّ المجتمع، بل عن الطّبقة المسيطرة "الرّاقية" واعتبار باقي النّاس "رعاع" و "دهماء". ولكن إذا تناقضت مصالح الأغلبيّة السّاحقة من المجتمع مع عدد قليل من المستغِلّين، فالتّقدّم والرّقيّ يكون بتحقيق مصالح الأغلبيّة العظمى. علماً أنّ المجتمع الجديد لا يظلم الفئة القليلة؛ بل يجعلها على قدم المساواة مع الآخرين.
نقده للمنهج الماركسيّ في تفسير التّاريخ
الواقع التّاريخيّ
النّقد السّادس: الواقع التّاريخيّ يكذّب التّفسير المادّيّ للتّاريخ.
هذا التّفسير الّذي يقوم جوهره على ما يلي: إنّ قوى الإنتاج (الأرض والأدوات والإنسان) في مرحلة تاريخيّة معيّنة تُفرز علاقات إنتاج تتناسب معها، فيتكوّن من ذلك أسلوب إنتاج خاصّ بتلك المرحلة. وتقوم على أسلوب الإنتاج هذا بنية فوقيّة روحيّة تناسب هذا الأسلوب. ولكنّ قوى الإنتاج تتطوّر بسبب سعي الإنسان إلى زيادة الخيرات المادّية والتّحكّم الأفضل بالظّواهر الطّبيعيّة والاجتماعيّة، وعندئذٍ تُصبح علاقات الإنتاج غير متناسبة مع هذا التّطوّر، فتتمسّك الطّبقات الموسرة بالعلاقات القديمة بينما تحاول القوى المُستغَلّة فرض العلاقات الجديدة. وهنا يحدث صراع بين هاتين الطّبقتين، ينتهي بفرض العلاقات الجديدة، وهذا يؤدّي لاحقاً إلى انقلاب في البنية الفوقيّة. وبنهاية هذا التّطوّر كلّه يكون المجتمع قد انتقل من مرحلة تاريخيّة، أي من تشكيلة اقتصاديّة – اجتماعيّة، إلى أخرى.
لكنّ الواقع التّاريخيّ لا يُكذّب هذا التّفسير، بل يدعمه. لماذا يدّعي البوطيّ، إذاً، بأنّ الواقع التّاريخيّ يتنافى مع التّفسير المادّيّ للتّاريخ؟
نجد الجواب بقوله: "وتاريخ الإنسان ينقسم إلى شطرين، أمّا الأوّل منهما فهو الشّطر الأقصى الّذي يحدّه ما قبل العصر الّذي بدأ فيه تدوين التّاريخ. أمّا الثّاني منهما، فهو الشّطر الأدنى إلينا والّذي يحدّه ما بعد عصر التّدوين ... وإنّ العمود الفقريّ الّذي ينهض به قرار الماركسيّين هذا عن التّاريخ الإنسانيّ، إنّما يتمثّل في الشّطر الأوّل ... بل يلحّون على أنّ أحكامهم الّتي يقيمونها على استنطاق أحداث ذلك التّاريخ قطعيّة وحتميّة، ولا بدّ من تحقيق مقتضياتها على المجتمع الإنسانيّ كلّه! .." (ص 224 – ص 225).
فهل يصحّ هذا الزّعم على المنهج الماركسيّ؟ طبعاً لا يصحّ. فماركس تناول المجتمع الرّأسماليّ المعاصر له بالدّراسة، وهذا المجتمع ينتمي إلى التّاريخ المكتوب، ثمّ استند إلى ما توصّلت إليه أبحاثه العلميّة ليعيد فهم المراحل التّاريخيّة الماضية من التّاريخ المكتوب. وهذا منهج علميّ معروف حتّى لطلّاب المدارس. أمّا الماضي السّحيق فقد درسه علماء مختصّون بذلك، فجاءت أبحاثهم مؤيِّدة للمنهج المادّيّ في فهم التاّريخ. فالعمود الفقريّ للماركسيّة ليس تصوّراتها حول الماضي السّحيق، ثمّ "تحقيق مقتضياتها على المجتمع الإنسانيّ كلّه" ، بل بالعكس؛ فالعمود الفقريّ للماركسيّة هو تصوّراتها عن المجتمع القائم أمام أبصارنا، ثمّ "تحقيق مقتضياتها على المجتمع الإنسانيّ كلّه". وهذا هو المنهج العلميّ، لكنّ ما زعمه البوطيّ من منهج، ونسبه للماركسيّة هو المنهج الميتافيزيقيّ الّذي يتبنّاه البوطي على مدى كتابه هذا، وهو منهج خاطئ!
والمضحك في الأمر أنّ البوطيّ يورد كلاماً لإنجلز يؤكّد ما ذهبت إليه، حيث يؤكّد إنجلز أنّ معرفنا عن التّاريخ نسبيّة من حيث الجوهر (ص 225).
ممّا سبق نستنتج أنّ البوطيّ نسب إلى الماركسيّة منهجاً غريباً عنها، ثمّ دحضه. وبذلك يكون البوطيّ قد دحض البوطيّ وأكّد المنهج الماركسيّ، دون أن يدري!
النّقد السّابع: الماركسيّون يُرجعون نشأة الدّين إلى العصر الإقطاعيّ.
يقول البوطيّ: "والماركسيّون لا يتردّدون، من طرفهم، في المبادرة إلى القول بأنّ الدّين ونحوه إنّما ظهر فعلاً في حياة الإنسان، بعد أن دخل في عصر الإقطاع، لتسويغ النّظام الإقطاعيّ. يقول في المادّيّة التّاريخيّة: "وفي عصر الإقطاع سادت النّظرة الدّينيّة إلى التّاريخ. إنّها تولّدت من السّعي إلى تبرير النّظام الإقطاعيّ ..." لا خلاف عند الباحثين في تاريخ الأديان ، أنّ جذور التديّن تمتدّ إلى فجر النّشأة الإنسانيّة" (ص 228).
أيّ قارئ عاديّ يلاحظ التّشويه السّاذج في هذا الـ "نقد"، حيث يشير المقطع أعلاه إلى أنّ "النّظرة الدّينيّة إلى التّاريخ" سادت في عصر الإقطاع، ولا يشير إلى أنّ الدّين "ظهر ... بعد أن دخل عصر الإقطاع"! أي كان الدّين موجوداً، لكنّه لم يكن سائداً كنظرة إلى تفسير التّاريخ، فأيّ ناقد علّامة هذا الّذي يشوّه آراء الآخرين، بسذاجة، ثمّ ينتقد ما شوّهه؟!
ثمّ يستشهد البوطيّ بكلام بليخانوف (ص 229) عن أنّ الدّين كان موجوداً عند الشّعوب البدائيّة، ويعود ليكذب فيقول أنّ ماركس أنكر وجود الأديان قبل مرحلة الإقطاع! ولكنّه يكذّب نفسه عندما يعترف بأنّ ماركس قال بأنّ الدّين من صنع الإنسان البدائيّ! يبدو أنّ الخرف له تأثيره على عقول الفقهاء.
النّقد الثّامن: الماركسيّة تُخطئ بالقول بأنّ المرحلة المشاعيّة تقوم على الملكيّة الجماعيّة لوسائل الإنتاج!
يقول البوطيّ: "الّذي يقرّره علماء التّاريخ والاجتماع أنّ كلّاً من الملكيّة الجماعيّة والفرديّة (أو الشّخصيّة بتعبير آخر) كان موجوداً، وكانا يسيران في طور واحد من التّاريخ الإنسانيّ، في عهده البدائيّ، جنباً إلى جنب. فلقد كان الفرد يملك ملابسه وأدوات زينته وحليّه وأسلحته، والكثير ممّا تنتجه الأرض. إلى جانب الملكيّ الجماعيّة القائمة ... " (ص 236).
الماركسيّة تقصد بالملكيّة الجماعيّة ملكيّةَ وسائل الإنتاج، وتقصد بالملكيّة الفرديّة ما يستخدمه الفرد ويستحوذ عليه لضمان حياته. ولكنّ البوطيّ أغفل كلمتيّ "وسائل الإنتاج" واستبدلهما بكلمة "الثّروات" مساوياً بين ملكيّة الملابس وملكيّة الأرض والماشية. ولكنّنا نعلم أنّ الأرض والماشية كانت ملكاً للعشيرة البدائيّة. وبذلك يتبيّن لنا أنّ البوطيّ لم "يفهم" معنى الملكيّة الجماعيّة لوسائل الإنتاج، والفرق بينها وبين الملكيّة الفرديّة؛ لذلك يصبح نقده مبنيّاً على سوء الفهم، ولا معنى له.
النّقد التّاسع: التّطوّر التّاريخيّ لا يحدث بسبب الصّراع الطبقيّ.
ويكرّر البوطيّ الحجّة الوقحة نفسها لإثبات وهمه بعدم وجود صراع الطّبقات، حيث يرى أنّ كلّ تطوّر يأتي من "إصلاحات" قام بها الأنبياء والمصلحون، ولم يحدث في التّاريخ الإسرائيليّ واليونانيّ والرّومانيّ والإسلاميّ ... أيّ تحالف بين "البرجوازيّة والدّهماء" ويقصد بالدّهماء الطّبقة العاملة. وذلك في الصّفحات (236) وما بعدها.
ثمّ جاء الفتح الإسلاميّ للقضاء على الإقطاع الفارسيّ والرّومانيّ! .. كيف؟ بإحلال الإقطاع العربيّ القرشيّ! ولا دور لـ "الدّهماء" و "البرجوازية" هنا!!! فأيّ فهم عميق للتّاريخ هذا؟!
لن أتناول "اللّغز العجيب" الّذي "حيّر" علماء أوروبّا، أي "الفتح الإسلاميّ" لأنّ هذا اللّغز حاليّاً متروك للأطفال في فترات استراحتهم بين الدّروس ليحلّوه.
النّقد العاشر: إنّ قيام الثّورات البرجوازيّة في أوروبّا، وانتصار الطّبقة البرجوازيّة على الطّبقة الإقطاعيّة، كان بسبب استخدام البارود الّذي امتلكته الطّبقة البرجوازية أثناء الحروب الصّليبيّة (نقلته من العرب) وعدم امتلاك الإقطاعيّين لهذا السّلاح! وليس بسبب الصّراع الطبقيّ، وليس ذلك حتميّاً؛ بل بسبب صدفة امتلاك ذلك السّلاح.
يقول البوطيّ: "كانت ثورة البرجوازيّة الأوروبيّة في العصور الوسطى، مصادفة سعيدة لها، اعتمدت على سبب خارجيّ ... وهو مصادفة الحروب الصّليبيّة الّتي نقلت فنّ صناعة البارود من البلاد العربيّة إلى رجال الصّناعة في أوروبّا، ولقد كانوا لحسن الحظّ هم هؤلاء البرجوازيّين! .. " (ص 242).
فالبارود الصّدفة هو سبب الثّورات البرجوازيّة! ولكن كيف لهذا البارود أن يفعل فعله لو لم يكن هناك انقسام طبقيّ إلى برجوازيّين محظوظين، بيدهم الصّناعة، وإقطاعيّين منحوسين بيدهم بعض القلاع؟
إذاً، حدث مصادفةً أن بدأت الحروب الصّليبيّة، وحدث مصادفةً أن امتلك البرجوازيّون السّلاح أثناء تلك الحروب، في حين لم يخطر في بال الإقطاعيّين، اللّذين يقودون تلك الحروب، أن يأخذوا ذلك السّلاح. ثمّ قام البرجوازيّون بدكّ قلاع الإقطاعيين المساكين الّذين لم يسعفهم الحظّ في امتلاك البارود!
إذا قرأنا أيّ كتاب، باستثناء كتاب البوطيّ هذا، عن الثّورات البرجوازيّة في أوروبّا، لوجدنا أنّ الطّرفين استخدما الأسلحة النّاريّة. ومن جهة أخرى ليست القضيّة في حرب أراد الطّرفان خوضها، بل كيف تكوّنت الطّبقة البرجوازيّة وأوجدت أحزابها؟ ولماذا حدث العداء بين الطّبقتين؟
نقده للتّجربة الاشتراكيّة
النّقد الأوّل: حصلت الثّورة الاشتراكية في روسيا، ولم تحصل في الدّول المتقدّمة، وخاصّة بريطانيا. وروسيا بلد إقطاعيّ قُبيل الثّورة. كما أنّ الثّورة الاشتراكيّة في روسيا سبقت الثّورة البرجوازيّة.
يكتب البوطيّ: "إنّ الدّول والمجتمعات الّتي ظهر فيها منذ أواسط القرن التّاسع عشر المؤشّر الّذي يعلن طبقاً لما ينصّ عليه قرار المادّيّة التّاريخيّة – أن قد حان أوان الثّورة الاشتراكيّة، الّتي يجب أن تهيمن على أعقابها طبقة البروليتاريا على الحكم ووسائل الإنتاج، لا تزال إلى اليوم على حالتها في هدوء وركود، تتولّى الأنظمة الدّستوريّة مهامّ الإصلاح فيها وتسيير دفّة الاقتصاد وغيره، دون أن تظهر بوادر أو شكايات تنذر بنشوب ثورة أو فتنة. ومن أبرز هذه الدّول بريطانيا ... نشبت ثورة الدّهماء والكادحين في روسيا، حيث لم تخرج البلاد، بعد، من عهد الإقطاع، ولم يكن لها شيء ممّا يُسمَّى صناعة كبرى بين الدّول الصّناعيّة آنذاك!. وهكذا قضت الثّورة في روسيا على دور الثّورة البرجوازيّة الّتي كان لها حقّ السّبق حسب المنهاج المرسوم" (ص 243 – ص 244).
بالنّسبة للنّقد القائل إنّ الثّورة ستقوم في بريطانيا أوّلاً، فإنّ لينين قد بيّن لماذا يمكن أن تقوم الثّورة الاشتراكيّة في روسيا، ولماذا تتعثّر الثّورة في أوروبّا الغربيّة. ولينين هو واحد من "أئمّة" الماركسيّة، فلماذا تجاهله البوطيّ؟
وبالنّسبة للنّقد القائل إنّ روسيا كانت في عهد الإقطاع عندما نشبت الثّورة الرّوسيّة، فإنّ لينين وضّح أنّ روسيا دخلت مرحلة العلاقات الرّأسماليّة، بل والإمبرياليّة، والطّبقة العاملة في روسيا تشغل شأناً هامّاً منذ بداية القرن العشرين. لكنّ ما يميّز روسيا عن دول أوروبّا الغربيّة هو وجود أشكال قديمة لعلاقات الإنتاج في أجزاء منها (المشاعيّة، الإقطاعيّة) كما أنّ الفلّاحين يشكّلون عدداً كبيراً، بالإضافة لانتشار العوز والظّلم والأوتوقراطية ... وبالتّالي يتّضح جهل البوطي بأحوال روسيا في تلك المرحلة.
أمّا بالنّسبة للنّقد القائل إنّ الثّورة الاشتراكيّة في روسيا سبقت الثّورة البرجوازيّة، فإنّ القارئ للتّاريخ الرّوسي يعرف أنّ الحكومة الّتي استولت على السّلطة في شباط من عام 1917 هي حكومة البرجوازيّة، ثمّ قام حزب العمال الاشتراكي الدّيموقراطي الرّوسي بالانقلاب واستلام السلطة في تشرين من نفس العام. كما أنّ ثورة عامي 1905 – 1906 كانت ذات طابع برجوازيّ واضح. وبذلك يتبيّن لنا تخلّف نقد البوطيّ وعدم قيمته.
النّقد الثّاني: لا تختفي القيمة الفائضة في المجتمع الشّيوعيّ. فالدّولة (!) تأخذ فائض القيمة من العمّال.
لن أقتبس هنا حرفيّاً تطبيقاً لمبدأ "اذكروا محاسن موتاكم"، وإنّ أيّ اقتباس حرفي من هذا المكان لن يؤدّي سوى إلى تبيان ضحالة تفكير الفقهاء عندما يحشرون أنفهم في الأمور الفكريّة العميقة، كعلم الاقتصاد والفلسفة والمنطق.
ولكن سأذكر ما يلي: يخلط البوطيّ بين المجتمع الشّيوعيّ، حيث لا طبقات ولا دولة. وهو مجتمع لم يتحقّق في أي مكان، بل يبقى نظريّة علميّة. وبين الدّولة الاشتراكيّة، حيث خاضت البشريّة تجربتين من هذا النّوع. فينسب مبدأ (من كلّ حسب طاقته، ولكلّ حسب حاجته) – وهو مبدأ يفترضه الماركسيّون في المجتمع الشّيوعيّ – إلى مرحلة الدّولة الاشتراكيّة! ومن المعروف، حتّى للمبتدئين في دراسة الماركسيّة، أنّ المبدأ الّذي تتّبعه الدّول الاشتراكيّة هو: (من كلّ حسب طاقته، ولكلّ حسب عمله) وليس حسب حاجته. وتقدير الأجرة، سعر العمل، يعود إلى علاقات السّوق الاشتراكيّة. ولكنّ فائض القيمة هنا، أي في الاشتراكيّة، موجود، وتقوم الدّولة الاشتراكيّة بتطوير الخدمات وقوى الإنتاج في المجتمع، ولا تذهب إلى جيوب الرأسماليّين.
ويكتب البوطيّ، كاشفاً عن حقيقة كلّ دعوته، مدافعاً عن الرّأسماليين الأخلاقيّين: "تنبثق قيمة السّلعة من مجموع ما يلي: الأجر الكريم الّذي يجب أن يناله العامل + كلفة صيانة الآلات وكلفتها + كلفة الزّمن الّذي أنفقه ربّ العمل في إيجاد ظروف العمل وشروطه مضافاً إليها فوائد المال الّذي حبسه في عمله ذاك؛ على أن يتمّ ذلك في ضوء ما يفرضه قانون العرض والطّلب، بشكل طبيعيّ، لا بعوامل الحجز والاحتكار" (ص 249).
هذه فحوى دعوة البوطيّ للاقتصاد، المزاحمة الحرّة للرّأسماليّن مع الحفاظ على حقوقهم المقدّسة. ويأخذ العمّال الأجر "الكريم" الّذي يحدّده قانون العرض والطّلب "بشكل طبيعيّ"! ولكن، أليست كلّ مآسي العمّال، وامتهان كرامتهم، قد حدث لأنّ الرّأسماليّين يسرقون فائض القيمة بحجّة ما ينفقونه من جهد ومال لتوفير شروط العمل (الاستغلال) و "حبس" أموالهم الّتي حصّلوها بالسّرقة والقتل والاستغلال، هم وآباؤهم المورّثين؟ ألم تكن مآسي العمّال وامتهان كرامتهم نتيجة قانون العرض والطّب "الطّبيعيّ"؟
أخيراً، هذا هو مستوى تفكير الفقيه البوطيّ في الاقتصاد، ونحن في سبعينات القرن العشرين!
النّقد الثّالث: إذا اعتبرنا أنّ العمل هو ما ينتج القيمة، فإنّ العامل سيأخذ كلّ القيمة ويبدّدها، فلا تحدث أيّ تنمية!
يقول البوطيّ: "وليت شعري، كيف تزداد الحياة الاقتصاديّة نموّاً وازدهاراً، إذا جعلنا قيمة السّلعة غطاءً لقيمة العمل وحده، ثمّ جلسنا ننظر كيف تتولّد القيمة من المصنع لتسير إلى حيث تدفن و تنمحي في جيب العامل وحده؟ .. بل كيف يمكن لطفل مراهق أن يتصوّر انبثاق التّنمية من هذا الوضع المغلق العجيب؟" (ص 250).
ليت شعري، لماذا ستدفن القيمة وتنمحي في جيب العامل؟ أليس على العامل أن يأخذ ماله ليشتري حاجاته من السّوق، وعندئذٍ تعود الأموال إلى صندوق المعمل ليعيد الإنتاج ويطوّره؟ ولماذا لا يكون الحاصل على فائض القيمة هيئة يديرها العمّال من أجل "التّنمية الاقتصاديّ"؟ ولماذا تكون التّنمية الاقتصاديّة حكراً على طبقة الرّأسماليّين؟ الجواب: لأنّ همّ الرّأسماليّين هو تنمية رؤوس الأموال، ولكنّ التّنمية المطلوبة هي تنمية الإنسان، وليس تنمية الرّأسمال.
النّقد الرّابع: بما أنّ الطّبقات نشأت نتيجة تطوّر قوى الإنتاج، وبما أنّ المجتمع سيتطوّر إلى مجتمع شيوعيّ، لا طبقيّ، فإنّ تطوّر قوى الإنتاج سيتوقّف بسبب زوال الطّبقات! (ص 250 – ص 251).
وهذا أغرب نقد سمعته! إذ يؤدّي "العامل الاقتصاديّ" إلى نشوء الطّبقات، ثمّ يزول العامل الاقتصاديّ إذا زالت الطّبقات! كيف ذلك؟
لو أنّ النّقد كان كالآتي: بما أنّ تطوّر علاقات الإنتاج قد أدّى في الماضي إلى نشوء الطّبقات، فما الّذي يمنع من ظهورها مرّة أخرى بعد نشوء المجتمع الشّيوعي؟ لكنّا اعتبرناه نقداً منطقيّاً، لكنّ القول بأنّه إذا اضمحلّت الطّبقات فلن يبقى هناك إنتاج وقوى إنتاج، فهذا غريب عجيب. لقد كان الإنسان يجمع طعامه ويزرع ويدجّن قبل أن يكون هناك مجتمع طبقيّ، وهذا واضح في مؤلّفات العالم الأمريكيّ مورغان. فما الّذي يمنع من وجود مجتمع لا طبقي؛ أي المجتمع الشّيوعيّ، مع وجود قوى إنتاج (الأرض والنّاس والآلات)؟ لا شيء.
النّقد الخامس: تتوقّف الحركة الدّيالكتيكيّة بعد أن يصل المجتمع إلى مرحلة الشّيوعيّة.
يقول البوطيّ: "إنّ الحركة الدّيالكتيكيّة ستنحسر عن التّاريخ الإنسانيّ، بعد أن يتكامل سلطان البروليتاريا على وسائل الإنتاج وسيحقّق النّظام الشّيوعيّ كفاية النّاس وحاجاتهم شيئاً فشيئاً، وعندئذٍ يزول التّناقض بين حاجات النّاس، ومستوى تطوّر الإنتاج. أي لأنّ التّطوّر يصل إلى أقصى مداه، والإنسان ينال جميع أحلامه! .." (ص 252).
يحتاج تطوّر قوى الإنتاج، ليصل إلى الحدّ الّذي يلبّي فيه حاجات الإنسان، إلى مراحل تستدعي وجود الحالة الطّبقيّة. وعندما يصل مستوى تطوّر قوى الإنتاج إلى درجة لا يحتاج تطوّره إلى الحالة الطّبقيّة يتابع تطوّره منتجاً حالة أخرى تناسبه، ولا يمكن الحديث عنها من الآن؛ لأنّ التّنبّؤ بالغيب، بعيداً عن العلم من اختصاص المشعوذين ورجال الدّين، وليس من اختصاص العلماء. إذاً، لا يتوقّف تطوّر قوى الإنتاج، لكنّ شكله في بدايات تطوّره يستدعي وجود الدّولة، وبعد استكمال هذا التّطوّر تصبح الدّولة تحفة قديمة.
النّقد السّادس: تحوّلت ديكتاتوريّة البروليتاريا من شكل لحكم الطّبقة العاملة إلى شكل لحكم الحزب الشّيوعيّ ضدّ الطبقة العاملة.
يقول البوطيّ: "وما إن نجح العمّال والفلّاحون في أعمالهم الثّوريّة، حتّى تقدّم منهم الحزب فأزاحهم عن الطّريق، مشيراً إليهم أن ينصرفوا مشكورين، وقبض الحزب الشّيوعيّ وحده على زمام الحكم، حيث أعطى نفسه حقّ الدّيكتاتوريّة في الحكم، وكان أوّل رأس هُشِّم تحت هذا الحكم هو رأس الطّبقة الكادحة. إذ قام الحزب بتشكيل الكولخوزات ..." (ص 2569.
لا يفهم البوطيّ معنى دكتاتوريّة البروليتاريا، فهو يعتقد أنّها أداة لمواجهة الصّراع الطّبقي. لكنّها تعني استخدام حزب العمّال لجهاز الدّولة لتحقيق مصالح الطّبقة العاملة، وذلك ضدّ مصالح باقي طبقات المجتمع.
قامت الثّورة الاشتراكيّة العظمى، في روسيا، بتحالف العمّال والفلّاحين، لكنّها تحت قيادة العمّال، مُمَثَّلين بالحزب البلشفيّ. لذلك كان هذا الحزب هو القائد والمقرّر لسياسة البلاد، وكانت الكولخوزات لتحقيق السّياسة الّتي أقرّها هذا الحزب لمصلحة الطّبقة العاملة.
يختتم البوطي، محاولاً التفكّه، بالقول: "هذه نماذج من التّناقضات الكبرى (يقصد ضمن التّجربة الاشتراكيّة) ... تناقضات تحطّم ولا تبني .. لأنّها تناقضات غير جدليّة" (ص 257).
من الوضح أنّ محاولات البوطيّ لإثبات تناقض النّظريّة الماركسيّة مع الواقع التّاريخي، واستحالة تطبيقها، باءت بالفشل. ولكنّ يعترف أخيراً، على الأقلّ، بأنّ التّناقضات الوحيدة الّتي تبني هي التّناقضات الجدليّة!
نقد البوطيّ للتّفسير المادّي للمشاعر الوجدانيّة
النّقد الأوّل: لم يفسّر الماركسيّون المشاعر الوجدانيّة، بل التزموا الصّمت حولها!
يقول البوطيّ: "ولكن كيف حلّ المادّيون مشكلة المشاعر الوجدانيّة ... هذا ما لا يتحدّث عنه الماركسيّون، من قريب أو بعيد، فلا جرم أنّهم حلّوا مشكلة هذه المشاعر عن طريق الصّمت! .." (ص 261).
هنا نتحدّث عن علم النّفس، والاتّجاه الّذي يفسّر الظّواهر النّفسيّة تفسيراً علميّاً مادّيّاً يعرفه كلّ من اطّلع على نظريّات علم النّفس الحديث والمعاصر. (سأضع الاستشهادات المناسبة لاحقاً، لعدم توفّر المصادر الآن لديّ).
النّقد الثّاني: لا يمكن تفسير المشاعر الوجدانيّة من خلال الحاجة إلى الطّعام والشّراب والمأوى!
يقول البوطيّ: "فبأيّ طاقة سحريّة يمكن جعل هذه الوحشة (لفراق من نحبّ) ثمرة من ثمار الحاجة الإنسانيّة إلى الطّعام والشّراب والمأوى؟" (ص 262).
تميّز الماركسيّة بين حاجات عضويّة؛ تشكّل جزءاً من الطّبيعة البشريّة ولا تتغيّر بتبدّلات المجتمع إلّا من حيث الشّكل، كالحاجة إلى الطّعام. وبين حاجات ثانويّة تنشأ عن الأولى، وتصبح ملازمة للإنسان، وهذه تتبدّل في حقيقتها بتبدّل المجتمعات، كحبّ المال والشّهرة. والحاجات كلّها أساس للمشاعر الوجدانيّة، أي أساس لتلك الحالات الّتي تنتاب الفرد جراء ظروفه الاجتماعيّة. وبالتّالي يخطئ البوطيّ بجعل الحاجات العضويّة هي الحاجات الوحيدة للفرد.
أمّا عن الأمثلة الكثيرة، الّتي يضربها البوطيّ ليثبت أنّ سبب المشاعر الوجدانيّة هو "وجود مشاعر وجدانيّة" في النّفس الإنسانيّة لا يمكن التّعبير عنها باللّغة، وليس سببها "الصّراع الطّبقيّ" كما يزعم، فحسبنا أن نأخذ مثال رعاية الأمّ لصغيرها. أليس دافع الأمومة ناجم عن تغيّر فيزيولوجي في جسمها؟ يقول العلم بأنّ زيادة إفراز هرمون البرولاكتين سبب هذا الدّافع نحو رعاية الصّغار. أمّا استمرار الأمّ البشريّة برعاية أبنائها وحبّهم فيعود إلى حاجات اجتماعيّة، كالمكانة والأمن. لكنّ البوطيّ يسخّف الماركسيّة بجعلها تعيد المشاعر بشكل مباشر إلى الصّراع الطّبقيّ.
النّقد الثّالث: اليهوديّة العالميّة وكّلت ماركس بمهمّته! (ص 266)
هذا اتّهام يعتمد البوطيّ فيه على حقده الموجّه إلى الماركسيّة و "الرّعاع" الّذين يمثّلهم ماركس؛ أي الطّبقة العاملة والفقراء. ويعتمد على ترجمة كامل العيثاني عن ماركس!
نقد البوطيّ للتّفسير المادّيّ للأخلاق
النّقد الأوّل: الماركسيّة تعتقد أنّ الإنسان أسّس المجتمع أوّلاً، ثمّ حصّل الوعي واللّغة من المجتمع.
يقول البوطيّ: "نتحدّث عن تعجّبنا من أن يتمكّن الإنسان الّذي لا يملك وعياً بعد، من أن يقيم لنفسه مجتمعاً، ليستعين به في الحصول على الوعي!! .." (ص 268).
ترى الماركسيّة أنّ المجتمع نشأ من العلاقة الجدليّة بين الوعي الّذي يتطوّر وأسلوب تحصيل الحياة الّذي يتطوّر أيضاً. فالإنسان، في سعيه لتحصيل عيشه يكتسب معرف وخبرات جديدة لا تستطيع الحيوانات اكتسابها؛ بسبب اختلاف تركيب الجهاز العصبيّ البشريّ عن تركيب الجهاز العصبيّ عند الحيوانات. ونتيجة هذه المعارف والخبرات يتطوّر الوعي، ثمّ يعود الإنسان الجديد ليستخدم وعيه في تحصيل عيشه بطريقة أفضل، فتتراكم لديه خبرات ومعرف جديدة تؤدّي إلى تطوّر وعي الإنسان، ثمّ يؤثّر الوعي الجديد على سلوكه في تحصيل عيشه ... وهكذا. ومن خلال هذه العمليّة الجدليّة تتطوّر العلاقات الإنسانيّة، فيتنقل الإنسان من حالة العشيرة الأمّيّة إلى حالة مجتمعية. والحالة المجتمعيّة تكرّس عادات وقوانين تؤثّر في سلوك الإنسان، وبالتّالي تحدّد وعيه.
لقد أخذ الميتافيزيقيّون – ومنهم البوطيّ - الحالة الرّاهنة من تطوّر البشريّة، حيث تحدّد علاقات الإنتاج الوعي الاجتماعيّ، وجعلوها حقيقة مطلقة. واستنتجوا بأنّ الوعي نتيجة للمجتمع، وبالتّالي ينشأ المجتمع أوّلاً، ثمّ ينشأ الوعي! وبهذا توهّموا وجود تناقض في التّفسير المادّيّ لنشأة المجتمع والوعي واللّغة.
ولذلك نجد البوطيّ يعود إلى تقرير قضيّة يعتقد بأنّها تنقض الماركسيّة، وهي أنّ الإنسان البدائيّ كان يمتلك الوعي أوّلاً، ثمّ أنشأ المجتمع بهذا الوعي؛ حيث أقرّ الأخلاق والقوانين!
لكنّ الماركسيّة تقول بأنّ الوعي البشريّ مكّنه من إنشاء المجتمع. ولكن أيّ وعي؟ إنّه الوعي البدائيّ الّذي كان يمتلكه بسبب ما حصّله من معارف وخبرات آنذاك، وليس وعياً ناجزاً أتاه بالفطرة. وهذا الوعي استمرّ بالتّطوّر حتّى الآن، كما أنّ المجتمع ما زال يتطوّر حتّى الآن، وهو ليس مجتمعاً ناجزاً.
وما يدحض كلّ انتقادات البوطيّ هنا – بل افتراءاته – هو واقع تطوّر الأخلاق والقوانين والمجتمع، من حال إلى حال. فلو كان الوعي من مصدر خارجي لكان وعياً كاملاً، ولأنشأ الإنسان مجتمعاً كاملاً، يطابق هذا الوعي.
النّقد الثّاني: إنّ الحضارات نشأت بفعل القيم الأخلاقيّة، كـ "الكرامة الإنسانيّة"، وليس نتيجة العلاقة بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج والصّراع الطّبقيّ.
حيث يقول البوطيّ: "ألا تجد أنّ "الكرامة الإنسانيّة" وهي واحدة من القيم الأخلاقيّة، كان لها مركز الثّقل من الدّفع إلى إنشاء تلك الحضارات؟ .." (ص 271).
حيث يحكي لنا قصّة الكرامة الّتي دفعت الشّعوب لمقاومة الاستعمار! ولكنّه لا يحكي لنا قصّة "الكرامة الإنسانيّة" و "الأخلاق النّبيلة" الّتي دفعت الدّول الاستعمارية لشنّ حروبها!!
النّقد الثّالث: الماركسيّة، وماركس تحديداً، يجرّد الإنسانيّة من القيم النّبيلة، كالكرم!
يقول البوطيّ متطاولاً على ماركس: " .. الإكرام، ذلك الخلق الإنسانيّ الرّفيع الّذي يمعن ماركس في سحقه وتجريد الإنسانيّة منه؟" (ص 272).
لقد كانت كلّ أعمال ماركس متّجهة إلى البحث عن أسباب امتهان الكرامة الإنسانيّة، الّتي عايشها وخبرها في أوروبّا. حيث كانت الطّبقة البرجوازيّة تستغلّ العمّال لدرجة تشغيلهم لساعات تصل إلى 18 ساعة في اليوم، في ظروف معيشيّة حقيرة، وأقبية نتنة. ولقد كانت حياة العامل قصيرة، لا يجد وقتاً لتحقيق حاجاته الرّوحيّة الإنسانيّة، وكانت القوانين جائرة بحقّ العمّال، ولم تكن "الكرامة الإنسانيّة" والأخلاق البرجوازيّة تمنعهم من هذا الظّلم والقهر والحرمان بحقّ العمّال. ووجد ماركس، مضحّياً براحته وراحة أسرته، سبب هذا الامتهان للكرامة الإنسانيّة؛ إنّه الملكيّة الخاصّة لوسائل الإنتاج، والاستيلاء على القيمة الزّائدة من قبل الرّأسماليّين.
ويأتي فقيه أخرق ليتحدّث عن الكرامة الإنسانيّة كسبب لنشوء الحضارات! ويتّهم المعلّم ماركس بسحق القيم الأخلاقيّة! إنّ أمثال البوطيّ، إذ يدافعون عن الملكيّة الخاصّة لوسائل الإنتاج، يسحقون أيّ تطلّع لتحقيق الكرامة الإنسانيّة والقيم النّبيلة. لكنّ التّاريخ سيدور دورته، ويذهب البوطيّ وأمثاله إلى مزبلة التّاريخ، وسيبقى اسم ماركس رمزاً للكرامة الإنسانيّة.
النّقد الرّابع: المادّيّة الجدليّة تخدم الصّهيونيّة العالميّة!
يزعم البوطيّ ما يلي: "من هو هذا السّيّد الّذي يدبّر الأمور خفية ثمّ يرقبها عن كثب: إنّه اليهوديّة أو الصّهيونيّة العالميّة! .. ذلك هو الضّيف الّذي ما زال المادّيّون الجدليّون منذ ماركس، منهمكين في إنضاج طبيخ المادّيّة الدّيالكتيكيّة والتّاريخيّة له! .." (ص 274).
وحجّته في ذلك أنّ الماركسيّة تنزع القيم الأخلاقيّة عن الإنسان، فتجعله يتبع غرائزه كالحيوانات، ثمّ يأتي اليهود ليقودوا قطيع النّاس – الحيوانات!
لكنّ الحقيقة أنّ الماركسيّة نظريّة علميّة للطّبقة العاملة، من أجل نزع القيم الأخلاقيّة البرجوازيّة، هذه القيم الّتي تخدم الصّهيونيّة (وليس اليهوديّة) والإسلامويّة (وليس الإسلاميّة). وترسيخ قيم الإنسانيّة، في العدالة والخير. أمّا دعوى البوطيّ للحفاظ على القيم الإنسانيّة الّتي أنشأت الحضارات، فهي دعوى لقيم الاستعمار والإمبرياليّة والصّهيونيّة، وتمجيد لاستغلال الشّعوب.
نقد البوطيّ للماركسيّة الذّرائعيّة
النّقد الأوّل: الماركسيّة فلسفة ذرائعيّة؛ حيث تكيّف كلّ نظريّاتها وأفعالها لخدمة ذريعة واحدة، هي إنكار وجود الله!
يقول البوطيّ: "أئمّة المادّيّة الجدليّة هم، بحقّ، أقطاب المذهب الذّرائعيّ، وجنوده المخلصون الصّامتون." (ص 279).
يستدلّ البوطيّ على هذا الاتّهام من خلال ما يلي:
1- أثبت بطلان المادّيّة الجدليّة وقوانينها.
2- أثبت بطلان مقولات المادّيّة الجدليّة.
3- أثبت بطلان المادّيّة التّاريخيّة.
4- أثبت إنكار الماركسيّة للمشاعر الوجدانيّة والأخلاق.
وبذلك تكون الماركسيّة كلّها، حسب زعمه، باطلة علميّاً ومنطقيّاً. ولا مبرّر لوجودها سوى رغبة مضمرة عند الماركسيّين لإنكار خالق الكون. ولكن لماذا يفعلون ذلك؟ لإبطال الدّين الحقّ؛ الإسلاميّ البوطيّ، ونصرة لدين اليهوديّة الباطل.
وأقول: بما أنّني أثبت أنّ كافّة انتقادات البوطيّ باطلة، فإنّني أثبت أنّ كافّة نتائجه باطلة. ولم أحصّل نقداً مفيداً من كلّ ما قاله، سوى اكتشافي لمنهج الفقهاء اللّامنطقيّ واللّاعلميّ.
إذ ليس همّ الماركسيّة إثبات عدم وجود الله، بل معرفة الواقع الموضوعيّ بصورة صحيحة، والتّنبّؤ باتّجاهات تطوّره، من أجل التّحكّم بقوانينه لتسخيرها لمصلحة الإنسان، وصون كرامته.
القرار الّذي لا مفرّ منه
أوافق البوطيّ على ضرورة الاحتكام للمنطق العلميّ في اتّخاذ قراراتنا، ولا ضير ممّا يوصلنا إليه نصيبنا من هذا المنطق. ولكنّ ظروف النّاس مختلفة، وحظّهم من الفهم متباين. ولذلك ستكون قناعاتهم متباينة تبعاً لذلك. فلنترك كلّ إنسان إلى ما يوصله إليه منطق تفكيره، فيبني عليه منهاج سلوكه، فهذا مغزى الحرّيّة. ولا داعي لإدخال التّخويف والتّرهيب إلى قلوب الشّباب؛ فهذا يتناقض مع حرّيّة البحث، ويشوّش عليه.
ملاحظة: يهمل البوطي التّوثيق العلمي الدّقيق، مما يجعل من التأكّد من صحّة اقتباساته أمراً أصعب. بالإضافة إلى تشويهه لكثير من أفكار معلّمِي الماركسيّة، وذلك لأسباب تتعلّق بعدم فهمه للنّصوص من جهة، ونواياه المسبقة من جهة أخرى.



#خالد_رشيد_رشيد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مساهمة نقدية حول كتاب (نقض أوهام المادية الجدلية)


المزيد.....




- وزيرة تجارة أمريكا لـCNN: نحن -أفضل شريك- لإفريقيا عن روسيا ...
- مخاوف من قتال دموي.. الفاشر في قلب الحرب السودانية
- استئناف محاكمة ترمب وسط جدل حول الحصانة الجزائية
- عقوبات أميركية وبريطانية جديدة على إيران
- بوتين يعتزم زيارة الصين الشهر المقبل
- الحوثي يعلن مهاجمة سفينة إسرائيلية وقصف أهداف في إيلات
- ترمب يقارن الاحتجاجات المؤيدة لغزة بالجامعات بمسيرة لليمين ا ...
- -بايت دانس- تفضل إغلاق -تيك توك- في أميركا إذا فشلت الخيارات ...
- الحوثيون يهاجمون سفينة بخليج عدن وأهدافا في إيلات
- سحب القوات الأميركية من تشاد والنيجر.. خشية من تمدد روسي صين ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - خالد رشيد رشيد - مساهمة نقدية حول كتاب (نقض أوهام المادية الجدلية)