أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - فتحي سيد فرج - قراءات ورؤى















المزيد.....


قراءات ورؤى


فتحي سيد فرج

الحوار المتمدن-العدد: 1586 - 2006 / 6 / 19 - 06:50
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


فراءات ورؤى حول مشروع النهضة

العلم والنظرة الى العالم

كان الناس منذ فجر المدنية يحاولون معرفة كل ما يجرى حولهم ، فحب المعرفة صفة لصيقة بالإنسان وهى التى تحثنا على البحث المتواصل عن حقائق الكون ، وفى سعى الإنسان لمعرفة كل شىء تشكلت قابلية العقل البشرى للابتكارات العلمية ، وأصبحت ظاهرة العلم هى أخطر ظواهر الحضارة الإنسانية وأشدها ايجابية وأكثرها تمثيلا لحضور الإنسان كوجود عاقل ، من هنا فأن تاريخ العلم هو التاريخ الحقيقى للإنسان وصلب قصة الحضارة فى تطورها المستمر ، وأحد المهام الأساسية للعلم أن يجعل الكون الذى نحيا فيه مفهوما لنا ، ويمكننا من تفسير الظواهر وإدراك قوانين الطبيعة والنظم الاجتماعية ، ولقد شهد العلم خلال مر العصور تطورات وتغيرات فى النظريات والقوانين وأخذ يتسع وتتعدد إبعاده ، وكان فى كل مرحلة يساهم فى تغيير نظرتنا للعالم من حولنا .
وفى محاضرة ألقاها د . السيد نفادى . أستاذ فلسفة العلوم أمام أعضاء نادى هيئة التدريس بجامعة القاهرة فرع الخرطوم بالسودان ، قدم أطروحة أثارت الكثير من الجدل حول " العلم والنظرة الى العالم " وفى تعليقة على ما أثارته من جدل يقول د . نفادى : لم يدهشنى الجدل الحاد لأننى كنت أتوقعه ، ولكن الذى ادهشنى حقا أن معظم الحاضرين ـ وهم رجال علم من تخصصات مختلفة ـ يجهلون الكثير عن الفلسفة عموما ، وفلسفة العلوم على وجه الخصوص ، وحزنت لأننا فى جامعاتنا لا نهتم بهذا الفرع من التخصص الذى يحتل مكانة مرموقة فى معظم جامعات العالم ، لما له من أهمية فائقة فى تكوين عالم متمكن ومفكر متعمق .
أما الجدل الذى أعقب المحاضرة فقد دار فى معظمه حول إثبات أن العلم كله موجود فى القرآن الكريم ، وما علينا إلا " تأويل " النصوص حتى تتكشف لنا كل الحقائق العلمية فى كل المجالات ، آذ أن كل ما توصل إليه العلماء فى الماضى والحاضر وفى المستقبل مذكور بحذافيره فى القرآن الكريم . فما هى هذه الأطروحة التى أثارت كل هذا الجدل ؟ ,
يرى د . نفادى أن هناك ثلاثة أطوار أساسية فى تاريخ العلم ، كل تطور أدى الى تغيير نظرتنا الى الكون وشكل نظرة جديدة للعالم والطبيعة والإنسان وهى : العلم الأرسطى ، والعلم النيوتونى ، والعلم الآنيشتينى ، وأن كل علم من هذه العلوم إنما كان يمثل قطيعة ابستمولوجية ـ بالتعبير الباشلارى ـ للعلم الذى قبله .
قام العلم الأرسطى على أساس أن الأرض هى مركز الكون وأنها ثابتة ، وأن الحركة الدائرية هى الكمال الاقصى ، وبذلك فأن الشمس والقمر والكواكب والنجوم تتحرك حول الأرض فى أفلاك دائرية منتظمة ، وقد طور بطليموس فى القرن الثانى(ق.م) فكرة أرسطو لتصبح نموذجا كاملا ، فالأرض تقف فى المركز تحيط بها ثمانى كرات تحمل القمر والشمس والنجوم والكواكب الخمسة المعروفة وقتها ، هذا وقد أنتقل العلم الأرسطى ومنطقه بالكامل الى العالم المسيحى ، وذلك بعد أن تبنته الكنيسة وأجرت عليه التعديلات اللازمة لتجعله متوافقا مع تعاليم الدين المسيحى فى القرن الحادى عشر، واستمرت السيادة الفكرية للكنيسة المعززة بآراء أرسطو الى القرن الرابع عشر .
وقد تغلغل النظام الأرسطى فى العالم المسيحى حتى أن النظام الكونى كما صوره " دانتى " و " توما الأكوينى " لا يخرج عنه كثيرا ، وهكذا كان الكون محددا ومنسجما ومتسق الترتيب فى جميع أجزائه ، كما كان هناك عالم ثابت من العلاقات الاجتماعية والمصالح التى تكتسب شرعيتها من الله ، وهو عالم يعكس النظرة السائدة التى تنظر الى العالم الطبيعى على أنه أيضا عالم ثابت الأركان ، وأن البشر أنفسهم فوق هذه الأرض هم الجزء المركزى من خليقة الله ، فالطبيعة والبشر موجودات لخدمة الله وخدمة ممثليه على الأرض أى السادة من الحكام والرهبان .
انقضى عشرون قرنا على وجه التقريب ظل فيها العلم الأرسطى سائدا حتى بزغ فجر العلم الحديث الذى أحدث ثورات بعيدة الأثر عدلت كل المفاهيم العلمية تقريبا وغيرت من نظرتنا الى العالم تغييرا جذريا . ولقد كان أولى هذه الثورات الثورة الكوبرنيقية التى كانت فى أول الأمر نقضا لنموذج بطليموس ، ففى عام 1514 م طرح كوبرنيق نموذجا أبسط من النموذج الأرسطى البطلمى ، وكانت فكرته الأساسية أن الشمس ثابتة فى المركز بينما الأرض والكواكب تتحرك فى أفلاك حولها ، ثم اتت الضربة المميتة لنموذج أرسطو / بطليموس فى عام 1609 م على يد جاليليوجاليلى الذى أخذ يرصد السماء بتلسكوبه الجديد ليجد أن كوكب المشترى مصحوب بتوابع صغيرة أو أقمار تدور حوله ، وبذلك اثبت أن هناك العديد من الأشياء لا تدور مباشرة حول الأرض كما كان يعتقد أرسطو وبطليموس ، كما قدم جاليليو الدليل التجريبى القاطع على صحة نظرية كوبرنيق .
ورغم أن د. نفادى قد أشار الى دور الحركة الإنسانية ، والإصلاح الدينى فى تغيير المفاهيم والأفكار فى ذلك العصر، وأن العديد من أساتذة فلسفة العلوم يركزون على علوم الفلك والفيزياء فى تغيير نظرتنا الى الكون مغفلين ما قامت به الكشوف الجغرافية من دور لا يقل أهمية فى ذلك ، فقبل الثورة الكوبرنيقية بقرن تقريبا استطاع " باولو توسكانيللى 1397ـ1482 " أن يغير فكرتنا عن الأرض ، فقد كان هناك مفهوم خاطىء ظل يسيطر على الفكر العلمى فيما يختص باتساع موطن البشر ، أذ كان من المفترض أن الأرض القابلة للسكنى لا تغطى سوى جزء من الكرة الأرضية ، وكان ينظر الى بقيتها باعتباره مجالا خارجيا لا يمكن بلوغه ، فبعد الهند شرقا كانت الأرض القابلة للسكنى تتلاشى فى ظلام ، ولم يكن يعرف من أفريقيا سوى الشريط الضيق الذى يحازى البحر المتوسط ، وابعد من ذلك الى الجنوب كانت أفريقيا تضيع فى رمال الصحراء . كان هذا هو العلم الذى عاش فيه العقل الأوروبى حتى بداية عصر النهضة ، وحدة مركبة صلبة من الأرض تتكون من القارات الثلاث المعروفة حتى ذلك الوقت ، وفيما وراء ذلك تتلاشى الأرض فى الظلام المجهول الذى يطوقه البحر المحيط من كل جانب . الى أن جاء " توسكانيللى" فى عام 1474 م وتمكن من صياغة أول مفهوم حديث لموطننا الأرض ، وأخذ يناقش فرضية " استرابون " بان العالم القابل للسكنى يشكل دائرة كاملة ، وأن الكرة الأرضية برمتها قابلة للسكن ، وأن مياه المحيط يمكن الإبحار فيها ، وبذلك أمكن النظر الى الكرة الأرضية باعتبارها كيانا واحد يمكن بلوغ كل أجزائه ، ويشكل المحيط رابطة وممرا مائيا بين طرفى الأرض ، وكان هذا إيذانا بتغيير كبير فتح المجال الى الكشوف الجغرافية التى شملت العالم وعدلت من الأفكار ذات الطابع الأسطورى عن الأرض ، وقد ساهم ذلك إضافة الى التطورات العلمية اللاحقة فى الفيزياء والفلك فى تغيير النظرة الى العالم الحديث .
وفى إعقاب هذه الثورات جاءت ثورة ديكارت والتى كانت ثورة أهول أثرا ، إذ أطاحت بالعلم الأرسطى وذلك من خلال نسق جديد لمفاهيم المادة والشكل وقوانين الحركة فى الطبيعة ، كما ساعد بصورة حاسمة على تحطيم الفوارق الابستمولوجية التى كانت تفصل بين الميكانيكا الأرضية والميكانيكا السماوية ، ووضع منهجا يعصم من يتبعه من الوقوع فى الخطأ ، وارسى التصورات العامة التى أثرت فى الفلسفة وغيرت من مفاهيمها بشكل جذرى بحيث يمكن اعتباره أبو الفلسفة الحديثة ، هذا وقد سبق ديكارت " فرنسيس بيكون" الذى وجه ضربة كبيرة لمنطق أرسطو عندما أوضح فى كتابه " الأرجانون الجديد " أن أعمال الإنسان ينبغى أن تكون منسجمة مع الطبيعة وقوانينها ، فيجب على الإنسان أن لا يلتفت الى الألفاظ بل الى دراسة الأشياء ، وبدلا من انتزاع الحقيقة استدلالا عن طريق القياس ، عليه أن يكون الاستنتاج من خلال أجراء التجارب واستقصاء الأسباب الواقعية ، فالقياس يشجع الإنسان على التعميم السريع ، ومنطق أرسطو الصورى يؤدى الى أحكام عامة ، أما المنطق البيكونى فكان يقوم على الاستقراء بدلا من الاستدلال .
ثم جاء " اسحق نيوتن(1642ـ1727) الذى توصل الى تأويل كامل للعالم بمعادلات رياضية دقيقة ، ووضع قوانين الحركة على أساس الزمان المطلق والمكان المطلق والحركة المطلقة ، وتوصل الى تفسير عمل كل جسم فى الكون سواء أكان ذلك فى عالمنا الأرضى أم عالم السماوات طبقا لقوانين واحدة ، وأصبح نيوتن رمزا للعلم فى هذا العصر ، وأصبح العلم المثل الأعلى وأداة للتحرر والتنوير، وكان للإنجاز العظيم الذى أتى به القرن التاسع عشر ، وذلك بظهور نظرية التطور الطبيعى لتشارلس داروين (1809-1882) لأنها قلبت المفاهيم رأسا على عقب ، وأحدثت ثورة شبيهة بالثورة الكوبرنيقية ، كما سببت انفجارا هائلا انعكست آثاره العميقة على كل مناحى الحياة فى العلم والسياسة والدين ، وقد استمر الجدل حول أصل الأنواع قائما لفترات طويلة .
ولقد بدا واضحا أن الصدمة الإيديولوجية التى سببتها هذه الثورات كانت قوية جدا ، ذلك لأن كلا منهما قد تعارضت مع العقيدة الدينية ، ويرى " كارل بوبر" أن هذا الأمر كان ذا أهمية فائقة بالنسبة للتاريخ العقلانى ، كما كان له انعكاسات قوية وتوتر دائم بين الدين والعلم .
كل هذه التطورات كانت فى إطار العلم النيوتينى ، أما العلم الآينشتينى فقد بدأ خلال القرن العشرين ، حيث حدثت ثورات فى العديد من العلوم وخاصة علم الفيزياء وذلك بظهور نظرية الكم والنظرية النسبية ، والتى زعزعت العديد من المفاهيم الأساسية التى رسخت فى أذهان العلماء بعضها على المستوى الفلسفى كمفهوم الحتمية ، وبعضها على المستوى العلمى كمفهوم المادة والحركة والجاذبية ، فى البداية كان لتجارب " راذارفورد " الذى شبه الحركة داخل الذرة بنمط الحركة فى المجموعة الشمسية ، وتمكن العالم الدانماركى " نيلزبور" من توضيح مستويات الطاقة فى المدارات المختلفة حول النواة ، مما أدى الى إمكانية التحدث عن تواجد الجسم فى مواضع مختلفة فى آن واحد ، وكانت هذه النظريات وغيرها مقدمات لنظرية النسبية الخاصة التى توصل اليها " البرت آينشتين " عام 1905 حيث ادخل فكرة الزمان الخاص أو النسبى مكان الاعتقاد القديم فى زمان كلى واحد ومطلق عند جاليليو ونيوتن ، ويمكن تصور ذلك فى صورة مبسطة بما يسمى " مقارنة التوأمين " فإذا افترضنا أن أحد التوأمين ركب سفينة فضاء وتحركت بسرعة فى رحلة فضائية وعاد بعد فترة وهو فى شرخ الشباب ليجد أخوه التوأم على الأرض شيخا عجوزا ، ذلك بسبب بطء حركة الزمن كلما زادت حركة السفينة مما ادى الى عدم زيادة أعمار المسافرين عليها ، وهكذا اثبت آينشتين أن قوانين الطبيعة تتغير بتغير الحركة ، حيث تمضى الساعات المتحركة ببطء عن الساعات الساكنة ، واذا بلغت الحركة مقدار سرعة الضوء فان الساعات تتوقف تماما ، وهذه التغيرات لا تقتصر على الساعات العادية ، بل تشمل الساعات البيولوجية ، كما أن الجسم المتحرك يتغير حجمه حيث ينقص طوله كلما زادت سرعته ، وعند بلوغه سرعة الضوء يصير طوله صفر ، وكذلك كتلة الجسم تصل الى قيمة لانهائية عند سرعة الضوء .
وكان أهم اكتشافات آينشتين قانون حفظ الطاقة ، فقد أكد أن كل جسم يختزن كمية من الطاقة تساوى حاصل ضرب الكتلة فى مربع سرعتها الضوئية فى الفراغ ، ومن ثم فان المادة ما هى إلا شكل مركز من الطاقة ، وأن الطاقة ما هى إلا مادة حرة ، وعليه فان كل مادة يمكن تحويلها وتحريرها الى طاقة هائلة ، والعكس أن الحصول على كتلة مادية صغيرة جدا يحتاج الى طاقة هائلة.
هذا عن نظرية النسبية الخاصة التى فسرت حركة جسمين يسيران فى سرعات منتظمة وخط مستقيم ، إما نظرية النسبية العامة فعملت على تفسير الحركة لجسمين يسيران فى حركة غير منتظمة وذلك للتعبير عن قوى الجاذبية بدلالة انحناء الفراغ .
وقد اختتم آينشتين جهوده فى تعميم نظريته عندما خرج بصيغة مكتملة للنظرية النسبية العامة سنة 1916 والتى عالجت موضوع الجاذبية وتقديم نظرة فيزيائية رحبة للنظام الكونى رباعى الأبعاد بإضافة البعد الزمنى الى الأبعاد الاقليدية للمكان ، وبهذا كانت نظريات آينشتين تحطم العلم القديم المبنى على موروثات خاطئة فجميع الحركات فى العالم نسبية ، وكل شخص يراها بطريقته وحسب موقعه وحالته إن كان ثابتا أو متحركا وبأية سرعة وفى أى اتجاه .
هذه هى باختصار نظرية النسبية التى غيرت من نظرتنا الى البنية الأساسية للعالم ، وفتحت الباب على مصراعيه نحو الانطلاق الى آفاق أرحب من التقدم فى معارفنا العلمية والأهم من ذلك أن العلم الحديث قد تحرر من حتمية وميكانيكية القرن التاسع عشر الى رحابة اللاحتمية والحقائق النسبية القابلة للتغير المستمر.
ويمكن القول أن التحول فى موقف الإنسان الغربى من الكون وكل ما فيه من نعيم المسيحية الغيبى فى السماء بعد الموت ، الى النعيم العقلانى الطبيعى على هذه الأرض ، وأن كلمة السر العظمى التى بدأت تكشف الكون الجديد هى قدرة العقل على فهم الطبيعة ، وأن إرادة الإنسان الحرة قادرة على الفعل والتعامل مع الطبيعة ، فقد استطاع الغرب أن يستفيد من هذه التطورات العلمية ، وأن يوظفها من خلال منظومة علمية متفاعلة ومتكاملة تتشكل من عناصر ثلاثة هى العلم – التكنولوجيا – الإنتاج ، العلم بصفته مولد الأفكار والنظريات ، والتكنولوجيا باعتبارها التجسيد المادى لهذه النظريات ، والإنتاج الذى يوظف التكنولوجيا فى تصنيع السلع والخدمات المفيدة للإنسان ، وقد سجل التاريخ عدة اكتشافات و اختراعات أحدثت تحولات عميقة وأثرت تأثيرا ضخما على البشر وعلى العديد من نواحى الحياة .
ولإدراك عظمة التحول علينا أن نبدأ من عقيدة التقدم الذى حققه المنطق والعقل فى نظر الإنسان العادى فى عصر التنوير ، بيد أن العقلانية العلمية التى انتشرت فى الغرب فى القرن الثامن عشر لم تكن وليدة العلم الجديد فحسب ، بل كانت أيضا وليدة الرأسمالية الجديدة ، فالعلم والرأسمالية حررا البشرية من أغلال عبودية الجهل والإقطاع ، بل أن نظريات الفيزياء التى تتصف بالتجريد ، يمكن النظر إليها على أنها منبثقة من الحاجات الاجتماعية لطبقة بازغة ، وهكذا غدا العلم جزءا متكاملا من الديناميكية الجديدة لرأس المال ، بعد أن أصبحت العقلانية العلمية توضع فى مقابل الرؤية الدينية المتمثلة فى الأيمان بالخوارق والخرافات ،
فالذرة لم تكن مجرد كلمة ، بل علم كامل يقوم على معرفة تركيبها وحركة مكوناتها ، وما ينتج عن هذه الحركة من تفاعلات وطاقة ، تحولت هذه المعارف الى تكنولوجيا تساهم فى تطوير وتحسين قوى الإنتاج ، ونفس الأمر قامت على مفاهيم نظرية التطور منظومة علمية فى النظر الى الكائنات الحية وتقسيمها ومعرفة وظائفها ، وحتى العلوم الإنسانية تطورت من خلال ذلك فأخذنا نتعرف على طبيعة السلوك الفردى من خلال علم النفس ، والسلوك الجماعى من خلال علم الاجتماع ، وهكذا تفاعلت الحياة وأساليب وقوى الإنتاج ، وأدى كل ذلك الى سرعة التطور فى الغرب بشكل لم نشهد مثله فى العالم العربى !! وهنا لابد من طرح السؤال الطبيعى : لماذا حدث ذلك فى الغرب ولم يحدث مثله عندنا ؟
يعود السبب الأساسي الى أن الحضارة الغربية شهدت قطيعة معرفية مع منظومة العلم الأرسطى ، وانفتحت على التقدم نحو العلم النيوتينى ثم العلم الآينشتينى ، بينما توقفت الحضارة الإسلامية عند حدود العلم الأرسطى ، ولم تنفتح على التطورات التالية، فبالرغم من أن العلوم فى العالم العربى كانت الأكثر تقدما عن أوروبا وكل بقاع العالم حتى القرن الخامس عشر الميلادى ، إلا أن ذلك توقف فى الوقت الذى بدأت فيه أوروبا تدخل عصر النهضة ، حيث أن الثورات العلمية خاصة الثورة الكوبرنيقية ، وثورة نظرية التطور الطبيعى أحدثت تصدعا فى النسق الأرسطى ، ودخل العلم الحديث فى صراع مع الكنيسة الأوربية التى كانت قد تبنت مفاهيم أر سطو وبطليموس ، وقد انتهى هذا الصراع الضاري الى انتصار كبير لمفاهيم العلم الحديث ، وانتهت سطوة الرؤية الدينية المستندة الى مفاهيم أر سطو فى النظر الى العالم .
أما العلم العربى فلم يكن قد تبنى أى نسق علمى وان كان الأفق الأساسي له لا يخرج عن منظومة العلم الأرسطى ، فلقد أقر الفكر العربى المنظومة الأرسطية فى فهم الكون القائمة على مركزية الأرض وانغلق معها ، واستخدم العلماء المسلمين نتائج العلم الأرسطى ، واتخذوا من منطقه الصورى أسلوبا للتعامل مع الواقع ، كما جعلوا من القياس منهجا فى الفقه والتشريع وحسم القضايا التى لم يرد فى شأنها نص أو حديث ، وحتى عندما استخدموا المنهج التجريبى فى العلوم فلم يكن هدفهم الوصول الى حقيقة الأشياء أو التوصل الى تفسير ظواهر الطبيعة ، بل كان المهم هو استخدام هذا المنهج لأسباب نفعية أو دواعي دينية ، فالكيمياء عندهم فى الغالب كانت مجرد " سيمياء " للحصول على المعدن النفيس من معادن خبيثة ، والفلك والحساب لتحديد مكان القبلة ومواقيت الصلاة وأسس تقسيم الميراث، وكان الهدف من علم الكلام هو التوفيق بين العلم والدين ، أو بين العقل وقواعد الأيمان .
و نستطيع أن نتبين بجلاء أنه لم يحدث صراع حقيقى بين العلم والدين فى الحضارة العربية الإسلامية ، ذلك لأن البنية الفكرية كانت تقوم أساسا على خلق العالم كمعطى كامل لا يحتاج الى بحث ، فعندما يقول الأشعرى بأن الله خلق كل شئ ، فأن ذلك يعنى تقييدا للعقل الإنساني ، وتراجع عن حقه فى الإرادة والقدرة على المعرفة ، وقد ساهمت حجية التأويل للنصوص المقدسة فى تشكيل حدود الفكر وجعلته يتوقف عند حدود التكيف مع معطيات النص ، وهناك من يعتقد فى أن كل ما هو متاح من علم ومعرفة موجود بالكتاب المقدس ، فالذرة موجودة بالقرآن ، والنظرية النسبية ، ونظرية التطور ، وما علينا سوى تأويل الآيات حتى تتكشف لنا كل الحقائق ، إذ أن كل ما توصل إليه العلماء فى الماضى أو الحاضر أو المستقبل مذكور بحذافيره فى القرآن الكريم ، وما علينا سوى أن نجتهد ونفسر النصوص ، حتى نميط اللثام عن تلك الذخائر ونتوصل الى أحدث النظريات العلمية ، وهكذا تم عزل العقل عن التفاعل الخلاق مع تطورات الواقع ومحاولة التعرف على قوانين الطبيعة ، إما الغزالى فقد جعل العلم مقتصرا على معرفة الله باعتباره غاية الغايات ، بل ووصل الأمر الى أنه كان يرى أن العالم لا يخضع لأى قوانين طبيعية ، فالله يفنى العالم ثم يعيد خلقه فى كل لحظة من الزمن ، وبالتالى لا يمكن افتراض أى فعل له أثر ، على العكس فمن الخطأ إرجاع أى ظاهرة الى أسباب ، ففى رأيه أن كل الظواهر والأحداث التى تجرى هى نتيجة مباشرة للتدخل الإلهي الدائم فى العالم ، أن الله هو الذى يحرق القطن ويصنع رماده ، ذلك لأن النار فى حد ذاتها جسم ميت وليس لها فعل ، ثم ، من أين الدليل على أنها السبب ، ليس للفلاسفة العقليين المهرطقين دليل سوى ملاحظة حدوث الاحتراق ، وهذه الملاحظة تثبت فقط تزامن الأحداث ، لا سببها ، وفى الحقيقة فلا سبب إلا الله ، وهكذا أصبح الفارق بين العلم فى الغرب ، والعلم عندنا هو الطريقة التى يمكن بها أدراك العقل للحقائق ، فقام الغرب بالبحث عن الله فى قوانين كونه أى قوانين الطبيعة ، واكتفينا نحن بالبحث عن ذات الله دون محاولة التعرف على أسرار كونه .
هذا بالإضافة الى تعارض الشريعة الإسلامية مع بعض العناصر الحيوية اللازمة لقيام الرأسمالية ، مثل ظهور مؤسسات مصرفية لأنها تقوم أساسا على مفهوم الربا الذى تحرمة العقيدة الإسلامية ، كما أن طبيعة المدن الإسلامية التى كانت تحكم من الخارج ، ولم يكن يتوفر بها مؤسسات مدنية ، كالمنظمات المحلية أو الاتحادات المهنية أو النقابات حالت دون أن تتحول الى كيانات اجتماعية تمارس التفاعل الاجتماعى ، وانصب اهتمام حكامها على القيام بإدارة شئون المساجد والمرافق العامة ، كما قامت مؤسسات التعليم على تدريس العلوم الإسلامية بشكل رئيسى ، ولم يكن هناك إلا دور هامشى لتدريس العلوم الطبيعية وفى أحيان متقطعة ، إما الفلسفة وحتى علم الكلام فقد استبعد تدريسهما خاصة بعد سيادة أفكار أبو حامد الغزالى ، ولم تتشكل هيئات علمية مستقلة لها ضوابط واستمرارية سوى علماء الفقه ، والقضاة الذين كانوا يعتمدون فى إصدار أحكامهم على السلطة الشخصية أو إرادة الحاكم ، ويعملون بدون وجود مواد قانونية واضحة ومحددة .
وكل هذه العوامل وغيرها ، تفسر عدم وجود منظومة علمية متكاملة ومتفاعلة فى العالم العربى ، تؤدى الى اكتشاف نظريات أو اختراعات يمكن تحويلها الى تكنولوجيا تساهم فى تطوير و تحسين قوى الإنتاج ، ومن ثم كان التخلف عن ركب المشاركة فى التقدم الإنساني ، ولا يمكن عبور الفجوة الحضارية ، إلا بالنقد العقلانى ومحاولة القضاء على كل أسباب هذا التخلف .



#فتحي_سيد_فرج (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- البدائل المقترحة لتمويل التعليم
- لغة واحدة ...ام لغات متعددة
- لغة واحدة 00أم لغات متعددة
- الاتجاهات الفكرية للإبداع فى مصر
- بينالى الاسكندرية الثالث والعشرون لدول البحرالمتوسط
- مرصد الإصلاح العربى
- العلم والنظرة الى العالم
- تفكيك الثقافة العربية
- إشكالية النهضة عند الطهطاوى
- قراءات ورؤى حول مشروع النهضة


المزيد.....




- القوات الإيرانية تستهدف -عنصرين إرهابيين- على متن سيارة بطائ ...
- الكرملين: دعم واشنطن لن يؤثر على عمليتنا
- فريق RT بغزة يرصد وضع مشفى شهداء الأقصى
- إسرائيل مصدومة.. احتجاجات مؤيدة للفلسطينيين بجامعات أمريكية ...
- مئات المستوطنين يقتحمون الأقصى المبارك
- مقتل فتى برصاص إسرائيلي في رام الله
- أوروبا.. جرائم غزة وإرسال أسلحة لإسرائيل
- لقطات حصرية لصهاريج تهرب النفط السوري المسروق إلى العراق بحر ...
- واشنطن.. انتقادات لقانون مساعدة أوكرانيا
- الحوثيون: استهدفنا سفينة إسرائيلية في خليج عدن وأطلقنا صواري ...


المزيد.....

- في يوم العمَّال العالمي! / ادم عربي
- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - فتحي سيد فرج - قراءات ورؤى