أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - القضية الفلسطينية - سليم زاروبي - بطل من ذلك الزّمان -- من وحي كتاب -المتفائل: سيرة حياة اجتماعية لتوفيق زياد- ل -تمير سورك-















المزيد.....

بطل من ذلك الزّمان -- من وحي كتاب -المتفائل: سيرة حياة اجتماعية لتوفيق زياد- ل -تمير سورك-


سليم زاروبي
عالم فلك فلسطيني متخصص في دراسة فيزياء الكون

(Saleem Zaroubi)


الحوار المتمدن-العدد: 6768 - 2020 / 12 / 22 - 21:13
المحور: القضية الفلسطينية
    


الكتب التي تسرد سِيَر البشر المميزين هي من أكثر الكتب إلهامًا، ليس فقط لأنها كثيرًا ما تعرض حياة أشخاص تملؤهم الطموحات والآمال والتطلعات والمواهب الفذة منذ صغرهم، بل لأن غالبًا ما يتضح أنهم مثل غيرهم من البشر، لديهم الكثير من النواقص والتخبطات والتناقضات والشكوك والمآسي الشخصية التي تجعل حياتهم أكثر إثارة وإنجازاتهم أعظم تميّزًا. إذ، كيف يستطيع هؤلاء الأشخاص، الذين يبدون أناسًا عاديين لأول وهلة، أن يحلقوا عاليًا فوق الجميع ليحققوا إنجازات عظيمة تؤثر في حياة الكثيرين. لكن السّيرة التي قرأتها في الفترة الأخيرة شدتني بشكل أكبر من المعتاد بكثير، وذلك لأن بطلها شخص عرفته منذ صغري وأحببته وقدرته كثيرًا، كما اختلفت معه في عدد من الأمور. كذلك، وَصَف الكتاب أحداثًا عشت جزءًا منها بشكل شخصي، كانت لها أهمية كبيرة في تشكيل شخصيتي ورؤيتي السياسية والاجتماعية. لهذا، أخذ تفاعلي مع الكتاب منحًى غير اعتيادي، أشد متعة وأكثر عمقًا، فوجدتني أبتسم تارةً، ثم أحزن، ثم أفرح، ثم أغضب وتارة أخرى يستولي علَي الحماس أو تنهمر الدمعة من عيني.

إنه كتاب سيرة حياة الشاعر والقائد السياسي المميز توفيق زياد (أبو الأمين) بعنوان "المتفائل: سيرة حياة اجتماعية لتوفيق زياد" (The Optimist: A Social Biography of Tawfiq Zayyad) من تأليف تمير سورك (Tamir Sorek)، وهو أستاذ علم الاجتماع في جامعة فلوريدا في الولايات المتحدة (الكتاب باللغة الإنجليزية لكنه قيد الترجمة للعربية على يد الصديق د. باسيلا بواردي).

تتطلب كتابة التاريخ عادة بُعدًا زمنيًا كافيًا عن الأحداث التي تتناولها، وذلك لحاجة فهم التأثير التاريخي الحقيقي لهذه الأحداث ولحاجة المؤرخ بأن يكون "موضوعيًّا" وغير مرتبط عاطفيًّا بالأحداث والشخصيات التي يتناولها. في الحقيقة، الوصول إلى ابتعاد واضح وموضوعيّة تامّة في علاقة المؤرخين بموضوع كتابتهم هو هدف يكاد يكون مستحيلاً ومن الخطأ أن نتوقّعه منهم. لكن في الوقت نفسه، لا تجوز المهادنة في الموضوعيّة عند عرض المؤرخين للحقائق (وأنا ممن يعتقد بوجود حقائق موضوعيّة، حتى في التاريخ). نجح كاتب الكتاب الذي أعرضه هنا، برأيي المتواضع، في الوصول إلى توازن بين تضامنه العاطفي مع موضوع كتابته وبين الموضوعية الواضحة في عرضه للحقائق والأحداث التي عصفت بشعبنا منذ النكبة وما قبلها، حتى أواسط التسعينيات.

يعترف الكاتب، الاسرائيلي الأصل، أنه لم يقابل توفيق زياد خلال حياته، وهو ما يعطي برأيي وزنًا خاصًا لهذه الدراسة لأن الكاتب لم يحمل رأيًا مسبقًا عن موضوع دراسته، بل اجتهد كثيرًا ليشكل تصورًا متكاملًا عن توفيق زياد ومواقفه، واستطاع بذلك أن يحقق التوازن المطلوب بين الذاتي والموضوعي. ما يميز الكاتب أنه ليس من مجموعة المؤرخين الاستشراقيين التي تنتمي إليها الغالبية الساحقة من المؤرخين الإسرائيليين الذين أرّخوا ويؤرخون للقضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي من منطلقات استشراقية وصهيونية. وهو يذكر هذا بنفسه بشكل واضح، بل هو يعرّف نفسه في مقدمة الكتاب بأنه "ابن لمجتمع مستعمِر" ويتساءل بوضوح عن التناقض الظاهر بين حقيقة كونه إسرائيليًا وحقيقة أنه يؤرخ سيرة أحد أبرز القيادات الفلسطينية، ويقول إن الكتاب في جوهره "هو عرض متعاطف لشخصية سياسية وثقافية فلسطينية بارزة من قبل باحث إسرائيلي يهودي".

يقف الكتاب عند المراحل الأساسية في حياة توفيق زياد - الذي ولد عام 1929- والتي كانت النكبة أولها، وربما أعمقها، إذ عصفت به وبأبناء جيله وقلبت حياتهم رأسًا على عقب وهم ما زالوا في عنفوان شبابهم. لعله من الصعب على من لم يعش مثل هذا الحدث الكارثي أن يفهم عمق المأساة التي حلت بهذا الجيل الذي بات أبناؤه كالأيتام على مائدة اللئام والتي دَمّرت المجتمع الذي ترعرعوا فيه وجَرّدت معظمهم من الوطن والأرض والمدينة والقرية، وبالتالي من السياق التاريخي والاجتماعي والاقتصادي لوجودهم. فكان على أبناء هذا الشعب أن ينهضوا بمجتمعهم ويلملموا أشلاء ما تبقى منه ليكوّنوه من جديد. كل ذلك في ظل دولة غريبة عنهم تمامًا ومعادية لهم حتى الصميم، بناها مستعمر خلق قصة خيالية بديلة لوقائع التاريخ وعمل ـ وما زال يعمل حتى يومنا هذا ـ بمنهجية مرعبة، مجبولة بالعنف، لكي يمحو تاريخ فلسطين السابق عن الوجود، بل ويصرّ على أن تتبنى ضحية مشروعه الاستعماري روايته وأن تتنكر للواقع الأليم الذي عاشته وما زالت تعيشه.

كانت هذه هي المهمة المستحيلة التي وقعت على عاتق جيل النكبة من الذين بقوا في البلاد فكان عليهم أن ينهضوا بشعبهم من تحت الأنقاض. من هنا أتت كلمات النداء الخالدة التي جاء بها توفيق زياد " فمأساتي التي أحيا ….. نصيبي من مآسيكم" في قصيدته "أناديكم"، والتي بالرغم من تأثيرها الكبير على كل من يسمعها، إلّا أن وقعها أعمق بكثير، بلا شك، على أبناء جيله، جيل النكبة. هذه المآسي التي ما زلنا نتوارثها جيلًا بعد جيل أينما تواجدنا وحللنا.

يسهب الكتاب في وصف الظروف الاجتماعية والسياسية التي واجهها الفلسطينيون في تلك الفترة، وبالذات ظروف مدينة الناصرة التي تحولت من مدينة صغيرة لا تعدّ أكثر من 7000 نسمة عام 1920 إلى المدينة الكبرى، بعد النكبة، والبوصلة السياسية لأبناء الأقلية الفلسطينية التي بقيت في أرضها، نتيجة للنشاط الكبير للحركات القومية والاشتراكية فيها. ويسهب أيضًا في الحديث عن التحديات المستحيلة التي فرضها الواقع الجديد أمام الأقلية الفلسطينية التي بقيت في أرضها والتناقضات الهائلة التي فرضتها عليهم ظروفهم الجديدة التي خلطت القومي بالأممي والمبدئي بالمتهادن والفلسطيني صاحب الحق بالصهيوني المستعمر.

يستمر الكتاب في رحلته عبر حياة توفيق زياد من معركة البقاء في الخمسينيّات والستينيّات من القرن الماضي، عمله النقابي والحزبي والأدبي (كشاعر وكاتب) واعتقالاته المتكررة وتعرّضه للتعذيب. ثم تأتي حقبة السبعينيّات ومرحلة رئاسة بلدية الناصرة ودورة المفصلي في "يوم الأرض" الذي كان قائده بلا منازع. ومنها إلى الثمانينيّات والانتفاضة الفلسطينية الأولى وصعود حركات الإسلام السياسي التي رأت المأساة الفلسطينية والواقع السياسي عامة من خلال منظار ديني ضيق. تلاها بعد ذلك انهيار الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية، والذي نزل كالصاعقة على توفيق زياد وحزبه وانتهاءً بعملية أوسلو والدور المركزي الذي لعبه من موقعه كقائد للجماهير العربية، وانتهاء بالحادث المروع الذي أودى بحياته في تموز 1994. ويعكس الكاتب من خلال هذه المسيرة زخم الأحداث والتغيرات التي عصفت، وما تزال تعصف، بالمجتمع الفلسطيني ووتيرتها الهائلة.

تبرز في هذه السيرة كمية التناقضات الهائلة التي يعيشها فلسطينيو الداخل الذين بقوا في وطنهم، والتي كان عليهم أن يجدوا الإطار الفكري والعاطفي الذي يمكّنهم من التعامل مع هذا الواقع المجنون الذي يتغير ويزداد تعقيدًا باستمرار ويتحدّاهم بشكل دائمٍ وملحٍّ. إذ، كيف نستطيع أن نوفق بين التعامل مع أغراب جاؤوا كجزء من حركة استعمارية غاصبة وبين وجودهم في صفوف الحزب نفسه الذي تنتمي إليه؟ أو، مثلًا، أن تكون ابنًا لعائلة تم تهجير أغلب أبنائها في النكبة، ثم تنخرط في العمل كمدرّس للتاريخ فتكون مجبرًا على أن تعلم أبناء شعبك الرواية الصهيونية لتاريخنا؟ وغيرها مما لا يعد ولا يحصى من صراعات نعيش معها كل يوم، نتيجة التناقض الصارخ بين صهيونية الدولة وبين انتمائنا القومي للشعب الفلسطيني.

برزت هذه التناقضات، كما يشير الكاتب، أيضا داخل صفوف الحزب الشيوعي، بالذات بين التيار الذي يشدّد على الجانب القومي، الذي كان توفيق زياد من أبرز ممثليه، وبين التيار الذي عارض هذا التوجه، الذي كان رواده ماير فلنر وتوفيق طوبي. وكانت لهذا التباين مظاهر عديدة، منها مقالة نقدية كتبها إميل توما في عام 1965 بعنوان "الشعر العربي الثوري في إسرائيل" ونشرها في المجلة الأدبية للحزب الشيوعي "الجديد". انتقد توما في هذا المقال من اسماه بـ "الشعراء العرب الثوريين" الذين كان أغلبهم أعضاء في الحزب الشيوعي، أمثال توفيق زياد ومحمود درويش وسميح القاسم وسالم جبران وغيرهم (من الجدير بالذكر أن الشاعر سالم جبران والصحفي محمد خاص كتبا ردًا في العدد التالي من الجديد على مقال توما). لعل إحدى أبرز هذه المظاهر هو التأخر الكبير الذي واجهه تقدم توفيق زياد في المؤسسة الحزبية، حتى أنه لم يصبح عضوا في المكتب السياسي للحزب الشيوعي إلّا عام 1981، وبحسب الكتاب، لم يحصل هذا الا بعد أن هدّد إميل حبيبي زميليه، ماير فلنر وتوفيق طوبي، بالاستقالة من المكتب السياسي إذا ما لم يضموا توفيق زياد له. تجدر الإشارة أنه كان لإميل حبيبي دورٌ مشابهًا في ترشيح توفيق زياد كرئيس كتلة الجبهة (بعد وفاة المرشح الأول في حينها، طيب الذكر أنيس كردوش) والتي أدت إلى انتخابه رئيسا لبلدية الناصرة في عام 1975 بدلًا من غسان حبيب، الذي كان مدعوما من باقي المؤسسة الحزبية (فاز توفيق زياد في عملية الترشيح الداخلي في فرع الناصرة بفارق صوتْ واحدٍ مما أدى إلى صراع داخلي دام لسنوات عديدة داخل فرع الحزب الشيوعي في الناصرة). كانت هذه الظواهر بلا شك تعبيرا عن نقاش جوهري داخل الحزب بين الجانب القومي الفلسطيني، إذا صح التعبير، الذي مثله توفيق زياد، والتيار "الأممي" الذي مثله ماير فلنر وتوفيق طوبي. ما زالت هذه الصراعات بادية للعيان حتى يومنا هذا.

تذكرني هذه التناقضات بسؤال خطر ببالي وأنا في العشرينات من عمري، حين بدأ لديّ الاهتمام بالأساطير اليونانية القديمة وقصص آلهتها. تصف هذه الأساطير قصصًا ساحرة وجميلة تظهر فيها الآلهة ككائنات تتمتع بقدرات خارقة لكنّ ما يقودها هو الشهوات والغيرة والحسد وما إلى ذلك من نزوات صبيانية سخيفة ومدمّرة. عندها، حضرني التساؤل التالي: كيف يمكن لشعب أنتج عمالقة مثل أرخميدس وفيثاغورس وسقراط وأفلاطون وأرسطو والكثير غيرهم من العظماء، ونهض بالمعارف والفنون والأفكار الإنسانية نهضة غير مسبوقة، أن يخترع مثل هذا الآلهة السخيفة وهذا الدين المتناقض إلى حد العبث؟ بعد فترة من التفكير، أدركت أن الإجابة على هذا التساؤل هي بسيطة في الحقيقة؛ وهي أن التناقضات والعبثية والمآسي التي تعيشها آلهة جبل أوليمبوس ما هي إلا انعكاس للتناقضات والعبثية والمآسي التي يعيشها البشر في حياتهم اليومية.

قد تكون عظمة هذا الجيل الذي بقي في أرضه في أنه استطاع أن يتعامل (ولا أقول يوفّق) بين المتناقضات المستحيلة التي فرضها عليه الواقع الفلسطيني المأساوي، في أن حوّل معركته من معركة بين تناقضات داخلية وتحويلها إلى معركة بقاء! هذه هي الكلمة التي عكست عمق الأزمة التي عاشها آباؤنا وأجدادنا من جهة، حيث أصبح مجرد وجودهم في خطر، بينما وفرت لهم في الوقت نفسه هدفًا واضحًا من الممكن تحقيقه، من جهة أخرى. وكانت الطريقة الخاصة التي تبناها الحزب الشيوعي (ولاحقا الجبهة) هي تحقيق هذا الهدف من خلال مؤسسات الدولة من جهة، ولكن أيضا النضال ضدها من جهة أخرى. أي أنها قاومت التناقض بالتناقض، لكنها كانت في الوقت نفسه واضحة كالشمس فيما يتعلق بالهدف: البقاء أولاً!

أصبح هذا الطرح في أواخر سبعينات القرن الماضي، وخاصة بعد يوم الأرض وسيطرة الجبهة على قيادة معظم السلطات المحلية العربية، الطرح الأساسي الذي تبنته الجماهير الفلسطينية في إسرائيل. لكن ثمانينيّات القرن الماضي أتت ببوادر لواقع جديد. فقد كانت تلك سنوات الانتفاضة الفلسطينية الأولى التي أحدثت هزة أرضية في مسلمات السياسة الإسرائيلية (والفلسطينية)، لكنها كانت أيضا سنوات صعود حركات الإسلام السياسي التي أتت بعامل جديد لم يتعامل معه شعبنا من قبل، إذ كان محور التناقضات ـ قبل صعود هذه الحركات ـ هو المحور الصهيوني الفلسطيني، حيث نستطيع فهم كل التناقضات التي ذكرناها كصراع على هذا المحور. لكن صعود الإسلام السياسي أتى بمحور تناقضات جديد، ذي طابع فلسطيني داخلي، حيث تحدى العلمانية والحرية الفكرية والمساواة بين المرأة والرجل وحوّل أسس الصراع من صراع قومي-استعماري إلى صراع ديني- حضاري، وما إلى ذلك.

يشير الكاتب إلى أن الأيديولوجية الماركسية أعطت توفيق زياد الأساس الفكري المتين للتوفيق بين هذه التناقضات، لهذا آمن بطريقها وتمسك بها حتى النهاية، حيث يقول الكاتب أن الشيوعية أصبحت شبه دين بالنسبة لتوفيق زياد. وبالفعل، تمسك توفيق زياد بهذا الفكر الذي أعطى جوابًا واضحًا لحركات الإسلام السياسي ووقف بجرأته المعتادة في مواجهات كبيرة معهم.

لكن المفاجأة الكبرى أتت في نهاية الثمانينيّات وبداية التسعينيّات حين انهار المعسكر الاشتراكي الذي مثل بوجوده الإمكانيات الكبيرة للفكر الشيوعي. لكن سقوطه أدّى، على الأقل، إلى إثارة التساؤلات حول الدعائم الفكرية التي بنيت عليها عقيدته التي وصفها الكاتب بالـ "شبه- دينية". فبلا شك أنها كانت المرة الأولى خلال مسيرة توفيق زياد التي لم تسعفه فيها أيديولوجيته الماركسية، بل أصبحت هي لبّ المشكلة. وكان عليه وعلى غيره من أبناء جيله من الشيوعيين، الذين قضوا حياتهم يؤمنون بهذا الفكر، أن يختاروا بين إمكانيتين صعبتين، الأولى هي أن يعترف بأن الفكر الشيوعي كان خاطئًا وأن يتنازل عنه أو أقله يدعم إمكانية إعادة النظر في كل مسلّمات الفكر الشيوعي وممارساته، كما فعل إميل حبيبي (الذي برأيي هو أهم مفكّر أنتجته الحركة الشيوعية الفلسطينية، والذي في نهاية حياته أصبحت مواقفه، برأيي، أشبه بمواقف رواد عصر التنوير الأوروبي الليبرالية). أمّا الامكانية الثانية فكانت أن يتمسك بهذا الفكر على الرغم من الواقع وأن يبرر انهيار هذا المعسكر بحجج مختلفة، وهذا بالفعل ما اختاره توفيق زياد. يجدر الذكر بأن هذا الخيار سبّب شرخا عميقا بين توفيق زياد وإميل حبيبي (الذي كان الداعم الأكبر لتوفيق زياد داخل الحزب) استمر حتى وفاتهما. لنتوقف قليلًا عند هذين الخيارين: الأول يقضي بأن يعترف من يتبناه بأنه أمضى جلّ حياته ينادي بمبادئ خاطئة، وهو بذلك كمن رأى الآلهة التي كان يقدسها تموت أمام عينيه. أما الخيار الثاني، فهو في الحقيقة أسوأ، لأنه يتضمن عمليًا انكار الواقع الموضوعي وابتكار واقع بديل لتفسيره.

أنهي هذه المراجعة القصيرة للكتاب بملاحظات خاصة. كان صيف العام 1994 مميزا في مسيرتي الشخصية، إذ كنت في حينها في خضم وضع اللمسات الأخيرة على رسالة الدكتوراة التي توجت فترة أربع سنوات من عمل علمي مكثف بشكل غير اعتيادي، انعزلت خلالها عن العالم الخارجي، بشكل شبه كلّي. عليّ أن أعترف بأن هذا الانعزال لم يكن فقط لأسباب علميّة بل كانت له أسباب أخرى أهمها أنها كانت مرحلة مخاض فكري شخصي عميق. فقد كنت تركت صفوف الحزب الشيوعي في أواخر العام 1989 بعد المذبحة التي اقترفها النظام الصيني في ساحة تيان-آن-مِن وراح ضحيتها، حسب التقديرات، بضعة آلاف من المواطنين؛ هذا إضافة إلى التساؤلات الكثيرة التي تراكمت لديّ عن جوانب عديدة في الفكر الشيوعي والتي ازدادت حدة إثر سياسة الانفتاح والشفافية (الغلاسنوست) التي بدأت في النصف الثاني من ثمانينات القرن الماضي بمبادرة ميخائيل غورباتشوف، زعيم الاتحاد السوفياتي آنذاك، والتي تجلت من خلالها صورة قاتمة عن حقيقة الحياة في الدول الاشتراكية. لهذا، كانت تلك الفترة فترة مراجعة حسابات داخلية في الأساس انعكست في ابتعادي عن مواقف الحزب والجبهة (بالذات عن جوانبها الفكرية) وقيادتها التي حمَلْتُ في "بطني" نقدًا كبيرًا لها ولنهجها.

لكن، وعلى الرغم من ابتعادي الفكري عن طريقه، ما زلت أذكر وقع خبر وفاة توفيق زياد الذي حلّ كالصاعقة. أذكر كم بكيت ليلتها وأنا أحاول أن أستوعب ما حدث. لم أستطع ليلتها أن أذكر سوى توفيق زياد الإنسان الذي أحبّ الناس وقادها بشجاعة ووضوح وحكمة، والذي لم يخَف من تقديم أثمن ما عنده من أجل الدفاع عن شعبه وعن أهله. هذا القائد الذي حاول أن يرى ما يوحّد أبناء شعبنا وليس ما يفرقهم، ما يقدمهم إلى الأمام وليس ما يؤخرهم إلى الخلف. والآن وبعد أكثر من ربع قرن على رحيله، أذكر أبا الأمين القائد الفذ الذي أحب الحياة وأحب شعبه حتى النخاع، وقاده بأمانة وإخلاص وتفانٍ نحو النور والأمل والتفاؤل. فقد أصبحت أعرف الآن أنّ عظماء الناس هم بشر مثل باقي البشر وأنهم يحققون انجازاتهم وانتصاراتهم على الرغم من نواقصهم وأخطائهم.



#سليم_زاروبي (هاشتاغ)       Saleem_Zaroubi#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بين الحقيقة والنظرية: البابليون، خسوف القمر والكورونا
- أسامينا!
- هزاع المنصوري : الأرض كروية وقد رأيتها بأم عيني!
- كنه النظريات العلمية
- جاليليو و الثورة العلمية
- خمسينية الشتاء (فترة السعود)
- الخيار واضح: إما الإنسانية وإما الصهيونية!
- الفاشية هنا!
- المرأة هي المستقبل
- الثورة العلمية الغربية وعلماء العرب
- بين اللانهائي والمحدود في فهم الكون
- هل هناك حياة ذكية غيرنا في الكون؟
- أتسمح لي بسؤال: هل أنت مسلم أَم مسيحي؟ قصة ووجهة نظر (الجزء ...
- أتسمح لي بسؤال: هل أنت مسلم أَم مسيحي؟ -- قصة ووجهة نظر (الج ...
- مئة عام على النظرية النسبية العامة لأينشتاين
- الدين وصناعة العلم


المزيد.....




- تحويل الرحلات القادمة إلى مطار دبي مؤقتًا بعد تعليق العمليات ...
- مجلة فورين بوليسي تستعرض ثلاث طرق يمكن لإسرائيل من خلالها ال ...
- محققون أمميون يتهمون إسرائيل -بعرقلة- الوصول إلى ضحايا هجوم ...
- الرئيس الإيراني: أقل عمل ضد مصالح إيران سيقابل برد هائل وواس ...
- RT ترصد الدمار في جامعة الأقصى بغزة
- زيلنسكي: أوكرانيا لم تعد تملك صواريخ للدفاع عن محطة أساسية ل ...
- زخاروفا تعليقا على قانون التعبئة الأوكراني: زيلينسكي سيبيد ا ...
- -حزب الله- يشن عمليات بمسيرات انقضاضية وصواريخ مختلفة وأسلحة ...
- تحذير هام من ظاهرة تضرب مصر خلال ساعات وتهدد الصحة
- الدنمارك تعلن أنها ستغلق سفارتها في العراق


المزيد.....

- المؤتمر العام الثامن للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين يصادق ... / الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين
- حماس: تاريخها، تطورها، وجهة نظر نقدية / جوزيف ظاهر
- الفلسطينيون إزاء ظاهرة -معاداة السامية- / ماهر الشريف
- اسرائيل لن تفلت من العقاب طويلا / طلال الربيعي
- المذابح الصهيونية ضد الفلسطينيين / عادل العمري
- ‏«طوفان الأقصى»، وما بعده..‏ / فهد سليمان
- رغم الخيانة والخدلان والنكران بدأت شجرة الصمود الفلسطيني تث ... / مرزوق الحلالي
- غزَّة في فانتازيا نظرية ما بعد الحقيقة / أحمد جردات
- حديث عن التنمية والإستراتيجية الاقتصادية في الضفة الغربية وق ... / غازي الصوراني
- التطهير الإثني وتشكيل الجغرافيا الاستعمارية الاستيطانية / محمود الصباغ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - القضية الفلسطينية - سليم زاروبي - بطل من ذلك الزّمان -- من وحي كتاب -المتفائل: سيرة حياة اجتماعية لتوفيق زياد- ل -تمير سورك-