أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - خلدون النبواني - نقد الدين عند هابرماس 3-3















المزيد.....



نقد الدين عند هابرماس 3-3


خلدون النبواني

الحوار المتمدن-العدد: 6603 - 2020 / 6 / 27 - 13:33
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


"الدين والفضاء العام":

سيتوضح موقف هابرماس ومطالبه بتغيير نظرة الدولة الحديثة ومواطنيها العلمانيين نحو دور الدين والمتدينين في الحياة السياسية أكثر في مقاله الثالث والأخير من كتاب بين الطبيعانية والدين والمعنون ﺑ "الدين والفضاء العام". يُبرّر هابرماس، مرة جديدة، هنا اهتمامه بالمسألة الدينية لكونها فرضت نفسها على أجندة الفكر من خلال عودة الديني وظهور الأصوليات. يبدأ هابرماس نصه ذاك باستعراضه للمشهد العالمي الذي يشهد تشدداً دينياً مضطرداً من إيران التي انتصر فيها نظام إسلامي رجعي مع الثورة الإيرانية التي جاءت على أعقاب، ما يصفه هابرماس، ﺑ "نظام فاسد كان الغرب قد وضعه وسانده، وهو نظام كهنوتيّ حقيقي يُقدّم اليوم نموذجاً لحركات أُخرى" ، مروراً ببعض الدول الإسلامية وإسرائيل التي تعتمد قوانين أحوال شخصية دينية بدل القوانين المدنية، مُعرِّجاً على الراديكالية الدينية في بلدان أنهكتها الحروب كأفغانستان والعراق، وصولاً إلى صراع الأديان على امتداد رقعة المشهد الدوليّ وتداعياته على بلدان الغرب ومجتمعاته قبل أن يطرح تفسيراً مُهماً لنشوء الأصوليات، التي يصفها بالظاهرة الحديثة، قائلاً: "يمكن لنا فهم الأصولية التي تتقدّم في أماكن أخرى من العالم بقدر ما هي أحد تداعيات العنف الذي اختزنه الإستعمار على المدى الطويل بقدر ما هي كذلك تلك الإخفاقات التي ترافقت مع التخلص من الإستعمار. فالتحديث الرأسماليّ المفروض من الخارج في شروط غير مُواتية يولِّد عدم الأمان الاجتماعيّ وتنتج عنه ظواهر الرفض الثقافي."

في هذا النص يفصّل هابرماس مآخذه على علمانية الدولة الأوروبية الحديثة مبتدئاً بعقد مقارنة بين العلمانية في أوروبا وبخاصة في فرنسا وبين علمانية الولايات المتحدة الأمريكية بالقول:
"على خلاف ما حصل في فرنسا، لم يعنِ إدخال الحرية الدينية [في أمريكا] انتصار العلمانية على سُلطة لم تشهد حتى ذلك الحين إلا على التسامح مع الأقليات الدينية بشكلٍ مُحدد بمعاييرها ومفروض على الأهالي. في السياق الأمريكي لم يأخذ واقع تحوّل سلطة الدولة إلى الحياد بالمعنى السلبيّ شكلاً مباشراً لإجراءات تستهدف حماية المواطنين من الإكراهات التي يمكن أن يتعرضوا لها بخصوص إيمانهم أو قناعاتهم، وإنما كان ذلك يعني بالأحرى ضمان الحريّة الإيجابية لكل مُستعمر أدار ظهره لأوروبا الشائخة وإمكانية ممارسة السياسة دون أن يعرقل ذلك دينه الخاص كائناً ما كان. في الجدل حول الدور السياسيّ للدين، يمكن بالتالي لكل الأحزاب [في أمريكا] حتى يومنا هذا تأكيد ولائها للدستور."
وبمعنى آخر يميز هابرماس بين ما يسميه بالحرية الإيجابية التي عرفتها العلمانية في الولايات المتحدة الأمريكية والتي تسمح بممارسة السياسة دون فصل إكراهي ما بين الانتماء الدينيّ والولاء للدستور، وبين الحرية السلبية الممارسة في أوروبا والتي قامت بشكل اساسي، بعد فترة حروب دينية دموية عرفتها القارة العجوز، لتأمين حماية الناس من الاحتراب العقائدي، والتي تشترط لذلك فصل الدين عن الممارسة السياسية، أو بمصطلحات ذلك السياق التاريخي: فصل الكنائس عن الدولة (الكاثوليكية عموماً والبروتستانتية بخاصة في ألمانيا وبريطانيا). يطمح هابرماس إذن أن تقلّد أوروبا التي تظل، بسبب تاريخها، حساسة ومتصلبة حيال إشراك الأديان في الحياة السياسية النموذج الأمريكي للعلمانية الذي لا يقيم تعارضاً وجودياً بين السياسة والدين. يكتب هابرماس بشيء من الغيرة حول وضعية الدين في الولايات المتحدة الأمريكية التي "لم تعرف الضعف أبداً، والتي تبدو نهضتها السياسيّة كأنها مُستقلة تماماً عن هذا النوع من الشك [السائد في أوروبا] المتعلق بشكل من أشكال السُلطة وقد خلخلها التفكُّر." لا غرابة بعد ما قدمناه أن يكون هابرماس الأوروبي حتى العظم أقرب وأميل إلى مكانة الدين التي يحتلها في الولايات المتحدة الأمريكية منه إلى مكانة الدين المتراجع في أوروبا ليس فقط في الفضاء العام وإنما أيضاً في مؤسسات الدولة السياسية.
يستحضر هابرماس بذكاء في مرافعته تلك عن الحرية الدينية في أمريكا اسم مارتن لوثر كينغ والحركة الأمريكية التي دافعت عن الحقوق المدنية مؤكدةً على ضرورة قبول اندماج الأفارقة الأمريكيين السود في المجتمع الأمريكي وكيف كانت كلها ذات طابع ديني وجدت مراكزها وفضاءاتها العامة في الكنائس. لكن هابرماس ينحرف مبتعداً بعدها ليذهب حد الدفاع عن اليمين الدينيّ الأمريكي مؤكداً: "وأهم من ذلك: ليس اليمين الدينيّ تقليدياً في شيء. وهذا لأنه يُحرِّر طاقة عفوية مواتية للصحوة الدينية التي تستفز خصومها العلمانيين وتشلُّهم." بهذه الآراء يكشف هابرماس في كتاباته حول الدين عن وجه كهنوتيّ مُحافظ..
هكذا تصبح حداثة أوروبا العلمانية ضالة ومغتربة في نظر هابرماس في عالم وقد تصالح مع الدين حتى في الولايات المتحدة الأمريكية. وهو ينعي هذا الإستثناء الأوروبي بهذه الكلمات: "بمفردات التاريخ الكونيّ تكون ‘العقلانية الغربية‘ لماكس فيبر هي من راح يبدو من يومها كاستثناء فعليّ. [...] وهكذا، وعلى غرار ما يحصل في الاختبار النفسيّ للأشكال، تخضع الصورة التي كوَّنتها الحداثة عن نفسها إلى انقلاب مفاجئ : فمن نموذج عادي لمُستقبل كل المجتمعات الأخرى تتحول فجأة إلى إستثناء." الأستثناء هنا عند هابرماس ليس أيجابي يجب الحفاظ عليه، وإنما مرض من أمراض الحداثة يجب معالجته والإلتحاق بركب العالم الذي فتح باب الدين ليس فقط على المجتمع وإنما على السياسة كذلك.
حسناً ما هو المطلوب إذن من الدولة الأوروبية العلمانية الحديثة لتتجاوز اغترابها عن الدين؟ وجواب هابرماس على ذلك هو مجموعة من التوصيات منها: " [...] أن تُحجم الدولة الليبرالية عن إكراه الكنائس والجماعات الدينية على ممارسة الرقابة الذاتية و بالأخص على إخضاع مواطنيها إلى مثل هذا التحديد." قبل أن يستلهم سؤال راولس الإستنكاري قائلاً : "مهما كانت الطريقة التي تتوزع فيها المصالح بين الدولة والتنظيمات الدينية، لا تستطيع الدولة أن تفرض على المواطنين الذين تضمن لهم الحرية الدينية إلزامات لا يمكن مصالحتها مع حياتهم الإيمانية فهي لا تستطيع طلب المستحيل منهم." وبما أن هابرماس يؤكد على أن الكثير من محتويات اللغة الدينية قد تم ترجمتها في الحداثة إلى لغة مدنية علمانية فإن التعارض بين التصورات الإيمانية للجماعات المتدينة والواقع السياسيّ العلماني الحديث ليس برأيه تعارضاً كلياً والمؤمنون قادرون على التعرف على خطابهم الديني مُترجماً بلغة مدنية وهم بهذا ليسوا مضطرين دائماً، في كل مرة يدخلون فيها نقاشاً سياسياً عاماً، إلى فصل هويتهم إلى واحدة خاصة وأخرى عامة. لكن المشكلة تبرز حين يتعارض الخطاب المدني السائد لمؤسسات الدولة الليبرالية مع قناعاتهم الدينية حيث تغترب تصوراتهم عن العالم عن الخطاب السائد والمسيطر والممارس. حول هذه النقطة، وفي طريق معاكس تماماً لطريق ابن رشد الذي طالب بتأويل النص ومراجعة القياس الفقهي إذا تعارض مع القياس العقلي، يُطالب هابرماس بأن يُسمح في مثل هذه الحالات للمؤمنين "أن يعبروا وأن يؤسسوا قناعاتهم الدينية بلغة دينهم." بدل الإكتفاء بلغة القوانين المدنية الوضعية وهذا يحتاج دون شك بحسب هابرماس إلى ثقة المواطنين على اختلاف قناعاتهم ببعضهم البعض ومؤازرة غير المتدينين للمتدينين. لكن مسؤولية هذا التحوّل لا تقع فقط على عاتق الدولة ومؤسساتها المدنية ومواطنيها العلمانيين، وإنما هناك جهود يجب أن تُبذل من قبل المتدينين إذ يتوجب عليهم، بحسب هابرماس:
"إيجاد حلٍ إبستيميٍّ إزاء تصورات العالم والأديان الغريبة عليهم والتي سيقابلونها من بعد في عالم النقاش االذي لن يعود مقتصراً على دينهم الوحيد [وعليهم] إيجاد حلٍّ إبستيميٍّ إزاء المنطق العنيد للمعرفة العلمانية وإزاء الهيمنة المؤسسة إجتماعياً التي يمارسها خبراء العلماء على المعرفة . [...] وعلى المواطنين المتدينين أخيراً إيجاد حل إبستيميّ إزاء الأولية التي يتمتع بها العقل العلمانيّ كذلك على الحلبة السياسيّة."
فما يخشاه هابرماس من تعارض إيمان المواطنين مع سياسات الدولة الليبرالية الحديثة هو الوقوع في واحد من المحذورين التاليين: إما عدم ولاء هؤلاء لسياسات الدولة وممارسة شيء من النفاق أو خداع الذات، وإما تضرر الحياة الروحية لهؤلاء المواطنين المضطرين لفصل قناعاتهم لدينية عن مواقفهم السياسية. وإذ يؤكد هابرماس على أنه : "في الدولة العلمانية، يجب أن تكون السُّلطة السياسية مُمارسة على أي حال على أساس غير دينيّ" فإنه يستدرك بعدها بسرعة قائلاً : "ترجع مسؤولية استكمال النقص في الشرعية الناتجة عن حيادية الدولة فيما يخص التصورات حول العالم على الدستور الديمقراطي." وعليه فإن حيادية الدولة تجاه المعتقدات والأديان هو أمر ناقص الشرعية في عيني هابرماس الذي يطعن في عدالة الدولة الحديثة التي "لا تضمن الحرية الدينية للجماعات الدينية إلا بشرط اعتراف هذه الأخيرة [...] ليس فقط بحيادية المؤسسات العامة تجاه التصورات عن العالم – أي الإنفصال بين الكنائس والدولة إذن – وإنما كذلك بالتحديد المُقيَد للإستخدام العموميّ للعقل المفروض على المواطنين." وما يقصده هابرماس هنا بالتحديد المقيد ﻟ "الإستخدام العمومي للعقل" (هذا المصطلح الكانطيّ الذي يأتي عليه في إطار مناقشة مفتوحة مع نظرية العدالة عند راولس) هو أن المواطنين مضطرون دوماً أثناء أخذ المواقف السياسية علناً إلى أقصاء تصوراتهم الدينية وتأكيد ولاءاتهم المدنية التي تفرضها مؤسسات الدولة وهذا الأمر لا ينطبق على المواطنين العلمانيين المنسجمين مع علمانية مؤسسات الدولة ولغتها المدنية وفي هذا ظلم اجتماعي برأي هابرماس الذي يؤكِّد على أن: "البرلمان ومحكمة العدل، والحكومة والإدارة تنتهك شرط الحيادية فيما يخص التصورات حول العالم عندما تُفضِّل جهة على حساب الأخرى." ومن الواضح هنا أن الجهة التي تنتصر لها هذه المؤسسات هي جماعة العلمانيين على حساب الجماعات الدينية. يُسمى هابرماس هذا التوجه بلفظ تحقيري ﺑ "العلمانوية المتصلبة والإقصائية" .
وهابرماس واضح في مطالبته بإدخال الدين إلى حلبة النقاشات السياسية فهو يؤكد أن "من مصلحة الدولة الليبرالية بالفعل أن تُطلق العنان للأصوات الدينية في الفضاء العام السياسيّ وأن تشارك المنظمات الدينية في الحياة السياسيّة." مع أنه يستشعر ما يمثله خطر انقلاب علاقة القوة بين العلمانيين والمتدينين حين يتم إقحام الدين في المؤسسة السياسية مباشرة فيقول: " لكن فتح البرلمان على النزاع حول يقينيات الإيمان، قد يجعل من سلطة الدولة خاضعة لأغلبية دينية تفرض إرادتها على حساب سيرورة ديمقراطية."


قبل أن أختم حول التحوّل الديني عند هابرماس، أود التوقف سريعاً عند نصٍ آخر له يعود لعام 1991 بعنوان "إنه لجهدٌ ضائع البحث عن إنقاذ معنى غير مشروط من دون إله: تأملات في ملاحظة لماكس هوركهايمر". وما يجعلني أستعيد هذا النص السابق على انفتاح هابرماس الواضح على اللاهوت هو ذلك التوازي الملفت بين مساري هذين العلمين من مدرسة فرانكفورت.
يبدأ ذلك المسار المتوازي في بداية اهتمامهما في مرحلة الكهولة أو في فلسفتهما "المتأخرة من خلال ملاحظات ومقالات متنوعة" . كما أن كل واحد منهما "كان يتقصى ديناً يمكن له أن يُشبع ذلك الحنين لعدالة مطلقة" على الأرض، وأن أحدهما كالآخر كان يبدو "راغباً بوضع الوعد الدينيّ في الخلاص في خدمة الأخلاق مباشرةً" ؛ وأخيراً في كونهما كانا يريدان "الحفاظ على الدين مع غياب الله" مع الإشارة أن هابرماس على ما يبدو قد وجد إلهه دون تصريح صريح بذلك ولا ضجيج بل كشأن شخصي يخصه وحده ويظل مجرد قراءة خاصة لا أحمل أحداً عليها، بينما ظل هوركهايمر حتى نهاية حياته يبحث عن بدائل أرضية سيجدها في الفن والأدب السوداوي واللاهوت السلبيّ. حول هذه النقطة أوافق هابرماس تماماً حين يقول عن هوركهايمر "لا توجد نظرية يمكن أن تكيف نفسها مع هذه الشخصية الكافكاوية للفكر، ليس على الأقل دون تبني طريقة جمالية في التعبير أو أن تصبح أدباً." ولأن الأدب والتعبير الجمالي استعصيا على هابرماس على خلاف هوركهايمر، فلم يبق له سوى أفق روحي آخر، ما قبل حداثيّ وهو الدين الكلاسيكي.
وإذ يتوازى مسار تناولهما للمسألة الدينية في كهولتهما المتأخرة إلا أن ذلك التوازي لا يلبث أن ينحرف بلطف مبتعداً قليلاً بأحدهما على الآخر ففي حين ظل هوركهايمر مقتنعاً أنه لا يمكن "علمنة الدين دون خسارته" فإن هابرماس يسعى إلى علمنة الدين وتديين السياسة مقامراً بالتضحية بكليهما معاً.
الطريف في هذا النص أنه يكشف لنا كيف أن هابرماس سيتبنى بعد أقل من عقد على تاريخ كتابة هذا المقال معظم الانتقادات التي يوجهها هنا لهوركهايمر. على ما يبدو أن هذا النص سكن لاوعي هابرماس من يومها وإنتهى بتقمصه لكل تلك الأشباح التي كان يحاربها.

خاتمة: تأملات في تحول هابرماس نحو الدين

سأجمل ملاحظاتي على أفكار هابرماس حول الدين في محاور ثلاث: 1- ارتداده عن قيم الحداثة نحو نزعة محافظة لاهوتية و 2- محاولة إقحامه للدين على المجتمعات مابعد العلمانية بدل الدفاع عن عودة الإيمان لكسر جمود الروح الغربية، و3ـ خطورة طروحاته حول عودة الدين إلى الحياة السياسية في دول الغرب العلمانية.
1- في تقديمه لحوار هابرماس وراتزنغر يُذكِّرنا فلوريان شولر، مدير الأكاديمية الكاثوليكية لبافاريا، بحوار آخر مماثل حدث قبل هذا الحوار بأكثر من قرنين وجمع البابا بنوا الرابع عشر بفولتير. ومع أن لهذه الإحالة أهمية فكرية ومعرفية، بل وتاريخية لا تقل أهمية عن حوار العلمين الألمانيين المعاصرين، إلا أن علينا أن نعترف هنا بأن هابرماس ليس فولتير، بل صورته المقلوبة. كان فولتير ثائراً على الكنيسة كمؤسسة سياسية واجتماعية وسلطة حقيقة تقف عائقاً إدّاً أمام سيرورة التنوير و"الاستخدام العمومي للعقل"؛ وكان مفكراً متمرداً على الماضي والحاضر ومنفتحاً على الجديد ومقبلاً على الفنون والعلوم ويصعب بالتالي مقارنته بهابرماس الذي يظل، من وجهة نظري، فيلسوفٌ محافظ، تصالحيّ مع الواقع ومؤسساته ومتمسك بالحاضر والماضي ومتوجِّس من كل جديد.
المقارنة مع فولتير إذن نافلة هنا، اللهم إلا بقصد إظهار الاختلاف الذي يصل حد التناقض إذ يظل فولتير شبح هابرماس الليلي ونقيضه الأمثل. في حين قد تبدو مقارنة هابرماس بكانط ممكنة أكثر مع أن هابرماس الذي يقتفي طويلاً خطى كانط في تناول الدين في مجرد حدود العقل، فإنه سينحرف عنه في آخر الطريق بجعله من الدين مصدر العقل ومنتهاه والمكتنز لثروة دلالية تتجاوز حدود العقل مابعد الميتافيزيقي الذي ينسب هابرماس نفسه إليه كما رأينا.
برأيي يتجلى نكوص هابرماس عن الحداثة الأوروبية - مفهومةً هنا ﺑ"العقلانية الغربية" التي نظّر لها ماكس فيبر - بنزعة عداء (مفهومة ومشروعة، لكن ربما مبالغ فيها) ضد العلوم الوضعية الحديثة التي كان قد هاجمها في نقاشاته حول الهندسة الوراثية والأبحاث على الدماغ والروبوتات والتي يُطلق عليها لفظاً ازدرائياً "علموية" والتي يقول في نقدها:
"تنحو العلموية غالباً لإهمال الحدود القائمة بين المعارف النظرية التي تنتجها علوم الطبيعة، من جهة، ، [...] وصورة العالَم التي تسمح علوم الطبيعة نفسها بإنتاجها من خلال التركيب synthèse من جهة ثانية. ينتج عن ذلك علموية جذرية تقلل من قيمة كل أنماط المقولات التي لا يمكن إخضاعها للملاحظات الاختبارية، ولمقولات القوانين أو للتفسيرات السببية – وينطبق ذلك على المقولات الأخلاقية، والتشريعية والتقيمية وكذلك المقولات الدينية."
لنتذكر أن هابرماس قد وصف "الإيمان العلموي بالعلم" بكونه فلسفة سيئة وأنه ليس من العلم في شيء ولنتذكر أنه قد اشتغل على فكرة الحقيقة في إطارها الاجتماعي أو بالأحرى عمل على نفي الحقيقة التي تُفرض من الأعلى أو تكون سابقة على النقاش الحر القائم على الاستعداد للتفاهم وإنما كنتيجة له. لكن مفهوم الحقيقة هنا يظل في إطار الحقائق الاجتماعية والمصالح البراغماتية التي تخص حياة البشر اليومية وتطلعاتهم وهو لم يوسعها فعلياً لتشمل حقيقة الإيمان التي تتجاوز حدود نظريته بحكم مطلقيتها ودوغمائيتها. ولنتذكر كذلك أن هابرماس قد أعلى من شأن الحس السليم على المعرفة العلمية دون أن يُنكر مشروعية خطابها عن الحقيقة أو يلغي مساهمتها بتقديم تصور ما عن العالم إلا أنه يرفض، بالمقابل، اعتبار حقائق العلوم الطبيعة أكثر صدقية أو أهمية من حقائق أخرى كالحقائق الدينية أو الميتافيزيقية. ومع أن هابرماس لا يذهب بذلك صوب منزلق العدمية، إلا أن الدفع بهذا المنطق إلى نهايته يوصلنا إلى – وهذا ما يسكت عنه هابرماس – أن حقيقة أن يكون الإنسان ابن آدم وحواء كما يخبرنا "سفر التكوين" مثلاً لا تقل مصداقية أو أهمية أو قبولاً عن كونه حصيلة تطور طويلة للأنواع الحية أو حفيد بعض أنواع القردة كما يخبرنا دارون. اتفق هنا أنه لا يمكن الجزم فعلاً بصحة إحدى هاتين الرؤيتين ولا إثباتهما أو نفيهما بشكلٍ مقنع لا علمياً ولا ميتافيزيقياً، إلا أن ما أود الإشارة إليه هو أن التصور العلمي العقلاني والطبيعي للعالم قد ترافق مع نشوء الحداثة الغربية وتطور معها وربما أمامها وكوّن تصوراتها عن العالم وكان التخلص من التصور الديني والأسطوري من أهم المهام التي اضطلع بها التنوير الأوروبي والذي وجدت فيه الحداثة الأوروبية مسألة وجودية حاسمة. ما أود الإشارة إليه هنا إذن هو أن هابرماس يسير مرة أخرى عكس تيار الحداثة في مسار ارتداديّ واضح. ما كان لذلك أن يكون مشكلة لولا أنه يُقدّم بشكل أوتوماتيكي على أنه فيلسوف حداثوي ويختصره البعض بالمدافع الشرس عن قيم الحداثة وعقلانيتها وقيم التحرر والتنوير فيها.
ثم لنتذكر أخيراً أن هابرماس كان قد وجه نقداً قاسياً لكتاب جدل العقل لأستاذيه هوركهايمر وأدورنو في المحاضرة الخامسة من كتابه الخطاب الفلسفي للحداثة والتي عنونها بعنوان ذي دلالة "التواطؤ بين الأسطورة والتنوير: هوكهايمر وأدورنو". في نصه ذاك أكد هابرماس على أن: التنوير قد فُهم دائماً بوصفه نقيض الأسطورة فالتنوير "يُكذِّب الأسطورة ويتهرب بذلك من سلطتها" يحمل هابرماس على سلفيه في مدرسة فرانكفورت أنهما أعادا "التنوير إلى المثيولوجيا"، لكن هابرماس لا يختلف عن أستاذيه اللذين وجدا جذور العقل في الأسطورة حين ينبش هو بدوره عن جذور العقل في الدين. ليس كلامي هنا للقول بأن الدين مساوٍ للأسطورة وإنما للإشارة إلى أنه يظل مثل الأسطورة مرجعية ما قبل حداثية. وبمعنى آخر فإن محاولة وصل هابرماس الفلسفة اليوم بالدين هو العودة إلى "آخر العقل" das Andere der Vernunft الذي صب مدفعية نقده عليه في الخطاب الفلسفي للحداثة. إنه عودة العقل إلى نقيضه كما كشف ذلك أدورنو وهوركهايمر في جدل التنوير، الكتاب الذي اعتبره هابرماس انقلاباً على الحداثة وقيمها عند أستاذيه اللذين يستحضرهما من جديد، لكن لا لنقدهما هذه المرة بل للاستشهاد ببعض العبارات الغامضة عندهما لتبرير ارتداده نحو الدين فيستشهد بمقولة أدورنو "ليس للمعرفة من نور سوى نور الخلاص rédemption الذي يشع على العالَم" ، ومقولة هوركهايمر التي يجمل بها النظرية النقدية بالقول: "إنها تعلم أن الله غير موجود، لكنها تواصل الاعتقاد به." إنه انقلاب في فكر هابرماس أكثر منه مراجعة ولهذا أسميه بالردة الدينية عنده أكثر من كونه انقلاباً أو ثورة. ثم لنقرأ سليل التنوير وهو يتحدث عن ضرورة مراجعة الفكر ما بعد الميتافيزيقي الذي عليه "أن يؤكّد ما يربطه في بنيته الداخلية بهذه الديانات الكونيّة والتي يرجع أصلها لما كان يدعوه ياسبرز ﺑ ‘العصر المحوريّ‘." ولنتذكر هنا أن هذه العودة إلى ما يدعى بالعصر المحوري Achsenzeit أي التوجه نحو الأصول الشرقية للفلسفة والدين في بلاد فارس والصين والهند والثقافة الغربية التي سادت منذ القرن الثامن قبل الميلاد إلى القرن الثالث قبل الميلاد هي ما انتقده هابرماس بشدة عند كل من نيتشه لاستلهامه من الزرادشتية وعند هايدجر لعودته للبحث عن "ينابيع الفلسفة النقية" في المرحلة ما قبل السقراطية متهماً إياهما بذلك بالانحراف عن الحداثة الأوروبية ومعاداتها في العمق. لا أبتغي هنا في القول أن هابرماس يبيح لنفسه ما ينتقده عند غيره، فالفكر قابل للتغيير والمراجعة حتى ولو لم يعترف المفكّر بذلك صراحةً، لكني أردتُ الكشف عن نزعة أنتي حداثة وأنتي تنوير متأصلة في فكر هابرماس وتناقض في الطروحات التي تبدو متماسكة في بنية خطابية كتيمة عالية التقنية تختفي خلف أسوار عالية من القواعد المعيارية والإجرائية العقلانية.
2- إذا كان هم هابرماس البحث عن مخرج روحي للحداثة الغربية فقد كان الأجدر به برأيي التركيز على الإيمان لا على الدين. الإيمان فردي وحصن نفسي شخصيّ لا يؤذي مؤسسات المجتمع، لكن الدين مؤسسة اجتماعية وفكر ودويموغوجيا يسهل فيه حشد الأتباع وتجيشهم وهو، بطبيعته الدوغمائية والديموغوجية يهدد الديمقراطيات فضلاً عن أن تارخ الأديان يكشف لنا إنحرافات الدين الخطيرة وحروب الآلهة الدامية شبه الأبدية. ومع أن هابرماس اعتمد كثيراً على كيركيجارد في تناول مسألة اللاهوت فإنه لم يستفد من نزعة الخلاص الفردية الكركيجاردية،بل لوى عنق كيركيجارد الوجودي ليجعله مقدمةً لتبرير العودة إلى الدينيّ. هكذا ضيّع هابرماس الفرصة التي تمنحها الوجودية الكيركيجاردية لفتح باب الإيمان كظاهرة شخصية حيِّزها هو الفضاء الخاص وتعويض الفقر الروحي والمادي الذي ترافق مع الحداثة. بدلاً من ذلك عكف هابرماس على المطالبة بمكان للدين في الفضاء السياسيّ العام. هذه الدعوة للانتقال من الإيمان إلى الدين ومن الفضاء الخاص إلى الفضاء العام هو توجه خطير يذهب في الاتجاه المعاكس لإتجاه التحرُّر والانعتاق الذي ذهب فيه مارتن لوثر أي من الدين إلى الإيمان ومن السلطة والفضاء العام للدين إلى الفضاء الخاص للإيمان. يعود برأيي جذر هذه المشكلة ومحاولة خلط الإيمان بالدين إلى النزعة الاجتماعية الطاغية على فكر هابرماس التي يأخذ فيها الكل كامل الأفضلية على الأجزاء وينتهي المجتمع أو الذات الكلية بابتلاع الفرد كهوية وجودية حرة ومميزة، لكنها لا تأخذ قيمتها عند هابرماس فعلياً إلا في إطار الكليات والمجاميع والوحدة وتجاوز الفوارق والاختلافات.
ولتوضيح ما أحاول تأسيسه هنا من فارق نوعي بين الإيمان والدين فإنني أقول: على خلاف الإيمان الذي يظل جانباً شخصياً باعثاً على السلام الداخلي ومحصوراً بالفضاء الخاص بعيداً عن الإكراهات المفروضة من الخارج، يحضر الدين كمؤسسة بوصفه – لو استحضرنا سبينوزا هنا – إكراهاً روحياً مفروضاً على الفرد بحيث يظل دين الدولة قمعاً مُنظّماً للإيمان. الإيمان أوسع من الدين الذي يؤطر الإيمان بعقيدة ما ويأسر صورة الإله في تصورات وعقائد خاصة. الإيمان شخصي، والدين لا يمكن أن يوجد إلا جماعياً؛ الإيمان لا يأخذ شكلاً مؤسسلاتياً إلا في الدين، والدين حين يتمأسس جماعياً واجتماعياً يُصبح شأناً أرضياً، أي سياسة. يظل الإيمان كونيّاً مهما كان فردياً، ويظل الدين خاصاً بجماعة مهما كان كونياً فهو يقتصر على جماعة المؤمنين به والتي تجد نفسها في مواجهة أديان أخرى لها بدورها آلهتها المُطلقة. حين يتمأسس الدين، فإنه بدوره ينتقل من جانب الروح واللاهوت إلى جانب التفاسير والقراءات الفقهية مما يجعله بدوره مهدّداً بالإنقسام إلى جماعات من المؤمنين تؤمن كل واحدة منها بتفسير معين مما يهدد بحروب آلهة فرعية انقسمت عن الإله الكليّ للدين وهذا ما تشهد عليه الطوائف الدينية التي راحت تتحارب باسم إلهٍ واحد وقد تشظى إلى آلهة وجماعات بعد أن اختلط الديني بالسياسيّ، وتحوّل المقدّس إلى تجسيد رمزي للإله على الأرض: بابا، خليفة المؤمنين، رئيس دولة الخ، وتحولت "مملكة السماء" إلى سلطة الأرض. كل هذه الإنحرافات لا يعرفها الإيمان، اللهم إلا بتحوله إلى دين، وهذا ما عاشته أوروبا ما قبل الحديثة على الأقل في حروب دينية طاحنة وما أغلقت الباب عليه عبر علمانية الدولة التي ضمنت حق تعايش المعتقدات والتصورات دون صراع بقوة القانون المدني. ومع ذلك يريد هابرماس فتح صندوق باندورا المغلق.
هذا الفرق الخطير بين الإيمان والدين هو ما أدركه سبينوزا، وكان مارتن لوثر قد أدركه من قبله فحرَّر الإيمان من ربقة الدين، وخلّص المسيحيين من سلطة الكنيسة التي حبست الإيمان في الكاثوليكية و"تاجرت بالأرواح"، بحسب كلماته، وعينت نفسها وكيلة حصرية للدين. مؤمناً أن خلاص الروح الذي يمر عبر الإيمان بالإله (ممثلاً عنده بالمسيح) لا يحتاج إلى توسط الكنيسة. كان يكفي لهذه الفكرة أن تكسر لاحقاً سلطة الكنيسة الكاثوليكية – لا كسلطة روحية فقط وإنما كسلطة لها نفوذ قوي على السلطة الزمنية ومشاركة فيها – وتفتح باباً أمام البروتستانتية التي يتكشف تمردها على الدين المؤسس كسلطة في اسمها protestantism(e). هكذا حرّر لوثر المؤمنين من هيمنة الكنيسة وفك هيمنتها على الإله واحتكار الحديث باسمه متحدياً بذلك سلطة الباباوية، التي خشيت من شعبيته عند حشود المؤمنين الباحثة عن الخلاص.

لا شك أن هابرماس محق وفيبر أيضاً بإدراكهما أن الحداثة قد قضت على سحر العالَم وأن هناك مأزق روحي في حضارة الغرب، لكن هذا النقص والعوز الروحي عوضته الفنون والآداب (رغم طابعها الميلانكولي) والإيمان كتجربة شخصية، على طريقة لوثر وكيركيجارد. هكذا يمكن طرح بدائل عصرية بدلاً من محاولة استعادة الديني على طريقة هيجل الشاب وهابرماس الشيخ، المُتعَب، والمفتقر للمخيلة الذي يريد على ما يبدو التصالح، قبل الرحيل، مع الحياة والموت وما بعده ليغذي روحه التي جففتها العقلانية الباردة.
3- أتمنى أن لا يفهم القارئ أن نقدي (القاسي جداً ربما) لهابرماس هو منصبٌّ على محاولته التوفيق ما بين الفلسفة والدين أو بين المعرفة والإيمان فمثل هذا المسعى التوفيقي أصيل ومتجذِّر في تاريخ الفلسفة العقلانية، ومع أني لستُ من هواته إلا أنني لستُ ضده كذلك. يشهد تاريخ الفلسفة الطويل على هذه الرغبة بمصالحة الندين: الفلسفة والدين منذ حوار أفلاطون المبكر يوثيفيرو، مروراً بمحاولات أخرى اشتغل عليها الفارابي وابن رشد والقديس أوغسطين وتوما الإكويني، والتي لن تتوقف مع باول ريكور أو هابرماس.
وتظل علاقة الفيلسوف باللاهوتي دوماً متداخلة فحتى نيتشه الشاب "الملحد" يقول في أول كتاب له مولد المأساة : "ليتحملوا الحياة، كان الإغريق بحاجة مُلحّة لأن يخلقوا آلهتهم. [...] فكيف كان بإمكان هذا الشعب بتلك الحساسية الحيّة وبتلك الغرائز المندفعة، والموهوب بالألم بشكل استثنائي، أن يحتمل الحياة لو لم تتجلى لهم على شكل آلهة في إشعاع العظَمة الأعلى؟ [...] هكذا تبرّر الآلهة الحياة الإنسانية بأن تعيشها هي أيضاً – إنها الربوبية الوحيدة الكافية." كما أن مقولة هايدجر الشهيرة في مقابلته الأخيرة مع دير شبيغل: "إله وحده فقط قادر على أن يخلصنا" تكشف كل مكبوتاتها اللاهوتية إذا ما فهمناها بهذا المنطق ففيها يفتح هايدجر الباب، الذي لم يغلقه يوماً بالكامل ولكنه تركه موارباً، أمام الله، كوعد بالخلاص أمام أنسداد آفاق الحاضر. إنها اللاهوتيات السلبية عند نيتشه وهايدجر ودريدا .

هو إذن ليس نقدٌ موجهُ لهذه المحاولة الجديدة لخلق تقارب بين الدين والفلسفة أو بين المعرفة والإيمان، ولكنه نقدٌ يتمحور في هذا الباب حول التخوف من نتائج إعادة الدين إلى السياسة في دول ديمقراطية حديثة لا تُنصِّب نفسها عدوةً للدين كما يرى هابرماس، بل تكفل ممارسة الدين وتمنع المتشددين من المتدينين من تكفير غيرهم والعودة إلى الإحتراب الديني الذي مزّق أوروبا ما قبل الحديثة. ففي السياق الغربي الحديث – وبعد أن نجحت الدولة الليبرالية في وضع حدٍّ للصراع العقائدي بقوة القانون المدني دون أن تتبنى سياسة إنتقام أو صراع مع الأديان ولا أن تتدخل في تصوراتها عن العالم – يغدو فتح باب السياسة أمام الدين مجازفة غير مضمونة النتائج وخطيرة. كان لفصل الدولة عن الكنائس في السياق الأوروبي نتائج حاسمة لولادة الحياة المستقرة والسلم الأهلي وتحقيق العدالة الإجتماعية ومحاربة التمييز والإضطهاد الدينيّ وتطور العلوم وتحقيق التقدّم. وإن يكن هابرماس على حق في تذكيره بالنموذج العلماني الأمريكي كسياق مختلف عن السياق الأوروبي تحققت فيه العلمانية دون صراع مباشر مع الكنائس، فإنه لا يتوقف عند حقيقة أن الدين في الولايات المتحدة الأمريكية ظل مؤطراً سياسيا بالقوانين المدنية وبدستور مدني للدولة الليبرالية الحديثة تضبطه وتحميه من نفسه ومن انحرافاته.
وهناك مشكلة أخرى لا تقل خطورة في دعوة هابرماس لفتح باب الفضاء العام السياسيّ عريضاً أمام الدين تتمثّل برأيي في تقسيمه المواطنين، الذين يجب أن يُعرّفوا بمواطنيتهم لا بعقيدتهم أو تصوراتهم عن العالم، إلى فئتين متقابلتين: علمانيين مقابل متدينين. بها الفصل يكسر هابرماس مفهوم المواطنة الواقي والضامن لإمكانية تعايش مختلف التصورات والرؤى والمعتقدات معاً دون صراع. بدل ذلك يستعيد هابرماس مرجعية ما قبل حداثية للمواطنة في بحثه عن هوية اعتقادية أو عقائدية للمواطنين. فالمواطنة هي من تضمن تعايش المؤمنين والعلمانين بقوة القانون وتمنحهم حقوقاً متساوية بحيث لا فرق أن تكون، بالمعنى النظريّ السياسيّ للكلمة، متديناً أو علمانياً، لتكون مواطناً بكل معنى الكلمة. إن وضع المؤمنين مقابل العلمانيين هو انزلاق خطير قد يؤدي إلى حساسية اجتماعية بخاصة بالإشارة إلى طرف مستضعف، حقوقه منقوصة قد تنتهي إلى العنف فأنت تضع هنا تصورين متقابلين للعالم في حالة صراع كأن تضع المسلمين مقابل المسيحين أو العكس وتفاضل بينهم الخ. بفتح باب الفضاء العام السياسيّ على الدين يجازف هابرماس بتقويض منجزات الحداثة وما حققته من تعايش سلمي وقد تمأسس وتقونن بين تصورات العالم المختلفة منهيةً بذلك حروب دينية وصراعات آلهة أنهكت أوروباً عقوداً بل قروناً.
بعد رحلة طويلة مع هابرماس ونصوصه، انتهي إلى نفس تلك النتيجة التي إنتهى إليها عالم الإجتماع الألماني الكبير نيكلاس لوهمان الذي خاض على مدى سنوات جدالاً مع هابرماس فتوصّل إلى أن هذا الأخير هو نموذج المُنظّر المعياري الذي يحاول عبثاً الحفاظ على أنماط من التفكير تقادمت وتجاوزها الزمن. ولا بد لي أن أضيف هنا – نتيجة وصلتُ إليها بعد عمر بحثيّ على أعماله، نتيجة خالية من أي أيديولوجيا أو أي ضغينة، وأي ضغينة يمكن أن أحملها لمثقف عملاق كهابرماس!؟ – هو أنه يظل في العمق مُفكراً سياسياً محافظاً بلبوسٍ حداثويّ.

Entre naturalisme et religion, op.cit., p. 170.
المرجع السابق، ص، 171. هذا الرأي كان قد تطرق إليه هابرماس على نحو مختلف قليلاً في كتاب الفلسفة في زمن الإرهاب.
المرجع السابق، ص، 175.
المرجع السابق، ص، 172.
المرجع السابق، ص، 172.
المرجع السابق، ص، 173.
المرجع السابق، ص، 183.
المرجع السابق، ص، 184.
المرجع السابق، ص، 189. إذ يؤكد هابرماس على موضوع "الترجمة" فهو يقصد أن الكثير من مفردات القانون والأخلاق والسياسة الحديثة تجد مرجعيتها في الأديان العالمية كفكرة التضامن، والتسامح، وحقوق الإنسان. شيء يشبه محاولة البعض عندنا ربط الديمقراطية بالشورى والتسامح بالرحمة الخ.
المرجع السابق، ص، 197-198.
المرجع السابق، ص، 178.
المرجع نفسه.
المرجع نفسه، ص، 181.
المرجع نفسه، ص، 182.
المرجع السابق، ص، 199.
المرجع السابق، ص، 190.
المرجع السابق، ص، 193
“To seek to Salvage an Unconditional Meaning Without God is a Futile Undertaking: Reflections on a Remark of Max Horkheimer” in Religion and Rationality, op.cit., p. 95.
المرجع نفسه.
المرجع نفسه.
المرجع نفسه، ص، 99.
المرجع نفسه، ص، 98.
المرجع نفسه، ص، 96.
انظر كتابه:
L’avenir de la nature humaine, op.cit.
Entre naturalisme et religion, op.cit., p. 202.
Le discours philosophique de la modernité, op.cit., p. 129-130.
« Foi et savoir », op., cit, p. 163.
انظر: المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
Entre naturalisme et religion, op.cit., p. 203.
Friedrich Nietzche, La naissance de la tragédie, trad. Geneviève Bianquis, Gallimard, Paris, 1949, p. 33.
أسمح لنفسي هنا بالإحالة إلى مقالي"عودة المسيح إلى بعض الفلسفات الملحدة"، في كتابي "في بعض مفارقات الحداثة وما بعدها"، المعطيات السابقة، ص، 163-171.



#خلدون_النبواني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نقد الدين عند هابرماس 2-3
- نقد الدين عند هابرماس 1-3
- سوريا من مزرعة الأسد إلى مزرعة الحيوان
- الكتابة الإلكترونية والولوج في العوالم الأُخرى
- الكتابة عن صادق جلال العظم
- ثلاثة أيام بصحبة هابرماس في باريس
- فيزيقا الغياب
- المتوحش
- مع الأكراد ضد الأكراد في تأسيس دولتهم
- تأمل في العلاقة الإشكالية بين القانونية والشرعية في الديمقرا ...
- حوار فيسبوكي حول الإيمان والإلحاد
- ثورة الاتصالات وتفكك بنية العائلة التقليدية
- ثمانية أسباب تبرّر تأجيل أوباما لموعد ضربته العسكرية
- قراءة في الأزمنة الدرويشية:
- خلدون النبواني - فيلسوف ومفكر - في حوار مفتوح مع القارئات وا ...
- حافظ الأسد الميّت الحيّ أو الحيّ الميِّت
- ما بين أخلاق العبيد وأخلاق الأحرار:
- النص الأدبفلسفيّ
- كهف أفلاطون والتعصب للهوية وللمعتقدات:
- من المعلم الدكتاتور إلى الأستاذ الديمقراطي


المزيد.....




- كيف تمكنّت -الجدة جوي- ذات الـ 94 عامًا من السفر حول العالم ...
- طالب ينقذ حافلة مدرسية من حادث مروري بعد تعرض السائقة لوعكة ...
- مصر.. اللواء عباس كامل في إسرائيل ومسؤول يوضح لـCNN السبب
- الرئيس الصيني يدعو الولايات المتحدة للشراكة لا الخصومة
- ألمانيا: -الكشف عن حالات التجسس الأخيرة بفضل تعزيز الحماية ا ...
- بلينكن: الولايات المتحدة لا تدعم استقلال تايوان
- انفجار هائل يكشف عن نوع نادر من النجوم لم يسبق له مثيل خارج ...
- مجموعة قوات -شمال- الروسية ستحرّر خاركوف. ما الخطة؟
- غضب الشباب المناهض لإسرائيل يعصف بجامعات أميركا
- ما مصير الجولة الثانية من اللعبة البريطانية الكبيرة؟


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - خلدون النبواني - نقد الدين عند هابرماس 3-3