أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الطبيعة, التلوث , وحماية البيئة ونشاط حركات الخضر - أحمد الخميسي - - حجر - يخص المرء وحده















المزيد.....

- حجر - يخص المرء وحده


أحمد الخميسي

الحوار المتمدن-العدد: 6567 - 2020 / 5 / 18 - 14:38
المحور: الطبيعة, التلوث , وحماية البيئة ونشاط حركات الخضر
    


ممنوعون من الخروج، من المصافحة، من زيارة الآخرين، من ملاعبة أحفادنا الصغار. وفي نهاية المطاف يحظر عليك أن تربت بكفك على كتف امرأة لا تعشق أحدا سواها. تتبادلان أنت وهي النظرات والخوف ينقل نظراته بينكما، يتنفس يراقب يتابع. في كتابها المعروف" حجرة تخص المرء وحده" تقول فرجينيا وولف إن المجتمع " لا يعترف بباب حجرة موصد" يوفر للكاتب العزلة للابداع. لكن ما كان أمنية عند فرجينيا وولف أمسى " حجرا" يخص المرء وحده، كابوسا ثقيلا، لا علاقة له بالابداع. يقف المرء وراء زجاج النافذة، يمر ببصره على البيوت أمامه، ويشعر أن شيئا ما جديدا، مخيفا، يوحدها، أنفاس الترقب التي تتردد في كل بيت، أصوات المزاليج التي تغلق الأبواب بإحكام كأنما لدفع الشر، النظرات القلقة: هل أن الوباء عقاب إلهي؟ أم نتيجة اهمال البيئة طويلا لصالح قلة من أثرياء البشر؟ هل يتراجع الموت وينحسر ظله ؟ أم أن البشرية قد تفنى، ولا يبقى سوى جبال في الريح وصخور وذرات تراب؟ ذات يوم كتب إيليا أبو ماضي يقول: " متع لحاظك في النجوم وحسنها .. فلسوف تمضي والكواكب باقية"؟ فهل أننا على ذلك الطريق؟ وإلا فمن أين حط على أكتافنا طائر الخوف الضخم؟ كأن الأرض تتنهد تنهيدة واحدة هائلة بكل اللغات والأديان؟، ويخاف كل امريء بطريقته، بتكوينه، بأمانيه وذكرياته الخاصة، قلقه المنسوج من سنواته الطوال. زرت ابنتي الوحيدة مرات معدودة، وقفت أمامها من على مسافة بحذر، لم أصافحها، لم أقبلها، وعندما جلسنا متواجهين أشحت بوجهي وأنفاسي، وأنا أسأل نفسي: كيف تتحول محبتي التي طالما ارتوت منها ابنتي إلي ماء مسموم يهدد حياتها؟ وكيف تنقلب يداي المتضرعتان بالمودة إلى إبر تغزل الموت للآخرين؟ أكره جسدي الذي ينقلب من التعبير عن الحياة إلى عبارة موت موجزة. أعيش وحدي أغلب الوقت في " حجر" يخص المرء وحده. أستمع من حين لآخر إلى الأغاني القديمة، عبد الحليم حافظ " بتقولي بكره قلبك ح يعطف.. وفي كل مرة توعد وتخلف". أغنيات الشاب الذي احترق في محبات الصبا عندما كانت الحياة تبدو أكبر من لحظة، وأقل من الأبد. أقرأ بدون تركيز. أكتب المقالات بحكم عملي، أتصل بالأصدقاء والأقرباء أحدثهم في الشئون العامة، وفي داخلنا سؤال غير منطوق: هل أنت بخير؟. أكتب قليلا، ويلوح وينأي ويرجع القلق: هل تمنحنا الطبيعة فرصة أخرى؟. سؤال أشبه بالسلسلة الحديدية التي يربطون بها قدمي سجين فتسمح له بالحركة لكن بحيث يظل مقيدا أينما ذهب إلى السؤال. وصف أحد العلماء كوكبنا الأرضي بأنه مجرد: " ذرة غبار في شعاع شمس". ينقض علي الوصف كجدار ثقيل " ذرة غبار". قد نكون عرضة للفناء، لكن لماذا لا أفقد الأمل؟ ولماذا أحب أن أثق في أننا سننتصر على الكورونا كما انتصرنا من قبل على الطاعون والجدري والانفلونزا الإسبانية التي حصدت أرواح خمسين مليون نسمة في 1918. أنجرف إلى محمود درويش وأردد معه: " وبي أمل يأتي ويذهب .. ولكن لن أودعه". أرجع إلى قراءة رواية " آنا كارنينا" . أطلب بالهاتف بعض المأكولات. أنتظر. أتابع أخبار انتشار الوباء. يغشاني الشك في النجاة. أقول لنفسي إن كان الزوال قدر الانسان فعليه أن يصعد مفارقا لكن بكبرياء النجوم، وكبرياء العيون والأروح التي أضاءت الأرض بالعلم والحب. أستجمع قوتي وأكتب مقالا بعنوان عن الضحك في وجه الخطر، وعن أنه لا شيء يهزم الانسان، أكتب لأني أشعر أنه من المخجل أن يسيطر الفزع على الانسان، ومن المخجل ألا ننشر الأمل، ومن المخجل أن يبدي الانسان ما يشعر به من ضعف. لقد أحببت دوما كل الرجال الذين واجهوا الموت برأس مرفوع وجبين عال. لوركا أمام كتيبة الاعدام وفي فمه قصيدة ، سبارتاكوس على الصليب في الطريق من روما إلى كابوا، عبد الخالق محجوب، ذلك أن الكبرياء لحظة الوداع هي انتصار الانسان الأخير. أضع على صفحتي في فيس بوك أغنية جوليا بطرس: " بكره بيخلص ها الكابوس.. وبدل الشمس بتضوي شموس.. وعلى أرض الوطن المحروس.. راح نتلاقي يوما ما". أفكر في الكتب التي خططت لانهائها ولم ألحق: كتاب" ملاحظات كاتب قصة قصيرة"، كتاب آخر مترجم لم يبق سوى مراجعته. مجموعة قصصية بعنوان" أشواق شاقة". أنتقل من الصالة إلى المطبخ لأعد فنجان قهوة . أستحضر صور أحبائي، عيونهم، وأمعن النظر فيها. أخاطبهم في خيالي: أنتم كل منالي، وسوف أحبكم بكل قوة حضوري في هذه الدنيا وكل قوة غيابي إن لم أكن حاضرا. لكنهم لسبب ما لا يقولون شيئا. ينظرون إلي بصمت. يخطر لي أنني إذا مت فسوف أنضم إلى والدي في مرقده بمدينة المنصورة، وهناك سوف نواصل بمعجزة ما أحاديثنا التي انقطعت عام 1987، وسأحكي له عن كل ما فاته من أحداث ووقائع، وسأتطلع بسرور إلى دهشة عينيه الطفولية مرة أخرى. ولا يفارقني القلق على مصير الكرة الأرضية الصغيرة، التي لا تكف عن الدوران، واللهاث، الكرة التي ليست سوى : " ذرة غبار في شعاع شمس"، كوكب صغير جدا بين مليارات الكواكب في فضاء لا نعرف بدايته من نهايته. تنبثق أحيانا ذكريات المعتقل عام 1968 عندما كنت محبوسا انفراديا في زنزانة لثلاثة شهور. حينذاك أفزعني خيط دم عالق على جدار الزنزانة. رحت أفكر: لمن هذه الدماء الجافة؟ وكيف أسالوها؟. في الفجر كانت العصافير تهبط إلى حافة كوة الزنزانة، أسمع زقزقاتها تنقر الصمت،أرقبها على أمل أنها قد تنقل إلي كلمة ما من العالم الذي لا أراه، لكن الخيبة تتسلل إلي روحي وأنا أكتشف أن العصافير لم تكن معنية بأي شيء، لا بالحرية التي ترمز إليها في نفوسنا، ولا بعطفنا عليها، ولا بأي شيء. كانت فقط تنقر شبابيك الزنازين بحثا عن فتات طعام، ثم تضرب بأجنحتها مرتفعة وتختفي من دون مبالاة بأي شيء، مثلما لا تبالي بنا الآن الصخور والسحب والأرض والشموس والقمر والرياح. لا تبالي الطبيعة بنا، نحن الذين منحناها الحب والقصائد والأغنيات واخترعنا لها الغزل والحنان والرقة. في السجن كان الباب المصفح الموصد مصدر الخوف، أما الآن فإن القلق يتمطى في الهواء ويطل من كل نسمة عابرة. في الزنزانة كنت أشعر أنني محبوس لكن العالم حر. الآن محبوس في عالم محبوس يتنادى أبناؤه ويتصايحون في إيطاليا والهند وفرنسا بحثا عن كمامات ومصل ولقاح ودواء. تتعرى بقوة حقيقة أن الانسان عاجز، وأنه لم يضع في اعتباره من قبل لا البيئة ولا نظام صحي ولا أدوية فعالة وانشغل بصناعة الصواريخ، والقنابل، والرصاص وجنازير الدبابات. هل أننا نتحمل أوزار التجربة الرأسمالية التي لهثت وراء الربح وحده؟ أم أن الأمر أكبر من تلك القضية ؟
في " الحجر" الذي يخص المرء وحده، يخطر لي أن الانسان هو الذي أضفي على الطبيعة المنطق، والهدف، والغاية، ليجعل كل شيء معقولا ومنطقيا، لكن الطبيعة فجأة تسخر من كل ذلك التاريخ بعطسة صغيرة. أستعيد عبارة د. هـ. لورانس : " الحياة هي الحياة.. أما إدخال فكرة الغاية فيها فإنه بمثابة تدمير كل شيء". رغم ذلك أظل أصون صوت الأمل في أن الانسان سيدحر الوباء، وأن العالم سيعيد التفكير في أولوياته، بحيث تتصدر المشهد عبارة الأديب الفرنسي البير كامو: " إذا فشل الانسان في الجمع بين العدالة والحرية فسوف يفشل في كل شيء". لا أفقد الأمل ولا لحظة، أو قل إنني لا أحب أن أفقد الأمل، وأظل أردد مع صوت جوليا بطرس الرنان الجميل:"بكره بيخلص ها الكابوس.. وبدل الشمس بتضوي شموس". نعم. سينتهي الكابوس وينقشع مثل سحابة عابرة، ويبقى الانسان الذي أضفى الجمال على كل شيء بالقصائد والأغاني والفروسية والعلم والغزل والقبل والحنان، ولا يعقل أن يهزم مخلوق جميل كهذا.
***



#أحمد_الخميسي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- توماس راسل .. مذكرات حكمدار القاهرة
- حكايات لا تحدث إلا في الصحف
- وداعا سيبوفيلدا .. كاتب المقاومة والكبرياء
- القراءة مثل الحب .. تأتي مبكرا
- البطولة حرفة المصريين اليومية
- مـحـبــوب الــشــمــس .. يـحـيــي الــطــاهــر عــبــد الــل ...
- قطاع طرق الكمأدات الطبية
- بطة - قصة قصيرة
- أنطون تشيخوف .. بطولة الأطباء
- لا شيء يهزم الانسان ..
- قروش أمي الخمسة
- المصريون .. الضحك في وجه الخطر
- يوميات التلصص .. حسن مدن
- العألم في الجيوب والحقائب
- أغــانـي الـمـهـرجــانــات في مـصـر .. قضايا مـلـتبـسـة
- اكتشافات فنية مدهشة جدا
- الـــحـــب الأول
- غريبان . قصة قصيرة . أحمد الخميسي
- القاهرة تحتفل بمئوية الشاعر المصري الراحل عبد الرحمن الخميسي
- ضوء أبيض . قصة قصيرة


المزيد.....




- فضيحة مدوية تحرج برلين.. خرق أمني أتاح الوصول إلى معلومات سر ...
- هل تحظى السعودية بصفقتها الدفاعية دون تطبيع إسرائيلي؟ مسؤول ...
- قد يحضره 1.5 مليون شخص.. حفل مجاني لماداونا يحظى باهتمام واس ...
- القضاء المغربي يصدر أحكاما في قضية الخليجيين المتورطين في وف ...
- خبير بريطاني: زيلينسكي استدعى هيئة الأركان الأوكرانية بشكل ع ...
- نائب مصري يوضح تصريحاته بخصوص علاقة -اتحاد قبائل سيناء- بالق ...
- فضيحة مدوية تحرج برلين.. خرق أمني أتاح الوصول إلى معلومات سر ...
- تظاهر آلاف الإسرائيليين في تل أبيب مطالبين نتنياهو بقبول اتف ...
- -فايننشال تايمز-: ولاية ترامب الثانية ستنهي الهيمنة الغربية ...
- مصر.. مستشار السيسي يعلق على موضوع تأجير المستشفيات الحكومية ...


المزيد.....

- ‫-;-وقود الهيدروجين: لا تساعدك مجموعة تعزيز وقود الهيدر ... / هيثم الفقى
- la cigogne blanche de la ville des marguerites / جدو جبريل
- قبل فوات الأوان - النداء الأخير قبل دخول الكارثة البيئية الك ... / مصعب قاسم عزاوي
- نحن والطاقة النووية - 1 / محمد منير مجاهد
- ظاهرةالاحتباس الحراري و-الحق في الماء / حسن العمراوي
- التغيرات المناخية العالمية وتأثيراتها على السكان في مصر / خالد السيد حسن
- انذار بالكارثة ما العمل في مواجهة التدمير الارادي لوحدة الان ... / عبد السلام أديب
- الجغرافية العامة لمصر / محمد عادل زكى
- تقييم عقود التراخيص ومدى تأثيرها على المجتمعات المحلية / حمزة الجواهري
- الملامح المميزة لمشاكل البيئة في عالمنا المعاصر مع نظرة على ... / هاشم نعمة


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الطبيعة, التلوث , وحماية البيئة ونشاط حركات الخضر - أحمد الخميسي - - حجر - يخص المرء وحده