أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صباح هرمز الشاني - التناص في رواية الحلم العظيم















المزيد.....


التناص في رواية الحلم العظيم


صباح هرمز الشاني

الحوار المتمدن-العدد: 6541 - 2020 / 4 / 18 - 16:59
المحور: الادب والفن
    


الحلم العظيم ...لأحمد خلف


قلة من الروايات يمكن كتابتها بأتجاهين، أحدهما إيجابي والآخر سلبي، ورواية (الحلم العظيم) لأحمد خلف إحدى هذه الروايات التي أستطاعت من خلال تناص أحداثها وشخصياتها مع الروايات العالمية المعروفة، أن تنحو هذا المنحى، وذلك عبر توظيف هذه الأحداث والشخصيات، وتغيير مسارها بأتجاه آخر وقراءة جديدة. متمثلا الإتجاه الإيجابي بإنكباب بطل الرواية (عبدالله) على قراءة الكتب الأدبية، وسعيه لإنقاذ شقيقه الذي سقط من فوق السطح من علته، ومصادقته لمجموعة من الشباب الذين ينتمون الى حركة يسارية في نهاية الستينيات، أتخذت من أهوار الجنوب مأوى لها لضرب حكومة بغداد، وحلمه بأن يصبح كاتبا وينشر في الصحف والمجلات. والإتجاه السلبي بعزلته وشكوكه وعناده مع أصدقائه، والتخلي عن متابعة دروسه المدرسية لصالح الكتب الأدبية، وعدم الإلتفات الى العوز الذي تعاني منه أسرته، لإنصرافه الى المرأة الجارة، وزوجة أب صديقه.
تقع هذه الرواية في ثلثمائة وثلاث صفحات، وتتكون من خمسة فصول، موزعة هذه الفصول على وحدة النظام الترقيمي، لينال الفصل الأول والثالث، بنصيب خمسة أرقام لكل واحد منهما، والفصل الثاني أربعة أرقام، والرابع والخامس ستة أرقام لكل واحد منهما. وتدور أحداثها حول شاب ما زال يتلقى دروسه في المرحلة الأعدادية، ويعيش مع والده العاجز عن العمل ووالدته وشقيقيه، الأكبر منه عسكري، والأصغر عليل، طريح الفراش، في حي فقير تعج أزقاته الضيقة ببرك المياه الآسنة التي تغرق بمياه الأمطار في فصل الشتاء. في هذا الحي الذي تسكن فيه مختلف الأجناس، يقيم هذا الفتى بعلاقة حب مع جارته السمراء التي تفضي الى قتل زوجها من قبل كليهما، وتتزامن هذه العلاقة مع علاقة حب أخرى، وهي زوجة أب صديقه الماركسي (جلال كريم).
بالرغم من أن المؤلف بتوقيعه المؤرخ في أيلول عام 2003 مرة وعلى لسان بطله الذي هو (فتى، وولد، ومؤلف)، في المرة الثانية الذي يدعى (عبدالله) يقول: ( إنه ليس صحيحا أن نقلد أبطال الروايات كما لو كانوا أشخاصا حقيقيين أو أنهم مجرد أصدقاء مخلصين لنا، وإذا كان تقليدهم يغرينا، خصوصا في بدايتنا أو خلال تولعنا في سير أحداث رواياتهم، فلا مناص من تمردنا عليهم بعد حين من الزمن. . . الخ)، بالرغم من ذلك، فإن بنية هذه الرواية تعتكز على هذا المفهوم، أي أن زعم المؤلف وبطل الرواية على حد سواء، ليس إلآ زعما مراوغا، بهدف إقناع المتلقي بأن أبطال روايته هذه لا تقلد أبطال الروايات العالمية المعروفة، بدليل أن بطلها (عبدالله) من بداية الرواية، يقوم بتبادل المواقع مع بطل حكايات (ألف ليلة وليلة) =(الحمال)، ويستمر بإتباع هذا النهج على إمتداد الرواية، مرورا وإنتهاء بتبادل المواقع مع مجموعة من أبطال الروايات التي قرأها من أمثال رواية (الجريمة والعقاب) لدوستوفيسكي مع راسكيلينكوف، بالإضافة الى الروايات التي تركت في نفسه أثرا عميقا كروايات البيركامو وسارتر وهمنغواي وأندريه جيد. وما يؤكد أن بطل هذه الرواية يقوم بهذا الدور، ليس في حكايات الف ليلة وليلة فحسب، وإنما في كل الروايات التي يعول عليها في هذا الشأن، هو عدم وجود شخصية (عبدالله) مثلا، في حكاية (الحمال مع البنات الثلاث)، إلآ أن السارد بلعبة فنية في غاية الإتقان، وهي إستخدام مفردة: (يفعل) في صيغة المضارع بدلا من مفردة (فعل) في صيغة الماضي، يصرف الحمال من حكاية الحمال والبنات الثلاث التي جاءت في الليلة التاسعة في سلسلة سرد هذه الحكايات، ويحل محله عبدالله الفتى في الرواية، وذلك من خلال إضافة جملة :(ويفعل الفتى ما فعله الحمال في سيره وراء الفتاة) الى جملة :(فعل الحمال ما أمر طائعا). والدليل الثاني الذي يؤكد أن البطل يسير على هذا النهج، هو هذه العبارة التي تأتي على لسان السارد: (وتمكن الآن بفعل هذه المخيلة من تبادل المواقع مع الحمال).
ولكن اللافت للنظر، أن هذا المنحى، في تبادل المواقع، لم يقرن تأثيره بالسارد، بما يحدو من أبطاله مقلدين لأبطال الروايات، بقدر ما جاء لتغيير مسار بطله بإتجاه آخر، والتمرد على أبطال الروايات التي يتبادل المواقع معها. في هذا الجانب وهو الشطر الثاني من زعم المؤلف تزول نزعة المراوغة، بإستثناء بطل واحد في الرواية، بدلا من أن يتمرد عليه، ينجذب اليه، أو هكذا يبدو للوهلة الأولى، بأن السارد عبر تعاطف بطله عبدالله مع الفلسطيني بدلا من صديقيه الآخرين، أتخذ موقفا منحازا له، ولكن في الحقيقة، وهذا ما سنأتي عيه لاحقا، يدع شخصيته هذه أن تنمو وتتطور على سجيتها، دون أن يتدخل هو في تغيير مسار حياتها، كما يهوى ويشاء. وبمناسبة الشق المراوغ، أن عبدالله بعد أن قرأ رواية الأبله لدوستوفيسكي: (تخيل نفسه نصيرا ومؤازرا للأمير مشكين إن لم يكن قد أستبدل معه المواقع. . .). ولكي يكون بطل هذه الرواية أقرب الى شخصية الأمير مشكين، وأكثر شبها به، يقارن السارد بين البنية القوية الخشنة لبطله بالبنية الرشيقة لمشكين، (وبراءة أفعاله وضياعه وسط من الرعاع وشذاذي الآفاق أو من تابعي سياسة القطيع. . .)، مثله مثل عبدالله الضائع وسط أصدقائه الذين لم يقدموا له المشورة وآثروا الصمت على منزلقه الخطير بإتجاه المرأتين. وفي إشارة واضحة الى براءة فعله، مثل فعل مشيكن أيضا، في جلب الحقيبة المملوءة بأسلحة ثوار الأهوار الى منزلهم، مع أنه غير ملتزم حزبيا بهذه الجماعة.
ولأن شخصية بطل هذه الرواية، شخصية قلقة وغير مستقرة على حال، وتجتمع فيها كلا الصفتين الخير والشر في آن، وتتصرف في كثير من الأحيان بعدم إكتراث، ربما لقراءاته لأعمال سارتر وكامو، ووقوعه تحت تأثيرهما، فلا عجب أن يشبهه صديقه الفلسطيني بألبير كامو. وهو يقول له: ( آه، أنت تشبه ألبير كامو لقد نسيت ذلك، أنت وجودي النزعة منذ غادرت بطن أمك، حسنا عليك أن تحدد مع من وتقلد من ؟).
وجه هذا التشبيه له من قبل صديقه الحمراني لإتهام أحدهما الآخر بتقليده في الصوت والحركة، الأمر الذي دفعه أن يتخيل نفسه (راسكولنكوف) بتقليده بضرب البلطة برأس الرجل البريء، بدلا من رأس المرأة العجوز وهو يقول: (لو كانت النقود معي لأرسلته الى أشهر طبيب). في إشارة الى شقيقه العليل. ليلتقي الهدف من الجريمة في النقطة نفسها في كلا الروايتين، وهو العوز المادي، ولكنه يختلف معنويا، من حيث إقتران جريمة القتل في الجريمة والعقاب بالعوز الشخصي، والمنفعة الذاتية، بينما في روايتنا هذه بالعوز الإنساني الآخر، بمنآى عن الذات.
مثلما أحتل عبدالله موقع الحمال في ألف ليلة وليلة، وأتسم ببراءة الأمير مشكين في الأبله، كذلك فإنه لا يجيد تقليد شخصية راسكولنكوف فحسب، وإنما تشبه شخصيته شخصية راسكولنكوف الى حد كبير، وعلى وجه الخصوص من حيث إشتراكهما بصفة عزلتهما عن الآخرين. فإذا كان بطل الحلم العظيم: (يمتلكه الإحساس العظيم بالعزلة عن الآخرين وتأثير المسافة الشاسعة أو المسافة العريضة وهو فيها وحيد دون الآخرين- معزول كالنقطة)، فإن بطل الجريمة والعقاب:(أزداد أنهماكه بنفسه وأزدادت عزلته عن الآخرين حتى أصبح فعلا يخشى لقاء أي إنسان وليس السيدة فقط). وتوخيا للدقة، فإن أوجه التشابه بينهما، تتجاوز هذا الحد وصولا الى الشعور بالقلق الذي ينتابهما بعد تنفيذ جريمتهما، يبلغ درجة قيامهما بأداء الحوار الداخلي مع ذواتهما (المونولوج):
الحلم العظيم: (كيف ستتصرف حين تنفد نقود الرجل بعد موته وأستيلائك عليها؟ وماذا ستفعل حين تصبح أنت وهي على مقربة من نار التجافي؟ ألم تصل كراهيتك لها حد القطيعة معها؟ وما الذي أعادك اليها، كيف ارتضيت الدخول معها الى البيت والأتفاق معها على قتل الرجل. .).
الجريمة والعقاب: ( . . . ماذا لو كانت جميع ثيابه مغطاة بالدم؟ وماذا لو كثرت اللطخات؟ وماذا لو لم يرها جميعها لأن منطقه أصبح منهكا وأنفصل؟. . أه ذلك يعني وجود دم في جيبي لأنني وضعت المحفظة هناك وهي ما زالت رطبة!).
ولكن هذا التشابه بين الشخصيتين يحوله السارد في رواية (الغثيان) لسارتر في روايته (الحلم العظيم) الى التمرد على الشخصيات السلبية، تحديدا شقيق البطل، لا لأنه بعثي فحسب، وإنما لأنه أيضا ينصحه بتقديم أوراقه الرسمية الى الكلية العسكرية، وهو مطمئن الى نتيجة قبوله فيها، متجسدا هذا الرفض في الحوار الدائر بين البطل وشقيقة صديقه جلال كريم، عندما تراه مرتبكا، لتصورها أنه خجل منها، ليرد عليها بالعبارة التي قرأها في رواية الغثيان : (أبدا بل أشعر بالغثيان يملأ حنجرتي). غير أن إندهاش الفتاة سرعان ما أدركه بخطأ تقليده لأبطال الروايات، والصحيح هو التمرد عليها، ليتخذ هذا القرار فورا من خلال تذكر صورة شقيقه العسكري وهو يقول مع نفسه: (حين قلت لشيماء، أشعر بالغثيان كانت صورة شقيقي قد أختفت من رأسي وتبخر كلامه كأني تقيأته مع الكلمات عند باب البيت).
كما أنه يوظف رواية (مزيفو النقود) لأندريه جيد التي يواجه فيها الأولاد آبائهم، لروايته هذه، الآباء بأعتبارهم سلطة، والأبناء شعب، من خلال مصادقة بطل الرواية مع مجموعة من الشباب اليسار وتعاطفه وتعاونه معهم، سواء كان عن طريق جلب حقيبة السلاح الى منزلهم، أو الرسالة التي يبعثها له جواد الحمراني بواسطة (الطارش). لتتحقق نبوءة السارد في هذا التمرد، بعد مرور عشر سنوات على كتابة هذه الرواية، في ثورة الشباب التشرينية. ومثلما يوظف السارد ثيمة هذه الرواية في روايته، كذلك فإنه يستفيد من تقنيتها في إستخدامها لتقنية رواية داخل رواية، وتقنية تصوير الحالات السايكولوجية للبطل ومشاعره،
وإذا كان بطل هذه الرواية قد تمرد على أبطال روايات دوستوفسكي وكامو وسارتر وهمنغواي بهذا القدر أوذاك، فإن تمرده على أبطال حكايات ألف ليلة وليلة، يبدو أكثر إتساعا وتأثيرا قياسا في تمرده على أبطال الروايات السالفة الذكر، ذلك أنه أستمد مفهوم الحرية من حكايتها في (حكاية حمال بغداد) التي جمعت الصعاليك والحمال مع الخليفة هارون الرشيد ووزيره جعفر البرمكي :(وهو يرى ويلمس أن الجميع يملك الحق في الكلام. . ). والبنات الثلاث في دعوته الى الدخول في منزلهن: (تسمر في مكانه لبعض الوقت وتحير، من أين لها ان تعرف أسمه وتناديه به كأنها عاشت معه أياما طوال، ولما تقدم أخذته من يده برفق وأدخلته معها. . ). بالإضافة الى حكاية الشاب الذي حفر حفرة عميقة وأغلقها على نفسه، وحكاية المركب المقرونة بدعوة صديقة الشاعر الى منزلهم لتناول السمك بإعتباره مديرا للمدرسة.
إن حكاية الحمال مع البنات الثلاث حفزت وعيه للتفكير بالتناقض الذي يراه بين الواقع الذي يعيش فيه وبين ما يحلم به، الأمر الذي جعله لأن يعمل في تغيير هذا الواقع. وهو يرى بزوال الفروقات الطبقية في منزل شهرزاد، لعدم إنسجام الواقع الذي يعيشه في القصر مع البنات الثلاث والخليفة والوالي مع واقع الحياة التي تعيشها عامة الناس: (ولكن أي واقع ذاك الذي عاشه المؤلف، ذلك الواقع المرير وقد أتسم بالحرمان وشظف العيش مما ولد في نفسه الإصرار بإستيدال عالمه الضيق بعالم آخر). أما حكاية الشاب الذي حفر حفرة وأغلقها على نفسه، فهي حكاية السندباد البحري الذي بعد أن تموت زوجته، يدفن معها حيا، وهو تقليد يتبعه أهل البلد الذي رست به سفينته، والشيء ذاته ينطبق على المرأة بعد وفاة زوجها. وبعد فترة يموت أحد رجال البلدة، وتدفن معه زوجته، حيث يلتقي سندباد البحري بزوجة الرجل المتوفي، وتقوم علاقة حب بينهما. ولكن السارد بهدف أن يمنح الشاب روح التمرد والعزلة التي يتمتع بها بطل الرواية، من خلال إختياره بإرادته في حفر قبر لنفسه، وليس بإرادة الآخرين، كما جاء في حكاية السندباد البحري، فقد عمد في تغيير مسار بطل حكاية ألف ليلة وليلة من إرغام الشاب على دفنه الى فتح القبر بنفسه.
وبقدر ما منح هذا التغيير التوازن بين الشاب وبطل الرواية، بالقدر ذاته أكسب إنسجاما بين مكان تواجد البطل مخفيا داخل الصندوق، وبين المكان الذي دخل فيه وهو القبر، ولكن الثاني بإختياره، والأول رغما عنه. ولإقتران الأول كذلك، بسياقه الى وضع صعب، ولغرض تجاوزه، أعادته مخيلته الى الحوار الدائر بينه وبين المعلم حول الملك اليتيم: (ذلك أن عينيه عثرت على فتحة مستديرة بحجم الدرهم الفضي الذي كانت ترتسم على إحدى وجهيه صورة الملك فيصل الثاني). ليؤدي الإضطهاد الذي تعرض له على يد المعلم، لأنه عارضه، بتحفيز وعيه لوجود فروقات بين القوي والضعيف، ويطرح عليه هذا السؤال: لماذا يزداد الأغنياء ثراء بينما الفقراء يموتون جوعا؟ فضلا عن الصفعة التي تلقاها من حماية الملك لأنه أخبر الملك أن الحكومة سجنت والده لأنه تكلم عنها بسوء.
إن أستذكار الفتى لماضيه المفعم بالشجاعة في صندوق صغير، وفي وقت لا يحمد عقباه، دليل على تسلحه بالوعي الذي يؤهله للنجاة من محنته، وهذا الوعي إيحاء في تأثره بروايات كامو وسارتر وفكرهما الداعي الى الحرية والتمرد، هذا الفكر المتمثل لهذين المفهومين الذي يتضح أكثر فيما بعد في الرواية.
إن تجسيد الفتى بهذه الصورة، مستعيدا ماضيه، إنما هو بناء رواية داخل رواية، بناء صندوق مغلق داخل غرفة مغلقة، وبناء غرفة مغلقة داخل فضاء واسع مغلق، (في الخارج). وبدلا من أن يخلق السارد اليأس داخل الفتى، يولد عنده التفاؤل، لأن وضعه هذا يذكره بالشاب الجميل الذي حفر حفرة و دفن فيها نفسه، الى أن جاءت إمرأة وحفرت في المكان نفسه وعاشت معه وأنقذته. أقول اليأس، لأنه بالإضافة الى ما هو فيه، يشاهد حشرة تدب أمام عينيه في الصندوق، لتذكرنا هذه الحشرة داخل الصندوق بقصة المسخ لكافكا، ذلك أن الصندوق لا يتسع للفتى مثل بطل كافكا: (ليس المكان من السعة بحيث يستطيع السيطرة على ذراعيه أو يديه، ولا يسمح له بالحركة إذ هي محدودة جدا. وإذا أراد التنفس بعمق وكمية كافية سينتبه الرجل وسيكون له بالمرصاد. .).
سقوط الصبي من أعلى السطح، وإصابته بعاهة، وصعوبة شفائه منها، إمتداد لسقوط عبدالله، بين أحضان المرأة جارته، وزوجة أب صديقه من جهة، وبين أحضان الفكر الوجودي والماركسي من جهة أخرى، ليؤدي السقوط الأول الى خيانة صديقه وقتل الزوج البريء، والسقوط الثاني الى إنهيار الحركة اليسارية التي وإن لم يكن منتميا اليها، إلآ أنه بشكل من الأشكال كان مؤيدا لها ويناصرها. ويتضح مديات تعاطف السارد مع عبدالله وبالعكس مع شقيقه العسكري في عدم تعاطفه من خلال تعامل الشقيقين مع إصابة الصبي لشفائه منها. فقد تعامل الثاني معه بعنجهية وعدم إكتراث وهو يقول: (له سبعة أرواح، لا تقلقوا بشأنه لن يموت). وفي مكان آخر: (العلاج يكلفنا كثيرا ولا نستطيع تدبير النقود). بينما تألم الأول له كثيرا، وأستلم خمسين دينارا من زوجة أب صديقه لعلاج شقيقه، (وترصين وضعه البيتي بوجود شقيقه العسكري الذي لا يكف عن تحريك والديه). وهو يقول: (سآخذه الى أفضل طبيب.).
وبهذه المناسبة، مناسبة إنحياز المؤلف أو عدم إنحيازه للطرف الذي ينتمي اليه بطله، ثمة روايات عراقية أخرى تصدت لهذه التجربة، كرواية (الرجع البعيد) لفؤاد التكرلي الذي أتخذ موقفا محايدا بين بطليه المنتمين لفكرين مختلفين، بينما أتخذ عبدالله صخي في روايته (خلف السدة) موقفا منحازا بإتجاه بطله الماركسي. أما في روايتنا هذه، ينحو المؤلف في نهاية الرواية منحى غريبا، أو هكذا يبدو بتعاطف عبدالله مع صديقه الفلسطيني الأقرب الى الفكر القومي- البعثي، قياسا بصديقيه الآخرين جواد الحمراني ومحمود عبد العال، مع أنه في أكثر من مكان في الرواية وعبر شقيقه العسكري المتمثل لهذا الفكر، أبدى عدم تعاطفه معه، وهو ينهي الرواية بهذه العبارة: (وفوجيء في داخله، قد أرتفعت بعض المصدات والحواجز تمنع داخل الحمراني أو عبدالعال الى صميم قلبه. كان الفلسطيني وحده يقترب رويدا رويدا من عصب القضية كلها). لا لأنه عسكري وبعثي فحسب ويكره الكتب، وإنما لأنه أيضا بالإضافة الى معاداته للفكر الذي ينجذب اليه شقيقه، يسعى على إنخراطه الى الكلية العسكرية.
ولعل هذه الإشكالية القائمة، أو الغموض الذي يلف موقف السارد، يقودنا الى التحري عن الأسباب الجوهرية التي أدت ببطل الرواية الوحيد (عبدالله) أن يتخذ هذا القرار في نهابة الرواية. كما أن هذه الإشكالية هي الاخرى تقودنا بدورها لأن نتسائل عن مدى توظيف هذا الخطاب في البنية السردية للرواية.
إن تحلي عبدالله بشخصية غير مستقرة، وإتصافها باللايقينية، وبالمقابل تميز بنية الرواية بصيغة الإنتهاك الشكلي، هذه الصيغة التي لا تعول على قواعد السرد التقليدية، ما حدا بالسارد أن يسرد أحداثه ويرسم شخصياته دون إهتمام بتسلسل الأحداث ونمو الشخصيات. وليفضي هذا التلاقح بين اللايقينية والإنتهاك الشكلي الى خلق نوع من التوازن بين هاتين التقنيتين، وذلك من خلال الإحتفاظ بلا يقينية البطل، وإنزياحية بنية السرد من الخارج الى الداخل.
ولعل أبرز الإشكاليات التي دفعت السارد لأن ينحاز بطله عبدالله في نهاية الرواية بإتجاه الفلسطيني دون صديقيه الآخرين، هو بالإضافة الى الظرف المادي الصعب الذي تمر به أسرته، تهميشه من قبل أصدقائه، ومعاناته من الكبت الجنسي. الإشكالية الأولى من خلال إعتماد إعالة الأسرة على راتب شقيقه العسكري الضئيل الذي لا يكفي لسد حاجات خمسة أفراد، وتأثير شخصية الممول الوحيد بما يحمله من أفكار قومية على والديه وشقيقه الصغير، والى حد ما به أيضا. والإشكالية الثانية عبر عدم توجيه أصدقائه له لأخطائه، سيما التي تخص بعلاقاته الجنسية مع المرأتين، هذه الأخطاء التي لم يتحسسها إلآ في وقت متأخر، ولربما بعد تكليفه بأخذ حقيبة السلاح الى منزله، الأمر الذي قد دفعه الى المقارنة بين تهميشه من قبل أصدقائه أثناء وقوعه في خطأ، وعدم توجيهه الى الطريق السليم، وبين توريطه أثناء حاجتهم اليه.
كما أن قراءته وفي سن لا يؤهله لفهم روايات كامو ودوستوفيسكي وسارتر، هي الأخرى لعبت دورا كبيرا في تشوش فكره وعدم إستقراره على رأي واضح وثابت في تقديره لأمور الحياة وما يجري فيها من تعقيدات بصورة سليمة وصحيحة. ولعل تسليط السارد، تحديدا في نهاية الرواية وبشكل مكثف على منولوجاته، يؤكد أن عبدالله ليس في قواه العقلية السليمة.
تبدأ الرواية شروعا من نظامها الترقيمي الأول بأسلوب السرد الموضوعي الذي يعول على السارد العارف بخفايا ومكنونات شخصياته وأسرارها، والذي يستعين بضمير الغائب (هو)، ويعمد الى نعت الأحداث التي تشهدها أبطال روايته، كما في الجملة التي تبدأ بها الرواية: (ذات ليلة باردة أكتشف الولد، ان همس المتزوجين في غرفة النوم، يسمع بعد الحادية عشرة. .). ومعرفة ما يدور في خلدهما كما في جملة: (هي التي تطلب منه الولد، بينما كان الزوج يريد منها بنتا جميلة). ووصف المكان، كما في الجملة التي تلي الجملة الأولى: (ولأن نوافذ البيوت تكاد حافاتها تلامس أرض الزقاق، فإن الكلمات تعبر اليه واضحة، وكذلك في جملة: ( والزقاق خال..).
في الصفحة الأولى من النظام الترقيمي الثاني للرواية، يتحول السرد الى السرد الذاتي الذي يعتمد على ضمير المتكلم (هو)، إبتداء من جملة: ( الحق أقول، كنت في ذلك الوقت. . )، وفي الصفحة الثانية والثالثة والرابعة يعود السرد ثانية الى السرد الموضوعي. ويتبع السارد هذا الأسلوب في الصفحة الأولى والثانية والثالثة من الترقيم الثالث. ومن جملة: ( تذكر أن الملك زار مدرسة الأيتام في الكاظمية)، يتحول السرد الى السرد المتخيل، وذلك بإستخدام الفلاش باك. وفي النظام الترقيمي الرابع يتبع السارد نمط الأسلوب ا لمباشر، حيث يسمح السارد في معرض حديثه عن الشخصية، أن تنطق بصوتها: (يعرف المؤلف في قرارة نفسها، أن بعض الكلمات تترك في أعماقه حيزا لا تزيحه الأيام بيسسر مهما تقادمت). وهكذا على إمتداد الرواية يسعى المؤلف الى طرق أبواب الأساليب السردية المعروفة في الرواية الحديثة، وهو بذلك يمارس تجربة الميتا سردية بحرفنة.
بالرغم من أن الرواية تتمحور حول شخصية واحدة، وأنها قبل نهايتها بقليل تتحول الى رواية مونولوجية، لتضييق الخناق على البطل، وفشل حلمه، إلآ أنها بتعدد الأصوات الموجودة فيها، أستطاعت أن تحافظ على نمط بروز هذه الأصوات من خلال كونها رواية بوليفية. ولكن أهمية هذه الرواية وقوتها من وجهة نظري، تستمدها من صوت البطل المهيمن على الرواية وليس تعدد الأصوات فيها.



#صباح_هرمز_الشاني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رواية النبيذة. . . ولعبة منحى الميتا سردي
- رواية النبيذة. . . ولعبة منحنى الميتا سردي
- نجمة البتاوين....
- خلف السدة...
- المنعطف. .
- تل المطران...
- تمر الأصابع. . لمحسن الرملي
- ابناء و أحذية بين أكون أو لا أكون .. و بين .. إقناع الشيء مق ...
- مسرحيات فريدريش ديرنمات بين الكوميديا السوداء وإختلاف الشخصي ...
- مسرحيات يوسف العاني بين الرمز والموروث الشعبي . .
- في مسرحيتين لفيليمير لوكيتش
- بين شفرات الحافلة
- مسرحيات سترندبيرغ . . . بين الخيانة الزوجية وإقتران البداية ...
- مسرحيات أبسن= إسترجاع الماضي + المناقشة + الشخص الثالث.
- مقاربة بين مسرحيات سترندبيرغ وأبسن
- جدلية الانتماء والخيانة في مسرحيات يوسف الصائغ
- مسرحيات توفيق الحكيم....والمسخ
- مقاربة بين روايتي الكافرة و حجر الصبر
- الرجع البعيد بين تقنية الأيحاء وعملية التطهير
- وحدها شجرة الرمان . . بين تقنية المكان. . وعملية التناص


المزيد.....




- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب
- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...
- -الضربة المصرية لداعش في ليبيا-.. الإعلان عن موعد عرض فيلم - ...
- أردوغان يشكك بالروايات الإسرائيلية والإيرانية والأمريكية لهج ...
- الموت يغيب الفنان المصري صلاح السعدني
- وفاة الفنان صلاح السعدني عن عمر يناهز الـ 81 عام ….تعرف على ...
- البروفيسور منير السعيداني: واجبنا بناء علوم اجتماعية جديدة ل ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صباح هرمز الشاني - التناص في رواية الحلم العظيم