أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد الرحيم التوراني - قصة قصيرة: على حافة موال تيزي نتيشكة*














المزيد.....

قصة قصيرة: على حافة موال تيزي نتيشكة*


عبد الرحيم التوراني
صحفي وكاتب

(Abderrahim Tourani)


الحوار المتمدن-العدد: 6424 - 2019 / 11 / 30 - 15:01
المحور: الادب والفن
    


في الأسبوع الأخير من الشهر الأخير للسنة الماضية، وربما التي قبلها، المصادف لأعياد الميلاد، وجدتني في وضع الاضطرار للمغامرة. هكذا ركبت مع نفر من المسافرين إلى الجنوب، حافلة متهالكة يقودها سائق مخمور.

ما أن غادرنا المجال الحضري وفتنا المدينة، حتى نسي السائق الركاب الذين معه، ولم يراع أحدا. إذ جعل فضاء الحافلة يختنق بصدى أسطوانة "سي دي" لفرقة غجر يؤدي أفرادها أهازيج رعوية عن الخذلان والحب الخاسر.

كان السائق في غاية الانسجام وهو يردد المواويل الغجرية، لم ينتبه كيف حول مقود الحافلة إلى بندير، فأشبعه ضربا بكفيه الغليضتين، حتى اعتقدت لحظة أنه سينكسر بين يديه.

لما وصلنا حافة "تزي نتيشكا"* الخطيرة، تملكنا الخوف الشديد، أما مغنية الفرقة فصدحت بصوت جرّحت السجائر المهربة والنبيذ الرخيص أوتاره. وغنت عن استعدادها لفداء حبيبها بالروح، رغم غدره وخذلانه وتخليه عنها:

(أفديك بعمري..
وبروحي.. يا من قسا وغدر/
حبي لا يفرق بينك وبين القدر/
إن لم تكن لي فلا طلعت علي شمس نهار الغد
ولا بزغ في ليالي القمر/
غدرك من شر البشر
حاشا لله أن يكون من نبل الغجر..).

عم الخوف والفزع ركاب الحافلة، إلا السائق الذي كان يردد مع الغجرية لازمة الموت:

(أموووووووت أنا أمووووت...
وتعيش أنت لي يا عمري
يا كل العمر...).

بكى السائق وانتحب من شدة الوله والانفعال والسكر، حتى تخلى عن المقود، فسارت الحافلة لوحدها كحمارة معتادة على طريقها اليومي، نازلة بنا إلى المنحدر الخطير.

حينها بكينا جميعا، نحن الركاب، من شدة الخوف والهلع على أرواحنا وأعمارنا التي نرى أنها ستفنى أمام أعيننا نتيجة تهور سائق أحمق. لقد جابهنا الموت حقا.

وحدها امرأة بدينة كانت طوال الرحلة تتفاخر بقلادة وأساور من ذهب على صدرها الواسع وبالمعصمين، ظلت تتابع بعينيها الناعستين، وقد أثقلهما كحل ذائب، ما يحدث أمامها بهدوء، كأنها تستمتع بمشهد فرجوي. لما علا البكاء والصراخ واختلط بالموال القاتل، شاهدت المرأة البدينة، التي كانت تجلس بالقرب مني، تتحرك وتتجه نحو مقدمة الحافلة، ثم تابعتها وهي تصفع السائق بقوة أعادته إلى صوابه فأمسك جيدا بالمقود، ليقود الحافلة بنجاح، مجنبا إياها السقوط بنا في أخطر منحدر في المغرب. ثم تابعها الجميع ورأى كيف قامت بترتيب أساور يمناها وعادت تتمايل إلى مكانها بالوراء، وهي تغمغم حانقة تعوج فمها بكلمات غامضة، سأفهم بعدها أنها تصحح للسائق لازمة أغنية "السي دي"، التي أخطأ المخمور في النطق السليم لعباراتها، أو على الأصح تعمد تحويرها لتعني عكس ما يراد. حيث أصبحت اللازمة:
(تموووتين أنت وأعيش انا بعدك العمر كل العمر..).

عند الوصول لم نصدق أننا وصلنا بسلام، وفي لحظة طائرة تشتت الركاب كل في اتجاه، تركوا المحطة وذابوا ذوبان الماء في الرمل.

أما أنا فتأخرت قليلا بسبب انشغالي بحقيبتي التي وجدتها من دون قفل، لأشاهد المرأة البدينة يتنافس ردفاها الثقيلان على إمالة الطريق، وهي تمسك بذراع السائق المجنون. ورأيتهما يدخلان معا محل بيع الخمور الوحيد في"الفيلاج". كانت الساعة قد أزفت، وقد وصلا في الوقت الميت. ساعة إقفال دكاكين بيع الخمور، في الثامنة ليلا.

جلست في المقهى المجاور للمحطة كي أستعيد وعيي، هناك ساصادف مساعد السائق، وسيخبرني أن المرأة "شيخة" تغني وترقص في الحفلات والأعراس بالقرى البعيدة فقط، إذ أن عشيقها السائق الشاب يمنعها من العمل في قريته والمناطق القريبة. وأن من أنقذتنا بصفعة، هي صاحبة الصوت المجروح الذي سمعناه مسجلا على أسطوانة "سي دي" في الحافلة.

في يوم انعقاد السوق الأسبوعي للقرية اقتنيت أسطوانة الحافلة، فعاد إلي خوفي من ركوب طريق "تيزي نتيشكة". ثم حمدت الله أن المرأة صفعت صاحبها قبل وصول الأغنية إلى المقطع الذي تقول كلماته:

(أنتَ الحافة يا عمري..
أنتَ النهاية ياروحي..
أنتَ الروح والعمر..

اليوم أُنهيك
يا حافة هاويتي..
يا روح الروح
يا عمر العمر
هنا ارميني
في الحافة
تحت الصخر والثلج والحجر
والخراب...).

لكني لما أعدت الاستماع ل "السي دي" أكثر من مرة، لم أجد أي نشاز في صوت الغجرية البدينة، بل وجدته صوتا صافيا وجميلا وعامرا بالحزن. من يومها أحببت أغاني "الشيخات" والسجائر المهربة و"الروج" الرخيص، ونسيت أخطار الطرقات.
-----------------------------
* ممر من أخطر الطرق في المغرب، يقع بين مدينتي مراكش وورزازات، واللفظة أمازيغية تعني: ممر المراعي الجبلية.



#عبد_الرحيم_التوراني (هاشتاغ)       Abderrahim_Tourani#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- جمهور الكرة لا يقرأ جورج أوريول بل يشرب -الروم- ولا يقرب الأ ...
- محمد زفزاف السينمائي الذي جاور هوليوود ..!
- انتخابات تونس: قيس سعيّد الرئيس الخامس للجمهورية التونسية!!!
- انتخابات تونس: مرشحون على الجدران والشارع في همومه وأشباح بن ...
- رائحة شحم في الساطور
- أغنية الصّباغ الذي هوى الآن
- التمرغ في تراب التكريم!
- أقصوصة: سبب عدم وصول صاحب التاكسي
- حلويات بن لادن
- الموت يغيب المناضل الأممي باتريس بارا ... نهاية رجل شجاع
- مقابلة مع المناضل الأممي ضد العولمة باتريس بارا Patrice BARR ...
- غياب: رحيل الصحفي المغربي عمر الأنواري.. نجم آخر ينطفئ بعيدا ...
- الصحافة المغربية في حداد.. عبد القادر شبيه: نجم إعلامي ينطفئ ...
- غياب القطب الاستقلالي السياسي والأديب والمفكر: عبد الكريم غل ...
- عشرون سنة مرت على رحيله: الرفيق الحاج علي يعته.. ذكريات مع ا ...
- قصة قصيرة: كسّارة ضلوع
- حكاية الوزير بنكيران مع الكرافته وصلاة البلوكاج
- قصة قصيرة: سنوات الكلب والنباح
- دم بكل الألوان
- القمقوم


المزيد.....




- هل ما يزال مكيافيلي ملهما بالنسبة للسياسيين؟
- إلغاء حفل النجمة الروسية -السوبرانو- آنا نيتريبكو بسبب -مؤتم ...
- الغاوون.قصيدة مهداة الى الشعب الفلسطينى بعنوان (مصاصين الدم) ...
- حضور وازن للتراث الموسيقي الإفريقي والعربي في مهرجان -كناوة- ...
- رواية -سماء القدس السابعة-.. المكان بوصفه حكايات متوالدة بلا ...
- فنانون إسرائيليون يرفضون جنون القتل في غزة
- “شاهد قبل أي حد أهم الأحداث المثيرة” من مسلسل طائر الرفراف ا ...
- تطهير المصطلحات.. في قاموس الشأن الفلسطيني!
- رحيل -الترجمان الثقافي-.. أبرز إصدارات الناشر السعودي يوسف ا ...
- “فرح عيالك ونزلها خليهم يزقططوا” .. تردد قناة طيور الجنة بيب ...


المزيد.....

- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد الرحيم التوراني - قصة قصيرة: على حافة موال تيزي نتيشكة*