طالب جانال
الحوار المتمدن-العدد: 1525 - 2006 / 4 / 19 - 10:45
المحور:
الادب والفن
عندما أختير (سيادته) ، في ما يشبه اللعبة ، ليترأس دائرته ،لم يصدق أحد ، سواء من الموظفين أو المراجعين ، بأن المقام سيطول بعجيزته على كرسي الأدارة . فهو يفتقر الى الطلّة المحببة التي تريح المتعاملين معه ، كما قرر أحد المراجعين ، وتعوزه المواهب الادارية الخاصة التي ترندج حائزها وتؤهله لشغل منصبه بجدارة ، فضلا عن انه لم يتمكن ، خلال السنوات التي قضاها في الدائرة ، من اكتساب أي قدرات استثنائية تميزه عن سواه ، سوى ، اجادته للثرثرة البليغة بلغة شعرية راقية لكن غير مفهومة ومجردة من المعنى ، لذلك ، رفضه الجميع ، الا خاصته ، منذ اللحظات الاولى لترشيحه.
فالمراجعون ، فضلوا ترك مصالحهم نهبا لغبار الرفوف وأدراج الحفظ في مكاتب الدائرة على أن يواجهوا تلك الخلقة الثقيلة ، أو ، أن يرغموا على سماع تلك البلاغة الجوفاء وهي تخبط الولادة ، برحم المعاناة ، بحضانة الترهات ، ليفرخ المستقبل خيرا أو أمانا سيعم الجميع . وفقد الموظفون حماستهم للعمل ، وأنصرفوا الى تزجية الوقت في محاولة اصطياد سمكات مزوهرات ، لا تقيم أود رغباتهم ، من وشالة أصحاب مصالح لازالت الضرورة القصوى تنقطهم في برك الدائرة الراكدة . وأحيانا ، ينشغلون مغتبطين بمتابعة طيران الفيلة في سماء الشائعات المترامية ، أو ينغمرون يائسين في حل كلمات الفوضى المتقاطعة . أما الموظفات ، اللواتي اعتقدن بأنهن قد تحررن ، أخيرا ، من قرف المراجعين وروائحهم النتنة ، فقد وجدن أنفسهن ساقطات في فخاخ بطالة مضجرة لايفكهن منها ، لانبشــهن في ملفات بعضهن البعض ولا بحثهن المستميت عن مقاربات شكلية ، معدومة أصلا ، بين ملامح سيادته وبين ملامح مطربي الفضائيات أو ممثلي المسلسلات . لذا ، ولجن في حالة صوفية من انتظار لامجدي لمهديهن المنتظر الذي تمنين أن ينزل من السماء ليصعّد اليها وجه الشؤم هذا .رافضات ، باصرار أنثوي ، تصديق ان هذه الكتلة القصيرة من اللحم المتغضن ، كما قالت احداهن ، العاري الرأس من الشعر ، صاحب العينين التعبانتين والفم الصغير المزموم ، من الممكن لصوره غير الجذابة أن تشوه جمال ديكورات مكاتبهن لدورة من السنين لايعلم حتى الله متى تنتهي.
تدهورت الاحوال في دائرة سيادته حتى فاقت حدود الكارثة ، وتعطلت الحياة ، وعم الخراب والفساد والفوضى ، حتى صرنا مدارا لتقولات الذي يسوى ولايسوى في مشارق الأرض ومغاربها . وتراكمت الشكاوي فوق مناضد الجهات العليا التي لم تجد مناصا من الدعوة لعقد اجتماع وطني يتدارس المشكلة وحلولها الممكنة ، قـرر فيه المجتمعون بناءا على مقتضيات المصلحة العامة ، استبدال سيادته بمدير آخـر لم يشترطوا فيه ، مرحليا ، سوى الشكل المقبول ، بسبب موجب وحيد ، هو وقف التدهور النفسي الحاصل لدى عموم المواطنين . وعلى أن يعاد النظر ، لاحقا ، بهذا الاختيار لتكليف مدير آخر مناسب ومقتدر وبامكانه وقف التدهور المادي للدائرة ومن ثم اعادة هيكلة وتنظيم أمورها . الا ان سيادته رفض الفكرة والقرار عندما أبلغ بهما ، وأبـى ، رغم محاولات اقناعه المتواصلة ، التخلي عن موقعه الاداري ، مستغلا ثغرات القانون ، متحججا باختيار بعض خاصته له وأمتلاكه لما يشبه التكليف الشرعي للتربع على عرش الكرسي .
أمام مستجدات الاحداث هذه ، تم في الوزارة المعنية تشكيل لجنة ثلاثية اضطلعت بمهمة اقناع سيادته بترك الكرسي وتسليمه الى من اختاروه للموقع . أمام رفضه القاطع هذه المرة ايضا ، حولوا اللجنة الثلاثية الى رباعية ، ثم خماسية ، ثم أضافوا لها أعــدادا من الأخيار ووجهاء القوم ورجال الدين ، ووعـود بمناصب أخرى ، وأموال وممتلكات ، لكن دون جــدوى .
الادهـى ، ان سيادته واجه هذا الضغط متعدد الجوانب بزيادة تشبثه بالكرسي الذي ما عاد يتركه أبدا ، لافي حله ولا في ترحاله ، فقد أفرغ قاعات اجتماعاته من كل مايجلس عليه الا كرسيه ، وأزال مقاعد سياراته الفارهة ورفض أن يحل بدلا عنها الا كرسيه ، وفي رأس مائدة طعامه لاينصب الا كرسيه ، وفي مجالس عوائله أو غرف ضيوفه لايوسط الا كرسيه ، أما في خلواته المتكررة مع نسوانه المتعددات ، فقد صار بامكان الجيران رؤية كرسيه ، عبر نوافذ غرف نومه ، يرهـز مقلوبا في الهواء .
تواصلت اجتماعات اللجنة الخماسية وتوالت ليل نهار للبحث عن مخرج للأزمة المستعصية وايجاد وسيلة ناجعة تفصل عجيزة سيادته عن الكرسي ، فقر قرارهم ، على أن القوة وحدها قد تنجز المهمة . فبعثوا رجالا أشداء اقتحموا مكتبه عنوة وجرجروه لساعات وساعات حتى ذابت شحوم أجسادهم المتينة وساحت أرواحهم دون أن تنفصم عروة عجيزة سيادته الوثقى عن الكرسي ، ففروا خائبين .
بعدهـا ،أرسلوا رجالا أشد قوة وأكثر عددا ، فعادوا بذراعيه مقتلعتين من منبتهما ، وفي المحاولة الثالثة ، رجع الرجال الأشداء ، على استحياء ، برجلي سيادته الذي أختزل جسده ، الآن ، الى مجرد رأس لازال فمـه يرش الوجوه بالبلاغة المعهودة ، وجـذع بمقدوره ممارسة عملياته الحيوية . فقررت اللجنة ، نظرا للظروف الطارئة ، التريث في الوقت الحاضر ، بانتظار تشكيل لجنة اختصاصية تكلف بدراسة قوة ووسيلة التصاق عجيزته غير المعقول بالكرسي ، لكي يتم اجراء اللازم وحسب الاصول .
تشكلت اللجنة الاختصاصية من خبراء في علوم الكيمياء الذرية وفيزياء القوى النووية وعلم نفس الارتباط المكاني ، مع مساعدين من اختصاصات ساندة أخرى ، كالتبادل الجيني بين الخلايا الحية والخلايا الميتة ورياضيات المكبوتات وهندسة الأحلام المكانية . وأجرت دراسات معمقة ، نظرية ومختبرية وحقلية ، فتوصلت الى نتيجة مفادها ، ان ذرات عجيزة سيادته قد تداخلت وتعشقت مع ذرات مادة الكرسي بأكثر من نوع من الأواصر ، تجمع بين كيميائية وفيزيائية ونفسية ، تتخللها جميعا معادلات رياضية معقدة تتداخل مع التوزيع الحيوي للقوى ضمن نسق ميتافيزقي في مدى رحب من مجالات فيزقية متأصلة في البعد الهندسي للمكان . وعليه فقد أوصت بأنه لايمكن ، والحالة هذه ، الفصل الفعال بين عجيزة سيادته وبين الكرسي الا بنوع من قوى غير متعارف عليها ، على اللجنة الخماسية البحث في ماهيتها .
عند وصول التقرير الفني الى منضدة اللجنة الخماسية التي كانت مجتمعة كعادتها ، وبسبب من تباين مستويات ادراك اعضائها من جهة ، وقصور اسلوبي في صياغة التقرير نفسه من جهة أخرى ، فقد تم تفسير عبارة ( قوى غير متعارف عليها ) بالقوى الميكانيكية المتوفرة . فقررت ايفاد ساحبتين مع أطقمهما لانجاز المهمة ، ربطوا ما تبقى من جسد سيادته الى احداها ، وربطوا الكرسي الى الاخرى ، وأوعزوا الى مشغليهما أن يشرعا بالسحب في اتجاهين متعاكسين .
سمع الجميع آهة مكبوتة فلتت من شفتي سيادته المزمومتين عندما طقطق عموده الفقري وتمزقت عضلات وسطه ، ثم رأوا بطنه يتمدد ويتمدد حتى انفصلت البقية الباقية من نصفه العلوي عن عجيزته التي ظلت ملتصقة التصاقا شامخا بالكرسي ، فأصيبوا بالاحباط .
كانت أزواج العيون الخمس للسادة أعضاء اللجنة تتابع ، بقلق بالغ ، الحدث المنقول فضائيا ، وتراقب العجيزة الملتصقة بالكرسي ، يتشكل منها ثقب صغير سرعان ما كبر ونمى الى ما يشبه الفم الآدمي ، بشفتين مزمومتين ، شرع لسان بدائي يتدلى ما بينهما ، ثم يتقلب ويتحرك ، ليجلد سمع العالم صوت سيادته ، يشكر ، بمنتهى البلاغة ، موظفيه لتقديرهم قدراته باختيارهم له مديرا سوف وسيبقر أرحام معاناتهم جميعا .
#طالب_جانال (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟