أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - علاء الدين الظاهر - دردشة عن بعض الزملاء 2















المزيد.....



دردشة عن بعض الزملاء 2


علاء الدين الظاهر
استاذ رياضيات

(Alaaddin Al-dhahir)


الحوار المتمدن-العدد: 6564 - 2020 / 5 / 15 - 02:16
المحور: سيرة ذاتية
    


قبل ان ابدأ بالدردشة عن بعض الزملاء في جامعة آيندهوفن التكنولوجية استميح القارئ عذرا بالإطالة (خصوصا وإنها مقالة طويلة) عن الظروف التي سبقت إالتحاقي بها.
في بداية واواسط الثمانينيات ولوقت طويل بعدها كانت اوضاع الوظائف الجامعية في اسوأ حالاتها خصوصا في الرياضيات. في قسم الرياضيات في لايدن تم فصل استاذ في كل من مجموعة الجبر والتحليل والهندسة من الوظيفة. جامعة اوترخت فقدت كلية طب الاسنان واقساما بكاملها حيث قامت الحكومة بإجراءات تقشف حادة لسد العجز الكبير في الموازنة كان منها تغيير سن التقاعد لمن في درجة الاستاذية من السبعين الى الخامسة والستين حالهم حال بقية الدرجات في الوظائف الجامعية. ورغم ذلك ساداني شعور داخلي لم يكن هناك سبب يبرره بأني سأتمكن من الحصول على وظيفة ما في هولندا او كندا حيث عملت سابقا.
في صيف 1984 ارسلت طلبا للعمل في معهد زراعي هولندي قبل ان اذهب في سفرة الى غوتنغن في المانيا حيث كانت جامعتها مكة للرياضيات والفيزياء في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين حتى قضى على ذلك النظام النازي عندما فصل الاساتذة اليهود من الجامعات الالمانية. اثناء زيارة للجامعة سأل غوبلز وزير الدعاية النازي، سأل الرياضياتي المتميز ديفيد هلبرت عن اوضاع الرياضيات في غوتنغن فرد عليه هلبرت بجرأة قائلا: قراراتكم لم تبق على اي متميز في الجامعة.
في طريقي الى غوتنغن توقفت لزيارة اخي وكان قد استأجر قبو المنزل الذي يقيم فيه لعائلة عراقية كنت قد حذرته من استقبالها. سبق ان استضفت تلك العائلة لشهر وتركتها تقيم في سكني وأنا في سفرة الى لبنان وايطاليا. عند عودتي اكتشفت ان ابنائه مزقوا خمسة او ستة من كتبي العلمية فضلا عن ان اسلوب الطبخ الذي استخدمته العائلة اتلف كل اواعي الطبخ. ارسلت لرأس العائلة رسالة اعاتبه على ما قاموا به من دون ذكر لكلفة الضرر المالي الذي الحقوه بي. ارسل لي صكا بخمسين دولار لم يبق منه بعد صرفه وتحويله ما يكفي لشراء نصف كتاب. كتب لاحقا مدعيا انه ارسل لي خمسمئة دولار كمساعدة مالية من دون ذكر للضرر الذي الحقوه بي. لم استلم منه هذا المبلغ فضلا عن أني وفرت له مبلغ يقارب الاربعة آلاف دولار من تكاليف الاقامة في الفنادق والاكل في المطاعم. اتقوا شر من احسنت اليه. هذا المخلوق وكما اعرفه وأنا منذ سن السابعة عشرة يتكون من مجموعة من الاكاذيب والافتراءات تبدأ في رأسه وتنتهي في اخمص قدميه.
بعد وصولي اخبرني اخي بإني كنت مصيبا في نصيحتي له ووصف تلك العائلة بالاوباش. مساء نفس اليوم اتصلت بي زوجتي لتخبرني بأن المعهد الزراعي اتصل بها يطلب مني الحضور على وجه السرعة لإجراء المقابلة. اخبرت زوجتي بأني بدأت سفرتي للتو وعلى المعهد ان ينتظر عودتي من اجازتي. في اليوم التالي اتصلت بي واخبرتني بأن المعهد رفض ذلك. وأنا رفضت العودة المبكرة رغم الحاح اخي ورأس عائلة الاوباش بالعودة الفورية لاجراء المقابلة. قلت لهم: الآتي افضل.

بعد عودتي بشهرين ظهر اعلان لشاغر في جامعة آيندهوفن التكنولوجية فتقدمت بطلب لشغره وفي نفس الوقت تقدمت بطلب للعمل في القسم الاوربي لجامعة ميريلاند الاميركية وكان مقرها في هايدلبرغ الالمانية. بعد اسبوع ذهبت الى لايدن كعادتي لحضور الندوة العلمية الاسبوعية وإلتقيت بإستاذي في الممر في طريقنا لحضور الندوة فأخبرني بنوع من الإطمئنان بأن كل من أيندهوفن وميريلاند اتصلتا به للاستفسار عني. للانصاف عرض علي استاذي بعد الانتهاء من دراستي وظيفة مؤقتة لأربع اعوام في قسم الحاسوب في لايدن الذي كان يتوسع حينها لكني رفضت لأنني قضيت ما يقرب من خمس سنوات في تخصصي ولم ارغب في تغييره.
بعدها دعتني جامعة آيندهوفن لإجراء المقابلة وحدث اني كنت مصابا بإنفلونزا قوية ولم اتمكن من تقديم نفسي بصورة جيدة. تصورت انني لن احصل على الوظيفة. ذهبت بعدها الى بلجيكا حيث اجريت مقابلة مع احد مسؤولي القسم الاوربي في جامعة ميريلاند الذي كان في زيارة لبلجيكا القريبة لي نسبيا. ثم حدثت المفاجأة. عرضت كلتا الجامعتين عقدا للعمل. ذهبت الى استاذي لأستشيره عن اي عقد اختاره فكان رده: إقبل كلاهما. كانت هذه من افضل النصائح في حياتي. بعد ان بدأت عملي في أيندهوفن بشهرين تعرضت زوجتي لحادث لم يكن مؤمنا عليه. استدنت من البنك مبلغا كبيرا من المال لأدفع تكاليف الحادث وأصبح دخلي من ميريلاند لسنتين يذهب لدفع الدين. كان محاضرات ميريلاند تبدأ بين الرابعة والسابعة مساءً فضلا عن الوقت الذي يستغرقه السفر. لأربعة او ثلاثة ايام في الاسبوع كنت اخرج من البيت صباحا وأعود بين العاشرة والثانية عشرة مساءً. توقفت بعد عامين من العمل في جامعة ميريلاند بعد ان دفعت ديوني وأرهقني العمل المزدوج.

بعد انتقالي من أيندهوفن الى تونته بعام حصلت جامعة أيندهوفن على المرتبة الرابعة عشرة في استفتاء لأساتذة الجامعات الاوربية عن افضل مئة جامعة اوربية. ليس في امكاني ان اتحدث عن بقية الكليات لكني اقول وبكل ثقة ان الفضل الاكبر في كلية الرياضيات وعلوم الحاسوب يعود لعميدها الاسبق والمؤسس ياپ سايدل الذي شغل العمادة لعشرة اعوام بعد تأسيس الجامعة عام 1956. كان تمثيل الرياضياتيين في الاكاديمية الملكية للعلوم عشرة، كان اربعة منهم من أيندهوفن وهم كريس باوكامپ، ديك دي برَوْن وجاك فان لنت وأدسغار دَيْكسترا الذي التحق بجامعة تكساس بعد ان عرضت عليه كرسيا خاصا. كما ان معهد كاليفورنيا التكنولوجي ارسل الرياضياتي المعروف مارشال هول ليعرض على ديك دي برَوْن كرسي الاستاذية ايضا فيه لكن الاخير اعتذر لأنه كان مرتاحا في عمله في أيندهوفن.
بعد بداية عملي سألني رئيس القسم في أيندهوفن إن كنت اتوقع ان احصل على الوظيفة. اجبته بصراحة بالنفي بسبب مرضي اثناء المقابلة مما ادى الى عدم اجابتي على الاسئلة بطريقة جيدة. قال لي ان الاختيار وقع علي من بين عشرات المتقدمين بعد ما سمعه عني من استاذي والذي كانت له سمعة دولية ممتازة. كما فهمت منه ان الكلية كانت قد تقشّفت اكثر من اللازم مما ادى الى فتح الشاغر الذي تقدمت اليه.

لم اكن اعرف الكثير عن نشاطات الرياضياتيين في أيندهوفن فكانت اختصاصتهم ابعد ما تكون عن اهتماماتي وتخصصي وكانت في معظم الحالات ذات طبيعة تطبيقية على عكس اختصاصي النظري المحض فضلا عن توجه الرياضيات في أيندهوفن نحو ما يعرف بالرياضيات الصناعية نظرا للعلاقة الخاصة التي ربطت الجامعة بشركة فيلبس التي كانت مصانعها وإدارتها ومختبرها للعلوم الطبيعية في نفس المدينة. كان هناك ما يزيد على 125 زميل في كلية الرياضيات وعلوم الحاسوب موزعين على خمس او ستة اقسام مختلفة حسب التخصصات ومنها قسم الرياضيات الاسسية (او النظرية) الذي انتسبت اليه وكانت تشمل الهندسة والجبر والتحليل. لن اتمكن في هذه الدردشة عن الحديث إلا عن بعض الزملاء الذين ربطتني بهم علاقة صداقة او زمالة قوية او بعض من تميز منهم علميا.

مع اني تحدثت عن الراحل كريس باوكامپ في الجزء الاول من هذه الدردشة إلا اني نسيت ان اذكر انه حصل على الدكتوراه عام 1941 من جامعة خروننغن تحت اشراف فريتز زرنكه الذي حصل لاحقا على جائزة نوبل في الفيزياء. فضلا عن عمله في مختبر (نات لاب) لشركة فيلبس، شغل كريس باوكامپ اولا كرسي للرياضيات في جامعة اوترخت قبل ان ينتقل الى أيندهوفن عام 1958. يشارك كريس باوكامپ الفيزيائي يوهانِس كپلر في ما يعرف بـ (ثابت كپلر ـ باوكامپ). شكى لي كريس باوكامپ من الجو المشمس وحرارة الربيع او الصيف. قال لي انه يحب الجو العاصف الممطر (وذكر هذا بحماسة وهو يهز يديه) لأنه يجعله يجلس في مكتبه ويُنتج اما الجو المشمس فيشجعه على الكسل.

في الواقع لا اعرف اين ابدأ بالحديث عن ديك دي برَوْن لأنه حالة فريدة في الرياضيات حيث استمر في نشر بحوثه المتميزة حتى بلوغه سن التسعين وفي اختصاصات متعددة. كان متقاعدا عندما بدأت عملي في أيندهوفن ولم تربطني به علاقة خاصة سوى انه كان يشرف على اطروحة دكتوراه لأحد معارفي وكان ايضا صديقا حميما لاحد اعز اصدقائي هناك الراحل كيْس فان نيوكاستيله. من خلالهما تعرفت على دي برَوْن بعض الشيئ لكن سمعته كانت انه صعب المراس واستطيع ان اقول ان في هذا الكثير من الصحة. كان في الاساس متخصصا في التحليل والجزء التقليدي منه وعلى وجه الخصوص طرق الـ Asymptotic في التحليل. لكنه نشر بحوثه ايضا في الدوال المعقدة وتحليل فورييه (ثابت دي برَوْن ـ نيومان) وتوزيعات ويغنر. وله بحوث في نظرية الارقام ونظرية الارقام التحليلية والمجموعات التكميلية للزمر الابلية وفي رياضيات الحالة المتقطعة Discrete Mathematics ومنها متوالية دي برَوْن ونظرية پوليا ومبرهنة دي برَوْن ـ إردوش بصيغتين واحدة هندسية والاخرى في نظرية البيان، وأشباه الكريستالات والنظرية الجبرية لـ Penrose Tiling . انتقل بعدها للبحث في المنطق الرياضياتي وما يُعرف بـ اوتو ماث واللغات الرياضياتية وحساب لامبدا وفهرسيات دي برَوْن واخيرا نظرية الدماغ في ما يعرف بنموذج الذاكرة التبادلية. اتذكر إني سمعته مرّة يسأل في الممر كيْس فان نيوكاستيله، يسأله رأيه عن تطويره لنظرية جديدة وهو في عمره المتقدم ذاك. رد عليه كيس ضاحكا بأن هذا متوقعا لمن هو في حالة الخرف مثله. انفجر بعدها الاثنان بالضحك.
بدأ ديك دي برَوْن دراسته الجامعية في لايدن بعد ان انهى الدراسة الثانوية في اربع سنوات بدلا من ستة. اغلقت سلطات الاحتلال النازي جامعة لايدن مما اضطر ديك دي برَوْن ان يعمل مساعدا في دلفت وان يكتب هناك اطروحة الدكتوراه ورغم ان استاذه الفعلي كان في لايدن لكن بسبب اغلاق جامعة لايدن دافع عن اطروحته في الجامعة الحرة في امستردام وهي جامعة بروتستانتية ولقب الحرة يعني انها كانت تقبل طلابا من مذاهب اخرى. عمل بعدها لعامين في مختبر شركة فيلبس للعلوم الطبيعية (نات لاب) الذي كان يرأسه البروفسور بالتزار فان در پول ومساعده كريس باوكامپ. شغل ديك دي برَوْن بعدها ولستة اعوام كرسي الاستاذية في جامعة دلفت التكنولوجية ثم انتقل ليشغل كرسي الاستاذية لثمانية اعوام في جامعة امستردام. في عام 1960 اقنعه ياپ سايدل بالانتقال الى أيندهوفن ولم يكن هذا سهلا. فكيف يُقنع من يعمل في جامعة معروفة وفي مدينة حضارية دولية بالانتقال الى جامعة حديثة التأسيس وفي مدينة صغيرة؟ قال له ياپ سايدل سأعفيك من الامور الادارية ولن تدرّس المواد الاولية. بمعنىً آخر عرض عليه وظيفة بروفسور بحثي.

التحق ياپ سايدل بالدراسة في جامعة لايدن بعد عام من بدأ ديك دي برَوْن دراسته وربطت الاثنان صداقة منذ ذلك الحين. بسبب اضراب الطلاب الاحتجاجية ورفض رئيس الجامعة حينها فصل الاساتذة اليهود، اغلقت سلطات الاحتلال النازي جامعة لايدن. التحق عندها ياپ سايدل بالجامعة الحرة في امستردام. من سوء حظه ان سلطات الاحتلال النازي القت القبض عليه وارسلته للعمل القسري في احد المصانع القريبة من برلين. تمكن بعدها من الهرب وعاد الى هولندا حيث اختبأ حتى نهاية الحرب وتحرير بلاده. بعد ان انهى دراسته عمل مدرسا في ثانوية صناعية ثم انتقل للعمل في ثانوية متميزة كلتاهما في امستردام. في هذه الفترة انهى كتابة اطروحة الدكتوراه في احد التخصصات هندسة ودافع عنها في لايدن عام 1948. بعدها بعامين انتقل للعمل في جامعة دلفت التكنولوجية لحين صدور المرسوم الملكي بتعيينه بروفسورا للرياضيات في جامعة أيندهوفن التي تأسست في ذلك العام واصبح اول عميد لكلية الرياضيات (ولاحقا وعلوم الحاسوب). انشغل بإدارة الكلية وجلب الموهوبين للعمل فيها وتنظيم مناهج الرياضيات للكليات التقنية فضلا عن تأسيس مناهج الدراسة لمن برغب بالتخصص في الرياضيات. ورغم انه كان متخصصا في الهندسة إلا انه برز كباحث في نظرية البيان والتي بدأ بتعلمها بعد ان ترك العمادة.
عند وصولي الى أيندهوفن كان ياپ سايدل قد تقاعد قبل عام وكانت الاراء التي سمعتها عنه كعميد ممتازة لكن بعض الزملاء كانوا ينتقدوه. احدهم وصفه بالطاغية لأنه كان يعامله بخشونة رغم ان ياپ سايدل رقّاه الى كرسي الاستاذية. احد الزملاء قدّم وصفا اقل سلبية عندما قال ان من قدرات ياپ سايدل انه كان ينجح في جذب الاساتذة الى ايندهوفن ويجعلهم يفعلون ما يريد.
كان لـ ياپ سايدل قدرة رائعة على اكتشاف المواهب وجذبها الى ايندهوفن. كان ثلث الاساتذة في أيندهوفن من جامعة اوترخت. لهذا كانت هناك نكتة عنه في جامعة اوترخت. تقول النكتة ان هانز فرويدنتال الذي كان رئيسا لمعهد الرياضيات في اوترخت وضع جاسوسا في محطة قطار المدينة ليحذره من وصول ياپ سايدل كي يتمكن فرويدنتال من اخفاء الموهوبين.
بعد ان تعرفت على ياپ سايدل الذي كان يعمل كأستاذ متمرس وجدت ان شخصيته قوية ولا يشعر بالراحة إذا اختلف معه زميل اصغر سنا ومركزا. لكن للانصاف كان مهتما بما اقوم به وكثير التشجيع لي وكنا نلتقي في المناسبات العائلية في بيت الزميل والصديق العزيز كيْس فان نيوكاستيله مما عزز علاقتنا اكثر رغم انه كان يكبرني بـ 37 عام. ألّمت به مصيبة عائلية عندما فقد احد ابنائه في عمر صغير في حادثة غرق لكنه لم يتحدث عنه او عن فترة عمله القسري في برلين. كان ياپ سايدل يتذمر من احالته على التقاعد في سن الخامسة والستين بدلا من سن السبعين كما كان قبل قررات التقشف لمن كان بروفسورا. فات عليه ان تلك القرارات فتحت الشاغر الذي تقدمت اليه. زودني ياپ بكثير من المعلومات عن الرياضياتيين في هولندا من اجيال سابقة ومعاصرة وقد اتعرض لهم في المواضيع ذات العلاقة.
احد الذين اخبرني عنهم هو الجبري الهولندي بارتل فان در واردن والذي نشر بحوثا ايضا في الهندسة الجبرية. اخبرني ياپ سايدل ان فان در واردن كان متعاطفا مع النازيين. تنقل فان در واردن في عمله بين هولندا وجامعة غوتنغن الالمانية وحصل على كرسي الاستاذية في جامعة دريسدن. في مقابلة صحفية قبل وفاته ادعى فان در واردن انه كان محصورا في دريسدن اثناءالحرب ولم يتمكن من مغادرتها. عاد بعد الحرب الى هولندا وتمكن بمساعدة صديقه هانز فرويدنتال من الترشيح لكرسي الاستاذية لكن الملكة فيلهلمينا رفضت التوقيع على مرسوم تعيينه بسبب بقائه في المانيا النازية بينما وطنه تحت الاحتلال النازي، كما يقول هو. بعد عامين من العمل في الشركات افلح في شغر كرسي الاستاذية في جامعة امستردام لكن الجو كان معاديا له مما اضطره للانتقال الى جامعة غوتنغن ثم الى جامعة زوريخ. كما فهمت من ياپ سايدل ومن زملاء آخرين ان تعاطف بارتل فان در واردن مع النازيين لم يكن موضوع شك. ياپ سايدل اخبرني عن رياضياتي مرموق في جامعة دلفت كان متعاطفا مع النازيين لكني لم اجد مصدرا آخر يؤكد ذلك (ربما لوفاة معظم من يعرف بذلك) ولهذا اتحفظ على ذكر اسمه.
قبل ان انتقل الى تونته اعطاني ياپ سايدل نسخة من بحث طويل لم يكن قد نشره وطلب مني عدم اطلاع اي شخص آخر عليه لأنه لم يكن منشورا حينها. سعدت بتلك الثقة واحتفظت بالنسخة لحين سماعي بوفاته عام 2001 فقررت اتلافها. في الواقع لم اقرأها ولم اهتم بها لأنها كانت في موضوع بعيد عن اهتماماتي.

من الاساتذة المرموقين في أيندهوفن كان جاك فان لنت. كان لدى ياپ سايدل شاغرا في نظرية الشفرة. اتصل بصديقه هانز فرويدنتال سائلا اياه إن كان يعرف من هو متميز في هذه النظرية. اجابه هانز فرويدنتال بالنفي لكنه اضاف انه هناك رياضياتيا شابا لا يعرف شيئا عن نظرية الشفرة لكنه سيتعلمها بسرعة ويصبح من روادها. كان هذا الرياضياتي جاك فان لنت الذي حصل على كرسي الاستاذية في أيندهوفن وهو في السابعة والعشرين وكما توقع فرويدنتال اصبح فان لنت من رواد نظرية الشفرة.
ولد فان لنت في 1932 في احدى الجزر الاندونسية عندما كانت مستعمرة هولندية تركتها خلالها العائلة لعام الى هولندا ثم عادت اليها. بعد اندلاع الحرب العالمية اجتاحت اليابان اندونيسيا مما اضطر العائلة الى الهرب ضمن قافلة من سبع سفن اغرقت منها اليابان اربعة ونجحت ثلاثة منها في الوصول الى الى استراليا كان على احداها عائلة فان لنت. من استراليا انتقلت العائلة بالباخرة الى اميركا حيث سكنت اولا بمدينة جاكسون بولاية مسيسيبي ثم انتقلت الى شيكاغو حيث انتقل والده للعمل هناك. بعد الحرب عادت العائلة الى استراليا بينما ذهب والده الى اندونيسيا التي بدأ شعبها المقاومة العسكرية ضد الاستعمار الهولندي. في عام 1946 عادت العائلة بكاملها الى هولندا وتنقلت بين مدينتين او ثلاثة انهى خلالها جاك فان لنت دراسته الثانوية عام 1950 والتحق بجامعة اوترخت لدراسة الرياضيات. اثناء اعداده لدراسة الدكتوراه قضى سنة في جامعتي غوتنغن ومونستر في المانيا قبل ان يحصل على الدكتوراه عام 1957 في اوترخت. عمل بعدها لعامين باحثا في مؤسسة البحوث العلمية الصرفة، انتقل بعدها الى أيندهوفن.
انطباعي الاول عنه انه كان متغطرسا بعض الشئ لكن بعد ان تعرفت عليه اكثر لم يكن بتلك الغطرسة التي تصورتها. اعطيته مرة بحثا قصيرا في الجبر لنشره في مجلة كان هو احد محرريها. نظر الى البحث بسرعة وقال سأرسله الى رئيس التحرير وتم النشر بدون تعديل. التقيت به مرة او مرتين في لقاءات عائلية في بيت الصديق الزميل كيْس فان نيوكاستيله. كنت اتحدث مع جاك فان لنت في احدى الاحتفالات الجامعية وكان قد شرب بعض الشئ وإذا به يتفاخر بالقول بأنه هو الذي قام بتشفير الموسيقى على القرص المكدس Compact Disc في مختبر فيلبس (نات لاب). للوهلة الاولى تفاجئت بهذا التفاخر من رجل بمكانته العلمية. لكن بعد عودتي الى البيت لم اجد في هذا شيئا سلبيا. كل منا يتفاخر بمنجزاته مهما كانت بسيطة ولا عيب في هذا. اصبح هو الاخر مديرا لـ (نات لاب) ورئيسا للجامعة قبل تقاعده. توفي في الثانية والسبعين بمرض السرطان الخبيث.

قبل بدأ عملي في ايندهوفن ترك ادسغار دَيْكسترا ايندهوفن ليشغل كرسيا خاصا في جامعة تكساس في أوستن ولم التق به لكني سمعت عنه الكثير واتحدث عنه في هذه الدردشة لسببين. الاول انه اسس واحد من افضل مراكز الحاسوب في الجامعة. كان هذا المركز يعرض ما لايقل 30 دورة مركّزة سنويا في مختلف مواضيع البرمجة ولغاتها وقد استغليت انا هذه الفرصة والتحقت بالعديد منها. الامر الثاني كان احد طلاب دَيْكسترا من المتفوقين والذين سمحت له الجامعة بكتابة اطروحة الدكتوراه بخط يده الجميل والواضح. حصل هذا الطالب على كرسي الاستاذية في معهد كاليفورنيا التكنولوجي الرفيع مباشرة بعد انهائه دراسة الدكتوراه. بعد عدة سنوات كنت قد انتقلت خلالها الى تونته سمعت انه قتل عائلته وحرق بيته ثم انتحر. عندي صورة باهتة عن لقاء عرضي معه في ممرات القسم.
كان ادسغار دَيْكسترا في الاساس فيزيائيا نظريا لكنه عمل لعشرة اعوام في البرمجة في مركز بحوث الرياضيات في امستردام قبل ان يشغل كرسي الاستاذية في أيندهوفن عام 1962. كان تخصصه هو Algorithms والذي قد يترجم خطأً بالخوارزميات والمقصود هو خطوات متسلسلة ومنطقية لحل المسائل وتدقيق الحل وهو النظرية التي تعلو على كتابة برامج الحاسوب. قرأت مرة مقابلة صحفية طويلة معه اتذكر منها انه لا يستخدم الحاسوب وانه لو تعلم المبرمجون الـ Algorithms لخلت برامجهم من الاخطاء ووفر ذلك للاقتصاد مليارات الدولارات سنويا. بعد ان اكتشف انه مصاب بالسرطان عاد الى هولندا حيث توفي عام 2002.

كانت غرفة مكتب الزميل پيت فروخإندَفيْ الى جانب غرفة مكتبي وكان متخصصا في الفيزياء الرياضياتية. بعد بضعة ايام من بداية عملي جاء يطلب مني مساعدته في فهم احد المواضيع القريبة من اختصاصي. توجهت الى السبورة الصغيرة المعلّقة في الغرفة وكنت اتوجس ان سؤاله سيكون صعبا خصوصا وإنه يمارس البحث العلمي لأكثر من عشرين عام. طلب مني شرح العلاقة بين ما يعرف بالحزمة البسيطة (او التافهة) ومتعدد الطيّات القابل للتوازي وكان هذا امرا بسيطا بالنسبة لي فشرحتها له في بضعة دقائق. صفع جبهته وهو ينظر الى السبورة وقال: لقد امضيت شهرين وأنا احاول ان افهمها وانت تشرحها لي في دقائق. بعدها بدأ پيت فروخإندَفي يذكر هذا ويمدحني امام الزملاء مما أصابني ببعض الحرج لأني لم اجد الامر يستحق كل هذا. طلبت من پيت فروخإندَفيْ ان يتوقف عن هذا الثناء وبطريقة النكتة التي يحبها قائلا: اذا استمريت في هذا المديح سيأتي احد الزملاء ويسألني سؤالا لا استطيع الاجابة عليه وتخسر بهذا كل دعايتك لي. توطدت علاقتي بـ پيت فروخإندَفيْ بمرور الوقت وأصبحت اشاركه معارضته وسخريته من رئيس القسم الذي اكتشفت ان ادارة قسم لم تكن من بين مواهبه. ولم يكن بيت وحيدا في هذا فقد كان نقد الزميل كيْس فان نيوكاستيله لا يقل سخرية.
على الاتجاه الآخر من مكتب پيت فروخإندَفيْ كان مكتب يان فان دالن الذي كان منطويا على نفسه. كان يبقى في غرفته ولا يحتك ببقية الزملاء وكان پيت فروخإندَفيْ يذهب اليه حيث يتناولا عند الثالثة ظهرا الشاي الذي كان يعدّه يان. صادف بعد فترة ان يتزوج احد الزملاء ويدعونا لحضور مراسم وحفلة زواجه في مدينة دن بوس. اقترح پيت فروخإندَفيْ ان نأتي (أنا ويان فان دالن والسكرتيرة) الى الجامعة صباحا بالمواصلات العامة ونذهب ظهرا الى حفل الزواج بسيارته لأن الحصول على موقف سيارة واحدة في مركز دن بوس اقل صعوبة من اربعة مواقف وهذا ما فعلناه. بعد الانتهاء من الحفلة سأل السكرتيرة عن عنوان سكنها وكان في الواقع قريبا وخارج دن بوس. عندما وصلنا وجدنا انها تسكن مع زوجها في مزرعة كبيرة وفيلا فارهة واخبرتنا ان جارها في المزرعة المجاورة هو رئيس الوزراء الاسبق دريْس فان أخت. سألت نفسي كيف تتمكن سكريترة وزوجها الكهربائي من شراء هذه المزرعة؟ كما علمت لاحقا ان العديد يرث المزرعة من اهله بحالة رديئة او يشتريها رخيصة وهي بهذه الحالة ثم يقضي عشر سنوات او اكثر في ترميمها وتحديثها. المفاجأة الثانية كانت عندما سأل پيت فروخإندَفيْ يان فان دالن عن عنوانه. لقد كان يشربان الشاي كل يوم ولسنوات. كنت اتصور انهما يتزاوران عائليا والآن لا يعرف پيت فروخإندَفيْ اين يسكن زميله يان. لقد تزاورانا عائليا مع خمسة او اربعة زملاء ومنهم پيت فروخإندَفيْ بعد وصولنا بشهور والآن اكتشف ان پيت فروخإندَفيْ لم يتزاور مع يان فان دالن رغم زمالتهما الطويلة. من ضمن الامور التي تعلمتها ان الزمالة المهنية لا تعني بالضرورة تطورها الى علاقة اجتماعية ورأيت امثلة اسوأ من هذه الحالة.
بعد عدة سنوات جاء پيت فروخإندَفيْ مع عدة زملاء من أيندهوفن لحضور ندوة علمية في جامعة تونته التي انتقلت اليها. كانت فترة الغداء مناسبة للحديث عن محاضرات الندوة وتبادل الاخبار عن الزملاء. كان احد الذين قدموا من أيندهوفن لحضور الندوة يتدرب اثناء فترة الغداء على تسلق الجبال على حائط عالٍ في المركز الرياضي لجامعة أيندهوفن. قبل فترة الغداء كنت اتحدث مع پيت فروخإندَفيْ عندما قدم هذا الزميل ومعه عُدته الرياضية وسألني إن كان عندنا ايضا حائط عالٍ كي يتدرب عليه. نظرت إليه بتهكم لبرهة ثم اجبت: (نعم عندنا حائط المبكى). انفجر پيت فروخإندَفيْ بالضحك وظل يردد (حائط المبكى). عندنا ندوة علمية ومناسبة للتحدث مع زملاء لم نراهم منذ فترة وهذا البائس لا يستطيع ان يترك تدريبه ليوم واحد ويتغدى معنا؟ فهم پيت فروخإندَفيْ مغزى ردي وكان لا يطيق هذا الزميل ومن المؤكد انه كرر النكتة للزملاء بعد عودته الى أيندهوفن. بعد تقاعده، انتقل پيت فروخإندَفيْ مع زوجته الثانية للاقامة في بيت في غابة وإنقطعت اخباره عني وعن بقية الزملاء.

كان الزميل الاقرب والذي اصبح صديقا قريبا هو الراحل كْيس فان نيوكاستيله. كان متخصصا في الهندسة التقليدية وكان من ضمن مجموعة ياپ سايدل قبل تقاعد الاخير. كان يدرّس ايضا الهندسة الوصفية لطلاب الهندسة المعمارية والمدنية. ربطتنا منذ الايام الاولى علاقة قوية رغم فارق السن الكبير. تقاعد بعد عامين من انتقالي الى تونته. بعدها بعدة سنوات قُتلت ابنته وزوجها وطفليهما عندما ارتطمت الطائرة التي كانوا فيها بالمدرج وهم ذاهبون لقضاء اجازة في جنوب البرتغال. تحملت زوجته تلك الصدمة المروعة بقدرة اكبر لكن كيْس لم يفق منها لا نفسيا ولا جسديا. فقد الكثير من روح النكتة والمرح وبدأت حياته تتغير كليا. اصابته الامراض الواحدة تلو الاخرى. كان يرقد في المستشفى عندما ذهبنا في اجازة الى جزيرة سردينيا وكنا في العادة نشتري بطاقات بريدية من اجمل المناطق التي نزورها ونكتبها في وقت واحد قبل إرسالها الى اصدقائنا. كنا في بداية السفرة في مدينة كاجلياري وعند مرورنا قرب دائرة البريد قررت ان اشتري بطاقة بسرعة وارسلها الى كيس. بعد عودتنا وجدنا بطاقة تخبرنا بوفاته. اتصلنا بزوجته التي قالت ان البطاقة وصلت في الوقت المناسب وسعد بها قبل ان يفقد الوعي ويتوفى بعد يومين.

كان هان دي سمت زميلا عزيزا وشابا كثير الطموح وربما كان طموحه يسبق قدراته بأشواط. قبل ان انتقل الى تونته طلب مني ان اعطيه المحاضرات المكتوبة التي كنت استخدمها لمادة كنت ادرسها لطلاب السنة الثانية في الهندسة الميكانيكية والتي كان يرغب بتدريسها. يبدو ان علاقته بكلية الهندسة الميكانيكية من خلال تدريسه هذه المادة توطدت. عند خلو منصب مدير البرنامج التعليمي في الهندسة الميكانيكية تقدم هو لشغر الوظيفة بعد ان لم يرغب فيها احد من اعضاء الهيئة التدريسية في الكلية. هذه الوظيفة تشابه وظيفة معاون العميد مع فارق انها مستقلة بعض الشئ عن العميد ولها صلاحياتها الخاصة بها وفي العادة تأتي مع ترقية لدرجة اعلى. اختير هان دي سمت للوظيفة رغم انعدام خبرته الادارية وجهله بمناهج الدراسة واقسام الكلية. في تقديري ان التفكير في الهندسة الميكانيكية كان ان هان دي سمت لا يزال شابا وبمساعدة زملائه يستطيع ان يتعلم (الصنعة). للاسف ركب رأس هان دي سمت الغرور. بعد فترة من حصوله على تلك الوظيفة طلب منه عميد الهندسة الميكانيكية ان يجري بعض التغييرات في البرنامج لكن هان دي سمت رفض وأصر على الرفض محتجا بأن هذا الامر من صلاحياته. بعد ان استفحل الخلاف بينهما قرر العميد فصله من الوظيفة وكان الفصل من الوظيفة من صلاحيات العميد وفقا لقانون التعليم الجامعي الجديد. بعد فترة اصبح هان دي سمت مديرا لأحد معاهد إعداد الصحفيين واختفى عن الانظار. تأسفت لما حدث له فقد كان زميلا عزيزا يشاركني معظم افكاري حول تطوير تعليم الرياضيات. تذكرني حالته بالبيت الشعري: ما طار طيرٌ وإرتفع ألاّ كما طار وقع.

في تلك الفترة جاء الى أيندهوفن طالب يعد للدكتوراه في علوم الحاسوب في المانيا الشرقية ليقضي عاما لتطوير بحوثه والتعلم من الامكانيات العلمية المتوفرة عندنا. كان اسمه راينهارت وقد فهمت منه ان زوجته بقت في المانيا الشرقية. لم يرغب راينهارت ان يقول ان سلطات المانيا الشرقية كانت بهذا تضمن عودته اليها بدلا من البقاء في الغرب. كما ستجدون هنا انه كان لا يجرأ ان ينتقد سلطات المانيا الشرقية خوفا من ان يصل هذا الى سماعها وتصيبه العواقب. كان عندي صديق من المانيا الغربية اسمه لوثر يعد للدكتوراه في الهندسة الكيمياوية في ايندهوفن. دعوت راينهارت ولوثر وزوجته للعشاء في بيتنا. بدأ راينهارت بالتباهي عن مزايا النظام الشيوعي في المانيا الشرقية ولم يملك هذا النظام في الواقع سوى (صخام الوجه). قال راينهارت ان التعليم فيها مجاني. اجابه لوثر بأن التعليم في المانيا الغربية مجاني واعلى مستوىً. قال راينهارت ان الطب مجاني في المانيا الشرقية. رد عليه لوثر بأن التأمين الصحي في المانيا الغربية متوفر للجميع وعلاجاته افضل بكثير. قال راينهارت ان حقوق العمال مضمونة وعندهم نقابات في المانيا الشرقية. رد عليه لوثر بأن ان حقوق العمال مضمونة ايضا في المانيا الغربية وإن لهم نقابات ويقومون بالاضراب وهذا غير ممكن في المانيا الشرقية. سكت راينهارت لبرهة ثم قال: (عندنا يمكنك ان ترث طلب السيارة وخط التلفون اذا توفى والدك). رد عليه لوثر بسرعة: (لا هذا ما عندنا). انفجرنا عندها بالضحك ولم يفهم راينهارت سبب ضحكنا. كانت فترة انتظار طلب خط التلفون او سيارة او بالاحرى (عربانة) ترابانت تصل الى 15 عام بينما في الغرب خط التلفون يصلك بعد يوم او يومين وبإمكانك ان تشتري السيارة في نفس اليوم إذا لم تكن لديك طلبات خاصة.
إذا سمعت دفاعا عن النظام الشيوعي مثل الذي قدمه راينهارت تعتقد ان راينهارت سيقاتل مستميتا في الدفاع عنه. على العكس، كان راينهارت وزوجته الطبيبة من اوائل الذين انتقلوا الى المانيا الغربية بعد سقوط جدار برلين وحتى قبل توحيد الالمانيتين. حصل راينهارت على وظيفة في احدى الشركات في ميونيخ وكان يتفاخر براتبه العالي فيها فضلا عن دخل زوجته وانه اصبح عضوا في نادي التنس وهذا النادي او ذاك الذي ينتسب اليه الاثرياء. وصل تفاخره حد التقيؤ فإنقطعت صلتنا بينما بقت صداقتنا مع لوثر وزوجته حتى اليوم اللذان قطعا الصلة ايضا معه بعدنا بفترة. الانتهازية ألوان.

جاء شاكا مع زوجته من الهند بعد ان حصل على الدكتوراه من احدى جامعتها في منحة ليعمل باحثا في كلية الهندسة الكيماوية. بعد عام من وصول شاكا عرض المعهد التقني الفيدرالي في زيوريخ على البرفسور الهولندي الذي يرأس المجموعة التي انضم اليها شاكا، عرض على البروفسور الهولندي درجة الاستاذية ايضا بميزانية مفتوحة وهذا يعني ان من حقه ان يعيّن من يشاء. انتقل هذا بكامل مجموعته في أيندهوفن الى المعهد التقني الفيدرالي في زيوريخ وكان شاكا من ضمنهم. لم يكن ممكنا لشاكا ان يحصل على عمل في هولندا او سويسرا لكنه استفاد من خبرته في جامعتي البلدين وطور نفسه علميا كما استفاد من سمعة رئيس مجموعته المتميزة مما مكّنه من الحصول على وظيفة في احدى الشركات الكيماوية الكبرى في الولايات المتحدة ومنها انتقل للعمل في جامعة ذات مستوىً متوسط هناك. مغزى الحديث ان بإمكان الباحث ان يطور نفسه علميا رغم انه قد يأتي بخلفية من دول العالم النامي ويستغل الفرص المتاحة له في الغرب. كان البرت آينشتاين قد درس في المعهد التقني الفيدرالي في زيوريخ في فترة كان المعهد يخرّج المدرسين والمهندسين ولم تكن له السمعة العلمية الرفيعة التي بناها خلال العقود اللاحقة. والشئ بالشئ يذكر، عرض المعهد التقني الفيدرالي في زيوريخ عرضا بميزانية مفتوحة على زميلي في تونته أريان فان در سخافت في مجموعة السيطرة التي كانت مجموعتنا تشترك معها في البرنامج البحثي 1 (الذي حاز على المرتبة الاولى وطنيا في التقييمات الخارجية لعشر سنوات) ، لكن ابناء أريان المراهقين رفضوا الانتقال الى زيوريخ مما اضطر أريان الى الاعتذار. دائما اتذكر هذا واقول الديمقراطية تبدأ في البيت.

جاء ايضا الى كليتنا شاب دانماركي كان مرتبطا بعلاقة مع هولندية، علاقة لم تدم طويلا وبدأ بحوث الدكتوراه في احد مواضيع الاحتمالية تحت اشراف زميلي العزيز والشارد الذهن احيانا فرَد ستوتل. بعد ان انتقلت الى تونته سمعت من فرَد ستوتل ان هذا الشاب انتقل بعد ان انهى دراسته الى لوس ألاموس في اميركا وهو المختبر الذي انتج القنبلة الذرية الاولى وغيرها من الاسلحة النووية ولا يزال وعمل ويعمل فيه خيرة الفيزيائيين والكيميائيين والرياضياتيين. اخبرني الشاب حينها ان والده كان فيزيائيا يعمل في لوس ألاموس. ما استغربته ان لوس ألاموس كانت تحتاج الى متخصصين في نظرية الاحتمالية واستغربت السرعة التي حصل بها الشاب الدانماركي على الترخيص الامني العالي الذي يحتاجه للعمل في لوس ألاموس. بلا شك كان لوالده دور في ذلك لكن هل (الواسطة) موجودة في مختبر مثل لوس ألاموس؟ لم اكن اعرف بذلك.

في جامعة آيندهوفن التكنولوجية التقيت ايضا بزميل نمساوي كان استاذا للهندسة المدنية او المعمارية على وجه الدقة. كان كثير الاناقة في ملبسه ومتزوجا من هولندية ترتدي الزي الهندي من ساري وما شابه وكانت سمراء اللون واستطيع ان اقول اني كنت اعتقد انها هندية. كلاهما كانا نباتيان ويتبعان الفسلفة الهندية. من افكارهما ان امراض القلب تصيب الناس لأنهم يجلسون على الكراسي وينامون على افرشة عالية عن الارض مما يجبر القلب على دفع الدم عكس قوة الجاذبية بينما ان طبيعة الجسم البشري تتطلب الجلوس على الارض. افكار مثل هذه تبدو جذابة لكن يجب تجربتها علميا قبل التأكد من صحتها. بالطبع كان بيتهما يخلو من الكراسي وما شابه. علاقتنا بقيت طيبة بهما لكن لم تكن حميمة لأنهما كانا يكبراننا بعقدين من الزمن او اكثر.
لم يمض وقت طويل حتى منح هذا الزميل المتميز في اختصاصه مقابلة صحفية قال فيها ان الاشباح موجودة في كل مكان وايضا موجودة في بيته. ممكن ان يدعي هذا اي شخص في بلد متخلف يؤمن بالخرافات لكن ليس في هولندا ومن قبل بروفسور في جامعة متميزة. دخل مع ادارة الجامعة في سلسلة من المراسلات الحادة حول تلك المقابلة الصحفية. اصبح بين الزملاء نكتة مثل اي شبح رأيته يدور اليوم في المبنى او قاعة المحاضرات. امر مثل الايمان بالاشباح في وسط اكاديمي حساس جدا لأن المواطن يحتج ويسأل هل هذا ما يفعل به اساتذة الجامعات من الضرائب التي ادفعها؟ في النهاية اصبح زميلنا العزيز معزولا ويتجنب الانشطة الاجتماعية للاساتذة.

عندما كنت اعمل في جامعة براندن بمانيتوبا الكندية إلتقيت عدة مرات بشابة هولندية. كانت تعد رسالة ماجستير في هولندا وعلى وجه التحديد في الجامعة الكاثوليكية في نيْمَخِن (تغير اسمها لاحقا الى جامعة رادَباوت). كانت رسالتها حول الاغتصاب العائلي للفتيات داخل مخيمات الهنود الاصليين في كندا. في العادة يذهب الباحث الى تلك المخيمات ويجري مقابلات مع الفتيات او يوزع عليهن استمارات لإملائها. لم تتبع الشابة الهولندية هذا الاسلوب لأن اجوبة الفتيات لن تكون صادقة في الجو العائلي او جو المخيم حيث يعرف سكانه بعضهم البعض. اختارت الشابة الهولندية اسلوبا ذكيا. كانت تذهب الى البارات والمراقص التي تذهب اليها فتيات المخيم وتبني معهن علاقة صداقة وثقة تحصل من خلالها على معلومات دقيقة عن الاغتصاب العائلي لهن. اعجبني اسلوبها الذكي وترك عندي انطباعا لم انساه.
في الاسبوع لبداية عملي ذهبت لأمارس الرياضة في المركز الرياضي لجامعة أيندهوفن عندما رأيت وأنا امارس الهرولة تلك الشابة. تبادلنا النظرات وشعر كلا بأننا التقينا سابقا. رغم مرور بضعة سنين على لقائنا في براندن تذكرتها بسرعة بينما اخذت منها ثوانٍ اكثر لتتذكرني او هكذا تظاهرت. سألتها إن كانت تعمل في الجامعة فأجابت بالايجاب وقالت انها تعمل في احد الاقسام الصغيرة. لم أرها بعد ذلك في المركز الرياضي. بعد بضعة اسابيع ذهبت مستفسرا الى القسم الصغير الذي ذكرت انها تعمل فيه لكني تفاجئت بأن احدا لم يسمع بها. بحثت عن اسمها في كاتلوغ الجامعة فلم اجده. مرّت شهور دون اراها مرة اخرى. في طريقي الى المركز الرياضي مع احد الزملاء ذكرت له قصتها. قال لي ان المركز الرياضي يدقق هويات الرجال العاملين في الجامعة لكنه لا يفعل ذلك مع النساء القليلات العدد في الجامعة لان ذلك قد لا يشجعهن على القدوم الى المركز الرياضي وإن الاحتمال كبير جدا ان تلك الشابة لم تكن تعمل في الجامعة وكانت تستغل هذا الوضع لممارسة الرياضة في المركز الرياضي وإن تعرّفي عليها قد عرّضها لأكتشاف خدعتها. قلت له لو قالت لي هذا لعيّنتها في افضل وظيفة في الجامعة وإنفجرنا بالضحك. الذكاء فنون.



#علاء_الدين_الظاهر (هاشتاغ)       Alaaddin_Al-dhahir#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- دردشة عن بعض الزملاء 1
- فايروس كورونا يفضح الاديان
- ناظم كزار مجرم قاتل وسافل
- الازمة التورنغية في المانيا
- رحيل عزيز الحاج
- الله هو الحقيقة والحقيقة هي الله؟
- حرب حزيران في الذاكرة: هزمتنا النسوان
- شر البلية ما لا يجعلك تفكّر
- العرب لا يقرأون والحرب اليمنية
- هل كان نوري السعيد فعلا داهية؟
- انقلاب 17 تموز 1968
- إضافة ل عمالقة الرياضيات في التعليم الثانوي
- بعض عمالقة الرياضيات في التعليم الثانوي
- بائس من زمن البائسين، هادي خماس ومذكراته
- مستوى حكام العراق منذ 1968
- العبرة بين بيع الاوهام والاكاذيب والحقيقة
- يان (يوهانس) آرتس استاذ الديناميكية التبولوجية في دلفت
- الدكتور لو
- الذكرى الستون لثورة 14 تموز
- مصيبة مصائب العراقيين بهؤلاء


المزيد.....




- كاميرا مراقبة ترصد لحظة اختناق طفل.. شاهد رد فعل موظفة مطعم ...
- أردوغان وهنية يلتقيان في تركيا السبت.. والأول يُعلق: ما سنتح ...
- صحة غزة تعلن حصيلة جديدة لضحايا القصف الإسرائيلي
- الدفاع الروسية تكشف خسائر أوكرانيا خلال آخر أسبوع للعملية ال ...
- بعد أن قالت إن إسرائيل ترتكب إبادة جماعية في غزة.. أستاذة جا ...
- واشنطن تؤكد: لا دولة فلسطينية إلا بمفاوضات مباشرة مع إسرائيل ...
- بينس: لن أؤيد ترامب وبالتأكيد لن أصوت لبايدن (فيديو)
- أهالي رفح والنازحون إليها: نناشد العالم حماية المدنيين في أك ...
- جامعة كولومبيا تفصل ابنة النائبة الأمريكية إلهان عمر
- مجموعة السبع تستنكر -العدد غير المقبول من المدنيين- الذين قت ...


المزيد.....

- سيرة القيد والقلم / نبهان خريشة
- سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن / خطاب عمران الضامن
- على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم / سعيد العليمى
- الجاسوسية بنكهة مغربية / جدو جبريل
- رواية سيدي قنصل بابل / نبيل نوري لگزار موحان
- الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة / أيمن زهري
- يوميات الحرب والحب والخوف / حسين علي الحمداني
- ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية / جورج كتن
- بصراحة.. لا غير.. / وديع العبيدي
- تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون / سعيد العليمى


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - علاء الدين الظاهر - دردشة عن بعض الزملاء 2