أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - طالب جانال - النبأ















المزيد.....



النبأ


طالب جانال

الحوار المتمدن-العدد: 1607 - 2006 / 7 / 10 - 05:41
المحور: الادب والفن
    


ضحى ذلك اليوم ، الذي فاحت رائحة الصيف من اشعاعات شمسه وانتشرت في الهواء وبين مسارب الأرض الرخوة ، نافذة ، نحو أنساغ النباتات البرية التي باتت أوراقها الصغيرة تطوى على اصفرار شاحب ينغرز ، كالقذى ، وسط العيون المنشرحة للأطفال ، الذين ، شاع الفتور في همة ألعابهم فأنسحبوا ، ليس تلبية لمخاوف أمهاتهم من أضرار الشمس ، من وسط الامتدادات المشمسة ولاذوا ، لاعنين ازعاجات الصيف ، بأفياء الحيطان التي ما كانت لتستوعب رحابة ابتكاراتهم الا نادرا .
ضحى ذلك اليوم ، قلة من سكان ( قه لابالي ) من لم تشد كثافة الحركة الأمنية خيوط انتباههم فتوترت ، تبعثرت على طرقات محلتهم وبين عطفات درابينها المتقاطعة ، وتشابكت بمخاوف وظنون ، يتناسل بعضها من بعض ، حتى لم يعد أحذق الحذاق بقادر على فكها.
فمداخل تلك البقعة ، التي يحمل اسمها ومعناه القلعة العالية مفارقة غير مفهومة مع واقع انخفاض أرضها عن أرض باقي محلات ( مندلي ) المحيطة بها ، قد تحولت الى مساقط من الشؤم ، عبرها ، هبط رجال غرباء ، يرتدون ملابسا لاتشبه ملابس رجالهم ، يأتون تصرفات فجة ، غير مألوفة ، استهجنها حتى المجانين منهم ، ويتخاطبون فيما بينهم بلغة عجزت آذان جميع الأطفال تعود رطانتها . لذلك ، كبتوا فيما يشبه الاتفاق الضمني ، فضولهم الطفولي ، في اكتشاف الغرباء مكتفين باشباع فضول بديل ، أقل جاذبية ، في المراقبة عن بعد ، لم يفلح ، رغم التحذيرات ، في لجم جموح الوكحين منهم ، الذين انفلتوا ، وأقدموا مستمتعين على العدو خلف السيارة المسلحة الحمراء التي كانت تصحب بعض الغرباء احيانا.
توجست (قه لابالي ) عن بكرة رجالها خيفة وهجست أمرا جللا سيدوي في سماء طمأنينتها . تساءل بعض سكانها من بعضهم الآخر عن النبأ ، لم يتلقوا اجابات ، فولجوا دهاليز وأنفاق حيرتهم تتخبط أرجلهم في ظلام شائك ، لايتيح أمام خطوات مخاوفهم ولو كوى بحجم خرم الأبرة ، لتسربهم نحو النور ، فانسحبوا نحو بيوتهم ، ولم يبق في الطرقات غير الأطفال وغير الرجال الذين من فرط نواياهم الحسنة لايرون من العالم سوى بهجة أنواره . حجبوا النوافذ بستائر وساوسهم ، أغلقوا الأبواب برتاجات هلعهم ، ولاذ الكثيرون بغرف نومهم متدثرين بأغطية الشتاء ، التي استرجعوها من مخابئها ، من أخمص أقدامهم حتى قمة الرعب في الصور المستعادة من طراوة ذكرياتهم ، وعندما راحوا في نوم يائس ، تلقفتهم كوابيسه التي على جدران أقبية مجازرها ، لم ينشف دمهم المراق بعد .
*
كان يوما موعودا ، نشط فيه ( ابن الحجي ) في لف أطواق ثأره ، التي ما أنفك يطرق حديدها الحامي بمطارق أحقاده ، حول رقاب رجال ، كانوا قد أعلنوا صراحة نفورهم من ممارسات اعتادها ، رأوها منطوية على دونيات لاتليق بمقام ابن المحلة .فجاهد لدس اسماءهم وعناوين مساكنهم في آذان الرجال الغرباء ، الذين ، شرفهم أن يبسطوا أمامه أذنا صاغية ولسانا معسولا ينقط وعودا تدغدغ مستقبله الزاهر . مما دفعه أن ينفش ريش تبختره أمام استكانة البعض ، والنبش بمخالب تطلعاته في حراجة تواريخهم الأمنية للكشف عن مواقع حساسة يمكن النقر في اشكالاتها . ثم تمادى أكثر في اظهار مهارات وقابليات ، عديمة الحياء ، تقدمت به خطوات وقحة ، لم يستغربها أحد ، نحو تسكين ديدان الوشاية الهائجة ، هذه الأيام ، عند محيط مخرج مواهبه الأمنية . فعرض للتداول صفقة ، أمام مفاتن فحواها ، انتعضت أعضاء ذكورة الغرباء الأمنية فارتموا في أحضانها عراة ، علانية ، وشرعوا ساقيها للريح ثم دخلوها جمعا جمعا .
*
عصر ذلك اليوم ، في ( سه رجو) عند مدخل الزقاق القصير الفاصل بين جايخانتي ( أكبري ) و( علي حلو ) اللتين تفتح واجهتيهما العريضتين على ( نهر سوق ) مباشرة ، قرفص الأطفال كعادتهم تحت فئ دكان ( سامي ) يلحسون ألواح المثلجات ، وعيونهم ، تزوغ حسرة نحو تلك الجوريات الحمراء ، التي لم تنجح مخططاتهم اللصوصية يوما في قطف واحدة منها ، والمتوهجة وسط تشابك شجيرات الآس المحيطة ، كدوائر ، بأشجار التوت الثلاثة الباسقة منتصف باحة جايخانة ( نعمان ) الرحبة ، لصق الحسينية الكبيرة .
بعد أن نفذت نقود معظمهم ، تشاغلوا بتخمين مواعيد وصول الباعة المتجولين ، الذين بدأوا يتقاطرون توا على ( سه رجو ) ، حاملين على رؤوسهم أو سواعدهم المبسوطة ، أطباق وقدور مأكولات يعرضونها للبيع . ثم ، تراهنوا فيما بينهم بالآجل ، على تحديد موضع جلوس كل بائع في منتصف الشارع الموازي للنهر بين الجايخانات الثلاث . وقبل أن ينال الخاسرون صفعات الفائزين أو بصقاتهم ، انتبه الكل ، أطفالا وباعة ، لمشهد كادوا ينسوه في رهبة توجساتهم من الرجال الغرباء ، تحاول وقائعه معاودة تشكلها المتكرر يوميا ، بجوار النهاية الصغرى للحديقة البيضوية ، كمنطقة محايدة تنأى عن التزامات الجايخانات الثلاث ، في آن ، ولا تغفل كثيرا عن ما يدور فيها . التفتوا جميعا بحركة سرور واحدة ، ينتظرون ما يؤول اليه الحدث غير القابل للتوصيف والدائر بين الصديقين اللدودين الذين ما كان بمقدورهما الائتلاف أو الاختلاف ، حيث شرعا منذ دقائق ، وسط جدال صاخب ، في تهيئة لوازم قعدتهم المعتادة بين المزارع ، في ضواحي مندلي ، لتجرع حصتهم من السم المستكي الذي أعلنا مرة بأنهما لايستبدلان جرعة منه بكل زنجبيل الجنة .
بتأتأة شديدة وواضحة ، نبه قادر ، وهو يرزم أكياس لوازمه ، صديقه قائلا :-
ـ كككثرت كككلابهم هذا اليوم .
رمق جاسم الرجال الغرباء المبثوثين في محلته بنظرة استعلاء ، فتل أطراف شاربه الستاليني الذي يحتل نصف مساحة وجهه الصغير ، وعلق مفسرا الموقف :-
ـ ربما عثروا على فطيسة كبيرة .
صمت قادر ، وأحتوت عيناه الصغيرتان محيطه بريبة . تساءل عبر هنهنات قصيرة عانى صعوبة بالغة في اخراجها من عمق صدره اليابس من كثرة التدخين:ـ
ـ ججاسم ، أخخخشى انهم يقققصدوننا .
رمى جاسم علبة سكائره من يده بنفاذ صبر ، تأفف مشيحا وجهه الصغير الشبيه في كثير من تفاصيله بوجه قادر نحو الجهة الأخرى ، قابلته قامة أحد الرجال الغرباء المديدة ، فأعاده مسرعا نحو صديقه معاتبا اياه بليونة :ـ
ـ وماذا فعلنا ، هل ضاجعنا امرأة الرئيس ؟ .
ـ أكككثر .....
كاد موقفهما الراهن ، مخاوف قادر السخيفة بنظر جاسم وقامة الرجل المديدة بالاضافة الى عدم اكتمال لوازم قعدتهم للآن ، يسقطهما مجددا في دوامة مشاكسات متبادلة قد تتطور الى شجار عملي يتم توزيع شراسة آثاره ، بعدالة ، بين ملامح وجهيهما الدقيقة . الملامح التي قد تضيع خطوطها أو تتقطع تماما لولا فزعة الآخرين ، رغم انها تجئ متأخرة بعد أن يكونوا قد فطسوا ضحكا وتونسوا ملئ فروج نسائهم ، كما يصرخ جاسم في وجوههم ، مستنكرا أنانيتهم وخلو قلوبهم من الرحمة . أما سبب معظم تلك المشاجرات الوحيد ، فهو الوضع السياسي المحيط رغم انهما لايفقهان منه شيئا البتة ، والقوى الدولية الفاعلة على قد عقليهما ، أو من سبب أخطاء الماضي الفظيعة بحيث لايجدي معها ، لاجلد الذات ولا اخصاءها ، أو هل ان جماعة قادر قد وفقت في انشطارها الذي لايراه جاسم الا انقساما مريبا بيت له الاستعمار والرجعية والماوية الخبيثة وبقايا التروتسكيين المندحرين .
لكن ذلك اليوم ، وفي لفتة حكيمة لايجود جاسم بمثلها الا مرة كل دورة زمان ، اقترح صادقا على من كان رفيقه في خلية حزبية واحدة ، قبل الانشقاق ، أن يتم تأجيل أي شئ بينهما الى ما بعد تجرع الزقنبوت الذي استهلك كل عرق جبينهما . وافقه قادر على الفور داعما المقترح ، مبديا امتنانه الشديد ، متمنيا أن لايذهب بعد اليوم ، لاعرق جبينهما ولا عرق أي أماكن أخرى هدرا . ثم حمل كل واحد قنينة عرقه وما تمون به من الباعة المفترشين وسط الشارع مزة ، لبن رائب وبقوليات مسلوقة وكرزات ، وتواريا بعيدا على طريق ( علي جني ) نحو مقبرة ( باقوج ) حيث تمتد بعدها مساحات الأشجار والمزارع مترامية الأطراف .
*
عصر ذلك اليوم أيضا ،بيد مرتبكة وصوت مخنوق ، حاولت ( حياة ) ايقاظ زوجها الذي كان قد أخذ قيلولة بعد الغذاء . سمعته يهمهم متوسلا اليها أن تدعه نائما لفترة أخرى ، لكنها بعصبية شديدة صرخت به أن ينتبه لما كان المذيع يسترعي به انتباه المستمعين بين فترة وأخرى من محطة اذاعته ، طالبا منهم انتظار مقابلة مهمة مع شخصية معروفة ستبث قريبا . فرك ( سامي ) عينيه بأنامله النحيفة ، وأحاط ، بيقظته المستعادة شيئا فشيئا ، الراديو الكبير المستقر على رف خشبي مثبت على الحائط أمامه ، محاولا استيعاب ما أشارت اليه زوجته .لم يلبث طويلا حتى لسعه صوت المذيع الذي فحّ من عمق أحراش سقمه فقفز ، كالملدوغ ، يلملم أذيال نكبة منتظرة جديدة ، صابا جام توبيخاته على رأس زوجته :ـ
ـ انها كارثة ، لماذا لم توقظيني مبكرا ؟ .
بسط طوله الفارع واندفع خارجا عبر باب منزله ، منحدرا ، بخطوات لاهثة ، من تلة ( حه لواجي ) نحو ( سه رجو ) ، مخترقا مجالس الأطفال الذين لم يمنعهم تطفلهم على محرمات دكانه من الاعلان عن اندهاشهم وسخطهم عندما وجدوه قد تجاهلهم تماما على غير عادته ، ولم يمس مؤخرات آبائهم أو مقدمات أمهاتهم بمداعباته الاباحية ، أو ينبش عظام أسلافهم بشتائم لسانه السليط ، بل دخل مباشرة الى دكانه بوجه متجهم دفع عامله الى تجنب الاقتراب من دوامات زوابعه .
رأوه يدور حول كرسيه كالأثول تارة ، وتارة يخرج من الخبايا قصاصات ورقية يدسها في كيس يحمله بين يديه . ثم رأوا رأسه الطويل يطل ، عبر فتحة الدكان الأمامية ، مناديا على بعضهم . عندما هرعوا اليه أودعهم همسات قصيرة ، طلب ايصالها بمنتهى السرعة والحذر الى آبائهم ، الذين بدورهم ، لم يخذلوه . فما أن عالجت مفكات مداركهم مغاليق تلك الهمسات حتى توافدوا ذاهلين ، ينهالون بطعنات أسئلة خرقاء على وجومه ، نكأت جرحه الجديد الذي فاق جراحاته سعة ، لم يملك أمامها سوى أن يطلب اليهم الانتظار . تركوه ، مطأطأي الرؤوس ، نحو جايخانتهم ، جايخانة ( علي حلو ) ليحتلوا فيها أماكنهم المعتادة على تخوت عهدوها طويلا ولم يتبينوا ، الا اليوم ، مدى قساوة خشبها .
*
سرى النبأ بين شفاه الباعة المتربعين خلف بضائعهم ، عاينه ثلاثة رجال جاءوا يبتاعون عشاء عوائلهم ، نقلوه ، بعد أن شذبته أهوائهم ، الى أطراف ( قه لابالي ) البعيدة .
ركله طفل ، كان يلعب الكرة ، استدعته أمه لغرض طارئ ، نحو دربونة ( ده ربوحين ) المطلة على ( سه رجو ) ، عبر من بيت الى بيت ، ومن نهايتها ، اجتاز السياج المتهدم لخرابة مهملة ، مع الوشوشات الولهانة لعاشق كان يبث توقه الجنسي لمفاتن مراهقة لم تتخلص من صرامة أمها الا بشق الحيل . استقبلته بلا أبالاة مزعجة ، قلبت شفتيها الورديتين ، ثم نثرته مع الحب ، من اناء بين يديها ، لدجاجات جدتها السارحات في باحة دارهم الخلفية ، منتصف دربونة ( حه لواجي).
التقطته عصفورة عابرة زاحمت الدجاجات على قوتهن ، صادفتها ، لحظة حطت على شجرة نبق في طرف الدربونة البعيد ، حجارة رماها صبي من مصيادته . سقط النبأ مضرجا بدماء العصفورة على قارعة رأس عازف الزرنا الذي كان قد خرج توا من منزله في دربونة ( زه ركوشي ) ، التقطه ، وغسله بمياه همومه ، ثم دسه بين أنغام آلته التي أطربت بقايا الأغوات الناهضين توا من غفوتهم ، عند مروره تحت عقود درابينهم ، نحو حفلة مقامة في احدى دورهم العامرة على شرف ولد مدلل عاد أخيرا من منفاه .
سقى بعض الأغوات النبأ الى المحتفلين بكؤوس مترعة ، تلقف حثالتها مراهقون ، كانوا قد لحقوا فتيات قصدن الحفلة ، فساقتهم نحو الحلبة ليراقصوه رقصات أنهكتهم ، وجعلت خيالاتهم المستفزة بأجساد الفتيات تطرح مع روائحهم الشبقية أساطيرا حملتها الريح ، بعد انقضاء الحفلة ، نحو جهات مندلي الأربعة .
*
بمهارة محترف عارف أسرار حرفته ، خبط ( فاضلي ) النبأ مع مطيبات علوجته ووضعه في حلوق الأطفال على طول خط سيره اليومي عبر مناطق (قه صبصاني) و(علي جني) و(نانه وا) و(بازاركه ورا) . سحب خيوطه المتطاولة نحو (سه رجو) من جديد ، لتلتف حول حديقتها العامة ، وتحوم في سماء جايخاناتها الثلاث ، لتنزل كاللوزينة على المرارة المستعرة ، منذ الانقسام ، في قلوب رواد جايخانة (نعمان) ، الذين من فرط تأثرهم فركوا أكف فرحهم ، وملأوا أشداق تشفياتهم بقهقهات مرت مرور الكرام ، بين تخوت جايخانة (أكبري) المحايدة والمنصرفة لممارسة وقائع حياتها اليومية رغم سريان همس حذر بين شفاه روادها المختبئة وراء أكفهم ، لتسقط رنات شماتتها ، مع الأخبار المتواترة المقلقة ، على رؤوس رواد جايخانة (علي حلو) ، الذين لم يملكوا أول الأمر الا مواجهة الموقف بغرغرة ، تشبه غرغرة الغريق ، بين ثنايا حناجرهم التي دفع يبوسها صانع الجايخانة ليعلن مرارا لأسطاه عن تذمره من انهيال تلك الطلبات غير المعقولة للماء عليه ، والذي كما يبدو لم يعد يرويهم .
ما لبثت الغرغرات المكبوتة وتصاعدت ، من فرط اليأس ، وتوضحت حتى تجرأت وغدت كلمات مفهومة ، لالبس فيها ، تهاجم الحكومة ورواد جايخانة (نعمان) . الأدهى ان البعض ، في خطوة غير مبررة ، قد أوصلته حراجة الموقف وغموضه النسبي حد التحرش بحياد رواد جايخانة (أكبري) و(جراوية)كبيرهم ، العاصي بين كهوف الجبال ، من طرف لم يكن خفيا بما يكفي ليتم تجاهله . فكادت مشادات ، لاداعي لها ، تنشب لولا شعور رواد الجايخانة الأخرى بالرأفة لحالهم ، وعدم الرغبة في تصعيب أو تعقيد أوضاعهم بأكثر مما هي عليه.
تأخر موعد بث المقابلة المهمة التي ماأنفك مذيع محطة بغداد يشد أعصابهم المستفزة اليها . فتهور البعض تماما ، واندفع مهاجما رجال الأمن ، معددا مساوئ أمهاتهم وفضائح زوجاتهم ، حتى ان أحدهم هبّ من مكانه ، لولا تشبث الآخرين به ، مصمما على خنق ابن الحجي ، الذي ، كان ينط بين مجالسهم كبرغوث ، متسلل بين ملابسهم ، تمنوا أن يدوسوه تحت كلشانهم المتهرئة . كأنما قد ( جازوا من أرواحهم ) ، كما رأى (خليل أسي) بائع الفرارات ، الذي دوخت هذه الأهوال رأسه الكبير ، فأفتر ، فرات حائرة مع فراراته الملونة ، المصنوعة من ورق الآبرو ، المركوزة في شدة أعواد الحلفاء المربوطة في نهاية عصا طويلة تتكئ على كتفه العريضة ، دون أن يفهم مما يجري حوله ولا طقة . فلعن السياسة والسياسيين ، وحلف بعواصف الله الشديدة أن تمزق كل فراراته اذا وطئت أقدامه ، بعد اليوم ، أرض (قه لابالي) المبتلية بهؤلاء ، عديمي النفع لأمهاتهم ، الذين يقرأون كثيرا ، حتى دون أن يكونوا تلاميذا في المدارس .
*
مساء ذلك اليوم ، أثبت ابن الحجي صدق نواياه تجاه رجال الأمن الغرباء ، وبادر الى تنفيذ ما يخصه من بنود صفقته المعقودة معهم بسرعة لم يطالبه أحد بها . فكما يفعل دائما حين خوضه غمار سرقاته الصغيرة من مهملات البيوت المجاورة ،أسرع بتعليق أطراف دشداشته حول وسطه ، كاشفا عن خصيتين متضخمتين ومتدليتين داخل لباس متسخ ، متقدما بخطواته المستعجلة الصفوف لايصالهم الى عناوين المطلوبين الذين سألوا السكان عنهم مرارا دون جدوى . والتي ظهر ان الضباط في دائرة أمنهم ، بسبب تلاحق الأوامر الواردة عبر جهاز اللاسلكي ، لم يتوفر لهم الوقت الكافي لتدقيق الدروب المؤدية اليها . عليه ، شعر الغرباء بامتنان شديد نحوه ، فقد اكتشفوا فيه متلصصا فطريا ومن الطراز الأول على أبناء جلدته ، وملتقطا حساسا للأصوات مهما خفتت ، ومسجلا بارعا للوقائع والأحداث في ذاكرة تتوهج اتقادا أو في قصاصات ورقية يحملها في جيوبه العديدة ، العلنية أو السرية ، ذخرا لأوقات الحاجة ، حتى ان أحد الغرباء اقترح رفع توصية عاجلة الى الضباط بضمه الى مسلكهم رسميا ، خاصة عندما وجدوه يجيد ، كأي محترف ، الانزواء في الأركان القصية ، بعد نهاية عمل شاق ، لعد محصوله الخبري ومن ثم تسطير أهمه في تقارير فنية مضبوطة ، لايعلم حتى الله كيف تسنى له اتقان كليشيهاتها .
مرّ الرجال المسنون مسرعين نحو الحسينية الكبيرة لاداء مناسك تقواهم دون أن يتمهلوا ولو قليلا كعادتهم اليومية ليرمقوا الموبقات ، التي تمارس علنا في الجايخانات الثلاث ، بعيون تقدح أسفا على الملذات التي هم على وشك التخلي عنها لأشباه الرجال ، هؤلاء ، الذين بهم هزلت الدنيا . كما لم ترتفع أصوات تعودت الانطلاق ، من هنا وهناك ، تتحارش بتشبثهم ، عديم الجدوى ، بالدنيا التي لم تعد دنياهم ، داعية اياهم بقساوة وقحة الى الانسحاب كأنتيكات نحو متاحف الزمان ، أو نعوش تحمل باحترام ، ربما لن ينالوه لو أطالوا المكوث ، نحو مقبرة وادي السلام في النجف .
رضخ الرجال المسنون على مضض للوجوم الذي كبس مباهج المحلة واختزل كثيرا من عدد رجالها الذين لايعلم أحد يقينا من منهم أعتقل ، ومن منهم ولى الأدبار أو أختفى ، ومضوا متكئين على عصي دقت اسفلت الشارع دقا حزينا بث الاحباط في تلهف الأطفال لحدث يومي دأبوا التسلي بمناوشات أبطاله التهكمية ، فتململوا ساخطين على ماجرى ويجري . تركوا موضعهم عند دكان سامي ، الذي أختفى بدوره مع معظم رواد جايخانة (علي حلو) ، وانتقلوا جميعا بفوضى صاخبة صوب الحديقة العامة ، تسلقوا سياجها عابرين نحو الداخل ، وتوجهوا للجلوس ، كحلقة واسعة ، على عشب أقرب قواطعها الأربعة ، وقد شغلهم النبأ رغما عنهم ، فقطعوا مفازات طلاسمه العصية على أفهامهم ، وهم يمضغون جذور نباتات تعودت أناملهم الصغيرة اقتلاعها في غفلة من عين الناطور .
بعد مداولات تأثرت كثيرا بالجو السائد وكادت تؤدي الى اشتباكات مع أبناء رواد جايخانة (نعمان) ، وتلبية لرغبات ملحة لدى معظمهم بمشاكسة ما يشاع وما يجري، توصلوا الى نتائج رأوها حتمية ، مفادها ، ليس بمقدور حكومة جديدة لم تكمل عامها الأول بعد أن تأسر رجلا أطار النوم من عيون حكومات راسخة في الحكم . رجل ، بامكانه اجتراح ما لم يجترحه نبي أو امام من معجزات . رجل خارق قادر على اسقاط أعتى الحكومات لولا انه ينتظر الوقت الملائم ، بالضبط ، مثل صاحب الزمان عجل الله فرجه . لذلك ، قرروا ان ما يذاع ويشاع ليس الا كذبة حكومية أخرى ، تعودوها ، لن تنطلي على أحد منهم . كذبة حتى لو صحت فلا تنطوي في النهاية على أي معنى . لأن عزيز الحاج سيصمد ويصمد ويصمد الى أن يعلنون يأسهم منه . فينسل من بين أيدي شرطتهم وسرييهم كالزئبق . سيخترق حصار دباباتهم . سيفلت من مطاردة طائراتهم البائسة ان لم يسقطها . ألم يسقطها مرات ومرات ، هناك ، في مياه الأهوار البعيدة . سيعود الى أوكاره المبثوثة في أرض العراق ، من أقصاها الى أقصاها ، ليكافح أولئك النتنين ببنادقه الطويلة . الأطول من مسدسات الرجال الغرباء . وليبني بين غابات القصب والبردي أجمل مدن الفقراء . فلماذا اليأس اذن ؟.
لكن مذيع محطة بغداد ، ذلك اليوم ، خوزق آذان سكان (قه لابالي) ، دون استثناء ، بأمواج خذلان حملت صوت معبودهم ليؤكد ما كانوا يختلفون فيه . فأصيب الآباء بما أصابهم . أطرق بعضهم اطراقة دامت حتى أطرق عليه . ارتدى بعضهم أسمال تيه في الآفاق تتقاذفه الأساطير والخرافات . شحذ بعضهم خناجر انتقامه ، تدجج بالاصرار ، وكمن بين دفتي الجغرافيا متربصا مرور التاريخ . ثم دخلوا جميعا مخادعهم وحيدين ، حتى فحولهم ، لم يقربوا تلك الليلة نساءهم . أما الأطفال، فقد أطلت رؤوسهم عبر التكوينات الحديدية المتشابكة لنصف سياج الحديقة العلوي تراقب ، بصمت يشبه صمت الأموات ، الغمة التي أطبقت على (قه لابالي) كالقدر .
*
تلك الليلة ، لم يمنع اختفاء العديد من الآباء أطفالهم من مشاركة الآخرين في التموضع مقرفصين على طريق (علي جني) ، بينما على سطوح المنازل القريبة ، تربص أولئك الذين يؤمن أهاليهم بأن لظلام الليل محاذيرا يصعب التكهن بها ، فأقفلوا دونهم الأبواب . ثم راح الجميع يحث الوقت على الانقضاء ، بدعوات خاشعة للأولياء اقتبسوها من أفواه أمهاتهم ، ليعود الصديقان اللدودان قبل استدعائهم للنوم قسرا .
سمع الأطفال صوت غناء بعيد نسبوه في الحال لقادر رغم خلوه تماما من مطبات التأتأة أو الهنهنة ، بالعكس ، كان صوتا شجيا صافيا يتأسف على المسرات الزائلة ، والأشجار حين تقطع ، ويعلن لمجلس الأصدقاء عن حيرته من فك مفترس يقف له بالمرصاد ، هناك ، على مبعدة خطوات . ثم سمعوا صوت جاسم ، يلعن الأسلاف والأخلاف طالبا من قادر الكف عن ازعاج الشياطين الهانئة بنومها ، فلا أحد يضمن انها اذا ما استيقظت لن تتكالب عليهما .
اقترب الضجيج ، وترددت جلبة جملهما المبتورة بين ثنايا الليل ، ثم لاحت قامتاهما من وسط ظلام الدرابين كخراعتي خضرة ، يعط السكر من تهدل خطوط وجهيهما ، ويترنح الوعي في تشابك خطوات تطوحهما من حائط الى حائط ، لتمرغ سمعتهما في وحل احراجات يتونس للياصتها الأطفال ، مهما كان غياب الآباء حزينا ، الى أن يمسكون خواصرهم الصغيرة خوف أن تتقطع .
وسط الجايخانات الثلاث ، في الموضع الذي غادره الباعة المتجولون ، توقفا ، قبل أحدهما الآخر ، ثم تفرقا . لم يفطن قادر لخلو جايخانة (علي حلو) من معظم روادها وتوجه كعادته لاعتلاء منضدة في منتصف باحتها المقامة على النهر برص جذوع النخل وتغطيتها بالطين، مباشرا فصله السياسي ، الذي يسهو العابد عن عبادته ولايسهو هو عن اقامته ، هاتفا بسقوط بريطانيا والسوفيت والأغوات ، محييا نضال القيادة المركزية للحزب الشيوعي في أهوار الجنوب بقيادة الرفيق المحبوب عزيز الحاج .
من تحت احدى شجرات التوت الباسقة في باحة جايخانة (نعمان) ، عفط جاسم عفطة جعلت النساء في أحواش البيوت القريبة يغصن بكركرات تحاشين أن يلحظها رجالهن المتجهمين . نهضن ، متحججات باستدعاء الأطفال للنوم ، وصعدن الى السطوح . تشاغلن بتوبيخ تمادي فلذات أكبادهن في السهر بأصوات حرصن لتكون عالية بما يكفي لتصل أسماع الرجال ، عساهم يغضون الطرف عن تأخرهن قليلا على السطوح، ليستطعن التمتع باطلالة ، ولو قصيرة ، على المشهد في الأسفل . فسمعن صوت جاسم الأبح يهتف بالسقوط للأمبرياليين والماويين وملا عزيز ، خطيب الحسينية المجاورة ، وبالمجد للسوفيت واللجنة المركزية للحزب الشيوعي بقيادة الرفيق العزيز ، عزيز محمد .
ـ والله والله ....
صرخ قادر بلازمته المعهودة التي دأب على اطلاقها في أوقات سكره تعبيرا عن الاستغراب أو كلما ضاق صدره . أعاب على صديقه التزامه بجماعة خط آب المشين الذي كاد ، لولا فطنة المخلصين ، يؤدي بالكل الى كارثة أشد وقعا من كل كوارث اللهاث وراء مؤخرات البرجوازية الملوثة بماء ذكورة الاقطاع ، ومواقف متخاذلة أخرى لاتحضره الآن ، ربما غدا ، فالرجاء تذكيره حينما يصحو اذا لم يكن يخشى المواجهة ، لكي يعددها له بالتفصيل .
لم يمكث جاسم مكتوف اللسان طويلا لصق الجوريات الحمراء المطلة من بين تشابك أغصان الآس ، ولم يدافع أمام اتهامات عدها مجرد هذيانات واحد سفيه ، بل صرخ بلازمته المعهودة التي تعود تكرارها ، في سكره وفي صحوه ، حتى اقترنت بأسمه وغدت لقبا لايعرف الا به:
ـ بسيطة ...
مسد شاربه الستاليني الكث ، بارما أطرافه المدببة ، وبادر لشن هجوم كلامي مدجج بمختلف الاتهامات المعاكسة ، المتوفرة في جعبته ، والحمد لله ، بكميات تتيح ادامة زخم القيل والقال الى أن ينقر في الناقور . قال عن قادر ، مجرد عقل صبياني قشمره أولئك الأمعات الذين يفيضون حقدا على تاريخ الرفاق المشرف ، فانجر وراء أباطيل كان الأولى به ادانتها فورا والعودة الى الأحضان المستعدة لاستقبال كل تائب .
في مرحلة لاحقة من فصلهما الليلي ، باشر الصديقان التراشق بالشتائم التي تطايرت ، عبر الجايخانات الثلاث ، ولم توفر حرمة أعضاء أحد الجنسية ، حتى الأسلاف البعيدين ، فاستدعتها من مجاهل القبور المندرسة وبسطتها أمام مسمع المحلة بنسائها المنزويات في أركان السطوح ، مولجة بعضها ببعض ، حتى تجسدت في مخيلة الأطفال ، الذين غلبهم النعاس ، كأعضاء عملاقة تتبارز في الطرقات بسيوف من خشب .
نفر الدم الناقم من عروق ابن الحجي حتى برزت من جانبي رقبته الداكنة . طاف لاهثا بين مكامن بضعة رجال أمن تخلفوا في مواضع متفرقة من المحلة بعد انسحاب الباقين بالغنائم نحو دائرة أمنهم . تبادلوا معه حديثا هامسا علق على أثره أطراف دشداشته حول وسطه ، كاشفا عن خصيتين متضخمتين متدليتين داخل لباس ازداد اتساخا ، وركض صاعدا نحو شارع السراي .
في اللحظة التي وصل فيها الفصل الليلي للصديقين اللدودين الذين ليس بامكانهما ، لاالاختلاف ولا الائتلاف ، آخر مراحله المعتادة في التشابك القريب ، باستخدام أسلحة الأيدي والأرجل البيضاء كوسائل اقناع فعالة ، طوقتهما شلة من رجال الأمن ، كتفتهما ، وألقتهما في مؤخرة البيك آب شفروليه المسلحة الحمراء التي وصلت توا ، وفاتت عيون الأطفال المستغرقة في نوم هانئ عميق ، ان ترى في مؤخرتها ابن الحجي منتصبا بشموخ يشبه شموخ الفرسان .



#طالب_جانال (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الدمى - قصة قصيرة
- الكرسي
- عمامة اكس بي بروفشنال


المزيد.....




- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب
- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...
- -الضربة المصرية لداعش في ليبيا-.. الإعلان عن موعد عرض فيلم - ...
- أردوغان يشكك بالروايات الإسرائيلية والإيرانية والأمريكية لهج ...
- الموت يغيب الفنان المصري صلاح السعدني
- وفاة الفنان صلاح السعدني عن عمر يناهز الـ 81 عام ….تعرف على ...
- البروفيسور منير السعيداني: واجبنا بناء علوم اجتماعية جديدة ل ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - طالب جانال - النبأ