أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أحمد ضحية - جماليات الطيف والصمت في صهيل الصمت لكلثم جبر















المزيد.....


جماليات الطيف والصمت في صهيل الصمت لكلثم جبر


أحمد ضحية
(Ahmed M.d. Ahmed)


الحوار المتمدن-العدد: 6775 - 2020 / 12 / 30 - 05:29
المحور: الادب والفن
    


قِراءَة في ”جماليات الطيف والصمت“:
في نَسِيج البِنيَّة والعِلاقات النَّصيَّة*
”نموذج صهيل الصمت لدكتورة كلثم جبر“


أحمد ضحية

تَوطِئة:

يتصدى هذا النَّص القَصصِّي لسرد حكايتها هي/الرَّاويَة الغَارِّقة في فسيفساء وِحدة، شيدتها من ذكرَّياتها الغابرَّة ”تصادمت الوجوه في ضجة عجيبة،كنت أنظر إليه، وأنا متدثرَّة بثوبي الزّهري: حبيبي ينظر إليَّ.. التفت لأُريهم كيف كانت عيناه الواسعتان تنظران إليَّ، غير أني لم أجد أحداً“ فالحكاية تنهض في علاقة بين طرفين: الرَّاويَة (الأنا) والمرأة المُقعَدَّة العزيزَّة عليها، تشرح فيها الرَّاوِّيَة معاناة ذاكرتهما المشترَّكة، قُبيل تغييب الموت لهذه المرأة العزيزَّة عليها.


بِنيَّة العُنوان والاستهلال:

العُنوان شاعري، يجمع بين الحزن المكتوم والبوح، الذي لا تزيده الذِّكرى سوى ألماً وعذاباً، وإذ ينطوي على متناقضاتِ الصَّوت والصَّمت، تتشكَّل دَلالَاته، في مَتنِ النًّص، فالعُنوَّان: (صَهِيل.. الصَّمت) يأخذ عمقه في الانفجار الفونولوجي لصوت (الصَّاد) في كلمة (صََّهِيل) و(الصَّاد) في كلمة (الصَّمت)، ليتردد الصَّدىٰ في أركانِ النَّص، ويتبدد في نسيج الحَكايَة، مشكلاً نوعاً مميزاً من الأصداء المتلاشية، التي ترِّن في الوجدان ”الكلمة أصغر وِحدَة مستقلة للُغَّة، تُشير إلى نوع معين من حقيقة فيما وراء اللُغَّة، أي المعنىٰ، وتتميز بخاصيات شكلية: صَّوتية وصَّرفية ودَلالَية“ [¹].
فهذا العُنوَّان: صََّهِيل الصَّمت، لنَّصِ كلثم جبر القَصصِّي القصِّير، يتكرَّس كمعادل لدَلاَلات السَّرد، بما يحمله من طاقة تعبيرية هائلة.
فالصهيل كمفردة تُشير للفرَّسِ الجامح، تتحَّول للدَلَالة عن محذوفِها، ليحِل الصَّمت محله.
وحيث يتشيأ (الصَّمت) مغادراً موقعه من حيِّزِ المعنىٰ، إلى حيِّزِ الوجود الفيزيقِّي الصَّاهِل، فانما يتبدىٰ عن المخفِي المجهول، المخيف بغموضه!
وهكذا نرتقي مدارج النَّص، لنتأمل أسواره السَّردية، في سعينا لفتح ثغرةً، يستطيع خلالها النَّص التدفق بمكنوناته!
وحيث أن الصَّمت أحياناً أبلغ من الكلام، وقيمَّة ثمينَّة لمجابهة الترَّهل اللَّفظي، الذي يفيض بدَلاَلاَت يمكن الاستغناءِ عنها، فهو بحد ذاتهِ استغناءً للذاتِ عن محيطها! واللَّفظ عن أشقائه وشقيقاته من ألفاظٍ وجمل!
وهكذا، في تأملنا لاستراتيجيةِ العُنوَّان ”صَّهيِل الصَّمت“ بالنسبة للخطابِ السَّردي، في النَّص الذي حمل هذا الاسم لكلثم جبر، نتنقل بين أنواع ٍ مختلفة من الصَّمتِ، لنتوقف عند ما ينتج عن حلول المصائب، كردِ فعلٍ عن القلق والخوف والانشغَّال، بالبحثِ عن مخرج ”كنتُ لم أفق بعد من صدمةِ الفراق“ ”أحاول أن أغادر بؤسي، وقوقعة صمتي، وأثنيك عن قرارك“ ليتضح، تغذِّي هذا الصَّمت من العُزَّلة والوحدة، كرديف للصدمة.
لقد إنشغل النقد الأدبي المعاصر، كثيراً بالبحث عن دَلَالاَت مفردات الحيَّاة حولنا، وقد نال ”الصَّمت“ أسوةً بغيرهِ، نصيباً من بحث الدرَّاسات الجمالية، في دَلالَاتهِ الخفيَّة، التي توجه ”الفعل“ في السَّرد.
وتستتعيد ذاكرتي هنا، أحد أبيات قصيدة (جارَّة الوَّادي)، التي كانت مقررَّة على جيلنا في المدارس: وتعطّلت لُغَّةِ الكلام وخاطبت عينايَّ في لُغَّةِ الهوَّىٰ عيناكِ [²]
فالصَّمت حميمِّي أيضاً، يتخلل نسيج دواخلنا، والفضاء الفسيح الذي يسيج مفرداتِ الحيَّاة التي نعيش، أو نحلم بها أو التي فقدناها، فما عادت سوى نوستالجيا معذبة!..
والصَّمت فوق ذلك كالسيف، أحيانا ”أصدقُ أنباءً من الكُتبِ...“ فهو ”من ذَهب“!
وللصَّمتِ أبعاداً ودَلَالَات فى بِنيَّةِ الخطاب السَّردي، تعوِّض عن حضور الفعل السَّردي، ونموِّه في أداءِ المعنىٰ، عندما تفشل ”التسوِّيَات“ التي تقترحها اللُغَّة، فتموت المفردة في مهدِها، بين نَبسِ الشِفاه!
ينهض الصَّمت على رُكامِ الوقائع والأحداث، وحُطام مواقعها المنسيَّة، يتسلل من النسيج الخفِّي للنَّص، ليسجل حضورِّه الطاغِ، في اشتراعِ تأسيسٍ موازي للفظ.
فالصَّمت في الخطاب السَّردي، ظاهرَّة غنِّية بالدَلالاَت، مشحونة بالجمال، ومعقدَّة بطاقتها التفجيرِّية التي لا تُرى، ولكن تتخلل وتخلخل مواطنِ البوح والألم، وأحاسيس الفقد والتوتر والقلق!
ولذا عندما نتأمل بنية العُنوَّان: "صَهِيل الصَّمت“، ككلمتين على حدي النَّص، إشتغلتا في نسج دلالاته، وما يحيل إليه باثواءاتهِ وانطواءتهِ اللُغَّوية والجمالية، خلف ما يخبئه هذا ”العُنوَّان“ من دلالات ورموز وأقنعة، تؤلِف البناء القاعدي، الذي تفضي بنا دهاليزه وأروقته، إلى عدةِ مستوياتٍ زَّمانية، تراوح بين الزَّمان الأوَل: ”الزمن الأول“ والزمان الآخر ”في الزمنِ الآخر.. والطرَّفِ الآخر من المدينة“ فالوقائع النفسية تجري بين حدي زمانين ومكانين: (الزَّمن الأول والآخر) و(المدينة وطرفها الآخر) ”في الزَّمنِ الآخر.. والطرَّفِ الآخر من المدينةِ، تصادَّمت الوجوه مرَّةً أُخريٰ، وهي تصرَّخ تحتِ الشَّمس، وامرأةً متدثرَّةً بثوبِها الأسوَّد، تحاول التغلغُل في زِحامِ السَّيرِ وهي تنظر إليه، وترفع يدها في حرَّكةٍ صاخبة، مشيرَّةً إلى الجسدِ المسجَّيٰ فوق الأعناق: حبيبي ينظر إليَّ.. التفتت لتُريهم، كيف كانت عيناه شبه المغلقة تنظر إليها، غير أنها لم تجد أحداً“
حيث تتكشف بين هذين الزّمانين خفايا وأسرار هذا الحكي الأسيان، الذي يُطهِّر هذه الرُّوح المنهكَة، التي تعذِّبها الذِّكرىٰ، والطُيوف التي تتحرَّك بين احداثياتِ الزَّمانين: (الأول والآخر!).
ففضاءِ النَّص هنا، لهو فضاء نفسي رَّحب، أكثر من كونه محدد بزمانٍ ومكان، نتيجةً لما اقترحه النَّص إبتداءً من زَمنٍ مفتوح على المكان، ما ترتب عليه نوع من القفزَّاتِ التي تراوَحت بين الزَّمانِ الأوَل والآخر، في الأمكنةِ المستدعاة، وإثارة الأسئلة حول ما جرىٰ ويجري فيها من وقائع، دون تقديم إجابات جاهزَّة للقارئ، ليقترح ما شاء لتسميتها، على خلفية وجدانه الثقافي ومعارفه وخبراته كقارئ.
ولذلك جاء السَّرد في جملٍ سريعة مقتضبة، مشحونة بتوتر البوح وقلق طاقة الانفعال، المتسرِّب مما تراكم في أعماق نفس الرَّاوِيَة بضميرِ المتكلم، الذي يتخطي رَقابة الذات، فيفرغ في هذا البوح ألم الفقد وعذاباتهِ!
فعلى أكتافِ هذا الرَّاوِي المحوِّري، تنهض استقطابات البوح في مكوِّناتِ النَّص، وتتحوَّل مدرَكات الواقع الملموسة إلى لامرئي جميل، طاغٍ ومحسوس!
وفي الاستهلال كحامل لكل نُوِّيَات النَّص، تبدأ الرَّاوِّيَة حكايتها: ”استشعر الحنين في هذا اليَوم القائظ، وأنا أقف وسط التراب المترَّاكم، أبحث عن بقايا صوتك“ فتتشكَّل منذ هذه اللحظة، ”البِنيَّة الفِعلِيَة“ من الفعل ”المضارع“ (استشعر، أقف، أبحث، إلخ)، وإذا تأملنا المعاني الدفينَّة لهذه البنية الاستهلالية، نجد أن المفردات:

أستشعر: أحست به ”مبهماً“ أو حدثتها به نفسها، أو توقعته بصورَّةٍ ”غير واضحة“، فهو طيف محض!
أقف: أكف!
أبحث: أُفتش واستوضح..

وهكذا تتوالى بين احداثيات هذا النَّص ”جُمَل فِعلِيَة“ تتغذَّى من ”البِنيَّة الفِعلِيَّة للاستهلال“. فبُنيَّة الجُملة الفِعليَّة، تؤشِر علىٰ زَّمن المضارع، للدَلَالةِ على الحدوث المستمِّر في الحاضر.
ويقينِّي أن هذا النَّص الجميل لكلثم جبر، الذي جعل من الصدمَة المستفزَّة معادلاً للوصف ”لم أجد أحداً!“.. لهو من النُصُّوص الغنِّية بالمقترحاتِ النقدية، التي بحاجة لتخصيص قِراءات منفصلة، كالضّوء والصَّوت، إلخ، من مفرداتٍ ذات دلالات عميقة، في مسكوتات هذا النَّص العذب، الرقيق في حزنه وأسيانه!
جاءت لُغَّة هذا النَّص القَصِّصي الجميل،مكثفَّة، متوترَّة، بين حدي السَّرد والشعر. غنِّية بالدَلاَلاَت والرُّموز، تتستغنى عن الافصاح، متكئةً على الايحاء والتلميح، فنحن لا نعرف ”موضوع الفقد“ كذات مسمَّاة، ولكننا نستشفه من محيطه العائلي الذي يضعنا، ربما في مواجهةِ ”فقد الأم“.


فِي الحَكَايَةِ والقَول

تبدأ الحكاية بصَّوت الرَّاوِّيَة المتكلمة/أنا ”استشعر الحنين في هذا اليوم القائظ، وأنا أقف وسط التراب المترَّاكِم، أبحث عن بقايا صوتك. هبَّت رياحه من بعيد“ تبحث في هذا (الصَّمت)عن صوتها، فلا يتناهى إلى مسامعها سوى صَّوت الريِّاح.
وهكذا إبتداءً من هذا السطر الاستهلالي، تمضي بنا الرَّاوِيَة في غابةٍ من الصَّمت، حيث نتحسس ما هو ملموس وغير ملموس في تردد ”ولم تكن صدي خطواتك بئيسة“ وعلى النَّحوِ نفسه نسمع وقع الخُطىٰ، ونرى الضَّوء”وأنا أركض خلفك والضياء خلفنا يزداد توهجاً“ ”وتحوَّل الصرَّاع بداخلي إلى أنين، والضياء المتغلغِّل من البوابةِ الزجاجية خلفنا يتضاءَل.. أصبحنا معاً داخل ممَّرَّاتِ الدهاليز الباردة، وأنا أحمل حقيبتك الصغيرَّة“.
بهدؤٍ يأخذ مناخ الحزن الذي بدأ يتشكل في الاستهلال، أبعاده لينداح في مَدِّياتِ النَّص، فينطبع كل شئٍ بالكآبة، التي تتغلغَّل في بوحِ الرَّاوِيَة ”الشَّمس تُلقي بشظاياها من خلفِ النَّافذة، وأمواج البحر تتلاطم من بعيد“ ”دعينا نفارِق هذه الغُرفة البارِّدة.. غير أن صوتي تبخرَ قبلَ أن يَصلَ إليك، وفِكرَّةِ الهُروب من هذه البوابة، التي أغلقت متاريِّسها الحديدية خلفنا، تلاشت تحتِ وطءِ الخطواتِ الرَّتيبة، التي جاءت لتأخذك لغرفةِِ المجهول“
”وأنا أركض بداخلي خلفك، وأحاول أن أسد بجسدي الباب، حتي لا تتسللين إلي الداخل، غيرَ أنكِ قرَّرتِ الدخول، أو عدم الخروج، قبل عثورك علي مقبض السكينة الذي استل طفلي بين حناياه“
”هبت رائحة شواء جسد بشري، تقهقروا للخلف، أعادتهم البوابة الخشبية المشرَّعة للمدينة العتيقة والغُبَّار الساكن، إلي بوتقةِ الحزن. فصمتت هتافاتهم وهم يتلقون الحاضنة الزجاجية“ ”في الزمن الآخر، والطرف الآخر من المدينة.. جاءوا بقميصهِ الملطَّخ بالدَّم، وفي ذاكرةِ المرأةِ المدثرَّةِ بالسواد، آثاراً لكابوسٍ لم تنطفئ ملامحه بعد، غير أن الأشياء بدأت تتسع، وتصبح في مساحةِ الرؤية، حاولت أن تستعيد تفاصيل جسده، وهو يودعها في ذاك الصباح الباكر، وينكفئ علي يديها“.
قليلة هي النُصُّوص، التي نشعر عند قراءتها بلذَّة الحكي ومتعته، وتشعل في أشجار الأسئلة اليابسة داخلنا، نيرَّانِ التجدد، لتزرع في رمادها جُذوَّةً لخيالٍ جامحٍ كطائرِ فينيق، يسعىٰ للافلاتِ من أسرِ التلميحِ والايحاء، ليشيد معنى للوجدان الأسيان، المسكون بالأخيلة والطُيوف، التي تسكنها أرواح الأحبة الذين رحلوا عنا!





جَمالياتِ الطَّيف والصَّمت

لسردِ المرأة خصوصيتهِ البليغة، إذ ينهض في المتوَّهم أو المتخيَّل أو الطَّيف، بما يمثّله من غوَّاية لذيذة، في إشباعِ رَّغبة الحكي، فهو بديل الواقعي المتجسد فيزيقياً، الذي تتعرَّى فيه شَهرَزاد السَّرد عن أوجاعِ الخنساءِ، التي تغرَّق في آلامها المترَّاكمة، والمتجذرَّة في الأبنيَّةِ الاجتماعية والثقافية، لمئاتِ السنوات!
لذا تكتب شهرَزاد هذا النَّص نفسها، التي تصبح بؤرةً دَلاَليَة تبدأ منها عوالم النَّص وتنتهي! لتبدأ من جديد في حركةٍٍ كامنة ”لم أجد أحداً“.
حيث تتكرَّر هذه العبارَّة، في الدائرةِ الزَّمانية، تجسد تكرَّارِ فعل الغياب ”لم أجد أحداً“.
تتكرَّر هذه العبارَّة في النَّص صَّهِيل الصَّوت، مشكلةً في الغائب ”الحضور الطاغِ“ الذي يفلت من اللامرئي الفيزيقي، إلى تخوم المرئي الماورائي، فتتجاوز الدَلَالة سياقها الزَّماني والمكاني، لتشكِّل في الفضاءِ الفسيح للنَّص، رحلة لا نهائية للطيف، من أنساقِ المبنىٰ إلى تجلياتِ المعنى.
فكما أشرنا، فيما سبق، أن كلثم جبر لا تُسمِّي الأشياءِ باسمائها، إذ توظف طاقة التلميح والايحاء، في اغواءنا لاستكنَّاه محمولاتِِ النَّص، وإيصال المعنىٰ.
ففي هذا النَّص، نتعرف عبر لُغَّتها المتوترَّة، المقتضبة. على سرِ حزن الرَّاوِّيَة، فهي تعاني الاحساس بالخسارَّة ومرارَّة الفقد للمرَّة الثانية، فقد فقدت طفلها من قبل ”تركت الممرضة تهرول خلفي فزعة، وأنا أهرول خلف حاضنته الزجاجية الصغيرَّة، وهم يهرعون به إلى غرفة المجهول، وأنا متدثرَّة بثوبي الزَّهري: حبيبي يبتسم إليَّ التفت لأريهم كيف كان يبتسم إليَّ، غير أني لم أجد أحداً“
ثم يأتي الفقد الثاني للأم، التي تُوفيَّت في غرفة عمليات المستشفى، فتراوح تخاطب طيفيهما كأنهما لا يزالان على قيدِ الحيَّاة، تبثهما حزنها الشفيف.
ومن ثم على نحوٍ مباغت، تغادر موقع الرَّاوِيَة (الأنا/المتكلم)ليحل راوٍ آخر، خفي من موقع الطيف (مخاطب).. هل من كان يروي لنا (هي) المتكلمة أم (هو) المخاطب؟!
ومن منهما، الذي كان يتحكم في سرد ما جرى ويجري من أحداث؟ هل هو هذا الرَّاوِي الشبح، الذي باغتنا حضورّه، مقتحماً فضاء السرد؟!
هل خرج هذا الطيف من مخبئه السِّري، الذي لا يعرفه أحد، حيث كان لا يفتأ يختفي، هناك.. في زمكانٍ (ما) في العالم القَصصِّي يراقب الرَّاوِية، ويتأمل ما جرى معها؟!
ها هو يرفع تقريره، بلهجة محددة، تصف ما حدث وما أُتخذ من إجراء في فقدها الأول ”أخرج الفتية مخزون قهرهم في لحظة محتدِّمة، لم يتبق شئ في جوف الأرض من حصِّي، قلبوا التراب، وذرَّات التراب، تجمعَّت أجسادهم متلاصقة، ترَّاخت قبضاتهم، حينما هبَّت رائحة شواء جسد بشري، تقهقروا للخلف، أعادتهم البوابة الخشبية المشرَّعة للمدينة العتيقة والغُبَّار الساكن، إلي بوتقة الحزن!
فصمتت هتافاتهم، وهم يتلقون الحاضنة الزجاجية، لجسدِ طفل مسجىّٰ بداخلها، وامرأة متدثرَّة بالسواد تغادر البوابة المشرَّعة، مشيرَّةً إليه“
ومن ثم يتنحىٰ هذا (الرَّاوِي الخفي) مفسحاً لها (الرَّاوِيَّة) حين التفتت لتُري هؤلاء الغياب/الحضور ابتسامة طفلها الفقيد ”التفتت لتريهم كيف كان يبتسم إليها، غير أنها لم تجد أحداً“.
وهكذا تبدأ طيوف الأحباب الذين فقدتهم، تتشكَّل في فضاءِ النَّص..
ويحيلنا ذلك إلى مفهوم ”المُتخيَّل“ الذي أشرنا له فيما تقدَّم،كمفهوم مركزي هارب عن الموضعة، لانطوائه على جاذبية الاغراء والغموض في الآن نفسه، فنحن نبحث مع الرَّاوِية التي تقف ”وسط التراب المتراكم، أبحث عن بقايا صوتك“ صوت الطيف اللامرئي/الهو/أنت، الذي تخاطبه من موقع الأنا، ونركض معهما ”نحو المجهول، وأنا أركض خلفك والضياء خلفنا يزداد توهجاً“، فكل شيء هنا حُلُمي، طيفي، هارِّب عن التموضع كذَّات ملموسة، غير قابل للتحليل المختبري!
وفي الآنِ نفسه، تُشكِّل هذه الذَّات اللامرئية حضوراً طاغياً، بين احداثيات السَّرد ”تصادمت الوجوه في ضجة عجيبة، كنت أنظر إليه، وأنا متدثرَّة بثوبي الزَّهري: حبيبي ينظر إلي.. التفت لأريهم كيف كانت عيناه الواسعتان تنظران إليَّ، غير أني لم أجد أحداً“
وفيما يتخلل هذا ”اللامرئي“ السَّرد، تتصل ماهيته بماهية ”الصَّمت“ ويتوحدان كذَّات فاعلة، تنمو طيها الأفعال، يتماهيان: الصَّمت في الطَّيف، ويصبحان كلاً واحداً، ادراك كَنه أحدهما ادراك لكَنهِ الآخر!
الرَّمادية التي تسيج النَّص، تمنحنا درجة ”تظليل“ لازمة لفكرة ”الانسياب والتخفي“ والاقصاء البَصرِّي.. الإفلات من حقيقة أنّ الشبح طيف للموت لا غير!
فكلاهما ”الصَّمت والطَّيف“ مادتان هاربتان عن الموضعة، وكلاهما مادتان متحولتان في الزَّمان والمكان، فالطيف قد يصبح روح أو شبح أو أي شئ مُتخيَّل بحافز اثواءات الذاكرة والوجدان الثقافي، ويحيل ذلك إلى منطقة ”الظِّل“ حيث يصبح أفق الحصول على اجابات ممكناً.
فالظل/الطيف، ذات حاضرَّة من خلال فعل القصّ. فهو بمثابة الخلفية لإحداثيات السَّرد، فهو من يحرك عناصر الرَّسم البياني، ويحدد نقاط التقائها، وتراجعها، وتقاطعها وتوازيها، ولا يمكن لأحدنا إدراك وجود ظاهري له، فهو ”لامرئي في النصّ“ فهوكطيف يندس خلسةً في أثيرِ البِنيَّة الباطنية، ويتنقل على احداثيات البنية الظاهرية بحذر، يرى كل شئ دون أن نراه، فهو طيف.. غير موجود، ما يفسر آخيراً تكرَّار الرَّاوية على إمتداد النَّص لعبارة: ”لم أجد أحداً“.
إذا كان الطَّيف في علاقاته أيضاً بفكرةِ (القرين) يرتبط بالصَّمت، فان الصَّمت أيضاً يرتبط جدلياً بالصوت، في الطبيعة وعناصرها وأدواتها، ومفرداتها، التي تغذِّي الموسيقىٰ وسواها من الأصوات، جميعها تخرج من هذا الرَّحم ”الصَّمت“ فنحن لا نعرفه إلا في الصَّوت!
والصَّمت ينطوي على المعانِ ذاتها، التي تنطوي عليها الطبيعة، في رهبتها وغضبها وسكونها واعتدالها. فكيف نمسك بماهية هذا الصَّوت/الصَّمت الهارب في الطيف!
وهكذا موضوعياً يعادل الصَّمت الطيف، لكونه من مكونات الاتصال، وأدوات التواصل”لا يستطيع المرء أن يتصوَّر عالمًا ليس فيه شيء سوىٰ اللُغَّة والكلام، لكن يستطيع المرء أن يتخيل عالمًا حيثما لا يكون هناك شيء إلا الصمت“
”ويحتوى الصَّمت كل شيء فى ذاته، إنه لا ينتظر أى شيء؛ إنه حاضر دائمًا، وبصورَّة كلية فى ذاته، ويملأ تمامًا الحيِّز الذى يظهر فيه.. لا يكون الصَّمت مرئيًا، ومع ذلك فوجوده واضح بجلاء إنه يمتد إلى أبعد المسافات، مع أنه قريب جدًا لنا، بحيث نحسه بصورَّة واضحة كما نتحسس أجسادنا؛ إنه غير محسوس مع أننا نشعر به مباشرَّة“ [⁴]
وتجدر الاشارة هنا، إلى أن المحاكاة خرَّجت من رَّحم الصَّمت، وتطورَّت في لُغَّةِ الجسد body language ومسرح الشخص الواحد، إلخ.
فالصَّمت نشاط واعي يرتبط بالإنسان والطبيعة حوله، فكيف لنا أن نسمع حفيف أوراق شجرَّة ”القمبيل“ في وديان دارفور عندما تلامسها الريح، لولا هذا الصَّمت الذي يَعُم الوديان!
فالصَّمت مبدأ أنطولوجى وجودي يدخل فى نسيج التجربة البشرية[⁵] ففي هذا الصَّمت تشير الرَّاوِيَة إلى طيف طفلها، فيما جسده مسجىٰ ”فوق الأعناق: حبيبي ينظر إليَّ.. التفتت لتُرِّيهم كيف كانت عيناه شبه المغلقة تنظر إليها، غير أنها لم تجد أحداً“.


خاتمة

إنّ أهمّ ما يميّز الطيف إذن هو تعطّل تبادل النظرَّات بينه وبين الآخرين ”كانت عيناه شبه المغلقة تنظر إليها“ فهو مختبئ في قناع اللامرئي كالظِّل. ويراهم جميعاً، لكنه في الآن نفسه منفصل عن عالمهم، الذي يبدو فيه، هائماً في التجريد، فهو الكلّ ولا شيء في الآن نفسه [⁶]
”جاءوا بقميصه الملطخ بالدم، وفي ذاكرةِ المرأة المدثرَّة بالسوَّادِ آثاراً لكابوسٍ لم تنطفئ ملامحه بعد، غير أن الأشياء بدأت تتسع وتصبح في مساحة الرؤية، حاولت أن تستعيد تفاصيل جسده، وهو يودعها في ذاك الصباح الباكر وينكفئ علي يديها لاثماً إياها..
حينما لملمت بقايا ثوبه، وقميصه، رأته في وسط الزِّحَام يطل بملامحه الفتيَّة وفوق رأسه عصبته القطنية، التي أهدتها إياه خالته في يومٍ ماطر، يسابقها صوتها المختنق الضاج بالوجع، وهي تردد من الداخل دون أن يسمعها:
أرجوك.. أ.. أ..
ولم تصرخ.. أبداً. لم تصرَّخ وهي متدثرَّة بثوبها الأسود.. التفتت لتريهم كيف كان يسجد لله، غير أنها لم تجد أحداً“.


أحمد ضحية
٢٣ أغسطس ٢٠٢٠
لانسينغ، ميتشيغان.


هوامش:

[¹] غاستون باشلار، ترجمة دكتور علي نجيب إبراهيم، الماء والأحلام، دراسة عن الخيال والمادة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت الطبعة، الأولى ٢٠٠٧، ص: ٥٧
[²] جارَّة الوادي، لأمير الشعراء أحمد شوقي، من أجمل أغنيات فيروز.
[³] نجيب العوفي، عوالم سردية ”متخيّل القصّة والرواية بين المغرب والمشرق“، دار المعرفه، الرباط، الطبعة الأولى ٢٠٠٠، ص: ٧٥
[⁴]ماكس بيكارد، ترجمة قحطان جاسم، عالم الصمت، دار التنوير، الطبعة الأولى ٢٠١٨، ص: ٧٣
[⁵] جان بول سارتر، ترجمة جورج طرابيشي، جمهورية الصَّمت، دار الآداب، بيروت، ١٩٦٥ص: ٤٣
[⁶] جاك دريدا، ترجمة دكتور منذر عياشي، أطياف ماركس، مركز الانماء الحضاري، حلب، ٢٠٠٦ ص:٧٧
[⁷] مجموعة مؤلفين، معجم السرديات، دار محمد علي، تونس، الطبعة الأولى ٢٠١٠، ص: ٨٣

*هذه القراءة النقدية مجتزأة من فصول دراسات مطوَّلة حول القصة القطرية بأقلام نسائية، عُنونت بـ ”شهرزاد السرد الخليجي: الإمارات وقطر والكويت- نموذجاً“، وهي فصول تضمنها الجزء الرابع الخاص بالقصة والرواية العربية، الذي قيد الاعداد الآن، ضمن المشروع النقدي للمؤلف: ”السرد والرؤى١–٦“. الذي صدر الجزء الأول منه: ”تخوم السرد أرخبيل الحكايا، عن دار نشر رفيقي، جوبا ٢٠٢“.
وسيصدر الجزء الثاني عن نفس الدار بنهاية هذا العام.



#أحمد_ضحية (هاشتاغ)       Ahmed_M.d._Ahmed#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مزيج رائحة القهوة والتاريخ
- حرب المعنى: بروفايل ثائر مهمل!
- آلام ذاكرة الطين
- على هامش الثورة السودانية و بدء العد التنازلي لسقوط النظام ( ...
- هل سيعبر الرئيس السوداني المطلوب للجنائية الأطلسي بسلام آمنا ...
- الثورة السودانية المتنامية: جرائم الماضي والحاضر.. ورؤى وآفا ...
- الثورة السودانية المتنامية: جرائم الماضي والحاضر.. ورؤى وآفا ...


المزيد.....




- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
- منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا ...
- قيامة عثمان حلقة 157 مترجمة: تردد قناة الفجر الجزائرية الجدي ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أحمد ضحية - جماليات الطيف والصمت في صهيل الصمت لكلثم جبر