أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فاضل متين - مُجرد دُعابة















المزيد.....

مُجرد دُعابة


فاضل متين

الحوار المتمدن-العدد: 6492 - 2020 / 2 / 15 - 01:40
المحور: الادب والفن
    


أُقسمُ لكم إنّني لمْ أمُت في ذلك اليوم، فلا سُحبت الروح منّي كما أدّعوا، ولا زارني عزرائيل حينها ولا هُم يحزنون، الأمر برمّته كان مُجرد دُعابة أردّت أنْ أُجريها على أقاربي، لأتلمّس مدى تأثّرهم بفقداني، وأستشعر من ردّة أفعالهم لحظة سماعهم بوفاتي مقدار أهميتي، وأرى حجم الهول الذي سأخلّفه في نفوسهم آن إدراكهم موتي.
كان عليّ أن أتخذ طريقةٍ ناجعة وأكثر معقولية لأنجح في توهيمهم وخداعهم، فما رأيت أفضل من السمّ لأصل به إلى مرامي..
تمدّدت على طرفي الأيسر فوق العُشب جنب صخرتين متوسطتتي الحجم، بشكل يوحي إنّي ميّتٌ لا محالَ، بعد أنّ وضعت علبة السمٍّ الصغيرة مفتوحة الغطاء مرمية جنبي، ثم بخبرة تعلمتها وأنا صغير أفتعلت بعض الرغوة وجعلتها تنسال من طرف فمي بشكل مقزّز.
بعد دقائق من تمدّدي تحسّستُ وقع خطوات قريبة، وبعد برهةٍ من الأستقصاء أيقنت من دبيب أقدامهم وقهقتهم، إنّ الذين يسيرون قريباً مني، هما الوغدان" إبرام، وبهزو" والصعلوك الآخر سلو.
إنهم كانوا يتسكعون خلف إحدى الصخور ويعاقرون الخمر، وتأكدت من ذلك عندما ركلني سلو وصاح فيّ بصوتٍ متحشرجٍ ومتقطع، ولما لم أظهر أيّة حركة، تقدم الوغد بهزو وقبض على ياقتي وجعل أنفاسه المشبعة بالكحول الحادة تغطي وجهي. كنت على شفا لحظةٍ لاصفع وجهه، لكنني تحاملت على نفسي ولم أرد أن أفسد خطتي، وعندما ألتمسوا الصمت المريع الذي أَظهرته، ركض سلو نحو القرية وما هي لحظاتٌ حتّى أرتفعت همهمة وصخب الأقارب وطافوا حولي..
أتصدقونني لو قلت إنّني لم أعش السعادة في حياتي مثلما عشتها تلك الساعة؟
إذ غمرني شعورٌ بالرضى، وحامت دماء البهجة في عروقي وأنا أسمعهم يتأسفون على شبابي، أحسّست بأني سلطان يتوج بالعرش لحظة حملوني على أيديهم، فيما نحيب النساء وتأهاوت الرجال بدت لي كأنها أناشيدٌ ترفع لأجلي. لا أُخفي عليكم إنّني في بُرهةٍ مشحونة بالعواطف الفياضة أحسست ببعض الشفقة على نفسي وكأنّني مُت عن حقيقة، لكن أنْ تبكي العيون وتنوح الحناجر لأجلك، فأنت لا شكّ تعيش وقتها أرفع شعور بالأهمية والهيبة، كأنك آلهة من آلهات الطبيعة، ويتضرعون لتمنحهم رحمتك..

مدّدوني على وجه السرعة فوق الحجر المبسط الخاص بغسل الموتى، ثم أَتى سلو وإبرام بإيّال مليءٍ بالماء ومعهم شيخ الجامع قصد تغسيلي الأخير قبل توديعي المقبرة.
عندما أتذكر تلك اللحظات ينتابني شعورٍ بالضحك على نفسي، كيف أستطعت أن أطيل التمثيل كل تلك الساعات من دون أنْ تنمّ عني حركة، أو تخرج مني نأمة؟
إذ أرخيت جسدي بالكامل وسلمت ذاتي لأيديهم، أراقبهم وهم يغسلون أعضائي، عضو وراء عضو.. كان سلو يمسك بقضيبي ويلقي عليه الماء عندما قال هامساً لإبرام :
"هذا أيضاً نُكح، وتم تسفيره"
أبتسمت في داخلي وقرّرت أن أنهض وأفاجئه وأقول له :
"هاه، هاه، من منا سينكح الآن؟ ، أراك قد مسكت بقضيبي، يبدو أنا من سينكحك هاهاهاها"
لكنني في اللحظة الأخير تماسكت، وأرجاءتها إلى أنْ يحين الوقت، إلى أنْ يحملوني على أكتافهم، ويسيروا بي نحو المقبرة، وعندما يحين موعد دفني وينتهوا من تلقيني، سأفاجئهم بتمزيق الكفن وأصرخ ضاحكاً، مستهزءاً بهم :
"سوبرايز ".. فاجئتُكم، كيف كان المقلب؟ لم أدع فرحتكم تكتمل أليس كذلك..! هاهاها.. عندها سيفرّ نصفهم ويغشى على بعضهم، هذا إذا لم يتغوطوا في ثيابهم رُعباً.
لعمري يا أحبتي إنّ أكثر اللحظات التي أنبثقت فيها السعادة في قلبي هي حينما ساروا بي على الطريق المؤدي إلى المقبرة، كإنّني كنت أعتلي أجنحة ورديّة، يُشيّعُني رهطٌ من الملائكة، وتهدهُدني رفيفٌ من الحوريات. تمنيت ألّا ينتهي الطريق، أنْ يتساوق مع الزمن السرمدي ولا يتوقف.. ليس هناك أمتع من أن تحظوا أيها الأصدقاء برعاية الجميع، وتكونوا موضوع حديثهم ولو للحظة موتٍ. جميلٌ أنْ تعتلوا أكتاف الآخرين كالملوك حتى لو بصفة ميت، بعد حياةٍ مليئة بالتعبد والذلّ..
الأوغاد لم يكلفوا أنفسهم حتى حفر قبرٍ يتسع لي، قلت ذلك في سرّي بعدما أنزلوني فيه. كنت أراهم بعينيّ الداخليتين، أراقب النفاق الذي لا يني يظهر على وجوههم، دموعٌ حامضةٌ مثل نفوسهم، تأسفاتٌ فجّة كقلوبهم.
يُقال إن المشاعر النبيلة تظهر في اللحظات الأكثر حزناً، حين فراقٍ أو موتٍ ما، لكن حتى موتي لم يغسل وجوههم من النفاق. صدق من قال إنّ المنافق كذّاب غسل وجهه ببوله
. بعد أن انهوا الصلاة عليّ وتفرغوا من تلقيني، بدأوا بإهالة التراب عليّ شيئاً فشيئاً. قلت في نفسي ها هو الوقت قد حان. لملمّتُ ذاتي وأستعددتُّ نفسياً لافجّر المفاجأة، وأجعلهم يهلعون رعباً، لا بدّ ستكون خازوقاً يدق في أسفل أولئك المنافقين، وسأحقّق مجداً يحكيه أجيالٌ وأجيال، ربما سيتغير أسم ضيعتنا وتسمى بأسمي، أو تُلقب " قرية الرجل الذي بعث حيّاً بعد أن مات "، لكن وقع ما لم يكن في الحُسبان، لم ينجح ما خططت له، لقد خطفني الزمن، وخدّرني المكان، وأخذتني الراحة الروحانية التي حظيت بها في حلمٍ طويل... تأخرت في الاستيقاظ....الأوغاد دفنوني حيّاً......
يا الله كم موحشٌ هذا القبر، كم هو غامضٌ ودامسٌ وقميء، كيف يستطيع أن يعيش فيه الأموات طوال فترة موتهم..! كنت أقولها لذاتي قبل أنْ التقي بكم، قبل أنْ تغمروني بعطفكم ولطفكم، وتحسبوني منكم وفيكم.. لقد كنت قد قرّرت أن أنبش القبر لأهرب، أو أنتظر ريثما يفتحوه ليدفنوا أحداً آخر، حينها سأعود إلى بيتي، وسأشرح لهم ما صنعته دُعابتي بي وبهم، لكن بعد أنْ تعرفت عليكم، ولاقيت ما لاقيت من حسن ضيافة، وأحترام ولباقة، قرّرت البقاء معكم.. إنّني أجد موطني هنا، حريتي، وراحتي كامنتان في هذه الفسحة، وهذا وعدٌ مني أقطعه لكم : لن أعود إلى أولئك الأوغاد، هم لا محال سيأتون إليّ واحداً تلو الآخر..
إنني أتكلم كثيراً أليس كذلك ؟
لأكُن صادقاً معكم، لا أُخفي إنّني تقزّزت منكم في أولى اللحظات، فعيونكم المختبئة داخل المحاجر، وأنوفكم المجدوعة، وأجسامكم المسلوخة الجلود التي تكشف عن عظامٍ هشّة ومفكّكة، خلقتْ في نفسي الكثير من التقزّز حدّ التقيوء، لكن الإنسان أعمى الغرور والتكبّر، يجب عليه أنْ يضع نفسه مكان الآخرين قبل أنْ يحكم على أحدٍ من مظهره. ها أنا أيضاً اصبحت مثلكم تماماً، لا أنفاً يعلو ، لا عيوناً تلمع، ولا جلداً يسطع. كومةٌ من العظام المهترئة، كلّ ما بقي لي هو هذا القليل من الجلد على أكتافي، وأردافي، ألا فلتهبط اللعنة على هذا الخشاشُ الخبيث إنّه يأكلني من غير رحمة، يزحف في جسمي بلا هوادة، متطفلٌ أكثر من البشر أنفسهم، سأسميهم من الآن" الإنس المتطفل" ما رأيكم؟
أوووه لقد عدّت إثرثر مجدّداً، إنني ثرثار، ثرثار حقاً، جائعٌ للكلام، بالله عليكم لا تأخذوا عليّ سذاجتي هذه، يبدو إنني بالفعل أعاني مشكلة في اللباقة أثناء الكلام، كإنني خزّنت كل ما لم أقله فوق الأرض، وأفرغه هنا تحتها.
آه صحيح ألَم تَروا عظمة ساقي ؟ منذ ساعاتٍ وأنا أبحث عنها... أوو.... هذه هي، هذه هي، لقد رأيتها ، يا لغبائي، إنني في كل مرّة أباشر بالحديث أنسى نفسي وأضيّعُ إحدى عظامي.
والآن حان دوركم.. هاتوا ماعندكم.... أيّة دعابة قادتكم إلى هنا.....؟



#فاضل_متين (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الغرانيق رواية تحطيم آلهة العسكر


المزيد.....




- بايدن: العالم سيفقد قائده إذا غادرت الولايات المتحدة المسرح ...
- سامسونج تقدّم معرض -التوازن المستحدث- ضمن فعاليات أسبوع ميلا ...
- جعجع يتحدث عن اللاجئين السوريين و-مسرحية وحدة الساحات-
- “العيال هتطير من الفرحة” .. تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- مسابقة جديدة للسينما التجريبية بمهرجان كان في دورته الـ77
- المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي: إسرائيل تعامل الفنانين كإرهاب ...
- نيويورك: الممثل الأمريكي أليك بالدوين يضرب الهاتف من يد ناشط ...
- تواصل فعاليات مهرجان بريكس للأفلام
- السعودية تتصدر جوائز مهرجان هوليوود للفيلم العربي
- فنانون أيرلنديون يطالبون مواطنتهم بمقاطعة -يوروفيجن- والوقوف ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فاضل متين - مُجرد دُعابة