أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - فريدة حسين - تعويم العقل وتعقيم الفكر في عصر التفاهة















المزيد.....

تعويم العقل وتعقيم الفكر في عصر التفاهة


فريدة حسين

الحوار المتمدن-العدد: 6609 - 2020 / 7 / 3 - 17:36
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


"لن يفنى العالم بسبب قنبلة نووية بل بسبب الابتذال والإفراط في التفاهة التي ستحوّل العالم إلى نكتة سخيفة".. هكذا عبر الروائي الإسباني الشهير "كارلوس زافون"، الذي توفي الأسبوع المنصرم، في كتابه "ظل الريح"، وهي الفكرة التي صاغها أيضا الفيلسوف الكندي "ألان دانو" في كتابه "تفاهة نظام التفاهة"، الذي حذر فيه من ترذيل الأكاديمية، وتعويم الثقافة، واستبدال رجل العلم بالخبير، وتهميش العقل والفكر، مشددا على ضرورة التحرّر من الاغتراب والاستبلاه والاستغفال والتتفيه لترسيم القطيعة مع نظام التفاهة، والانخراط في ثورة فكرية تنويرية تنهي كل ما يضر بالصالح العام في سبيل إنقاذ العالم من الدمار والفناء.
إن الفوضى المعممة التي بلغها العالم الآن هي نتيجة حتمية للعولمة باعتبارها مفهوما شاملا لتطور الرأسمالية والنيو ليبرالية المتطرفة، التي هيمن - من خلالها - التافهون على كل مفاصل العالم في غفلة المثقفين المهمّشين بسبب تقزيم مسؤولياتهم وتعويضهم بالخبراء التكنوقراطيين لتدبير الأزمات بعيدا عن التحليل والتفكيك في سبيل البحث عن الحلول الجذرية لمشاكل المجتمعات - حسب ما أشار إليه "ألان دانو" - الذي انتقد بشدة سيطرة التافهين على العالم بسبب النظام الرأسمالي الذي يهدف إلى استغلال الإنسان، وتحقيق الربح دون إعطاء الأهمية للإنسان وتنميته وتطويره، ما أدى إلى تفكيك منظومة القيم وتهميش الكفاءات وتكريس الثقافة التبسيطية والخطاب التبريري الفاقد للمنطق العلمي والعقلي، لا سيّما أن هذا الواقع، الذي يقدس الجهل والتخلف، اخترق المشهد السياسي العام بوصول أنظمة تافهة إلى السلطة والحكم في أوروبا وأمريكا وقبلهما العالم الثالث، مستغلة في ذلك الديمقراطية والشعبوية والأزمات الاقتصادية ووسائل الإعلام، التي أصبحت أهم محاور اللعبة من خلال تكريس التبسيط والبهرجة والابتذال لإحكام السيطرة على المجتمع الذي يميل إلى كل ما هو سهل وسخيف، والفئة الصغيرة الواعية بما حولها تهمّش وتُدفع للدخول في قوقعتها الخاصة والانسحاب من المشهد العام لتعيش صمتها دون مخاطر التأثير في الآخرين.


التفاهة حجبت عصر الأنوار والخبير أزاح المفكر


ويعبر هذا المشهد العام للعالم التافه عن مدى خطورة هيمنة التفاهة على عصر الانحطاط والتراجع إلى الوراء من خلال الانقلاب على ما وصل إليه المفكرون والتنويريون في عصر النهضة في أوروبا، الذين تمكنوا من التنظير لحرية التعبير والاختلاف والتسامح وتقبّل الآخر واحترام الراي والرأي الآخر، على غرار "جون جاك روسو" و"فولتير" و"مونتسكيو" وغيرهم من المفكرين الذين أسسوا قواعد استعمال العقل في القضايا العامة والشأن العام بكل استقلالية ومسؤولية، كما دعا إليه الفيلسوف الألماني "إيمانويل كانط".
إن عصر التفاهة والتتفيه الذي نعيش فيه يبيّن التراجع عن كل هذا الذي اشتغل عليه المفكرون الأوروبيون في عصر التنوير، وهذا لم يكن عبثا بل هو نتيجة الانقلاب على دور المثقف واستبداله بالخبير وانحطاط المجتمع الإنساني المعاصر، حيث أن مسلسل التفاهة بدأ باستبدال الإرادة الشعبية والناشطين السياسيين والمواطنين بمفاهيم المقبولية المجتمعية والتوافق والتسوية، ومنها إفراغ السياسة من المفاهيم الكبرى التي تعتبر الركائز المؤسسة لها كالحقوق والواجبات والقيم والصالح العام. وحسب تعبير "ماكس فيبر"، فإن السياسة محكومة بهاجس الحكامة والمنفعة الخاصة للسياسيين ليتحول اهتمامهم من الصالح العام والقيم الإنسانية النبيلة إلى التعامل مع مؤسسات الدولة باعتبارها مشروعا تجاريا مربحا لا يخضع لمنظومات أخلاقية ولا لقيم عليا.
ابتذال السياسة جعلها تفقد دورها المنوط بها، بل أصبح الحقل السياسي مجالا خصبا للباحثين عن السلطة والشهرة والمال، وأصبحت الدولة تصنع أجهزتها الخاصة لإحكام السيطرة على المشهد العام، فلم تعد السياسة قائمة بذاتها بل أصبحت جهازا من أجهزة النظام الحاكم الذي أفرغها من السياسيين الفعليين النزيهين وعوضتهم بـ"السياسيين الخبراء" أو التكنوقراطيين الذي يشكلون الحكومات باعتبارها قنوات تسيير الأزمات، لا تفكر ولا تحلل ولا تنتقد. والوضع ذاته في الأحزاب السياسية التي باتت شريكا للنظام في برامجه وخططه، لا تمارس دورها السياسي والحزبي، وهذا كله دليل على انصهار السياسي وذوبانه واضمحلاله من المجال العام في عصر التفاهة والابتذال، الذي يعترف بدور الخبير وفقط.

الجامعة أصبحت مصنعا لإنتاج "الإنسان السلعة"

وقد باتت الجامعة مثلا مصنعا لإنتاج الخبراء بدل المثقفين والمفكرين، وهو ما يفسر العداء المطلق للحكام والحكومات للعلوم الإنسانية، حيث تعمل السياسات الحكومية في كل دول العالم حاليا على ربط التعليم بسوق الشغل وفق منطق "على العقول أن تتناسب مع حاجات الشركات"، ومنه تغييب العقل النقدي الباحث الذي يتساءل، الشيء الذي حوّل الإنسان مع مرور الوقت إلى مجرد موجود في خدمة حاجيات الرأسمالية.
وتعمل مختلف الدول على جعل المدرسة والجامعة ومراكز التكوين المهني حاضنات تفريخ الخبراء والمهنيين الذين يتحكمون في مجالهم الضيق جدا، وبالمقابل تعمل هذه المؤسسات على محاربة اكتساب المهارات وقدرات الفهم والتحليل والتركيب والنقد والمساءلة والتساؤل التي تتطلب أدوات التفكير الأولى وهي اللغة، حيث عملت على التخلص من مناهج التفصيل والتحليل واعتمدت بدلها التبسيط والتسطيح لجعلها لغة جوفاء ليس لها أي عمق اجتماعي ولا قوة أخلاقية من خلال ضرب التحكم في اللغة لتكريس فقدان القدرة على التفكير والفهم السليم والتحليل والنقد، وقد حُوّل الإنسان إلى أشبه ما يكون آلة مستعد لتنفيذ ما يُطلب منه في سبيل كسب المال والعيش في الرفاهية التي تتحقق بزيادة الاستهلاك. وحينما يصل "الإنسان الآلة" إلى درجة عالية من الاستهلاك والرفاهية يصاب الجسد الاجتماعي ككل بالفساد بصورة بنيوية، يفقد الناس اهتمامهم بالشأن العام والمصلحة العامة وتحل محلها المصلحة الفردية الضيقة، وهذا ما وصل إليه العصر الحالي من الفردانية والفردوية - حسب تعبير الشاعر أدونيس - حينما تساءل حول ما تكون صورة العالم، غداً؟ بعد جائحة كورونا، وقال "التفكك الجماعي الأوروبي مُضاء بالفَردَويَّة أو التَّفرديّة البريطانية"، في إشارة منه إلى سيطرة فكرة الخلاص الفردي والمصلحة الخاصة على المصلحة العامة للعالم والإنسان.
وذهب "ألان دانو" في هذه الفكرة بعيدا لما قال إننا نعيش "عصر نهاية الإنسان الأخلاقي" ودخول "عصر الإنسان السلعة"، نتيجة لمناهج التعليم التي كرست غياب الوعي وتجهيل المتعلمين أو كما سماهم "الأميون الجدد"، الذين يملكون معارف علمية - باعتبارهم خبراء - دون أن تقودهم هذه المعارف إلى المساءلة لأنهم مجرد آلات صماء وليس كائنات بشرية تفكر وتحلل وتنتقد، وذلك - حسب الفيلسوف الكندي - نتيجة لـ"ثورة التخدير" التي خاضها الرأسماليون والتافهون خلال هذا العصر.


على المثقفين الخروج من عوالمهم الخفية


وسط واقع عالمي يزيد فيه النظام النيو ليبرالي تفاهة ورداءة، ويبتعد عن بناء الإنسان الإنساني الفعال في المجتمع، حريّ بالمثقفين والمفكرين أن يناضلوا للعودة إلى المجال الضوئي ويخرجوا من عوالمهم الخفية في الهوامش، ليصرخوا عاليا "نحن هنا"، من أجل الوقوف في وجه نظام التفاهة المعولم، وجعل المجتمعات والشعوب تراجع حساباتها لتمتلك وعيا بديلا من شأنه أن يخلّصها من الرداءة المعمّمة التي تنتج البؤس والانحطاط، لا سيّما وأن المواطن بات ضحية العولمة وتفاهتها العاتية المدمرة. ولن يتأتى هذا إلا بالعودة للعلم والمعرفة وثقافة الحقوق والواجبات وربط المسؤولية بالمحاسبة ومحاربة الفساد وخدمة المصلحة العامة للمواطن.
وقد صاغ الفيلسوف الألماني ّيورغن هابيرماس" - في هذا الخصوص -تصورا فلسفيا وسياسيا لمشروع مجمعي يصبح فيه الفضاء العمومي مجال مهما للفعل التواصلي للمواطن والجمهور وصناعة الرأي العام بالاعتماد على حوار الأفكار والإقناع وفق الديمقراطية التشاركية، التي تجعل الفرد مواطنا فاعلا في المجتمع والحياة العامة والسياسية.


مواقع التواصل الاجتماعي وقود نظام التفاهة

وبما أننا في عصر ازدهار التكنولوجيا، استفاد نظام التفاهة العالمي من وسائل التواصل الاجتماعي لصالحه، فأصبحت منصات لصناعة المشاهير والأبطال وفقا لمعايير مخالفة لتلك التي كانت من قبل، بل باعتماد مقاييس مغايرة تماما، فالناس ينفرون من الشخصيات المثالية ويتعاطفون من الشخصيات التي تشبههم، ويصنعون مشاهير ونجوم تشبه "العوام" من الناس، الذين يبحثون عن شخصيات تحاكيهم وينفرون من الشخصيات النجومية وهم يستأنسون بأولئك الذين يستخدمون لغتهم البسيطة والعامية ويتقنون لهجتهم ويهجرون الذين يستخدمون الفصحى. وقال الكاتب الإيطالي أمبرتو إيكو في هذا الشأن: "إن أدوات وسائل التواصل الاجتماعي تمنح حق الكلام لجيوش من الحمقى، ممن كانوا يتكلمون في الحانات فقط بعد أن تناولوا كأسا من النبيذ من دون أن يتسببوا بأي ضرر للمجتمع، وكان يتم إسكاتهم فورا، أما الآن فلهم الحق في الكلام مثلهم مثل من يحمل جائزة نوبل، إنه غزو البلهاء".



#فريدة_حسين (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- النملة العظمى والحزب الديناصور... المتحف أو المزبلة؟


المزيد.....




- قُتل في طريقه للمنزل.. الشرطة الأمريكية تبحث عن مشتبه به في ...
- جدل بعد حديث أكاديمي إماراتي عن -انهيار بالخدمات- بسبب -منخف ...
- غالانت: نصف قادة حزب الله الميدانيين تمت تصفيتهم والفترة الق ...
- الدفاع الروسية في حصاد اليوم: تدمير قاذفة HIMARS وتحييد أكثر ...
- الكونغرس يقر حزمة مساعدات لإسرائيل وأوكرانيا بقيمة 95 مليار ...
- روغوف: كييف قد تستخدم قوات العمليات الخاصة للاستيلاء على محط ...
- لوكاشينكو ينتقد كل رؤساء أوكرانيا التي باتت ساحة يتم فيها تح ...
- ممثل حماس يلتقى السفير الروسي في لبنان: الاحتلال لم يحقق أيا ...
- هجوم حاد من وزير دفاع إسرائيلي سابق ضد مصر
- لماذا غاب المغرب وموريتانيا عن القمة المغاربية الثلاثية في ت ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - فريدة حسين - تعويم العقل وتعقيم الفكر في عصر التفاهة