أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - أمير فرج زنابيط - التربية التي نفتقدها















المزيد.....

التربية التي نفتقدها


أمير فرج زنابيط

الحوار المتمدن-العدد: 6695 - 2020 / 10 / 5 - 19:29
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


بوصفي شخصيةً مفرطةً بحساسيتها أبدأ، من منطلق إيماني التام بأن معاناتي ليست أقل سخافة من معاناة شخص آخر، سأتجنب التذمر المعتاد عن صعوبة الحياة بالنسبة لنا نحن من نُنعتُ بـ "المخنثين" ذكورًا وبصاحبات الحياء إناثًا، في الواقع، ولأتحدث بإيجابية، أعتقد أن التمعن المفرط بالتفاصيل لا يؤدي فقط إلى الإرهاق، لا أتخيل نفسي شخصًا يَمر على الأحداث مرور البخلاء، فأنا شخص مسرف في وقته وجهده، إنها نعمة من جهة ونقمة من جهة أخرى، فشخصيتي تتميز بطابع تحليلي لا يمكنني الاستغناء عنه.
أحب قدرتي على الدخول في عقول الناس وفهمهم، تحليل الحركات والتفاصيل الصغيرة، استكشاف تلك الألغاز البشرية، الابتسامات الخجلة، الضحكات الصفراء، الضحكة ذات النغم المتوتر، طرقة الأصابع، الالتفات يمينًا ويسارًا بلا سبب كآلية دفاع نفسي نعبر فيها عن الرغبة بالتجاهل، أو ربما الخجل من الواقع والرغبة في تغييره، أو نغمض أعيننا حتى لا نرى الواقع بطريقة نخدع بها أنفسنا بأننا قادرون على الهرب.

إن التخلي عن متعة الفهم يعني التخلي عن ذاتي لأصبح شخصًا أسوأ مما أنا عليه، أو شخصًا أفضل. ولكن أحاول بالرغم من ذلك الوصول إلى تسوية، محاولة لموازنة الخسائر بالمكاسب أتوصل بها إلى حل يرضي حب الاستطلاع لدي بأقل قدر من المعاناة والحساسية الشكوكية غير النافعة، بالعودة للوراء، إلى جذور المشكلة أقصد، تجد أغلبنا مفتقد للمحبة، السكينة، والاطمئنان؛ وبلا شك فإن النقص الحاد في هذه كلها له أساس تربوي، ويتعلق بالتنشئة والظروف المحيطة بشكل مباشر كغيره من السلوكيات، هذا لا يعني بالضرورة توجيه إصبع الاتهام نحو العائلة، الأم والأب، ولا يُعد دليلًا على نجاح الطريقة التربوية لأحدهم عوضًا عن الآخر، إن أفراد البيت الواحد قد تتمايز طبائعهم بشكل كبير، ومعيار المفارقة بين ما قدمه أب وأم لأبنائهم لا يُقاس بحجم الاهتمام والاحتضان للطفل فقط، بل بحجم الاحتياج النفسي للطفل أيضًا وشكل الاهتمام والاحترام وتوقيته. فمثلًا، عندما يقوم الأب بتجاهل أو زجر ابنه/ابنته مانعًا إياهم عن حقهم في التعبير امتثالًا لِعرفٍ اجتماعيٍ مقيتٍ ومنافق على الأغلب، يُعتبر فيه طرح الطفل لرأيه أمام الكبار، سواء في المواضيع المهمة أم لا، سلوكًا غير مقبول، وفي أفضل الأحوال يتم تجاهله، أو الأم التي تتجاهل الطفل المُتطلب بطبعه فتصرخ في وجهه لمناداته المتكررة لها "أمي أمي"، كل ما يريده الطفل المسكين هو أن يسألها متى سيخرج لمدينة الملاهي أو المنتزه أو مطعمه المفضل أو ربما معنى كلمة أو سؤال مهم بالنسبة له، سخيف بالنسبة لها، فيُقتل شغفه الذي بلغ الذروة في تلك اللحظة بالإحباط.
هذه الأمثلة لا تُعبر بالضرورة عن نقصان في المحبة أو لامبالاة مقصودة؛ بل دلالة على قلة وعي وخلل في طرق تعبيرنا عن المحبة والاهتمام، فقد يقدم الأب والأم فيضًا لامتناهٍ من المحبة في مواقف وظروف أخرى كالفرحة عند تحصيل درجات دراسية جيدة أو العمل المتواصل على توفير حياة كريمة لطفلهما، لكن هذا لم ولن يعوض عن مشاعر الإحباط والتجاهل وقلة الاحترام التي شعر بها الطفل، ربما تضمر تلك المشاعر لفترة وتُنسى في لحظة حب واهتمام لكنها لن تلبث أن تظهر من جديد بطرق وأشكال أبشع، فالمشاعر لا تختفي بهذه السهولة، بل تكمن في نفس الطفل حتى تجد طرق تعبير مناسبة للتمثل مستقبلًا، وهذا الطرح مثال على أحد متغيرات المعادلة التي تقيّم مدى نجاح نموذج تربوي وفشل آخر، وهي شكل الاهتمام والاحترام وتوقيتهما.
يدخل متغير آخر للمعادلة ألا وهو حجم الاحتياج النفسي لكل طفل، لكل طفل احتياج خاص به يُعزى لاختلاف العوامل الجينية المُساهمة في تحديد مستوى الذكاء أو تلك التي تلعب دورًا في زيادة احتمال إصابته باضطرابات عصبية ونفسية؛ تختلف تبعًا لها احتياجاته، بالإضافة إلى الظروف الاجتماعية والبيئية المحيطة بكل طفل، وبشكل عام، وتحديدًا في مجتمعنا العربي، لا أرى الأب والأم هنا مذنبين بقدر ما أراهم ضحايا المجتمع والظروف، والتّبعات الثقافية المترتبة على حلقة العنف اللانهائية التي تتخذ منحى تسلسليًا هرميًا، إذ يصب الأقوى جام غضبه على الضعيف في حلقات مفرغة:
تفرض الولايات المتحدة المزيد من العقوبات الاقتصادية على بلدك الفقير المُعدم، فتقوم الدولة بفرض المزيد من الضرائب على المواطنين والشركات، مما يُغضب صاحب الشركة التي تعمل بها والذي كان لسوء حظك قد تشاجر هو وزوجته صباحًا ليكمل دوره في سلسلة القمع التي لا تنتهي هذه، فيشتاط غضبًا على مديرك في قسم المبيعات، ليقوم مديرك بدوره بتوبيخك، فتذهب إلى البيت لترى زوجتك المنهمكة في أعمال المنزل وقد نسيت أن تعد لك الطعام، فيكون ذلك هو زر تشغيل القنبلة الموقوتة في داخلك طوال اليوم، وما تلبث أن تنفجر لتسقط القطعة التالية في لعبة الدومينو مسقطة معها الأطفال الذين سيعبرون عن استيائهم بأشكالٍ أخرى، ضامرة على المدى البعيد أو ظاهرة في حينه، كإيذاء قطة مثلًا أو الاعتداء على زميل في الصف.
قد يتبادر إلى ذهن القارئ التساؤل التالي: «لقد مررنا جميعًا بلحظات مشابهة في طفولتنا وتعرضنا لمواقف أسوء، هذا المسار التربوي طبيعي وها نحن نضجنا لنصبح رجالًا ونساءً مكتملين النمو النفسي والاجتماعي، لماذا هذه التراجيدية في طرح المسائل؟»
بالرغم من قناعتي بمشروعية هذا السؤال، كونه قد يفتح أُفقًا جديدًا للنقاش، إلا أنه يذكرني دومًا بردود أصحاب الذكاء المتوسط ودون الوسط الذين يتسارعون لتبرير سلوك معلم يعنف تلميذًا أو أب يعنف طفله بحجة تعرضهم لذات الشيء؛ وكأنهم يخالون أنفسهم نموذجًا مثاليًا للصحة النفسية، ولا يدركون أن أكبر مشاكلهم السلوكية وصراعاتهم النفسية قد تكون مجرد طريقة يحرر بها اللاوعي الخاص بهم تلك المشاعر الضامرة المستترة وغير الفانية، ولو تظاهروا بأنهم لا يعيشون في حالة صراع نفسي، فأنا على يقين أنهم مشكلة كبيرة على النطاق المجتمعي، فهم أذرع وامتدادات لسلسلة من القمع والاستياء، وشكل محزن من كراهية الذات والغضب.
وبالعودة إلى السؤال، فإن إجابته تكمن في إدراك أن التفاعل الإنساني المعقد مع الأحداث يعطي عددًا لامحدود من الأنماط السلوكية المحتملة، يشعر الأشخاص الحساسون بالخزي من أنفسهم، ويعتقدون بأنهم لا يستحقون الحب، كيف لا؟ وقد تعرضوا للرفض من قبل أولئك الذين يفترض بهم أن يحبوهم بلا شروط، تجد الشخص الحساس في حالة قلق دائم من خسارة الآخر، من أن يفهمه بشكل خاطئ، من أن يكون حملًا ثقيلًا على أحد، لذلك هم يعتذرون كثيرًا بطبيعتهم، وهذا هو أحد السيناريوهات المحتملة.
ربما تتخذ انفعالاتنا العاطفية شكلًا آخر وتولد فينا شخصية أخرى مضطربة على مقياس آخر، فكونك تعرضت لمواقف وأمثلة مشابهة كطفل لا يعني بالضرورة أن تكون شخصًا حساسًا أو تواجه نفس الصعوبات الاجتماعية التي تواجههم، ولكن كن على يقين أن المشاعر لا تختفي من عقلك أبدًا بل تختبئ وتصنعك بطرق لا تتوقعها ولا تحبها.

يقول الكاتب عماد رشاد عثمان(١): «كل منا ببساطة كان يحمل طفلًا غاضبًا لم يتم استرضاؤه يومًا، وكأنه تيبس في وضع الاستياء، وبدلًا من أن نلتفت نحوه ونمسح على غضبه ونخفف استياءه ونتعاطف مع جرحه الأصلي، تركناه يخرج منا في الوضع الثورة ويتحكم فينا في نوبة هياج لا ينتج منها سوى الندم، بل أحيانًا يتحول الغضب نحو الوجود.. نحو الحياة، وأحيانًا يتحول هذا الغضب تجاه الذات فيؤدي لمزيد من التعقيد حيث نقوم بمعاقبة أنفسنا وإيذائها بشتى الوسائل ونمارس نوعًا من الانتقام الذاتي فنصبح نحن الضحايا ونحن الحكام، ونحن من نُوقِع العقوبة، ونحن أيضًا من نتلقاها! هذه المحكمة الداخلية المعطوبة تحتاج وقفة لنحرر أنفسنا ونعود لسماع صرخة الطفل الغاضب ونقبلها ونرى وجهتها الحقيقية ونتعاطف معها بما يكفي ليهدئ من ثورته، ويستعيد رباطة جأشه ويواصل نموه المتعطل، بدلًا من أن ننمو حاملين هذا الطفل الغاضب داخلنا نتجاهله ولا نحترم وجعه، فيضطر أن يعلي من صراخه أكثر ويصب غضبه علينا وعلى الأحبة من حولنا».


*١: عماد رشاد عثمان، أبي الذي أكره، الرِّواق للنشر والتوزيع، صفحة ٥١



#أمير_فرج_زنابيط (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- التربية التي نفتقدها


المزيد.....




- شاهد: تسليم شعلة دورة الألعاب الأولمبية رسميا إلى فرنسا
- مقتل عمّال يمنيين في قصف لأكبر حقل للغاز في كردستان العراق
- زيلينسكي: القوات الأوكرانية بصدد تشكيل ألوية جديدة
- هل أعلن عمدة ليفربول إسلامه؟ وما حقيقة الفيديو المتداول على ...
- رئيس هيئة الأركان المشتركة الأميركية يتهرب من سؤال حول -عجز ...
- وسائل إعلام: الإدارة الأمريكية قررت عدم فرض عقوبات على وحدات ...
- مقتل -أربعة عمّال يمنيين- بقصف على حقل للغاز في كردستان العر ...
- البيت الأبيض: ليس لدينا أنظمة -باتريوت- متاحة الآن لتسليمها ...
- بايدن يعترف بأنه فكر في الانتحار بعد وفاة زوجته وابنته
- هل تنجح مصر بوقف الاجتياح الإسرائيلي المحتمل لرفح؟


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - أمير فرج زنابيط - التربية التي نفتقدها