أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الثورات والانتفاضات الجماهيرية - بشير صقر - الثورة العرابية مرآة الوضع الداخلي في مصر ( 1 / 2) مقتطفات من مذكرات الزعيم أحمد عرابي















المزيد.....


الثورة العرابية مرآة الوضع الداخلي في مصر ( 1 / 2) مقتطفات من مذكرات الزعيم أحمد عرابي


بشير صقر

الحوار المتمدن-العدد: 6465 - 2020 / 1 / 15 - 23:14
المحور: الثورات والانتفاضات الجماهيرية
    


( نشر الجزء الثاني من المذكرات في مجلة الهلال المصرية بالعدد 24 ، مارس 1953 )

المقدمات المباشرة للثورة:

لاشك أن مطامع انجلترا وفرنسا في الاستيلاء على مصر في نهاية القرن الثامن عشر كانت الباعث الأكبر في ذلك، فقد سبق لفرنسا غزو مصر واحتلالها ثلاثة سنوات في الفترة من 1798/ 1801 انتهت بالرحيل عنها من وطأة الضغوط والتحرشات والاعتداءات البريطانية على القوات الفرنسية المرابطة في مصر. بمعنى أن احتلال مصر كان ضمن استراتيجية الدولتين معا ؛ إلا أن الحقيقة أن انجلترا كانت الأكثر صبرا والأطول نفسا والأكثر حنكة ودراية من فرنسا في هذا الأمر.

وعلى المستوى الداخلي في مصر كانت تداعى الامبراطورية العثمانية قد بلغ أقصاه ، فضلا عن اضطراب الأوضاع الداخلية في مصر وهو ما دفع انجلترا لاستغلاله في تنحية الخديوي إسماعيل واستبداله بولده توفيق بالضغط المشدد على السلطان العثماني في تركيا لتحقيق ذلك.

وقد ساهم تصاعد الحركة الوطنية المصرية ضد الديون والمحاكم الأجنبية المختلطة والمرابين والبنوك العقارية وشركات استصلاح الأراضي الأجنبية وشظف العيش والضرائب التي اكتنفت حياة السواد الأعظم من المصريين وخصوصا الفلاحين.

وقد تمثل صعود الحركة الوطنية في المشهد المصري في بزوغ نجم أحمد عرابي كرجل وطني شكلته مجموعة من الأحداث الهامة سنتعرض لها فيما بعد.

وكان التمييز بين الضباط المصريين والضباط الأجانب داخل الجيش المصري بمثابة المفجر والباعث لتلك الأحداث الهامة لأنه كان واضحا شديد الوضوح ؛ حيث عانى وتشكّى منه معظم الضباط المصريين خصوصا الوطنيين . فقد حمل ذلك التمييز مؤشرات لا تكذب في اختلال المعايير وغياب العدالة والإهانة والحط من الكرامة لا تخطئها العين.

هذا وقد تزعم كل من أحمد عرابي ومحمود سامى البارودي ( رئيس الوزراء الأسبق ) وعبد العال حلمي وعلى فهمى بقية الضباط المصريين في المطالبة بعديد من المطالب ( عرضحالات) أحدها في 15 صفر 1298 وقدموها لرئيس مجلس النظار ( الوزراء) رياض باشا. وكانت بعض المطالب تخص رغبة الضباط في تنحية ناظر ( وزير ) الحربية والبحرية ( عثمان رفقي باشا ) عن منصبه.
لكن الأهم في تلك المطالب أن رذاذها أفضى لتداعيات أخرى امتدت لصميم الأمور المدنية والسياسية ولم تقتصر على الأمور العسكرية مثل التطرق لرفض الوزارة للمذكرة التي قدمتها انجلترا وفرنسا بشأن تطهير الجيش وإبعاد بعض عناصره من الضباط الوطنيين خارج مصر وداخلها، ومنها الدعوة لعقد مجلس النواب دون تصريح الخديوي ، ومنها جمْع ما أسماه عرابي - في محاكمته – بـ " مجلس الأمة العمومي " لرفض تنفيذ أوامر الخديوي بشأن قبوله تلك المذكرة ، ومنها التعرض لغياب العدالة بشأن الأموال التي دفعها المصريون – 17 مليون جنيه - تنفيذا لقانون المقابلة الصادر في عهد الخديوي السابق إسماعيل وعدم البت في شكاوى الأهالي لمدد تتجاوز العشرين عاما .. إلخ وهو ما أدى لإصدار الخديوي للأمر رقم 1 بتوقيف القادة الثلاثة ( عرابي وحلمي وفهمي) ومحاكمتهم في 29 صفر 1298الموافق أول فبراير 1881.. وهو ما عرف باسم حادث قصر النيل وفيما يلى مقتطف منه :

•حادث قصر النيل .. فبراير 1881:
[ بناء على الأفكار الفاسدة والحركات المضرة المتوقعة من كل من أحمد عرابي وعبد العال حشيش ( حلمي) ، وعلى فهمى خلافا للقانون والنظام العسكري قد تقرر بمجلس النظار المنعقد بسراي عابدين تحت رئاستنا بتوقيف الضباط الثلاثة المذكورين وإحالة محاكمتهم على مجلس عسكري تحت رئاسة ( الجنرال أستون ، والأعضاء إبراهيم باشا - سواري - ، ولارمي باشا ، وبلوم باشا ، واللواء خورشيد باشا عاكف ، واللواء محمد باشا رضا ، واللواء متقاعد نجم الدين باشا ) ولهذا أصدرنا أمرنا هذا كي تجروا توقيف الضباط الثلاثة مع أخذ الاحتياطات الكافية لعدم وقوع ما يخل بالنظام العمومي، وبمعرفتكم يعيد انتخاب وتعيين بدل الثلاثة ضباط المذكورين في محلاتهم ] .
هذا وكان الضباط الثلاثة قد قاموا بإخطار قناصل الدول الأجنبية بفحوى الخلاف الناشب داخل الجيش بغرض التوصل إلى حل ناجز له.
وإزاء هذا التعسف تحركت التشكيلات العسكرية التي كان يقودها الضباط الثلاثة الموقوفون وحاصرت مكان احتجازهم وطالبت بالإفراج الفوري عنهم.
وقد أسفر ذلك التهديد عن الإفراج عن ثلاثتهم ؛ بعدها استمرت مطالبتهم بعزل ناظر الجهادية عثمان رفقي باشا من الوزارة حتى رضخ الخديوي وقام بإقالته ، وفى نفس الوقت أصدر أمرا بالعفو عنهم وإعادتهم لمواقعهم السابقة.

•حادث عابدين .. يوليو 1881 :
أي بعد سبعة شهور من حادث قصر النيل تحركت التشكيلات العسكرية وعلي رأسها القواد الثلاثة إلى ساحة ( ميدان ) عابدين – بعد أن أخطرت قناصل الدول الأجنبية- لتقديم بقية المطالب التي يسعى الثلاثة لتحقيقها لصالح الجيش المصري، وقد فسر عرابي أثناء المحاكمة ذلك بقوله :
[الأسباب التي دعت لذلك هي عدم الأخذ بالعدل والمساواة في المعاملات ..... ، فلذلك اعتمد الأعيان على أبنائهم رؤساء العسكرية المصرية]

بعد ذلك- وإزاء احتقان الوضع داخل الجيش ؛ تقدمت بريطانيا وفرنسا بمذكرة للخديوي توفيق تطلبان فيها استبعاد عدد من الضباط المصريين من صفوف الجيش المصري؛ وقد اجتمعت الوزارة ورفضت المذكرة ، ولما لمس عرابي – قائد الجيش - انحياز الخديوي لفحوي المذكرة طالب بدعوة مجلس الشورى للانعقاد ؛ ونظرا لأن دعوة المجلس للانعقاد لابد أن تصدر من الخديوي الذي كان رافضا لذلك؛ دعا عرابي لعقد اجتماع بديل لما أسماه [ مجلس عام إدارة البلاد ] وحصل منه علي تفويض بالدفاع عن البلاد ضد الجيوش الإنجليزية.

ويوضح عرابي الوضع آنذاك في السطور التالية في الجزء الثاني من مذكراته التي نشرتها مجلة الهلال كاملة في العدد ( 24) مارس عام 1953 :
يقول عرابي في صـ 191 توضيحا لموقف الخديوي المهتز:
( تقرر بمجلس وزاري حضره ثلة من الشيوخ تحت رئاسة الخديوي ودرويش باشا " مندوب الباب العالي السلطاني" وجوب الحرب مع الإنجليز مدافعة عن البلاد وحربا واجبة شرعا ) ثم يضيف :

[ ولما انحاز الخديوي ومن معه للإنجليز انعقد لذلك " مجلس عام لإدارة البلاد " وحضره ثلاثة من أعضاء العائلة الخديوية ووكلاء الدواوين والعلماء وشيخ الإسلام وبطريرك الأقباط وحاخام اليهود وأعضاء مجلس النواب والأعيان وقرروا إيقاف أوامر الخديوي وتفويضي في أمر الدفاع عن البلاد ، وتحرّر بذلك تلغراف للباب العالي ]

•[ توجّه الأسطول البريطاني نحو الإسكندرية ورست سفنه على شاطئها ، وفى يوم 11 يوليو 1882 أطلق مدافعه على الطوابي العسكرية المصرية ، وقد لجأ الخديوي للإسكندرية لدرجة نزول حرمه ( زوجة الخديوي) في إحدى سفن الأسطول البريطاني.

•قيام جنود ما يسمى " سواري محافظة الإسكندرية " ( وهي غير قوات الجيش) بإشاعة الذعر في المدينة وإطلاق شائعة تفيد بأن عرابي طالب بحرق المدينة وبهجرة سكانها ونهب محلاتها والاعتداء على الأجانب ، وقد شهد اثنان من الضباط والوزراء هما (سليمان سامى ، وعبد الرحمن رشدي ) بصدور تلك الأوامر منه.]

هذا وقد اتضح أن خطة بريطانيا والخديوي توفيق لإزاحة عرابي ورفاقه عن قيادة الجيش واحتلال مصر تتمثل في الآتي:
1-تقديم المذكرة المشتركة – المشار إليها - من حكومتيْ بريطانيا العظمى وفرنسا لتنحية أحمد عرابي وعدد من كبار الضباط الوطنيين عن مراكزهم القيادية بالجيش المصري مع إبعادهم خارج وداخل مصر حتى لا يشكلوا نواة المقاومة العسكرية إذا ما جرى غزو الأراضي المصرية ، وقد قبل الخديوي توفيق تنفيذ مضمونها.

2-ونظراً لتسرب فحوى المذكرة للدوائر الحكومية والجيش المصري ومجلس النواب فقد أسهم ذلك في تشكيل رأى عام مناهض للخديوي وأنصاره والدولة البريطانية.. وضعهم جميعا في مأزق بالغ الحرج.

3-مثل رفض الحكومة المصرية برئاسة محمود سامى البارودي ومعظم أعضاء مجلس النواب واستقالة الوزارة احتجاجا على المذكرة مقدمة لمقاومتها رسميا وإفساح الطريق لرفضها شعبيا.

4-تطورت الحالة الاحتجاجية ضد المذكرة عندما طالب مجلس النظار ( الوزارة) بدعوة مجلس النواب للاجتماع لمناقشة المذكرة واتخاذ موقف بشأنها، وقيام الخديوي بالاعتراض على دعوة المجلس مما اضطر زمرة الوطنيين إلى جمع ما أسماه عرابي مجلس عام إدارة البلاد ( أو مجلس الأمة العمومي) الذى ضم كثيرا من أعضاء مجلس النواب وشخصيات عامة من العلماء والذوات والأعيان والتجار بل وأفراد من الأسرة الخديوية ورفض المذكرة المقدمة للخديوي كما قرر وقف تنفيذ أوامر الخديوي .
وبسبب هجوم الأسطول البريطاني علي مدينة الإسكندرية وقصفه للطوابي المصرية التي تدافع عن المدينة وتدميره لكثير من مبانيها وتخريبها استعد عرابي لمواجهة البريطانيين وكانت أولي المواجهات المباشرة في كفر الدوار . يقول عرابي في صـ 8 من مذكراته بشأنها الآتي :

[ وفى يوم الثلاثاء 22 أغسطس : ورد لنا تلغراف من طلبة باشا قائد فرقة كفر الدوار قال فيه: بعد أن ظهر العدو رتب عساكره وتقدم حتى صار تحت نيران مقذوفاتنا فابتدأت الحرب الساعة الحادية عشرة واشتغلت طوبجيتنا بمهارة عظيمة حتى بددته وشتتته تحت النخيل ثم ما زالت نيراننا تقفو أثره حتى انهزم شر هزيمة وقد رأيت قنابلها تفرقع في وسط طوابير العدو وقولاته فتهلك الكثير من رجاله. ورأيت ( جبخانة) العدو وقد التهبت وأصابت كثيرا من رؤسائهم ؛ ثم شاهدت في طابية الرمل كثيرا من الذوات وكبار الإفرنج يشاهدون القتال ومعهم المنظارات.

وقد استنجد الإنجليز فجاءتهم نجدة على قطار مخصوص ولكنها لم تصل إلا بعد الهزيمة فرجعت كما جاءت.. وكان الوقت في الواحدة ليلا؛ فبشروا العموم بتأييد الله ونصره للعساكر المصرية وما يظهرونه من الثبات وتبديد العدو الباغي.]

وإزاء تلك الهزيمة غيّر العدو خطته وفضل مواجهة الجيش المصري في منطقة يتمكن له فيها إشراك أسطوله البحري ولم يكن هناك أفضل من مكان قريب من قناة السويس فاختار مدينة الإسماعيلية القريبة من منطقتي التل الكبير والمحسمة.

وفي 24 أغسطس بدأت ثاني المعارك بين الجيشين في المحسمة وفيها يقول عرابي في صـ 13 من مذكراته ما يلي:
[ حيث نشب القتال مع الإنجليز بين الإسماعيلية والمسخوطة واقتتل الفريقان قتالا شديدا اشترك فيه العربان حتى أخرجوا الإنجليز من مراكزهم التي تحصنوا فيها عند محطة المحسمة وقد كابدت الأعداء خسائر جسيمة. ]

هذا ونقرأ في نفس المذكرات في صـ 25 – 27 ما نقله عرابي عن أحد الجنرالات البريطانيين مفسرا هزيمة الجيش المصري في معركة التل الكبير التي انتهت في 35 دقيقة حسب نص كلماته:
[جاء فى مذكرات السير باتلر أحد قوات الجيش الإنجليزي الذين شاهدوا الحرب الإنجليزية المصرية سنة 1882 ما يأتي :
" أن المدافع الإنجليزية هي التي أحرقت مدينة الإسكندرية بعد أن هدمت القلاع . وقد ظنت الوزارة الإنجليزية أنها بهدمها القلاع ستقمع الثورة، ولكنها أخطأت في ذلك ، إذا ما انتهينا من تخريب الاٌسكندرية حتى كان عرابي بجيشه في مرابط البلاد مستعدا لملاقاتنا ، وتحمس الوطنيون حين سمعوا بضرب الإسكندرية وانضموا إلى العرابيين متفانين في الدفاع عن بلادهم بعد هذا الاعتداء. فظهر للحكومة الإنجليزية من ذلك أنه إذا أرادت أن تبطش بالوطنيين فلا يلزمها أقل من جيش كامل لمحاربتهم في وسط البلاد ؛ وعند ذلك عرفتْ أن الإسكندرية لا يمكن أن تكون قاعدة حربية لنا.. وظهر لها أن الإسماعيلية خير بقعة يمكن أن نهجم منها ونستولى بواسطتها على القاهرة.

وقد كان من الأفيد لنا أن نترك الجيش المصري ونذهب رأسا إلى القاهرة عن طريق قنال السويس.
فلما رجعت الحكومة عن رأيها ونزل الجيش إلى الأراضي المصرية من قنال السويس التقى الجيشان في التل الكبير ، ولم يكن الجيش المصري مستعدا أو متوقعا القتال في هذه الليلة لأن جواسيس عرابي اشتراهم الإنجليز . وانفرد محمد سلطان باشا ( رئيس مجلس النواب ) ولابسو الطرابيش الذين معه وانحدروا جهة القنال بعيدا عن ساحة المعركة ، فلما فاجأناهم ( يقصد فاجأنا القوات المصرية ) تنبهوا معذورين ولم يهرب منهم أحد ؛ بل قبض كل منهم على سلاحه ، وكلما اجتمع منهم عشرة كونوا فرقة وتقدموا نحو الإنجليز يعملون فيهم النار.. وقد كان رميهم صادقا فكانت القنبلة تأتى بين الضابط وبين فرقته فتفرقهم "....]

وقد لخص عرابي في مذكراته أسباب الهزيمة تحت عنوان" دسائس الخديوي أسباب الخذلان " في صـ23 كالآتي :
[ وقد كُلّف بعض رجال الوفد المذكور( الذي أرسله الخديوي لتحريض المدنيين وعدد من العسكريين بعدم مساعدة عرابي وجيشه في الحرب ضد البريطانيين ) بالتنقل في البلاد الريفية ليدعوا العمد والأعيان لطاعة الإنجليز ومساعدتهم اتباعا لمنشور الخديوي، وقد انخدع وانضم إليهم في هذه الخيانة السيد أفندي الفقي من مديرية المنوفية وأحمد أفندي عبد الغفار عمدة تلا وغيرهم من المصريين الذين انخلعت قلوبهم من منشور السلطان المندرج ( أي المنشور ) بجرنال الجوائب.]

وقد أكمل تفسيرَ عرابي للخيانة التي تعرض لها جيشه ما قاله الجنرال باتلر عن شراء الإنجليز لجواسيس عرابي الذين كانوا ينقلون له أخبار الجيش الإنجليزي.
هذا و سجل عرابي في صـ 12 من المذكرات قيام قائد الجيوش الإنجليزية في الديار المصرية ( الجنرال غازنت ولسلى ) بتوجيه رسالة للشعب المصري في 19 أغسطس 1882( قبل معركة التل الكبير ) تستكمل ملامح هذا المشهد وتضع النقاط علي الحروف بصراحة ودون مواربة يقول ولسلي في رسالته :
[ ولا يزال العاصون ( يقصد عرابي ومجموعته من قادة الجيش )على حالهم من المقاومة وتجسيم الحال المؤدى لزيادة الخراب حتى اعتبرتهم السلطنة السنية عصاة مخالفين للأحكام الشرعية . فاستدراكا للأمر ومراعاة للمصلحة العمومية قد رخصنا لحضرة القائد العمومي للجيش الإنجليزي بالتجول (أي بالذهاب) نحو جموع العصاة واستعمال الوسائط القاهرة ( أي العنف) لتبديد شملهم وسرعة القبض علي رؤسائهم لمحاكمتهم بما يستحقون من أشد العقاب. ]

إذن كان المطلوب هو محاكمة عرابي ورفاقه وفصلهم من الجيش وتجريدهم من رتبهم العسكرية والسطو علي كل ممتلكاتهم وإبعادهم عن وطنهم أو إعدامهم كما نطقت الأحكام بذلك.

لكن الجدير بالذكر أن المحكمة العسكرية التي استماتت في إيجاد مبرر قوى لإدانة عرابي ورفاقه لم تتمكن من ذلك . ولأنها كانت تعوّل بشدة علي إثبات تهمة حرق عرابي للإسكندرية وإصداره لأوامر السلب والنهب ونشر الفوضي في المدينة إلا أن غالبية الشهود الذين أدلوا بأقوالهم في هذه التهمة نفوها عنه بل وأفاد بعضهم بعكسها باستثناء اثنين خضعا للتهديد والوعيد هما القائمقام سليمان سامي المقيم أصلا بمدينة الإسكندرية (صـ 143- 146) ، وعبد الرحمن رشدي وزير المالية بوزارة راغب باشا ( صـ 121 – 125 ). وبالتالي قررت الحكم عليه بالإعدام دون إثبات التهمة.. فأصبح الحكم عاريا تماما أمام الرأي العام لمصري والدولي.

لكن مشاهد أخرى أعقبت محاكمته أبرزها الاحتفال بهزيمته كما جاء في صـ 25من مذكراته:

[ ولما علم الخديوي توفيق نبأ استيلاء الإنجليز على التل الكبير حضر من كان بالإسكندرية من الذوات والأجانب يهنئونه بالفوز والنصر ، وصدحت الموسيقى الخديوية بأنغام التبشير بالظفر وعزفت بالسلام لخديوي أمام سراي الحقانية ، فرفعت العساكر الإنجليزية السلاح تعظيما وإجلالا. وهتف الأوربيون بقولهم : " فليحيا توفيق الأول " ثم ختم ذلك بالدعاء للخديوي وملكة الإنجليز والجنرال ولسلى الأيرلندي والدولة الإنجليزية ، وتفرّق القوم بعد ذلك.]

ولأن الثورة التي قادها أحمد عرابي لم تكن أسبابها مقتصرة علي التمييز داخل الجيش بين المصريين والأجانب ؛ بل كانت مرآة لمجمل الوضع الاجتماعي في مصر نتابع إجابته للمحكمة عما دعاه للذهاب إلي قصر عابدين في تظاهرته العسكرية الشهيرة ( يوليو 1881) ومخاطبة الخديوي بلغة حادة ولهجة عنيفة تترجمها عبارته الشهيرة " لسنا عبيد إحساناتكم .. فقد ولدتنا أمهاتنا أحرارا ولن نستعبد بعد اليوم ".

يقول عرابي في صـ 51 – 53 [ كان سؤال المحكمة : ماهي الأسباب التي دعتك لمخالفة رغبة الخديوي .. والقيام بما حدث في ساحة عابدين مع بقية الجنود ومعهم الجبخانة ( أي معهم أسلحتهم بذخيرتها) والإحاطة بالسراي بتلك الكيفية المهولة ومخاطبة الخديوي بهذه الكيفية ؟
فأجاب أحمد عرابي :

إن الأسباب التي دعت لذلك هي عدم الأخذ بالعدل والمساواة في المعاملات شأن البلاد التي لم يكن فيها قوانين ولم يرع فيها الإجراء علي مقتضاها ، فلذلك اعتمد أعيان البلاد علي أبنائهم رؤساء العسكرية وتاقت نفوسهم إلي تشكيل مجلس نيابي بالبلاد يحفظ لهم حقوقهم ويدفع عنهم ما ألمّ بهم من المظالم ؛ حيث أن كل من كانت له مظلمة منهم وتلْقي في مجلس من المجالس الأهلية فلا تنتهي ولا ينظر لها بعين الاعتبار وربما تترك بالمجالس فوق العشرين سنة حتي يموت صاحب الدعوي كمدا بظلمه ، ومن أمثلة المظالم ضياع حقوقهم المدفوعة في المقابلة التي هي سد 17 مليون جنيه ( يقصد عدم الوفاء بما وعد به قانون المقابلة الذي صدر في عهد الخديوي إسماعيل بعد أن دفع الأهالي 17 مليون جنيه ) ولم تصر معاملتهم فيها أسوة بالأجانب الذين لهم ديون علي الحكومة المصرية وغير ذلك مما لا يمكن استيفاء شرحه ، فاجتمعت أفكار الناس علي أنه لا مخلص لهم من تلك المظالم إلا وجود مجلس نيابي من شأنه حفظ الأرواح والحقوق والأموال. مع سن قوانين عادلة تكفل لهم حقوقهم. وقد تحرّرَ منهم عرضحالات وختم عليها من نحو الألفين نفس من عمد وأعيان وتجار وغيرهم . ولخوفهم من البطش أنابوني مع إخواني الضباط في عرض طلباتهم لكوننا إخوانهم وأبناؤهم وهم أهلنا .. يضرنا ما يضرهم وينفعنا ما ينفعهم.
ولأن البلاد التي ليس بها مجلس نيابي يحفظ للأمة حقوقها في كافة ممالك الأرض يحدث فيها أكثر من ذلك بحيث يسفك فيها كثير من الدماء.. وهذا لا يخفي علي كل متذكر لأن الحاكم المستبد لا يُسلّم بالشوري بسهولة.]

خاتمة المذكرات .. صـ 192 – 193 :
وفيها يقول أحمد عرابي في منفاه : " ها أنا مهاجر من مصر العزيزة إلا أنى متيقن من أن الأيام والحوادث ستبين حقيقة أعمالنا وما كنا عليه من العمل والعدل والإنصاف. وإن انجلترا لا تندم أبدا على ما أبدته من التسامح والتساهل مع من قاتلته في المعارك الحربية حين تتبين لها حقيقة مسعاه. "
ويضيف : " انخدع المصريون إلا قليلا واعتقدوا بجلاء الإنجليز عن وادى النيل الخصيب حفاظا لشرف التاج البريطاني، ولكن انقضت الأيام والليالي بعد تشتيت الجيش المصري ، ومات الخديوي محبوب الإنجليز وجلس على الأريكة الخديوية عباس الثاني محبوب المصريين وتم الإصلاح الذى أخذه الإنجليز على عاتقهم ومضى على احتلالهم غير الشرعي19 عاما فما بالهم لا يوفون بوعدهم وينجلون عن الأراضي المصرية وهى هادئة ساكنة ".
ويختتم مذكراته باستعراض تاريخ حافل بالاحتلال والعدوان على مصر والمصريين قائلا :
" لكنهم سينجلون عن كنانة الله رضوا بذلك أو غضبوا ، قريبا أو بعيدا ، فإن عرب الرعاة ( أى الهكسوس ) احتلوا مصر بزعامة ( سلاطيس) ومكثوا بها مائة سنة ثم خرجوا عنوة وقسرا.

بعدها يقدم وصيته للأجيال القادمة قائلا :
[ فعلى الناشئة أن تجدّ وتجتهد وتعمل ليل نهار على استرداد مجدها واستقلالها وحريتها المسلوبة ومطالبة الإنجليز بالجلاء. ] .

والجدير بالذكر أيضا أنه بعد صدور الدستور في فبراير 1882 وهزيمة الثورة العرابية واحتلال مصر جرى الآتي:

•صودرت جميع الأملاك الخاصة بعرابي وقادة الجيش المصري الذين حوكموا وصدر الحكم بنفيهم ، وجردوا من رتبهم ومن شارات الشرف التي سبقت مكافأتهم بها ، وشطبت أسماؤهم من سجلات العسكرية المصرية ونفوا إلي سيلان تنفيذا لحكم المحكمة العسكرية.
•كما أصدر الخديوي أمرا بإلغاء الجيش المصري في سابقة لم تحدث من قبل .

فهل نجد من القواسم ما هو مشترك بين الأوضاع الداخلية في نهاية القرن الـ 19 وبداية القرن الـ 21 ..؟

في الحلقة القادمة: ( تداعيات هزيمة عرابي ) وفيها :
•الخديوي توفيق يستعرض الجيش البريطاني.. ويعزل شيخ الأزهر ، ويكافئ الخونة.
•هدية سلطان باشا - رئيس وفد الخونة ، ورئيس مجلس النواب – للإنجليز.
•أقوال بعض الضباط والوزراء في محاكمة عرابي وبراءته من تهمة حرق الإسكندرية وتوابعها.
•هيئة الدفاع عن عرابي ورفاقه .. من محامين إنجليز شرفاء.

15 يناير 2020 بشير صقر



#بشير_صقر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- هل تتوه الحقيقة بين معرفتنا بالأزمة وعقدة العضو المنتدب السا ...
- لأى مدى يُسأل البنك المركزى عما يجرى بالبنك العربى الإفريقى. ...
- للذين يحددون قامات البشر وأوزانهم استنادا لجدول المرتبات – ب ...
- دولا مين ودولا مين ؟ مَنْ قاوم الفساد في العربي الإفريقى .. ...
- طالما بقى فينا رمق .. سنواصل موقفنا من صندوق معاشات البنك ال ...
- تقرير عن اجتماعىْ الجمعية العمومية لصندوق معاشات البنك العرب ...
- عن قانونية التعديلات المقترحة علي لائحة صندوق معاشات البنك ا ...
- كونوا صرحاء.. هل تخشون سقوط صندوق المعاشات أم سقوط مجلس إدار ...
- قراءة نقدية لميزانية 2018 لصندوق معاشات العاملين بالبنك العر ...
- في البنك العربى الإفريقى؛ هل خاقة طارق عامر/ حسن عبد الله مج ...
- رسالة للعاملين بالبنك العربى الإفريقي وصندوق معاشاته ؛ بشأن ...
- ملخص لدراسة تجارب محو الأمية في مصر ..المقدمة لمؤتمر تطوير ا ...
- سراندو جديدة فجر الجمعة بإحدى قرى المحمودية بالبحيرة
- بشاير يوليو 2019 بشأن استهلاك الكهرباء ومدفوعاتها بالمنوفية
- وَصْلة صنبور توفر مياه الشرب : عن أزمة قرّاء عدادات مياه الش ...
- مقالان من الشهور الأولي لثورة 25 يناير2011
- قراءة جديدة لوقائع قديمة في ألمانيا الغربية
- عن رحلتي التدريبية لألمانيا الغربية عام 1964 ( 2- 2) الجزء ا ...
- عن رحلتي التدريبية لألمانيا الغربية عام 1964 .. الجزء الأول ...
- التعذيب الممنهج لفقراء البحيرة.. فلاحات الفشل الكلوي .. والب ...


المزيد.....




- الحرب على الاونروا لا تقل عدوانية عن حرب الابادة التي يتعرض ...
- محكمة تونسية تقضي بإعدام أشخاص أدينوا باغتيال شكري بلعيد
- القذافي يحول -العدم- إلى-جمال عبد الناصر-!
- شاهد: غرافيتي جريء يصوّر زعيم المعارضة الروسي أليكسي نافالني ...
- هل تلاحق لعنة كليجدار أوغلو حزب الشعب الجمهوري؟
- مقترح برلماني لإحياء فرنسا ذكرى مجزرة المتظاهرين الجزائريين ...
- بوتين: الصراع الحالي بين روسيا وأوكرانيا سببه تجاهل مصالح رو ...
- بلجيكا تدعو المتظاهرين الأتراك والأكراد إلى الهدوء
- المكتب السياسي للحزب الشيوعي العراقي: مع الجماهير ضد قرارا ...
- بيان تضامن مع نقابة العاملين بأندية قناة السويس


المزيد.....

- ورقة سياسية حول تطورات الوضع السياسي / الحزب الشيوعي السوداني
- كتاب تجربة ثورة ديسمبر ودروسها / تاج السر عثمان
- غاندي عرّاب الثورة السلمية وملهمها: (اللاعنف) ضد العنف منهجا ... / علي أسعد وطفة
- يناير المصري.. والأفق ما بعد الحداثي / محمد دوير
- احتجاجات تشرين 2019 في العراق من منظور المشاركين فيها / فارس كمال نظمي و مازن حاتم
- أكتوبر 1917: مفارقة انتصار -البلشفية القديمة- / دلير زنكنة
- ماهية الوضع الثورى وسماته السياسية - مقالات نظرية -لينين ، ت ... / سعيد العليمى
- عفرين تقاوم عفرين تنتصر - ملفّ طريق الثورة / حزب الكادحين
- الأنماط الخمسة من الثوريين - دراسة سيكولوجية ا. شتينبرج / سعيد العليمى
- جريدة طريق الثورة، العدد 46، أفريل-ماي 2018 / حزب الكادحين


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الثورات والانتفاضات الجماهيرية - بشير صقر - الثورة العرابية مرآة الوضع الداخلي في مصر ( 1 / 2) مقتطفات من مذكرات الزعيم أحمد عرابي