أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبدالوهاب القرش - إلى عشاق جمال الطبيعة والأكوان..تدبروا القرآن















المزيد.....

إلى عشاق جمال الطبيعة والأكوان..تدبروا القرآن


عبدالوهاب القرش

الحوار المتمدن-العدد: 6436 - 2019 / 12 / 13 - 09:29
المحور: الادب والفن
    


يعجب الإنسان حين يستعرض مشاهد الطبيعة في القرآن، كيف خلا الشعر العربي الإسلامي من وصف الطبيعة إلا في النادر، وفي وصف لا يكاد يتعمق الطبيعة إلا قليلًا، ولا يكاد يصل بينها وبين الوجدان البشري إلا في الأقل!..هذا مع أن احتفال القرآن بالطبيعة أمر بارز يلفت النظر ويلفت الحس، ولا يمكن أن يقرأ القرآن قارئ دون أن تلفته هذه الظاهرة في ثناياه!
إن الطبيعة لم تشكل لغرض أن تجىء جماليتها كتحد سلبي للإنسان يصده عن الوصول إلى الكمال علمًا وفنًا ، أو يثير فيه نزعة حاقدة للتغلب على الطبيعة أو التفوق عليها وقهرها، تلك النزعة التي تبرز بوضوح في تعابير علماء أوروبا وفنانيها..إنما هي بمثابة استنارة أبدية إيجابية تحرك الإنسان صوب مزيد من الكشف والإبداع والابتكار..فهي أشبه بالمنافسة الشريفة العادلة التي لا غالب فيها ولا مغلوب ؛ لأن الطبيعة والإنسان كليهما من صنع الله وقدرته ، ولأن الطبيعة لم تتخذ ، ولن تتخذ شكلها النهائي ، فهي – وفق سنن الله تعالى – تتغير وتتتشكل باستمرار ، ثم إن الإنسان – بدوره – مطلوب منه هذه الحركة صوب الأمام وإلى فوق..هذا إلى أن الخلائق جميعًا – في نظر الفنان المسلم – طبيعة كانت أم بشرية ، تمتاز بنوع من الإلفة والتعاطف الوجداني ، والتوجه الكلي نحو الخلاق المبدع جل في علاه.
إن القرآن الكريم يبين لنا في عدد من الآيات كيف أنه ما من شيء في الطبيعة والكون إلا ويسبح بحمد الله، وأن النجم والشجر ، كزاهرتين إحداهما كونية والأخرى طبيعية تسجدان لله ، وإن كل المكونات الت يتقوم عليها بنية الطبيعة ، تدأب ليل نهار تقديسًا لله وتعظيمًا ، ابتداء من الذرات الخفية التي تسبح في عوالم لا تراها العيون ، وحتىالسدم الهائلة وهي تتحرك في أفلاكها ، لا تخطىء ولا تند عن إرادة الله وعلمه ..والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يحدثنا عن جبل أحد الذي " يحبنا ونحبه "!! ويقف حانيًا على نبتة خضراء في قلب الصحراء ، فيقبلها قائلاً" ليتني شجرة تعضد!!".
وما لنا ألا نرجع إلى القرآن الكريم نفسه ، ليقودنا – بآياته البينات – إلى الآفاق البعيدة والوشائج العميقة ، والخدمات الفعالة ، بالطبيعة ، تلك العلاقة التي تخرج للوجود – دومًا – منجزات العلم ومنجزات الفن اللتين تقودان الناس ، علماء وفنانين إلى الله؟..ما لنا ألا نستمع إلى القرآن نفسه وكأنه يتنزل علينا – جميعًا – الآن ..هذه اللحظة!!..يقول الله تعالى:{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}(البقرة:164) ،{إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَىٰ ۖ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ۚ ذَٰلِكُمُ اللَّهُ ۖ فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ . فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ۚ ذَٰلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ . وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۗ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ . وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ ۗ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ . وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُّتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ ۗ انظُرُوا إِلَىٰ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكُمْ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}(الأنعام:95-99) ، {فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَىٰ طَعَامِهِ . أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا . ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا . فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا . وَعِنَبًا وَقَضْبًا . وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا . وَحَدَائِقَ غُلْبًا . وَفَاكِهَةً وَأَبًّا . مَّتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ}(عبس:24-32)، {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ..}(يونس:5) ، {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ . وَأَلْقَىٰ فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ . وَعَلَامَاتٍ ۚ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ}(النحل:14-16)، {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ۚ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَٰنُ ۚ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ}(الملك:19). {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ ۚ كَذَٰلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ}(النحل:36) ، {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ}(الرعد:15) ، {..فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ}(فصلت:11)..فليس ثمة في العقيدة والتصور الإسلاميين عصيان وتمرد تقوم به الطبيعة ضد خالقها!! كما سخيل أحيانًا للتصور الغربي..وليس ثمة عجز من الله – جل في علاه – عن تطويع هذا العصيان ، وصياغة عجينة الكون وفق قدرته وإرادته المطلقتين..إنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له:كن، فيكون..ولقد قال للسماوات والأرض – وما أثقل وأرهب كتلة السموات والأرض – ائتيا طوعًا أو كرهًا ، قالتا:أتينا طائعين!!
ويعلق سيد قطب على الظلال التي تلقيها في النفس هذه الآية الكريمة ذات الكلمات الثلاث{وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ}(الرحمن:6) فيقول:" إن هذا الوجود مرتبط ارتباط العبودية والعبادة بمصدره الأول ، وخالقه المبدع ، والنجم والشجر نموذجان منه ، يدلان على اتجاهه كله ..وقد فسر بعضهم النجم بأنه النجم الذي في السماء ، كما فسره بعضهم بأنه بعضهم بأنه النبات الذي لا يستوي على سوقه كالشجر. وسواء كان هذا أم ذاك ، فان مدى الإشارة في النص الواحد ينتهي إلى حقيقة اتجاه هذا الكون وارتباطه ..والكون خليقة حية ذات روح . روح يختلف مظهرها وشكلها ودرجتها من كائن إلى كائن . ولكنها في حقيقتها واحدة . ولقد أدرك القلب البشري منذ عهود بعيدة حقيقة هذه الحياة السارية في الكون كله . وحقيقة اتجاه روحه إلى خالقه . أدركها بالإلهام اللدني فيه . ولكنها كانت تغيم عليه , وتتوارى عنه كلما حاول اقتناصها بعقله المقيد بتجارب الحواس !..ولقد استطاع أخيرا أن يصل إلى أطراف قريبة من حقيقة الوحدة في بناء الكون . ولكنه لا يزال بعيدا عن الوصول إلى حقيقة روحه الحية عن هذا الطريق !.. والعلم يميل اليوم إلى افتراض أن الذرة هي وحدة بناء الكون وأنها في حقيقتها مجرد إشعاع . وأن الحركة هي قاعدة الكون , والخاصية المشتركة بين جميع أفراده ..فإلى أين يتجه الكون بحركته التي هي قاعدته وخاصيته ?..القرآن يقول:إنه يتجه إلى مبدعه بحركة روحه - وهي الحركة الأصلية فحركة ظاهره لا تكون إلا تعبيرا عن حركة روحه - وهي الحركة التي تمثلها في القرآن آيات كثيرة منها هذه والنجم والشجر يسجدان). . ومنها {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ ۚ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ..}. . ومنها: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ ۖ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ..}..وتأمل هذه الحقيقة , ومتابعة الكون في عبادته وتسبيحه , مما يمنح القلب البشري متاعا عجيبا , وهو يشعر بكل ما حوله حيا يعاطفه ويتجه معه إلى خالقه وهو في وقفته بين أرواح الأشياء كلها , وهي تدب فيها جميعا , وتحيلها إخوانا له ورفقاء !..إنها إشارة ذات أبعاد وآماد وأعماق"..
ولن تفوتنا كذلك الظلال التي يخطها قلم الشهيد بتملي الآية {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا ۖ مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ الرَّحْمَٰنِ مِن تَفَاوُتٍ}(الملك:3) حيث يقول:"الذي يعرف شيئا عن طبيعة هذا الكون ونظامه - كما كشف العلم الحديث عن جوانب منها - يدركه الدهش والذهول . ولكن روعة الكون لا تحتاج إلى هذا العلم . فمن نعمة الله على البشر أن أودعهم القدرة على التجاوب مع هذا الكون بمجرد النظر والتأمل فالقلب يتلقى إيقاعات هذا الكون الهائل الجميل تلقيا مباشرا حين يتفتح ويستشرف . ثم يتجاوب مع هذه الإيقاعات تجاوب الحي مع الحي قبل أن يعلم بفكره وبأرصاده شيئا عن هذا الخلق الهائل العجيب ..ومن ثم يكل القرآن الناس إلى النظر في هذا الكون , وإلى تملي مشاهده وعجائبه . ذلك أن القرآن يخاطب الناس جميعا , وفي كل عصر . يخاطب ساكن الغابة وساكن الصحراء , كما يخاطب ساكن المدينة ورائد البحار . وهو يخاطب الأمي الذي لم يقرأ ولم يخط حرفا , كما يخاطب العالم الفلكي والعالم الطبيعي والعالم النظري سواء . وكل واحد من هؤلاء يجد في القرآن ما يصله بهذا الكون , وما يثير في قلبه التأمل والاستجابة والمتاع .. والجمال في تصميم هذا الكون مقصود كالكمال . بل إنهما اعتباران لحقيقة واحدة . فالكمال يبلغ درجة الجمال . ومن ثم يوجه القرآن النظر إلى جمال السماوات بعد أن وجه النظر إلى كمالها:{ وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ}..ومشهد النجوم في السماء جميل . ما في هذا شك . جميل جمالا يأخذ بالقلوب . وهو جمال متجدد تتعدد ألوانه بتعدد أوقاته ويختلف من صباح إلى مساء , ومن شروق إلى غروب , ومن الليلة القمراء إلى الليلة الظلماء . ومن مشهد الصفاء إلى مشهد الضباب والسحاب .. بل إنه ليختلف من ساعة لساعة . ومن مرصد لمرصد . ومن زاوية لزاوية . . وكله جمال وكله يأخذ بالألباب..هذه النجمة الفريدة التي توصوص هناك , وكأنها عين جميلة , تلتمع بالمحبة والنداء !..وهاتان النجمتان المنفردتان هناك , وقد خلصتا من الزحام تتناجيان !..وهذه المجموعات المتضامة المتناثرة هنا وهناك , وكأنها في حلقة سمر في مهرجان السماء . وهي تجتمع وتفترق كأنها رفاق ليلة في مهرجان !..وهذا القمر الحالم الساهي ليلة . والزاهي المزهو ليلة . والمنكسر الخفيض ليلة . والوليد المتفتح للحياة ليلة . والفاني الذي يدلف للفناء ليلة .. !.. وهذا الفضاء الوسيع الذي لا يمل البصر امتداده , ولا يبلغ البصر آماده ..إنه الجمال . الجمال الذي يملك الإنسان أن يعيشه ويتملاه , ولكن لا يجد له وصفا فيما يملك من الألفاظ والعبارات !
والقرآن يوجه النفس إلى جمال السماء , وإلى جمال الكون كله , لأن إدراك جمال الوجود هو أقرب وأصدق وسيلة لإدراك جمال خالق الوجود . وهذا الإدراك هو الذي يرفع الإنسان إلى أعلى أفق يمكن أن يبلغه , لأنه حينئذ يصل إلى النقطة التي يتهيأ فيها للحياة الخالدة , في عالم طليق جميل , بريء من شوائب العالم الأرضي والحياة الأرضية . وإن أسعد لحظات القلب البشري لهي اللحظات التي يتقبل فيها جمال الإبداع الإلهي في الكون . ذلك أنها هي اللحظات التي تهيئه وتمهد له ليتصل بالجمال الإلهي ذاته ويتملاه ".
ونعود إلى منهج الفن لنتملى مع الاستاذ محمد قطب في كتابه ( منهج التربية الإسلامية) جمال اللوحة الفنية التي تنقلنا بألوانها إلى الطبيعة مباشرة ، قال تعالى:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ}(فاطر:27-28).."إن الحس يوجّه هنا إلى ظاهرة معينة في قدرة الله هي تنويع " الألوان " في الخليقة. ولكنه لا يوجّه إلى ذلك في صورة لفظية تجريدية. وإنما ترسم له - في تلك الألفاظ القليلة المعدودة - لوحة واسعة فيها مخلوقات الأرض جميعًا من جماد ونبات وحيوان وإنسان! النبات مختلف ألوانه.. وهذا ركن من اللوحة الواسعة، أو وحدة من وحداتها، متناثرة على رقعة اللوحة تناثرها في الطبيعة الواسعة. والجبال ذات قمم بيض وحمر وسود.. وهذه وحدة أخرى من وحدات اللوحة تنتثر فيها الألوان هنا وهناك لتنسجم مع ألوان النبات المتباينة في الأرض. ثم.. ناس مختلفة الألوان، ودواب وأنعام مختلف ألوانها كذلك"..
ثم لننظر – أخيرًا – إلى هاتين اللوحتين يرسمهما القرآن عن الكفار{أُولَٰئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَىٰ فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ. مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَّا يُبْصِرُونَ . صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18) أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ ۚ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ . يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ ۖ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُم مَّشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا...}(البقرة:16-20).
إنها صور عجيبة ، يقول محمد قطب،" تهز النفس من أعماقها، وتستدرج الخيال يتتبع تفصيلاتها المتحركة المتتالية. فالصّيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق.. منظر العاصفة مكتملًا بكل ما فيه من رعب وفزع. يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت.. الموقف واضح بتفصيلاته. والخيال يتملاه كأنما يشاهده على شاشة الصور المتحركة في أروع " لقطاتها " المثيرة.. كلما أضاء لهم البرق مشوا خطوة، مذعورين مفجوئين، فإذا أظلم عليهم وقفوا حيث هم في حيرتهم مبلسين...أو.. كسراب بقيعة.. المنظر ممتد على آخر البصر حيث يخايل السراب. كآمال الذين كفروا ممتدة إلى ما لا نهاية. وهي كلها خداع! (حتى إذا جاءه).. والخيال يسير معه هذا "المشوار " الطويل الجاهد حتى يصل إلى مكان السراب : (لم يجده شيئًا) ! روعة المفاجأة، حتى والإنسان يعلم من قبل أنه لا شيء هناك! ثم المفاجأة المذهلة الكبرى.. (ووجد الله عنده).. (فوفاه حسابه) . والخيال يتخيل منظر المفاجأة المرعب المهول.. ولا يملك الإنسان من نفسه من هزة التأثر الهائل العميق.. (أو كظلمات في بحر لجيّ..).. إنها أروع لوحة من لوحات " الظلام " في مشاهد الطبيعة يمكن أن ترسمها ريشة أو آلة مصورة. ومع أن المشهد لم يكن معروضًا هنا لذاته، وإنما لتصوير حالة الظلام النفسي الذي يورثه الكفر للنفوس، فإنه أمدنا بلوحة طبيعية رائعة يتملاها الحس والخيال، ويعمل فيها " الفن " بحرية وانطلاق!"
ثم لنستمع إلى محمد قطب مرة أخرى وهو يحدثنا عن الظلال الفنية والنفسية في قول الله تعالى:{ أَلَمْ تَرَ إِلَىٰ رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا . ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا . وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا . وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ۚ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا . لِّنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا}(الفرقان:45-49)..
" إنها حركة بيلغ من لطفها أن تكاد لا تتحرك! ويزيد من لطفها والإيحاء ببطئها الشديد كلمة " ساكنًا " مع أنها لا تتم في واقع الأمر : (ولو شاء لجعله ساكنًا) ! فمع أنه سبحانه لم يشأ أن يجعله ساكنًا، إلا أن وجود اللفظة يلقي ظلها في النفس، وهذا بعض المقصود من إيرادها. وظلها هو تبطئ حركة الظل حتى لتشبه السكون. وتلك حقيقة "طبيعية " فحركة الظل وئيدة جدًا لا تكاد تظهر. ولكن التعبير يجسم هذا البطء ويعطيه " مساحة " في الخيال، لم يكن ليكتسبها لو كان الوصف تجريديًا بحتًا بغير تصوير ولا تخييل . وكذلك تتم صورة البطء بتكملة الحركة في الاتجاه الآخر : (ثم قبضناه إلينا قبضًا يسيرًا) . ولكن لفظة معينة هنا تعطي المشهد كله معنى عميقًا عجيبًا يغير " نغمة " اللوحة كلها، ويعطيها روحًا جديدة لا يتيسر بيانها بالألفاظ! إنها كلمة (إلينا) . (ثم قبضناه إلينا...) هذه الكلمة تخرج اللوحة من نطاق الأرض المحدود الذي كانت فيه، فإذا فيها أمر آخر غير هذه الأرض.. إنه يد الله سبحانه تمتد لتقبض الظل " إلينا ". إلى الله سبحانه الذي لا يتحدد بمكان ولا حيز ولا نظاق! إن الظل " المتجسم " هنا في الأرض لم يعد كائنًا أرضيًا محدود النطاق.. ولكنه صار.. صار ماذا؟ صار شيئًا كونيًّا غيبيًا مبدؤه هنا في الأرض.. ونهايته عند الله الذي ليس له انتهاء!..وهذا كله يتناسق مع سياق الآية الذي ترد فيه مشاهد الطبيعة في صورة الرحمة الإلهية على الناس وهو جو كله رحمة وعطف وود وإيناس".
دقة عجيبة في التصوير، وإحياء لمشاهد الطبيعة، ومزج لها بمشاعر النفوس، يجعلها حية في الحس، حتى وهي تقسو أحيانًا فتصيب النفوس بالهلع والاضطراب!
باحث في العلوم الإسلامية ومقارنة الأديان



#عبدالوهاب_القرش (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- آمد: قبلة العلماء وأعجوبة الحضارة الإسلامية.. كردية اللغة..ع ...
- مدينة سميساط ..موطن العلماء والأتقياء والأشقياء..والملائكة
- الدعاة إلى الله..بين الانتمائية الحزبية وفتاوى الكيل بمكيالي ...
- العرب من عبادة الأصنام إلى تقديس الأقدام!!
- من جرائر الفكر الديني المنغلق!!


المزيد.....




- “فرحي أولادك وارتاحي من زنهم”.. التقط تردد قناة توم وجيري TO ...
- فدوى مواهب: المخرجة المصرية المعتزلة تثير الجدل بدرس عن الشي ...
- ما حقيقة اعتماد اللغة العربية في السنغال كلغة رسمية؟ ترندينغ ...
- بعد مسرحية -مذكرات- صدام.. من الذي يحرك إبنة الطاغية؟
- -أربعة الآف عام من التربية والتعليم-.. فلسطين إرث تربوي وتعل ...
- طنجة تستضيف الاحتفال العالمي باليوم الدولي لموسيقى الجاز 20 ...
- -لم أقتل زوجي-.. مسرحية مستوحاة من الأساطير الصينية تعرض في ...
- المؤسس عثمان الموسم 5.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 158 باللغة ...
- تردد قناة تنة ورنة الجديد 2024 على النايل سات وتابع أفلام ال ...
- وفاة الكاتب والمخرج الأميركي بول أوستر صاحب -ثلاثية نيويورك- ...


المزيد.....

- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبدالوهاب القرش - إلى عشاق جمال الطبيعة والأكوان..تدبروا القرآن