أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - محمد كريم إبراهيم - عن الحب والجمال















المزيد.....


عن الحب والجمال


محمد كريم إبراهيم

الحوار المتمدن-العدد: 6750 - 2020 / 12 / 2 - 16:56
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


ما هو الحب بالضبط؟ ما هو هذا الشعور الذي يجعلنا منجذبين للأقرباء والغرباء؟ السؤال الذي حير الفلاسفة والعلماء منذ نشأة الحضارات, ولا يزال يحيرنا حتى في عصر ما بعد الحداثة, في عصر العلم والمعلومات. كيف نستطيع أن نطورها ونخلقها في الآخرين متى ما شئنا؟ وكيف يمكننا أن نكسرها فيمن لا نريد لهم الخير؟ السؤال الذي ألهم العديد من السحرة والمشعوذين وعلماء الخيمياء سابقاً للأحتيال على الناس الفضوليين من أجل المال. لكننا نريد أن نعلم في هذا المقال بالضبط ما هو مجموع الذي قاله الفلاسفة عن الحب؟ وما الذي توصل إليه العلم حتى الآن؟
يمتلك الناس اليوم وجهات نظر متناقضة للحب, فتارة يعتقدون بأن الحب هو دائماً ما يكون جيداً ويؤدي إلى تحقيق منفعة للمجتمع ويقوم بربط أعضاءه ويساهم على فهم الآخرين لأفراده, ويبعدهم عن الكراهية والغضب وإقامة المجادلات والحروب. فلدينا عدة نصوص وكتب وأفلام ومسلسلات تظهر الجانب الإيجابي من الحب وكذلك نسمع قصص حقيقية كثيرة عن الحب في عصرنا المعاصر تشرح تأثيرات الإيجابية للحب على المرء والمجتمع.
وتارة أخرى يعتقدون بأن الحب غير عقلاني وسيئ, حيث يمكن أن يؤدي إلى الغيرة والحسد ويجعل الواقع في فخه يتصرف بطريقة غير منطقية, ولدينا أيضاً العديد من القصص على مر العصور, والعديد من الأفلام والمسلسلات الأخرى التي تشرح كيف يتصرف هؤلاء "الواقعين في الحب" بشكل ينافي عادات المجتمع ويقومون بأفعال يضرهم ويضر طرف الآخر وبالتالي يضر المجتمع ككل, مثل قيام المحب بقتل حبيبه أو حبيبته, أو حب المرء لأشخاص متزوجين ويقوم عنده بقتل زوجة حبيبه وبالعكس, أو حتى حب الرجل لطفلة صغيرة حباً جنسياً.
لكننا مهما أختلفنا في نظرتنا إلى الحب, يمكننا الاتفاق على شيء أساسي وهو أنه نحن كبشر قادرين على الشعور بالحب (على أقل أغلبنا) والتصرف بشكل إيجابي لمن نحبهم سواءاً كانوا أشخاص في حياتنا (موجودين سابقاً مثل العائلة والأقارب والقادمون لاحقا مثل الأصدقاء والمحبين والأولاد) أو لأشياء مادية ذات قيمة لنا (مثل حب المال, و حب الذهب والمجوهرات), السؤال هو لماذا نشعر بالحب تجاه تلك الكيانات؟ ما هو تفسيره من ناحية العلمية في المجالات البايولوجية والنفسية؟ هل يمكن تعريف الحب تعريفاً مطلقاً خارج عن المنظور الشخصي؟
قبل الخوض إلى جوهر المقالة, يجب علينا أن نربط كلمة متشابهة وملتصقة بالحب, وهي "الجمال". مثل الحب تماماً, نحن أيضاً قادرون على الإحساس بالجمال في العالم الذي نعيش فيه, فنحن قادرون على رؤية منظر طبيعي جميل ، ووصف لوحة جميلة، ثم سماع موسيقى مثيرة ، والتأثر بقصيدة مؤثرة. لقد خلق هذا الإحساس الغريب في عقل الإنسان عديد من الأوجه لها على مر العصور مما جعل الأمر صعباً على فلاسفة تحديد معناها.
فالجمال في زمن ما أُعتبر شعوراً داخلياً ومرة أخرى أُعتبر كخاصية مادية للأشياء التي نراها، ودمج نفسه في جميع المشاعر الإنسانية الأخرى، مرةً تقدم نفسه كمتعة جنسية (مثل متعة النظر إلى الصور الخلاعية وأعتبارها جميلة), ومرةُ يتقدم كنظرة للطبيعة مثل النظر إلى مناظر طبيعية من الأشجار والأنهار والحيوانات, ومرةً أخرى تظهر بشكل خلاق كإنشاء الرسام للوحة جميلة, أو كأفكار تجريدية فلسفية جميلة ممسوكة من قبل صاحبها, إلى آخره من الأشياء التي يراها الناس جميلاً. ويمكن أن نسأل نفس الأسئلة العلمية والفلسفية عن الجمال كما سألناها عن الحب, وقد تفيدنا تلك الأسئلة أن نربط بعض صفات الحب والجمال معاً, وفصلهما في خواص أخرى, وكذلك يمكن أن تغير نظرتنا إلى هؤلاء الذين نحبهم وسلوكياتنا بأتجاههم.
الحب في نظر العلم

نأتي لنضع الجمال إلى الجانب ونحلل الحب لنعرف القليل عن تركيبته الأحيائية:
يقول لنا العلم أن الحب هو شعور محفز (كالشعور بالجوع) يقودنا نحو التكاثر والارتباط الاجتماعي, وهو متحكم بالكامل عن طريق الهرمونات (مواد كيميائية في جسم) وناقلات عصبية (مواد كيميائية تساعد على نقل الإشارات بين الأعصاب). يقسم العلم الحب إلى ثلاث أجزاء كل واحد منها مُسيطر من قبل هرمونات وناقلات عصبية معينة [1]:
1. الشهوة: كما هو معروف من الاسم, هي رغبة جنسية تجاه أشخاص نحبهم ونريد إنجاب أطفال معهم أو فقط ممارسة الجنس معهم. يتحكم في هذا الشعور هرمونين جنسيين (تستوستيرون) و (استروجين) في كلا الجنسين [3].
2. الإنجذاب: يشعر المحب بالإنجذاب والإعجاب, حيث يختار الشريك المناسب للقضاء أوقاته معه أو معها, والعوامل التي تؤثر على أختيارنا هي: الأشخاص الذين يشبهوننا, وأشخاص ذات جمال جسدي وذات قيمة اجتماعية معينة, ثم امتلاك تصرفات متجانسة, والتفكير بأفكار متماثلة. تتحكم في هذه المشاعر النواقل العصبية (دوبامين, نورابينفرين, سيروتونين), وهذه النواقل تلعب دوراً أساسياً في دائرة العصبية اللذية التي يشعر فيها الشخص بالسعادة [2].
3. التعلق: وهو إرتباط الشخص وتكوين علاقة طويلة المدى مع المحب (كالحب بين الأصدقاء والأزواج), ينتج هذا الشعور من فعالية هرمونات (اوكسيتوسين, وفازوبرسين). هذه الهرمونات تفرز أيضاً عند الأمهات مع أطفالهم حديثي الولادة, وهي التي تجعلهن أن يكونوا ارتباط مع أولادهم أثناء الرضاعة [1].
هذا التصنيف وترتيب هو بالطبع نظرية علمية قابلة للإدحاض من قبل أدلة علمية أخرى. كذلك نرى هنا أن نظرية تنقصها بعض النقاط الأساسية ولا يمكنها تفسير كل أنواع الحب, مثلاً كحب الشخص للأشياء جامدة المعينة أو لحيوانات أليفة يمتلكها. بالإضافة إليه, فهي لا تعطينا السبب الرئيسي للشعور بالحب ولماذا هذا شعور نُقش على سطور نيوكليوتيدات جيناتنا وانتقل من جيل إلى آخر حيث أصبح شعوراً عاماً موجوداً لدى جميع الناس من كل الرقع المختلفة والأزمان متنوعة.

الحب في قبضة الفلاسفة

ويمكن للقارئ أن يستنتج بأن الفلسفة كانت لها قطعة كبيرة من كعكة الحب, فقد حاول كثير من الفلاسفة تعريف الحب وتفسيره وتحديد قيمه إلا أن محاولتهم باءت بالفشل أما بسبب نقص الأساس العلمي فيه أو بسبب شدة شخصنة التعريف للمُعرف.
في الفلسفة, هناك ثلاث أنواع أيضاً من الحب:
1- فيليا (philia): وهي كلمة اغريقية تعني الحب, وبالأخص الحب الغير جنسي, مثل حب الأصدقاء والعائلة والأغراض.
2- ايروس (eros): كلمة أغريقية ايضاً, ولكنها تعني بالضبط الحب الجنسي والحب الرومانسي الذي يدور مثلاً بين الأزواج.
3- اغابي (agape): أو ما يسمى باللاتينية كاريتاس (caritas), والذي سُمي بعد ذلك بالحب المسيحي, فهو حب روحي تجريدي مثل حب الآلهة والكيانات الميتافيزيقية الأخرى.
أعتقدَ أفلاطون وسقراط أن حب الأجساد ليس حباً على الإطلاق بل عبارة عن غريزة وشهوة آتية من طبيعة البشرية, والحب الحقيقي السامي هو حب الأرواح بين الأشخاص أو حب "هيئة الجمال" نفسها وليس ما يُمثلها من أجساد وأشياء في الواقع الملموس. فقد أسقطا ايروس من تعريفهما للحب تماماً [5].
أرستوفنيز, الكاتب المسرحي الإغريقي, ظن بأن الحب هو رغبة الإنسان للكمال, للالتقاء بنصفه الثاني الذي فصله الإله زيوس عنه. فالجنس بالنسبة له هو ألتحام الأجساد معاً من أجل الكمال, لأنه ظن أن الإنسان خلق وله أثنان من كل شيء مما لديه الآن (أربع أرجل وأقدام, ورأسين, وإلى آخره) [7].
أما ارسطو, شرح الحب في فلسفته كفضيلة نبيلة يتوجب وجوده في كل إنسان, وإلا أصبح فاسداً أخلاقياً. وظن أن حب الإنسان لنفسه يجب أن يسبق حبه للناس الآخرين. أعتقدُ بأنهُ أراد أن يقسم الحب إلى مراحل تسلسلية حيث يأتي حب الإنسان لذاته أولاً ثم حبه للناس حباً غير جنسياً (فيليا) ثم بعد ذلك يبدأ الحب الجنسي (ايروس) [4].
كيركغارد قدمَ أولوية اغابي على فيليا وايروس في فلسفته وفي حياته الخاصة أيضاً, فقد ترك حبيبته ولم يتزوجها خوفاً على تأثير مسيحيته ودراسته الفلسفية في خلق زواج تعيس بينهما [6].
شوبنهاور ونيتشه كان لديهما نفس النظرة إلى الحب, وهي أن الحب آت من غريزة الإنسان البشرية, ويجب أن يتواجد الجنس أو الرغبة في الجنس في كل أنواع الحب, وحتى في حب الآلهة, وربما في حب الأصدقاء أيضاً. لا وجود لفيليا وأغابي في فلسفتهما [8].
وأيضاً من ناحية علم النفس, خلق الحب فوضى عارمة في هذا المجال ولا توجد نظرية مناسبة أو مثبتة علمياً حتى الآن يمكن أن تُفسر غاية الحب عند الإنسان. فسر علم النفس على الأغلب مشاعر الحب والجمال كغايات بذاتهم, حيث أدت إلى دراسة الحب ومشاعره ومحاولة وصفه والسلوكيات الناتجة منه, فبذلك قاموا بإنكار حقيقة تلك المشاعر (فالآن نحن نعلم بأنها وسيلة لغرض معين, مثل الشهوة جنسية تعدُ وسيلة لغاية إنجاب الأطفال) وترك أسبابها الحقيقية.
تعريف الحب

يجب علي هنا أن أتدخل وأُعرف الحب تعريفاً صادقاً خالياً من الشوائب الفردية ومدعماً بأحياء البشرية والطبيعية والنفسية والعلمية, فنقول بأن الحب: هو شعور بامتلاك أشياء (حية كانت أم جامدة) التي تكون مفيدة مادياً وجسدياً للفرد, أو على الأقل السيطرة على تلك الأشياء. أعلم يا عزيزي بأن في البداية يبدو التعريف مبهماً نوعاً ما, إلا أن الأمثلة تستطيع أن تظهر لنا هذا التعريف بصورة أفضل.
نأتي أولاً إلى مثال الحب الذي يحصل بين الولد والبنت وفيه يستخدم كلمة الحب بشكل شائع. نرى بأن التعريف يفسر هذه العملية البشرية كشعور يشعر به الفرد للاقتراب من الشخص الثاني لغرض منفعة الفرد من الشخص الثاني ((وهي منفعة تكاثرية لإنجاب الأطفال بين هذين الفردين)). هناك فقط خلل بسيط يمكن أن يحدث في هذا الأمر, إلا وهو تقييم الفرد بما هو مفيد أو مضر له بالحكم عن طريق المشاعر. فمثلاً نرى الحب المثليين بينهم لا يؤدي إلى منفعة تكاثرية ولكنها مبنية سوى فقط على مشاعر النشوة الجنسية فيحكم الشخص المثلي على تلك المشاعر بالشيء النافع له والذي يجلب لعقله النشوة (توجد كثير من الأمثلة التي قد تظهر الحب على أنها نقية لا يملك في باطنه منفعة فيزيائية حقيقية للفرد المحب ولكن نرى أن هؤلاء المحبين عادة لديهم مشكلة أخلاقية أو مشاكل أخرى في حياتهم, بالحكم على الخير بمشاعر الممتعة وعلى الشر بالمشاعر الضارة لذلك لا نقبل هذه الحالات كإدحاض لتعريف). هذه مشاعر الحب هي التي تؤدي إلى ترابط الأزواج وضمان انتقال جيناتها إلى الجيل الجديد. معنى السيطرة هنا تظهر بعد الأرتباط والزواج (غالبا) وهي تكون على شكل سيطرة الزوج لمكان ذهاب الزوجة مثلاً, أو سيطرة الزوجة على أموال زوجها, فهل يا ترى لو أختفى هذه السيطرات والمنافع, سيبقى ذاك الشعور بالحب؟ أشك في ذلك.
كذلك نضرب مثال مقارب وهو حب الأم والأب لأبنائهم. المسألة عينها سهلة التفسير, فشعور الأب والأم بالحب لأبنائهم يزيد من فرصة بقائهم ومساعدة الأباء والأمهات لهم في بدايات الأمور وصعاب مسيرة الحياة لكن نرى في بعض الأحيان يفتقد هذا الشعور بسبب عدم "سيطرة" الأباء والأمهات على أبنائهم في مراحل المتقدمة من الطفولة.
ماذا عن حب الاصدقاء؟ لا داعي لتطبيق التعريف على هذا الموقف. الكل يعلم بأن حب الأصدقاء يأتي من منفعة بعضهم من الآخر, فالصداقة دائما تكون مبنية على مصالح مشتركة أو تكون آتية من خلال سيطرة الصديق على صديقه.
إن كنت قد فهمت واستوعبت التعريف حتى هذا الحد, فأنك إذاً ترى أنه ينطبق مباشرةً على حب الأشياء الجامدة (على عكس نظريات العلمية القائمة) كحب المرأة للمجوهرات وحب الرجل للسيارة أو البيت. كل تلك المشاعر تحفز المحب على الحفاظ والاعتناء على تلك الأشياء, والشعور بالأسى والحزن في حال فقدانهم كشعوره بفقدان فرد من العائلة!
الحب هو شعور مستوحى من منطقية العقل الباطني, فنحن نسعى بجد لأختيار ومطاردة أشياء ذات الفائدة علينا ولكن لا يمكن أن يقوم المرء بتلك التصرفات من دون الشعور بالمتعة تجاه ذلك الشيء أو الشخص, بالطبع هو يمكن أن ينتج من برمجة المجتمع لعقلية الفرد الذي يعيش فيه ليحب شيء ما لم يكن ليوجد من دون إحياء المجتمع له, مثلاً حب المرء لطعام مجتمعه وإن كان مقززاً للشخص العادي (مثل الصينيين وحبهم لأكل الصراصير).
تعريف الجمال

إذا كان الحب هو امتلاك شيء ذو الفائدة الشخصية لنا, إذاً يعرف الجمال: كشعور المرء بمشاعر تجاه أشياء يتحسسها (سواءاً بالنظر كالنظر إلى طبيعة, أو بالسمع كسماع موسيقى جميلة, أو بالشم كالشم رائحة ورد المعطرة, أو حتى تفكير في شيء جميل) من بيئته الواقعية بما يفيده ويكون ذات منفعة له (أي لا يملكه بعد وأنما متحفز أتجاه ذاك الكيان) إن كان بالقرب منه, أو التصرف بشكل أيجابي نحو هذه الأشياء. بإختصار, الجمال هو رؤية ما تحبه. على سبيل المثال, يشعر الفرد بالجمال عند رؤية مناظر طبيعة خلابة, لماذا؟ لأن هذه الطبيعة التي ينظر إليها الإنسان مليئة بمواد تفيده شخصياً, مثل وجود أشجار ذو ثمار, ووجود حيوانات يمكن أن يأكله الشخص وماء ليشربه, وكذلك عادة يوجد إضاءة جيدة من الشمس لإنبات النباتات. لذلك نستنتج أن هذا الشعور بالجمال الذي يشعر به المراقب يجعله يتصرف نحو هذه البيئة المفيدة ويحاول أن يتقرب منها ويحافظ عليها.
مثال آخر على رؤية المرء للوحات الفنية الجميلة, فهو يستمتع بالنظر إليها ويشعر بالفرح والسرور بالقرب منها, نعلم بالطبع بأن هذه اللوحة بذاتها ليست بفائدة لذلك الفرد, إذاً لماذا كل هذا الشعور بالجمال؟ يعطينا النظرية تفسيراً جيداً لهذه الظاهرة, نحن نعلم بالطبع أن لوحات هي تمثيل للواقع, فهي ليست جميلة بحد ذاتها (إلا إذا كانت ذو قيمة المالية للفرد), وهكذا فأن ما تصفه اللوحة سواء كانت الطبيعة أو امرأة جميلة أو فكرة ملهمة أو عاطفة مؤثرة, كلها يمكن أن يكون ذو المنفعة لذلك الشخص الذي يرى الجمال في اللوحة.
الجمال في ظل هذا التعريف هو شعور فردي غير قابل للمقارنة (خصوصاُ في هذا الزمن). قد تكون مناظر الطبيعة للفلاح شيئاً مقرفاً للنظر إليها إذا لم يكن أرضها خصبة للزراعة, وكذلك يشعر مالك المعامل بالجمال عند رؤية البنايات ومنشئات مصانعه, وكذلك لشخصية سياسية معينة إذا كان يستفيد من سقوط الأمبراطورية ونظام القائم في البلد, فهو يشعر بالجمال عند رؤية الدمار والخراب.

بحث عن تناقضات لإدحاض التعريفين

نستنتج من تعريف الجمال أنه لا يمكنك كره شيء تراه جميلاً. ولعل الحسد يأتي على بالك الآن كمثال إدحاضي لهذا الاستنتاج, فالإنسان يحسد الآخر الذي ربما يكون أجمل منه أو أفضل منه أو يمتلك أشياء جميلة أكثر منه, فعندئذ يلتقي رؤية الجمال عند الحاسد بالكراهية. لكن الحاسد نفسه يعترف بجمال الآخر, ولا يكرهه لجماله أو جمال أغراضه بل يكره وجود الجمال عند الآخر وغيابه عنه, فلو كان عنده ذلك الجمال لما كرهه, لذلك يتمنى زوال ذلك الجمال عند الآخر ولكنه في نفس الوقت يطمح أن يكسب هذا الجمال, مما يشير إلى أن مشاعر الكراهية متجهة إلى كيان المحسود وليس إلى جماله وممتلكاته.
الحب والجمال قد يكونان دائرتان عصبيتين مورثتان وملتصقتان مع الطبيعة البشرية, فنحن مبرمجون بشكل لا واعي لاقتناء أشياء مفيدة لنا والحفاظ عليها عن طريق مشاعر الجمال والحب.
ماذا عن نظرية الحب, ما الذي نحتاج إليه لإدحاضها؟ ربما عن طريق الإثبات بوجود شيء ما يمتلكه الفرد أو يسيطر عليه ولكنه يكرهه, لا أعتقد إن مثل هذا الشيء موجود. حتى الأسياد يحبون عبيدهم بالرغم من إظهار الكراهية والعداء والقساوة لهم. فبعد كل هذا, فهُم حاربوا من أجلهم حرباً أهلية دامية في أمريكيا, أو ليس نحن نحارب من أجل ما نحبه أو من أجل ما تفيدنا!؟
بعض الأحيان نبدأ بكره الأشياء التي خرجت من سيطرتنا أو فقدناها من عندنا. نشعر بالكراهية والغضب تجاه أنفسنا لفقدانهم بسبب أخطائنا, ومن ثم كراهية للأشخاص الذين قرروا تركنا أو الأشخاص الذين سرقوا منا تلك الأشياء, أو نكره الأشياء نفسها عندما تتعطل عن وظيفتها والتي ما عادت تفيدنا. كراهية الزوج لزوجتها الخائنة وضربها لها عندما لا تصبح نافعة هي مثال على الحب التي خرجت عن سيطرتنا أو فقدناها لسبب أو لآخر.
الحب هو عبارة عن لعبة سيطرة الأنظمة. من الذي يسيطر على نظام من, هذه هي اللعبة. والعلاقة بين الذكر والأنثى هي علاقة هيمنة أحداهما على الآخر, حيث تُحب الأنثى الذكر لأنها تستطيع السيطرة عليه عن طريق الجنس وإجباره على التوفير متطلبات الحياة الأساسية والاجتماعية لها, الأساسية كالغذاء والمسكن, والمتطلبات الاجتماعية كالمجوهرات والملابس الفاخرة, بينما يحب الذكر الأنثى لأنها تحت سيطرته وتفعل ما يريده (جنسياً على الأقل) وتعتني بأطفاله. العلاقة الناجحة بين هذين الكائنين هي العلاقة ذات المنفعة الدائمة للطرفين وذات سيطرة المتوازنة للنظامين. فإذا أصبحت هذه المعادلة غير متوازنة وسيطر أحدهم أكثر على الآخر من دون منفعة الأخير, فسوف تنهار علاقة, لا شك في ذلك.

الخاتمة

لا تزال تلك التعاريف في خطى التطور, فهي لا يمكنها تفسير بعض الظواهر (وإن كانت ظواهر قليلة, يجب على هذه النظرية تفسيرها لكونها متوافقة مع النظريات العلمية), فمثلاً, لا تفسر لماذا نرى الجمال في قوس قزح أو لماذا نحبه بالرغم من أنه ليس ذو فائدة لنا, ربما بسبب المطر الذي يسبقه وهو يعطينا فكرة عن الخيرات التي ستأتي بعده, فأرتبطت فكرة حب قوس القزح معه. أعتقد أنني على صواب لأن هناك بعض من الأشياء نحبها لارتباطه بشيء نستفاد منه كحُب مفتاح الصندوق الذي نملك فيه الذهب. وكذلك لا يفسر مثلا جمال الموسيقى؟ لماذا نرى الموسيقى جميلا مع العلم انه بلا فائدة لنا؟ وماذا لو كان رجل غير مثلي يظن بأن رجل آخر جميل؟ كيف تفسر النظرية هذا؟ كيف يختلف الشعور بالحب عن الشعور بالسلطة والشعور بالسيطرة؟ ما هي درجات الحب؟ وكيف يحب الشخص شيئاً أكثر من الآخر؟
ربما يبدو هذا التعريف للحب والجمال نازع للسحرية والغموضية الممتعة من هذه المشاعر. شخصياً لا أظن ذلك وحتى لو نزع كل الخلابة عن الحب والجمال فأنه أضاف إلى تفكيرنا كيف نحب ولماذا نحب الآخرين والأشياء التي نمتلكها, وربما حفز القارئ على التنقيب في أسباب حبه لأشخاص وأشياء في حياته, وجعلهُ يقترب أكثر منهم من أجل إحياء تلك المشاعر عنده وعندهم. نعرف الآن حقيقة هذه المشاعر وارتباطها بالواقع وطبيعة الإنسان. ويمكن أيضاً أشتقاق نظريات أخرى من هذا التعريف للحب والجمال, بالأخص مضادهما, القباحة والكراهية. لنترك ذلك للمقال القادم.


المراجع:
1- Katherine Wu. 2017. Love, Actually: The science behind lust, attraction, and companionship. Science in the News.
2- The Handbook of Evolutionary Psychology, edited by David M. Buss, John Wiley & Sons, Inc., 2005. Chapter 14, Commitment, Love, and Mate Retention by Lorne Campbell B. and Bruce J. Ellis.
3- Bancroft J (September 2005). "The endocrinology of sexual arousal". The Journal of Endocrinology. 186 (3): 411–27.
4- Annas, J., 1977, “Plato and Aristotle on Friendship and Altruism”, Mind, 86: 532–54.
5- Linnell Secomb. 2007. Philosophy and Love: From Plato to Popular Culture. Edinburgh University Press. ISBN 978-0-7486-2368-6.
6- Michael Strawser. 2015. Kierkegaard and the Philosophy of Love. Reading religion.
7- Plato. Cobb, William S. trans. & editor. The Symposium and the Phaedrus: Plato s Erotic Dialogues. SUNY Press, 1993.
8- Willow Verkerk. 2014. Nietzsche on Love. Philosophy Now.



#محمد_كريم_إبراهيم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أفلاطون مكتشف الشيوعية
- تعليم الفنون وتفنين العلوم


المزيد.....




- مدير الاستخبارات الأمريكية يحذر: أوكرانيا قد تضطر إلى الاستس ...
- -حماس-: الولايات المتحدة تؤكد باستخدام -الفيتو- وقوفها ضد شع ...
- دراسة ضخمة: جينات القوة قد تحمي من الأمراض والموت المبكر
- جمعية مغربية تصدر بيانا غاضبا عن -جريمة شنيعة ارتكبت بحق حما ...
- حماس: الجانب الأمريكي منحاز لإسرائيل وغير جاد في الضغط على ن ...
- بوليانسكي: الولايات المتحدة بدت مثيرة للشفقة خلال تبريرها اس ...
- تونس.. رفض الإفراج عن قيادية بـ-الحزب الدستوري الحر- (صورة) ...
- روسيا ضمن المراكز الثلاثة الأولى عالميا في احتياطي الليثيوم ...
- كاسبرسكي تطور برنامج -المناعة السبرانية-
- بايدن: دافعنا عن إسرائيل وأحبطنا الهجوم الإيراني


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - محمد كريم إبراهيم - عن الحب والجمال