أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - زهير الخويلدي - تلازم التأويل والأنسنة في التجربة الدينية















المزيد.....



تلازم التأويل والأنسنة في التجربة الدينية


زهير الخويلدي

الحوار المتمدن-العدد: 6494 - 2020 / 2 / 18 - 23:40
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


استهلال:
" إن التوترات التي تترتب عن هذه العلاقة بين اللّغة الخاصة للإيمان وبين الوساطات المفهومية المقترضة من الثقافة المحيطة والمركزية قد غذّت قسما من النقاشات الداخلية للفكر الغربي سواء تقبلت ميراث الكتاب المقدس أم لفظته"1
لم يعد الدين يجد نفس الاندماج في الحياة الاجتماعية الذي كان يلاقيه في الماضي بسبب التغييرات التي أوجدتها المقاربات التقنية العلموية في تلقي المعارف الغيبية و بعد تمرير المعتقدات الشعبية على محك نقد المسار التطوري التراجعي للنصوص التاريخية، ولم تصبح عملية إيجاد موقع للتجربة الدينية في الثقافة المعاصرة تتم بسهولة وتجد طريقها إلى النجاح دون صعوبات بعد تجفيف النواة الرمزية وانقطاع الناس عن التوجه نحو الأبعاد المطلقة وعزوفهم عن النظر إلى الأفكار المتعالية وانغماسهم في النسبي والمادي.
لقد قامت الحداثة بتشويه سمعة الظاهرة الدينية واختار رواد التنوير نماذج العقلانية الجذرية والعلمنة التامة وحاولوا التخلص من الاعتبارات الماورائية واحترسوا من الواجبات الأخلاقية وشاركوا في خلع الهالة عن العالم ونزع القداسة عن الحياة المشتركة وفضلوا في المقابل التقنية والصناعة والفن والتحضر. بيد أن الفكرة الدينية هي في جوهرها فكرة اجتماعية تعمل على تشكل الروابط الاجتماعية وتماسكها وبقائها ولم تقدر العقلنة الحديثة للمجتمع على إزالتها كليا من الحياة المشتركة وإقناع الناس بالتخلي عنها بصورة مطلقة لأنها أصيلة وضاربة بجذورها في أعماق النفس البشرية ولحاجة الوجود الاجتماعي إلى الترميز والتخيل والاعتقاد من أجل دعم وفهم تباين الموجودات في هذا العالم، ولقد لُوحِظ اليوم حركة إحياء تعيد تمجيد الكثير من أشكال التدين التي تستعيد الفضاءات التعبدية التي بنيت على تصورات تقليدية.
إن إعادة الاعتبار للتجربة الدينية من حيث هي عنصر مؤثر في الحياة الإنسانية وبُعد من أبعاد الوضع البشري يتطلب الذهاب إلى مابعد التغييرات البنيوية وإنتاج معنى للوجود البشرى بالرغم من حالة التشرذم والتفكك التي عصفت بالقيم والمبادئ ومؤسسات المجتمع قصد التحديق في أوجه المقدس وترميم شذراته. لعل الانتقال من البحث في الخطاب الديني وتأثيره على الفعل الإنساني إلى تناول التجربة الدينية في حد ذاتها ورسم قدرتها على إنتاج المعنى يتطلب تسليح الضمير البشري بالقيم الكونية والمبادئ التوجيهية الراقية ويستدعى إعادة النظر في التنافر القائم بين التأويل والأنسنة في الممارسة الاجتهادية والتوقف عن تغليب الأبعاد الغيبية على الحاجات الإنسانية والمقدس على العادي والكف عن استهجان الحركات التأويلية والممارسات التجديدية بالنظر إلى ما ترتب من تخفيض لمنسوب الألوهية بالمقارنة مع الديني.
لقد ازدادت الحاجة إلى تحريك عملية التأويل في الفضاء الإيماني من أجل إعادة المصالحة بين الديني والإلهي وتدبير الإنساني في الحياة المشتركة بما يتيح التعايش والتسامح بين مختلف التفسيرات. بعد ذلك يجدر تفعيل الأنسنة في التجربة الدينية بأن يتم بتحويل اللغة الاعتيادية إلى فضاء تواصلي بين الاجتماعي والمدني والحقوقي وبأن يقع استدعاء ثقافة التنوير والمواطنة وحقوق الإنسان ضمن الوجود الاجتماعي. على هذا الأساس تكمن المشكلة في العلاقة التي يجريها الإنسان بالمعتقد الديني من جهة الفهم الضيق والاستعمال المغرض وتتضاعف الأزمة لما تخضع السياسة المعتقد لمصلحتها وتنافسها المنفعة المادية للمشتغلين بمجال المقدس والارتزاق منه وما سببته من أضرار كارثية على الدين والبشر في ذات الوقت. لقد جرت العادة أن إخضاع النص الديني للتأويل العقلي والمنهجية العلمية يفضي إلى منازعات مذهبية وصراعات سلطوية تعبر عن إرادة القوة ضمن إرادة المعرفة من طرف الفئة المهيمنة على المجتمع ولكن في هذا المبحث يمكن تنزل تجربة التأويل العلمي ضمن مسارات الأنسنة التي تستهدف العلمنة والتمدن وتجعل من المرافعة على الإنساني في الإنسان محور اهتمامها وتوجه غاية الأديان نحو احترام كرامته2 .
فماذا نعني بالتجربة الدينية؟ ماهي مرتكزاتها؟ ماهي استراتيجية التأويل المتبعة في ظل رمزية النص الديني؟أي دور للتأويل فيها؟ هل يقتضى إجراء التأويل المحدود أم التأويل اللاّمحدود؟ لماذا يأتي التأويل العقلي ليحل موضع التأويل اللغوي ويكون التأويل الفلسفي مكان التأويل التاريخي؟ ما الفرق بين التأويل الإجرائي والتأويل الغائي؟ بأي معنى يخضع النص القرآني للتأويل المذهبي والنظرة الذاتية؟ وكيف يمكن اعتماد تأويلا موضوعيا؟ وهل يتضمن النص الديني المعنى بصورة مجازية وينبغي على المؤول أن يقوم بفك شفرته أم أن الإنسان مطالب بأن ينتج المعنى من خلال عملية تأويلية تتفاعل فيها ثقافته المنهجية مع معطى السياق الاجتماعي؟ وهل يقتصر التأويل على العمل الوصفي للأحداث أم يتعدى ذلك نحو الرؤية المعيارية والتشريع القيمي؟ وكيف يساهم التأويل في تفعيل مسارات الأنسنة؟ وماهي تبعات ذلك؟
إذا كان الكائن الآدمي متناهيا ولامعصوما وكانت طبيعته هشة وتقبل إمكانية الوقوع في الخطأ من جهة، وإذا كان مسؤولا عن الاستخلاف في الأرض ومكلفا بوظيفة التعمير بعد تسخير موجودات الكون له من جهة ثانية، فكيف يستطيع تأدية هذه الأمانة وتحمل مسؤولية التدبير وهو غير قادر على فهم النص؟ و"هل أتي على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكور"3 ؟ وما العمل للتغلب على نسيان الالتزام الوجودي؟
ماهو في محك النظر وميزان العمل تخطي الجوانب اللاإنسانية التي تغطي الكلمة الطيبة وتحجب الرؤية الواضحة وتضع الدين في موقف مناقض للهدف السامي الذي تأسس من أجله وهو إنقاذ البشر من التيه في الكون وتسديد خطوات الإنسان نحو سلوك طرق الخير والفضيلة وزرع سبل الصلاح والرشاد وتشييد المدنية على الأرض والتغلب على الوحشية ومعالجة الهمجية وذلك بالعودة إلى الفطرة السليمة والبراءة الأصلية وتجديد ثقة الكائن الآدمي في ذاته وتسليحه بالاقتدار على الكلام والتبليغ والفعل والإبداع والتقدم.
1- خصائص التجربة الدينية:
"إن مسلمي اليوم يجدون صعوبة كبيرة في الفصل بين المكانة اللاهوتية للخطاب القرآني وبين الشرط التاريخي واللغوي للعقل الذي ينتج خطابات بشرية ارتكازا على العقل الإلهي"4
يوسع الإنسان من قدراته في التفاعل المثمر مع الوحي القرآني اذا ما تخلص من نظرته التقليدية له بوصفه النص المكتوب في صورة المصحف وتعامل معه في صيغة متجددة من الخطاب الحي والتجربة المعيشة.
إذا كان الخطاب الديني يغلب عليه الجمود والغلو والتكرار والبعد عن الراهن والانغماس في إحياء قضايا الماضي وتذكر الأحداث المنقضية ويشهد تركيزا على الغيبيات والترهيب بالحديث عن الموت والآخرة فإن أنسنته تتطلب تحيينه في الوجود اليومي وتكثيف إمكانيته على الترغيب والتيسير والإشادة بقيمة الحياة الدنيا وتقريب المعان من الأفهام والتطرق إلى المشاكل والتنبيه على المخاطر والتقليل من إصدار الأحكام.
تشير التجربة الدينية إلى تجربة المقدس التي يكون فيها الفرد في علاقة مع حقيقة متعالية معينة. يبدو أنها ظاهرة كونية عابرة للأديان والمذاهب وتوجد عدة شهادات وعينات منها في كل الثقافات وجميع الشعوب.
إنها ظاهرة تاريخية أكثر تنوعا وانتشارا تعتمد على تصورات عقدية نظرية وعلى طقوس وشعائر عملية ويمكن أن تكون التجربة الدينية تجربة فردية خاصة وقد تتحول في الغالب إلى تجربة جماعية مشتركة.
بعض التجارب الدينية تتمثل في إجراء استجواب الهي يجري فيه الفرد مساءلة مع نفسه بتوسط المطلق وتحمله الولادة الجديدة لبلوغ الهداية والتوبة وتكريس حياته للعبادة والتضرع وممارسة التقوى والخشوع.
لا يتعامل الناس مع أوامر الدين بنفس الطريقة على الصعيد الفردي ولكنهم ينخرطون في تجربة التدين الاجتماعي ويتركون هامش من الحرية والأخذ والرد في علاقة بالمقدس والمدنس على المستوى الفردي.
من ناحية أخرى يمكن أن يشتغل المؤمن أثناء تجربته الدينية على استقبال النعم الإلهية وممارسة التحمد والتشكر ويتسنى له تجديد الذهن والتكلم بلغات مغايرة والشفاء من الأمراض ويقتدر على الاستشراف. موضوع التجربة الدينية هو الذات الإلهية ولذلك نجد البعض منها يعمل على إثبات وجود الله والبعض الآخر يفضي إلى الاتحاد به والحلول فيه والمطابقة معه وقد يؤدي الأمر بالمتصوفة إلى إنكار وجوده5 .
يمكن للفرد أن ينخرط في تجربة دينية تنتهي بحدوث تحول روحي وخروج من معتقد والانتقال إلى آخر ويمكن أن تنتهي بالعودة إلى المطلق واكتشاف طريق الحق والتحرر من الصنم والعثور على الألوهية.
زد على ذلك قد تدور التجربة الدينية داخل الوعي وقد تحدث خارجه ولكنها في كل الأحوال تمثل محطة هامة في حياة الأفراد والجماعات وتمثل لحظة استبصار ووجود وتدفع إلى اليقظة الروحية والاستفاقة.
كما تتضمن التجربة الدينية العديد من الأفكار الفلسفية وتطرح الكثير من المشكلات الوجودية على غرار المبادئ الأخلاقية والهدف السامي من الحياة والمصير وإمكانيات الاعتراف واستثمار الحقيقة المتعالية.
والحق أن التشكيك في محتوى التجربة الدينية ظهر في علم النفس التحليلي مع فرويد وحديثه عن الكبت والتحويل والإعلاء والإخفاء والعصاب وتم تدعيم هذا الرأي من طرف العلوم العرفانية والعصبية راهنا.
تتكون التجربة الدينية من عناصر ثلاثة: جانب حركي يتمثل في التصرفات والإشارات ، وجانب فكري يتضمن التصورات والرؤى العقدية، وجانب لغوي يتشكل من الكلمات والملفوظات والعبارات والدعاوي ويوجد جانب ثابت على مستوى البنية مثل الطقوس والمعتقد وجانب متحرك مثل تجدد لغة الإيمان وتطور معنى الكلام المتلفظ أثناء الممارسة التعبدية وتغير أفق التقبل وأشكال التلقي الذي يواجه النص المرسل.
بيد أن العناصر الثلاثة تخضع لجدلية الثابت والمتغير أو المطلق والنسبي، وقد تكون التصورات العقدية والطقوس العملية أقرب الى الثابت والسكوني بينما تترجم اللغة المتداولة الحركية والتغير التاريخي للدين.
على هذا الأساس تصبح التجربة الدينية تجربة لغوية وتستوجب القيام بتجربة فنومينولوجية تعود إلى الإلهي في حد ذاته دون المرور بالأحكام المسبقة والانخراط في المقدس من خلال معاينة وجدانية وتجربة معيشة والتكلم بلغته وإنتاج المعنى عن طريق الحدس المقولي والتعاطف والتقمص والتقارب الدلالي.
والحق أن تحقيق المزيد من التأويل في المجال الديني يفضي إلى المزيد من الأنسنة في المجال المدني والاقتصار على الشرح والتفسير للنصوص الموروثة عن عصور التقليد يؤدي إلى تكوين أسوار عالية من الانطواء على الذات والجمود وإجبار العقل الفقهي على الاستقالة وإنهاء حركة الاجتهاد الفكري.
كما أن الإبقاء على الإحالة الذاتية للوحي عند القراءة دون ربطه بالواقع التاريخ والانتباه إلى التنجيم وأسباب النزول والناسخ والمنسوخ يجعل التجربة الدينية حبيسة التدين الشكلي واستعمال النفعي للمعتقد.
لقد تجاوزت التجربة الدينية المقاربات العلمية الحديثة وترجمة حقلا واسعا من التجربة الإنسانية ومثلت طقسا اعتقاديا منحت به معنى للحياة وعبرت من خلاله عن ألغاز الكون بواسطة الرموز والعلامات.
لقد ظل العالم الديني حاضرا بصورة أو بأخرى على الرغم من التقدم الحثيث لنسق التحديث والعلمنة وبرز ذلك على الصعيد الاجتماعي والنفسي من جهة تمتين الروابط الاجتماعي وتهدئة خواطر النفس المنزعجة والمتوترة بسبب فقدان المرجعيات التقليدية وكذلك من جهة الذاكرة الجمعية التي استمرت بقوة.
لقد أفصحت المعتقدات عن حضورها التاريخي عندما ساهمت في انبعاث الهويات الجماعية عبر تفاعل العوامل الرمزية والمعطيات الثقافية وحولت الطقوس المشتركة إلى عوامل إدماج للروابط الاجتماعية.
تعمل الأشكال الرمزية على تحقيق الانسجام بين الفوارق والاختلافات في المجموعات والأفراد خارج علاقات القرابة وتكثف من المعاني الرمزية التي تضفيها المجتمعات على تجاربها في العالم وصيرورتها التاريخية وتتيح للناس مواجهة القوى الغيبية وتفكيك الأوهام وجلب المنافع المادية والمصالح الدنيوية.
لقد تحول الدين في المقاربة الاجتماعية إلى قوة إحياء هامة وطاقة تجديدية للنسيج المجتمعي بالانطلاق من محاكاة النماذج الإلهية وعلمنتها في الحياة الأرضية وتحويل القيم السماوية إلى مشروع مدني إنساني.
إن تجاوز الاغتراب الديني الذي تعاني منه الطبقات الفقيرة ويسمح للفئات الميسورة بالسيطرة وإنتاج الأوهام لا يكون بتثبيت الدين بوصفه وادي الدموع وأفيون الشعب وإنما يتبلور بالكف عن تقديس الوثن والنظر إلى أن الدين على انه وسيلة لخدمة الإنسان ولا يجدر بأي إنسان أن يضحي بنفسه من أجل أي معتقد سواء مثلت الكرامة البشرية هي القيمة القصوى أو تم اعتبار الإنسان هو الغاية الفعالية من الدين.
لا ينحصر العامل الديني في القيم الأخلاقية الموجهة للسلوك البشري ولا يجب اختزال التجربة الدينية في الشغل الاجتماعي الذي تقوم به عند الربط والتنظيم ولا كذلك الوظيفة النفسية في منح التوازن بل يجدر السعي إلى التوغل في قلب ماهية الديني عن طريق التفكير في التجربة الدينية من خلال العناصر الدينية ذاتها واكتشاف المقدسsacré بوصفه العامل المشترك للتجربة الدينية والعنصر المنظم للحياة الدينية.
لا تعود رمزية المقدس إلى مجموعة الوسائط الرمزية التي يؤديها في الحقل الثقافي لما يقوم بتنقية الحيّز الطبيعي ودفع الشر بالخير بل تأكيده على النقاء والطهرية والسمو والرفعة والتجرد من الذنوب والأخطاء ودعوته إلى حياة دنيوية خالية من المدنس ومشبعة بالفضائل والأعمال الحسنة الواعي بواقع اللاّعصمة.
"هذا التحول من البراءة إلى الخطأ والمكتشف في وضعية الشر نفسه هو الذي يعطي لمفهوم اللاّعصمة كل غموضه العميق فالهشاشة ليست فقط المكان ولا الأصل... بل هي قدرة الشر.القول بان الإنسان خطاء يعني أن المحدودية الخاصة بالكائن الذي لا يتطابق مع نفسه هي الضعف الأصلي الذي ينبثق الشر"6 .
لعل تثوير التجربة الدينية وفق مقاربة تقدمية في المجتمع والتاريخ هي الكفيلة بتحويل المعتقد الغيبي من رؤية محافظة للكون إلى منهج اجتماعي في التغيير الاجتماعي وتحميل الإنسان الجمعي مسؤولية التحرر.
هكذا تتخطى التجربة الدينية حدود التجربة اليومية حينما تتعلق بالمبادئ المطلقة والمثل الأخلاقية وتمنح الكائن المتناهي فسحة الأمل وطاقة في الفعل يوظفها في تحويل ذاته من حالة الانفعال إلى وضع الارتقاء ويخرج من الانطواء واللاّتواصل مع العالم وكراهية الآخرين إلى المشاركة والتواصل البناء مع المجتمع.
لقد تحدثت العلوم الإنسانية بشكل مختصر عن التجربة الدينية في مجال الاجتماع والنفس والاقتصاد والتاريخ ولكنها تعاملت معها بوصفها متشابهة مع الظاهرة الطبيعة التي تعودت على تحليلها ومعالجتها وفق المقاربة الكمية الرياضية ووفق المنهج التجريبي للتثبت من مدى مطابقتها للواقع الطبيعي وانتهت إلى أحكام منقوصة واستنتجت آراء مقتضبة ونزلتها ضمن ظاهرة الدين الطبيعي وضمن التدين الوضعي.
لكن هل النص الديني هو المرجع الذي نتثبت من خلالها مدى الوفاء للألوهية والإخلاص والصدق في التجربة الدينية ؟ وما الداعي إلى ممارسة التأويل عند الرجوع للنص والبحث عن شروط التطابق معه؟
2- استراتيجية التأويل:
" إن إمكانية التأويلات المختلفة والمتضاربة على مستوى التقنية والرؤية ترتبط بشرط جوهري وهو سمة مشتركة للمستوى الاستراتيجي لهذه التأويلات... وهو أن الرمزية وسط للتعبير عن واقع غير لغوي"7
يظن الكثير من الناس أن ابتغاء التأويل هو ابتغاء الفتنة وأن المداومة عليه واعتماده الرسمي في التعامل مع النصوص قد ينتج عنه الزيغ ويسبب الاضطراب في النفس والمرض في القلوب ويم استبداله بالشرح وتعويضه بالتفسير ويوكل الأمر للعلم الإلهي طالما أن العلم الإنساني يعتريه النقص ويداهمه الزلل.
بيد أن حركة التأويل تتراوح في الذهاب بالمعنى بين الظاهر والباطن وبين الحقيقة والمجاز وبين المتشابه والمحكم وبين التعميم والتخصيص وبين القاعدة والاستثناء وبين المقيد والمطلق وبين الغرض والمقصد.
من المعلوم أن إعجازية النص القرآني تكمن في تضمنه جملة من العناصر التكوينية هي الرمز والعلامة والاستعارة والإشارة والمجاز والتخييل والأمثال والقصص والعبر والصور الفنية والأحداث التاريخية.
لقد تم اعتبار تأويل النص المقدس جزء من الإيمان بصدقية الدين لأن الاجتهاد بالنظر العقلي هو عمل إيماني واستجابة للمطلب الإلهي ولأن أهمية الفهم التأويلي للقرآن تكمن في قراءة الآيات واعتبار الكون وتدبير الوحي والاشتغال على استنباط الأحكام من المصادر واستخراج المعارف والاطلاع على الأسرار.
يشتغل التأويل على النص من جهة الجانب اللغوي فيه وكذلك من جهة الجانب الرمزي ويتقصى تأثيرات الظاهرة اللسانية والمؤشرات الدلالية على المعنى ويقوم بالمقارنة بين المعنى المباشر والمعنى غير المباشر وبين المعنى القديم والمعنى الجديد وبين المعنى المادي والمعنى الروحي وبين المعنى النهائي والمعنى اللانهائي وبين واحدية المعنى وتعددية المعنى وبين المعانى الخاصة والمعنى الجوهري وبين تقنيات البيان وأشكال الإيحاء وبين الخطاب الشفاف والخطاب الغامض وبين التلفظ والتناص وبين التهكم والسخرية ويبحث في التناقض والانقلاب والتورية والتعمية والتشبيك والتوضيح والتكثيف والتحبيك والتبئير والمحاكاة والتشبيه والإتلاف والاستبعاد ويقيس درجات الغموض والتوافق والتمثل والتكيف.
لقد اهتمت الهرمينوطيقا قبل القرن 20 بتأويل النصوص الدينية على غرار علم التفسير والفيلولوجيا ولكن بعد ذلك مثلت تيارا فلسفيا مستقلا عمل على تعميق مقاربة في الحقيقة وأسس نظرية فلسفية في التأويل. لقد ساعدت أزمة الأسس التي شهدتها المعرفة العلمية في جال إنتاج الحقيقة الموضوعية على الاعتراف بالقيمة الفلسفية للتأويل وتنامي دوره في مساعدة الناس على إعطاء معنى لوجودهم ووضعياتهم التاريخية.
لقد كانت الهرممينوطيقا تفيد تأويلية النصوص الدينية بالبحث عن إدراك المعنى في ممرات لا تحوز على معقوليته مباشرة ويشوبها الكثير من الغموض وغارقة في الالتباس وتحتاج للكثير من التجلية والتوضيح.
إذا كان الوحي يتضمن كلام الله من حيث هو المصدر الغيبي الأول والمنطلق الذي هبطت منه الرسالة إلى البشر بغية التلقي والاستفادة فإن افتراض وجود تعبيرات غير دالة وأقوال غير مفيدة هو أمر غير مقبول وبالتالي يجدر بالمتقبل افتراض وجود المعنى في النص بالتوازي مع شرف المرسل ورتبته الوجودية.
يتضمن النص الديني طبقتين من المعنى: معنى أدبي وهو ما يقوله النص بصورة حرفية ، ومعنى روحي وهو ما يدل عليه على وجه الحقيقة بصورة فكرية ، وتبعا لذلك تمثلت مهمة فن التأويل في إدراك المعنى المتخفي بالانطلاق من المعنى المتجلي بالاستعانة بالنحو والمنطق والفيلولوجيا والخطابة والشعر والبيان.
لقد صارت الهرمينوطيقا تدل بشكل ملموس على مجموعة من القواعد والإجراءات التي يجب معرفتها لقراءة النص بشكل صحيح وتخلى فعل التأويل عن عملية التخمين والافتراض وأصبح يفيد علم النص.
من الضروري تطبيق التأويل على النصوص الدينية في جميع الأحوال سواء كانت الحقيقة واضحة ومعطاة أو كانت متكتمة وغامضة وأيضا بغية فك شفرة المعنى الباطني من وراء المعنى الظاهري. لقد مثلت الهرمينوطيقا الدينية البارديغم التاريخي الأول الذي عمل على الربط بين الحقيقة والتأويل وجعل عمل التأويل مسارا فكريا يتوج ببلوغ الحقيقة سواء بالكشف عنها في النص أو بإنتاجها من طرف الذات.
بيد أن ميلاد الهرمينوطيقا الفلسفية ارتبط بالتفريق بين مطلب المعنى وقيمة الحقيقة وكشف عن غياب الحقيقة شرط إمكان قيام التأويل عبر إعطاء الدلالة للواقع وللحركة والحدث والرمز والكلام ونفي وجود الوقائع والإقرار بوجود التأويلات بالنظر إلى أن الهرمينوطيقا أحدثت منعطفا جديدا في مشكل الحقيقية.
يجب أن يقدر النص على قبول المعنى ويخضع لإرادة الذات المؤولة لكي يتحول إلى حقل تأويل ولقد ظهرت مؤسسات الثقافة والفن والأديان وعلوم الطبيعة والإنسان والفلسفة كتأويلات للعالم تخضع للتأويل. لكن ما الذي يتيح لنا التمييز بين التأويل السيئ والتأويل الجيد؟ هل يمكن رسم حدودا لتجربة التأويل؟
من هذا المنطلق تم اتخاذ مجموعة من القرارات التأويلية المصيرية:
- النص يقبل العديد من التأويلات وليس هناك تأويل واحد
- كل التأويلات الممكنة مشروعة وتحمل نصيب من الحقيقة
- معنى النص يندرج ضمن التاريخ وقابل للتطوير والتعديل
- يمكن البحث عن المعنى المشترك ضمن سياق تاريخي محدد.
- تفادي الاستعمال النفعي للنص الذي يبرر التدين الشكلي.
- ضرورة اعتماد الفلسفة التأويلية ضمن رؤية إيتيقية.
- استراتيجية التأويل تحول رمزية النص إلى حقل دلالي وقيمي.
- يعتمد العقل التأويلي على اللغة والمخيال والذاكرة والشعور.
- تشكيل وعي تأويلي يعتمد على تصالب مع الوعي التاريخي.
- معالجة الشر يتوقف على الانتقال بالدين من الأنطولوجيا إلى الإيتيقا.
يترتب عن ذلك اختلاف بين الدين في حد ذاته من حيث تحركه حول قيمة المقدس وأشكال التدين التي يتمثلها الإنسان وتجعله يوظف المقدس في تحقيق منفعة دنيوية ويؤدي ذلك إلى الإقرار بحق الناس في إبداء الرأي في تمثله للدين وتحليله ونقده وتجديده وتغييره وإسناد ملكية التراث الرمزي للشعب. فمن له الحق في مصادرة إرادة الناس في الاقتصاد في اعتقادهم؟ وهل الدين من مشمولات للدولة أو ملك للشعب؟ وكيف تساعد الأنسنة على تفادي الدولة الدينية والحكم المطلق وتأسيس الدولة المدنية والحكم الصالح؟
3- تبعات الأنسنة الثقافية:
" إن الثقافات تتعايش وتتفاعل على نحو مثمر فيما بينها أكثر مما تتقاتل. وأن هذه الصفحات إن هي إلا سعي متواصل للمساهمة في فكرة الثقافة الإنسانية بماهي تعايش ومشاركة"8
يساعد التأويل من حيث هو علمنة الديني وعقلنة الغيبي والتعبير عن الأبعاد الدنيوية التي تتضمنها التجربة الدينية على تربية النوع البشري وتهذيب الطبيعة الإنسانية وغرس قيم التكافل والتعاون والبر ونبذ الأنانية ونكران الذات وتفضيل الإيثار والتسامح وثقافة التنازل عن المصالح الخاصة وتبجيل المصالح المشتركة.
يؤدي التخلي عن مطلب الحقيقة المطلقة والخطاب المكتمل في الفلسفة التأويلية إلى القول بإمكانية النسبية والتطورية في مجال الأخلاق والحق والتاريخ والسياسة والقيم ويسمح المجال للتغيير والتعديل والإبداع.
لم تعد الحقيقة مستقلة عن الذات التي تسعى إلى اكتشافها ولم تبق الحقيقة تلك القيمة الكونية التي تصلح للجميع وإنما قام التأويل بترويضها وإدخالها إلى بيت اللغة الذاتية وجعلها مرتبطة بالحدث والتاريخية.
لقد تم التخلي عن النزعة الوضعية وعن الفكر التاريخاني ولم تعد علوم الإنسان تابعة لعلوم الطبيعة وتتحرك ضمن منهجيتها بل مستقلة وتستمد معقوليتها من الإنسان ذاته ووقع منعرج هرمينوطيقي للفلسفة صار بذلك التأويل حركة ذهاب وإياب بين التفسير والفهم داخل تجربة اللغة وصار الوجود مقاما لغويا وانغمس العقل التأويلي في تدبير وجود الإنسان في العالم بشكل متعين ووصف أحوال وشرائط كينونته.
ليست الأنسنة عملية غريبة عن حضارة إقرأ ولا متنافرة مع التأويل الذي مورس بلغة الضاد وإنما هي تجربة انخرط فيها علماء الأمة منذ لحظة التنزيل سواء مع القراء والعلماء أو مع الفلاسفة والمؤرخين وقد مثل الجاحظ والمعري والتوحيدي ومسكويه والرازي هذا التوجه الأفقي في التعامل مع الوحي القرآني.
بيد أن المصير التاريخي للنزعة الإنسية في الحضارة الغربية الذي عرف العديد من التقلبات وما شهده من مراجعات بعد تأليه الإنسان وتقديس القيم الأرضية والاحتفال بالحياة والوقوع في أزمة الانسانوية دفع إلى التعامل مع الأنسنة كمسار مفتوح ودرب مضيء وأفق ممكن وليس استنساخ النموذج الانسانوي الذي وقع في آفة العدمية والتمركز وأوقع البشرية في التحارب والتمييز وانجرت عنه العديد من المشاكل البيئية والتصحر والكوارث المناخية بسبب تحول سيطرة الإنسان على الطبيعة إلى تسيد الإنسان على الإنسان، ولقد وقعت الوجودية والماركسية في فخ النزعة الانسانوية بينما عملت البنيوية والفرودية على الحد منها وحاولت الفنومينولوجيا والهرمينوطيقا والايتيقا استعادتها بالانفتاح على العالم والغيرية والرمزية والقص.
لقد تم تحريك عمليات الأنسنة في المجتمعات المعاصرة عن طريق الثورة الرقمية والانخراط في العولمة والإفلات من رقابة السلطة ومعاقبة الديكتاتورية وحفر ثقوب ريبية في الأسوار الوثوقية العالية وتوسيع مساحة النقد بغية التفكير في اللاّمفكر فيه والمستحيل التفكير فيه مثل السلطة والحرام والجندر والثورة.
لا تعنى الأنسنة أن يتدخل البشر بصورة مباشرة ونهائية في صناعة معتقداتهم بأنفسهم وتحديد هوياتهم بل تشترط أخذ مسافة نقدية من الخلفيات الثقافية والانتماءات الطبقية والقناعات الفردية وتأسيس وعي كوني وموقف إنساني يثمن المغاير ويشرع الاختلاف ويحترم الرأي الآخر ويتفاعل مع القيم الثقافية الخاصة.
ليست الأنسنة تحويل الاهتمام من الذات الإلهية إلى الذات الإنسانية ومن المقدس إلى الدنيوي ومن السماء إلى الأرض ومن عالم الروح إلى جسد العالم ومن الوحي إلى التجربة ومن مدار الغيب إلى مدار الشهادة بل هي مسار متكامل من المراجعات العقلية في المعرفة والتغييرات الجذرية في المجتمع والمنعطفات الحاسمة في التاريخ يترتب عنها تحرير للفرد من هيمنة الجماعة وتقديس الحقوق وتثمين القيم الكونية.
الانخراط في تيار الأنسنة هو ممارسة النقد الديمقراطي والدفاع عن حقوق الإنسان وذب الحريات الفردية والمساواة التامة بين الأجناس والجهات والطبقات والإيمان بالحياة في أغنى تجلياتها وبحقوق الشعوب في تقرير مصيرها ورفض كل الممارسات اللاإنسانية التي تسلط على الكرامة البشرية وتصادر الحياة الحرة.
من هذا المنطلق يعتنق المتحمسون لتجارب الأنسنة الروح الديمقراطية ويسعون بشكل مستمر نحو الحرية وينتصرون للتحررية والراديكالية في معركتهما مع اللاّهوت والنزعات المحافظة والحركات الماضوية.
أنصار النزعة الإنسية هم نماذج راقية للفكر الحاذق ومن مريدي الفنون والآداب والجماليات والفلسفات ويكرسون حياتهم قصد التأثير الايجابي في الفضاء العمومي والتوجيه اللين للمشهد التربوي والمساعدة غير الربحية في الميدان التعليمي ومساندة تحركات الفئات الشعبية ونضال الجماهير من أجل العدالة.
ممارسة الأنسنة بصورة مستدامة لا تفضي الى الهيمنة الفكرية والاستحواذ الاجتماعي وليست الاستقطاب الثقافي بل هي تعقل للوضع البشري وتفكير في الأنشطة الإنسانية وترتيب أولويات الالتزام ومقتضيات الاحترام والتقدير للكائن في جميع الأحوال ورعاية مشروع الأنسنة الشاملة والذود على المواطنة العالمية.
يجب تفادي الاستعمالات السيئة والمضادة للإنسانية وخاصة عبارات "التدخل الإنساني" والحرب العادلة والنظام العسكري الإنساني وإدراجها في باب النزعة الانسانوية التي تبناها حفارو قبور الذات والقائلون بموت الإنسان ونهاية المؤلف والإنسان الأخير وإبراز تفاهة وسطحية هذه العبارات واختلاطها بالهمجية.
" لعل النتيجة اللافتة... هي...أن الحركة الأنسنية تبدو دائما في ورطة كبيرة عادة ما تكون قاضية، كائنا من كان ينطق أو يكتب باسمها، وأين ومتى والى من كان يتوجه.ولا مفر من استخدام مفردة أزمة هنا"9 . فهل تكفي عبارات التأييد المطلق التي تقر بأهمية الاشتغال على الإنسانيات للرد على هذه الأزمة أم أن الأمر يقتضي التخصص الأكاديمي الدقيق والزيادة في التدخلات التكنولوجية في الوضع البشري؟
لم يعد الإنسان يمتلك ماهية ثابتة وطبيعة مجردة يتم نسخها على غالبية الأفراد وإنما تم دعمه بمفهوم عن التاريخ المستمر والتطوري والكوني الذي قام بمساعدته في التقدم التقني من خلال السيطرة على الطبيعة.
لا يجوز اختزال عمليات الأنسنة في الاستقلال الذاتي للكوجيتو وفي كبريات "سرديات التحرير والتنوير" وإنما يجدر بنا تبني أفكار الحركات الاجتماعية والهيئات السياسية التي تناضل من أجل العدالة والمساواة وتتطلع إلى استقلالية الأوطان وسيادة الشعوب وحرية الأفراد وتكافح ضد الشمولية ومن أجل الإطاحة بحكومات الاستبداد والطغيان وتقاوم بكل قدراتها الحرب الظالمة والاحتلال العسكري وتسعى إلى تركيز أنظمة ديمقراطية توفر الحياة الوفيرة والصحة الجيدة والتعليم العصري والمسكن اللائق والشغل الكريم.
غاية المراد أن ممارسة التأويل تعبير عن قدرة وأن الإنسان المؤول هو إنسان قادر وأن امتلاك القدرة هو ترجمة فعلية لجهة من جهات التجربة الدينية التي تتخطى الانقسام والتمزق نحو التصالح والتلقي التفاعلي بين الرمزي والمادي وبين الوجود والإيتيقا ويدفع المرء إلى فهم ذاته بالاستجابة لنداء الإيمان10 .
كما تجمع الأنسنة بين العقلنة والعلمنة دون الوقوع في اللائكية الصارمة التي تتمسك بالفصل بين الديني والمجتمع ودون تبني العقلانية الوضعية التي تحارب الرمزي وتفرغ الحقل المعرفي من التخيل والمعيش وفي مقابل ذلك تتبنى عقلانية مفتوحة وعلمنة متسامحة وتحرص على احترام الحريات الدينية والصفح والمصالحة وتكافح ما تتعرض له البشرية من ازدراء وتهميش واعتداء باسم التأنسن والتقدم والتحضر. بهذا المعنى تكون الأنسنة حركة تأنسن هادئ ومتدرج يتفادى المزالق التي وقعت فيها النزعة الانسانوية ويجتهد في تمكين الكائن البشري من القدرات الذاتية التي تسمح له بالتعويل على نفسه والاستبصار الذاتي وإعادة التوازن للكون الخارجي والانتقال بالحياة من المنطقة السوداء إلى المنطقة الخضراء وبذلك إخراج الناس من مجتمع غير سوي تتكاثر فيه الجرائم والاعتداءات إلى مجتمع سوي تتكثف فيه أشكال المحبة.
أن الأنسنة هي استعادة ماهو إنساني في الإنسان عبر الوساطة التأويلية للتجربة الدينية بعد فقدانه ونسيانه بسبب هيمنة الانفعالات السلبية مثل الحزن والكراهية والخوف والممارسات الهمجية مثل العنف والكذب والشر ووضع الذات وجها لوجه مع الوحي القرآني لكي ترى ذاتها القصصية على أحسن تقويم وتدارك مواطن النقص والاعوجاج فيها وتستلهم منه المبادئ الايتيقية والقيم الربانية وتستكمل ما خسرته في الدنيا. إن الوساطة اللغوية والقدسية في الكتاب المقدس تسمح بالذات بأن تعي ذاتها من خلال مرآة النص متعدد الأصوات وتعبيراتها القصوى وتستلهم النداء المعلم الباطني لكي تتحول إلى الصورة القرآنية للإنسانية.
"ذلك أن الذات هي التي تستدعي الذات وتختبر قدرتها على الكينونة الأخص بها ويحسن بها أن تكون كذلك"11 فهل لازال التشكيك في عبارة الأنسنة قائم الذات؟ وبأي طريقة ينظر العقل إلى حركة الأنسنة بوصفها نشاط تأويلي للتاريخ الماضي من أجل نقد الحاضر والتوجه نحو المستقبل المحتمل؟
خاتمة:
"إن القرآن في عملية التداول ظاهرة حية... على نظرية التأويل أن تأخذ بعين الاعتبار تلك الظاهرة الحية وأن يكف المفسرون عن تلخيص القرآن هذا التلخيص المُخِلّ الى حد كبير حين يتم التعامل معه بوصفه "نصا" فقط"12
صفوة القول أن المعترضين الوضعيين على القرآن ينطلقون من مسلمات هرمينوطيقية وثوقية تقر بقدرة العقل التأويلي على بلوغ معنى النص الديني وبأن الوحي يتضمن جوهرا روحانيا يمكن بلوغه عن طريق العودة إلى لحظة التنزيل ومعرفة طبيعته المادية وبأن المسار التاريخي هو مسار تراجعي عن المطلق.
بينما ماهو جديد بعد التحولات التي حملتها الفلسفة الهرمينوطيقية إلى عالم المعرفة والوجود والقيم هو أن النص يقبل العديد من التأويلات وبأن أي تأويل لا يستطيع بلوغ المعنى وأن كل التأويلات لها نفس القيمة وأن القراءات المثمرة هي التي تستعمل النصوص في تحقيق المصالح وتسديد البشر نحو صنع المصائر .
لا يتم تشريح الفكر الإسلامي إلا من خلال معرفة طرق فهم التجربة الدينية والتمكن من تجاوز العوائق التاريخية التي تمنع النظر العقلي في التراث المادي والرمزي للحضارة واختراع نموذج تفسيري مغاير.
إن دين الثورة وليس دين السلطة هو المجال الحيوي والتربة الثرية التي تتم فوقها عمليات الأنسنة وان المقود الهادي وسط ظلمات البطش والتوحش هو تقديس كرامة البشر والسعي نحو كسب التقدير والعدل بالاحتجاج على عالم ليس له ضمير وحذف الوظيفة التبريرية وإلقاء الدور التعويضي عرض الحائط والحرص على إقامة في هذه الأرض دولة المساواة والرعاية التي تكنس الطبقية والاستغلال والتفاوت.
والحق "أن تجديد الاجتهاد اليوم سوف يؤدي حتما إلى زعزعة الحقائق الأكثر رسوخا والى مراجعة العقائد الأكثر قدما. أن الاجتهاد عمل من أعمال الحضارة وجهد من جهودها... ومن الضروري والعاجل أن نعود اليوم إلى كل هذه الميادين فنعبرها من جديد من أجل بلورة تيولوجيا أناسية منطقية."13
إن ممارسة الثقافة الإنسانية ينبني على إلغاء الحملات الفكرية وإبطال منطق المواجهة بين الثنائيات من حيث هي صدام بين المجتمعات والتركيز على المشاركة والتعايش والتثاقف وتقاسم المدنية والتحضر. أنسنة الدين لا يعني إفراغه من محتواه الروحي وأسلوبه الرمزي وعمقه الإلهي وجذوره التقديسية وإنما تسديد كل هذه الينابيع في اتجاه الاعتراف بقيمة الجسد وأهمية المادة وفائدة التعقلية والفاعلية في الحياة وتنظيفه من الشوائب والمغالطات على مستوى النظرية والتعصب والجنون والعنف على صعيد العمل.
يقوم الموقف الأنسني المنفتح على العقل وآليات الحوار والنقد والجدل دون إهمال التجربة والمعاينة مع توظيف المخيال الرمزي والذاكرة السردية والنصوص المقدسة والتاريخ الحي من أجل بناء معقولية تعمل على تقويم الناس وتكريم الإنسانية التي تخصهم وتحقيق استقلالية الذات الجمعية وعلمنة الحياة المشتركة.
يظل تفعيل الأنسنة تأويلا مفتوحا على المستقبل وأفقا تسير إليه العقول وتطمح إليه الشعوب وتبقى مسألة بلوغه متوقفة على إرادة الإنسان في بناء نظرة مستنيرة للدين واعتماد قراءات عقلانية نقدية للوحي وتبني مقاربة اجتماعية للمقدس ومنهجية عبارة للمذاهب والأديان في تبويب معجمية الإيمان وعلى منح التقدير لإنسانية الآخر واحترام كرامة المغاير في القناعات والمخالف في العقيدة والمُباين في الثقافة والتحضر وعلى توسيع دائرة الإنسانية المدنية لكي تشمل كل كائن آدمي يكون جدير بوظيفة التعمير والاستصلاح.
تأويل النص الديني وأنسنة الوجود المدني هما مساران متلازمان ومتكاملان وليس بينهما أي اختلاف أو افتراق ولا يؤدي تنمية طرف إلى إضعاف وتبديد الطرف الآخر وإنما يساهم في تنميته ويمنحه الاقتدار، وكذلك فهم التجربة الدينية يظل مرتبطا بتنزيل الخطاب الديني من مستوى الكلام الملفوظ إلى دائرة الفعل المثمر وتحويل الأبعاد الرمزية الصامتة إلى أبعاد حركية للمعنى وطبقا خصبة من الدلالة وإدراج الوحي ضمن دورة التاريخ وكدح الإنسان المتعين ومضيه في اتجاه صنع مصيره بنفسه والتحكم في مقدراته.
بطبيعة الحال لا معنى للالتزام الديني بالوحي القرآني والحديث الشريف دون انخراط في النضال الاجتماعي من أجل العدالة والمساواة والأنسنة والتأويل ولا قيمة للنضال الاجتماعي دون اعتبار التراث الرمزي والتجربة الإيمانية فائق قيمة تحدد الوجود في العالم وتمنح الكائن البشري قواعد سلوك أخلاقية.
"والحال أليس الانسان ، بماهو كائن فاعل ومكابد هو نفسه الإنسان الذي يريد ويقرر ويختار، وباختصار ذاك الكائن الموجود والمتأثر والمتألم من الحكم السيئ الذي ينظر إليه ضميره الخاص في مناسبات خاصة بأفعال محددة؟"14 وما الذي يحدث أثناء تلقي الوحي القرآني عندما نغير المنظور التأويلي من معاملة القرآن بوصفه نص يتضمن القطعي والمحكم إلى معاملته من حيث هو خطاب شفاهي وظاهرة حية وفق المنظور التداولي؟ ألا تتبدل حينئذ آليات إنتاج الخطاب الديني بصورة كلية نحو الاهتمام بالعمق الإنساني؟
الاحالات والهوامش:
[1] بول ريكور، الحب والعدالة، ترجمة حسن الطالب، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت، طبعة أولى، 2012، ص59.
[2] قول مأثور: "اعتنق الإنسانية ثم اعتنق ما شئت من الأديان".
[3] القرآن الكريم، سورة الإنسان، الآية 1. من العلوم أن لفظ الإنسان ورد في الوحي 39 مرة في 6 سور وتم التعبير عن معناه في الكثير من المواضع بمفردات أخرى.
[4] محمد أركون، من الاجتهاد إلى نقد العقل الإسلامي، دار الساقي، بيروت، طبعة أولى، 1991، ص96.
[5] Voir l’expérience religieuse, approches empiriques, enjeux philosophiques, sous la -dir-ection d’ Anthony Feneuil, édition Beauchesne, Grenier A sel, 2012.
[6] بول ريكور، فلسفة الإرادة، الإنسان الخطاء، ترجمة عدنان نجيب الدين ، المركز الثقافي العربي،بيروت الدار البيضاء، طبعة أولى، 2003،ص217.
[7] بول ريكور، اشكالية ثنائية المعنى بوصفها إشكالية هرمنطيقية وبوصفها إشكالية سيمانطيقية، ترجمة فريال جبوري غزول، في كتاب الهرمينوطيقا والتأويل، ألف: مجلة البلاغة المقارنة، ، ، دار قرطبة ، الدار البيضاء، طبعة ثانية، 1993، ص140.
[8] ادوارد سعيد، الأنسنية والنقد الديمقراطي، ترجمة فواز الطرابلسي، دار الآداب، بيروت، طبعة أولى ، 2005، ص14.
[9] ادوارد سعيد، الأنسنية والنقد الديمقراطي، مصدر مذكور، ص51.
[10] Ricœur (Paul), l’anthropologie philosophique, écrits et conférences 3, 14.le destinataire de la religion : l’homme capable, édition seuil, Paris, 2014.p415
[11] بول ريكور، الحب والعدالة، مصدر مذكور، ص108.

[12] د. نصر حامد أبو زيد، التجديد والتحريم والتأويل، المركز الثقافي العربي، بيروت ، الدار البيضاء، طبعة أولى، 2010، ص205.
[13] محمد أركون، من الاجتهاد إلى نقد العقل الإسلامي، مرجع مذكور، ص107.
[14] بول ريكور، الحب والعدالة، مصدر مذكور، ص126.

المصادر والمراجع:
l’expérience religieuse, approches empiriques, enjeux philosophiques, sous la -dir-ection d’ Anthony Feneuil, édition Beauchesne, Grenier A sel, 2012.
Ricœur (Paul), l’anthropologie philosophique, écrits et conférences 3, 14.le destinataire de la religion : l’homme capable, édition seuil, Paris, 2014.
ادوارد سعيد، الأنسنية والنقد الديمقراطي، ترجمة فواز الطرابلسي، دار الآداب، بيروت ، لبنان، طبعة أولى ، 2005،
بول ريكور، فلسفة الإرادة، الإنسان الخطاء، ترجمة عدنان نجيب الدين ، المركز الثقافي العربي، بيروت الدار البيضاء، طبعة أولى، 2003،
بول ريكور، الحب والعدالة، ترجمة حسن الطالب، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت، طبعة أولى، 2012،
نصر حامد أبو زيد، التجديد والتحريم والتأويل، المركز الثقافي العربي، بيروت ، الدار البيضاء، طبعة أولى، 2010،
محمد أركون، من الاجتهاد إلى نقد العقل الإسلامي، دار الساقي، بيروت، طبعة أولى، 1991،
كتاب الهرمينوطيقا والتأويل، ألف: مجلة البلاغة المقارنة، ، ، دار قرطبة ، الدار البيضاء، طبعة ثانية، 1993،

كاتب فلسفي



#زهير_الخويلدي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المنهج التأويلي والفلسفة الهرمينوطيقية بين غادامير وريكور
- بيان من أجل تدريس الفلسفة بشكل ديمقراطي
- تفاهة نظام التفاهة حسب ألان دونو
- ما الذي يجعل من شخص عادي بطلا تاريخيا؟
- فن الترجمة من منظور هرمينوطيقي عند فريدريك شلايرماخر
- الخطاب والتواصل عند بول ريكور
- استشكال الأزمة وانطلاقة فلسفة المعنى مع أدموند هوسرل
- الاغتراب السياسي للأنظمة الحاكمة
- ترجل المفسر التنويري محمد شحرور
- التربية على الحرية بين هيوم وروسو وكانط
- الظاهرة الدينية من حيث هي ظاهرة هرمينوطيقية
- العقل والثورة، من أجل مقاربة ثورية للعقل وعقلانية للثورة
- الفكرة الفلسفية للثورة المدنية
- فن طرح السؤال بما هو المقام اللائق بالفيلسوف
- مقابلة مع بول ريكور عن جدوى الفلسفة اليوم،
- عالمية الفلسفة في زمننا الثوري
- بداية الواقعية السياسية عند ابن خلدون
- الفلسفة انتصار منطقي على العبث
- أي مقام جديد بالنسبة لنا حسب بول ريكور وحنة أرندت؟
- المدينة من منظور الفيلسوف: من الاحتماء الى الثورة


المزيد.....




- المقاومة الإسلامية في العراق تعلن استهداف قاعدة -عوفدا- الجو ...
- معرض روسي مصري في دار الإفتاء المصرية
- -مستمرون في عملياتنا-.. -المقاومة الإسلامية في العراق- تعلن ...
- تونس: إلغاء الاحتفال السنوي لليهود في جربة بسبب الحرب في غزة ...
- اليهود الإيرانيون في إسرائيل.. مشاعر مختلطة وسط التوتر
- تونس تلغي الاحتفال السنوي لليهود لهذا العام
- تونس: إلغاء الاحتفالات اليهودية بجزيرة جربة بسبب الحرب على غ ...
- المسلمون.. الغائب الأكبر في الانتخابات الهندية
- نزل قناة mbc3 الجديدة 2024 على النايل سات وعرب سات واستمتع ب ...
- “محتوى إسلامي هادف لأطفالك” إليكم تردد قنوات الأطفال الإسلام ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - زهير الخويلدي - تلازم التأويل والأنسنة في التجربة الدينية